إسلام ويب

الاختلاف في القواعد الأصولية - اقتضاء الأمر المطلق الفور أو التراخيللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلف الأصوليون في الأمر هل يقتضي الفورية أم لا؟ والراجح هو اقتضاؤه الفورية لدلالة الشرع واللغة والعرف على ذلك، وقد ترتب على هذا اختلاف في المسائل الفقهية المبنية على هذا الأصل، كإخراج الزكاة وقضاء الصيام وحج بيت الله الحرام.

    1.   

    خلاف الأصوليين في اقتضاء الأمر الفورية

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    ما زلنا مع اختلاف العلماء في الأصول وأثر ذلك في مسائل الفقه.

    وقد سبق أن بينا أن الأمر يقتضي الوجوب، وقد اختلف العلماء في هذا، واختلفوا في الصارف الذي يصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، ثم اختلفوا في القواعد التي قعدها بعض الأصوليين وكثير من الفقهاء، وأكثر ما يظهر هذا الخلاف في مسألتي الأكل باليمين أو الأكل بالشمال، والتمسح من قضاء الحاجة باليمين، فاختلف العلماء في ذلك على نفس الأصل.

    وذكرنا أن الصارف إما أن يكون نصاً أو إجماعاً أو قياساً أو مفهوم مخالفة.

    هناك مسألة أخرى: هل الأمر يقتضي الفور أم لا؟

    أولاً: ماذا نعني بـ(يقتضي الفور)؟

    الجواب: يعني: إذا قال الله جل في علاه: أَقِمِ الصَّلاةَ [الإسراء:78] معناه: أنك الآن تقيم الصلاة، وإذا قلت: الأمر لا يقتضي الفور، أي: أنه لديك سعة في الوقت في تنفيذ الأمر، فلو صليت الآن لا تعاتب، وإن صليت بعد ذلك لا تعاتب.

    وثمرة ذلك: أنه إذا كان الأمر يقتضي الفورية فمن لم يسارع في امتثال الأمر يأثم، ومن يسارع فقد أصاب ما عليه من الأمر.

    وقد اختلف العلماء في مسألة اقتضاء الأمر الفورية على أقوال ثلاثة:

    القول الأول: أن الأمر يقتضي الفور، وهو قول كثير ممن قال بأن الأمر يقتضي التكرار.

    القول الثاني: وهو قول جمهور أهل العلم: أنه غير معلق بزمن، وهذا قول الشافعية والأحناف، ويقولون: إنه لا يقتضي الفورية، وإن كان هناك قول للشافعي وهو أقوى في المذهب: أن الأمر يقتضي الفورية.

    القول الثالث وهو قول الواقفة.

    والصحيح الراجح في ذلك هو أن الأمر يقتضي الفورية، ودليل ذلك من الكتاب قول الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ آل عمران:133]، والمسارعة والمسابقة وردت بلفظ الأمر الدال على الفورية، وهي دلالة على أن المسارعة واجبة.

    والأجلى من ذلك والأوضح فعل أم سلمة مع النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود : (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها مغضباً، فقالت: يا رسول الله! من أغضبك أهلكه الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما رأيت قد أمرت الناس بأمر فلم يأتمروا به) يعني: لم يفعلوه.

    والدلالة واضحة جداً فإنه لو كان على التراخي ما غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وما الذي يغضب النبي إن كان الأمر على التراخي؟ فهو أمرهم بالأمر، وعليه أن ينتظر لهم هذا اليوم كي يفعلوه، أو اليوم الذي بعده، أو اليوم الذي بعده، فلو كان الأمر على التراخي ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يغضب.

    بينما كان غضب النبي هنا ظاهر جداً بما يثبت أن الأمر على الفورية، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: افعل كذا. فلا بد أن تفعل، وهذا الراجح الصحيح الذي لا نحيد عنه، وهو أن الأمر يقتضي الفورية.

    1.   

    أثر الاختلاف الأصولي في فورية الأمر على المسائل الفقهية

    حكم أداء الزكاة فوراً

    أثّر ذلك في المسائل الفقهية اختلافاً كبيراً في عدة مسائل:

    الزكاة فرض من الفروض التي أمر بها الله جل في علاه، حيث يقول جل في علاه: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، فإيتاء الزكاة ركن من الأركان التي أمر الله بها، ويشترط فيها شرطان:

    الشرط الأول: بلوغ النصاب، وهو خمسة وثمانون جراماً من الذهب، ومن الفضة خمسمائة وخمسة وتسعون جراماً لكن هناك معضلة وهي: عظم الفارق بين مقدار زكاة الذهب والفضة.

    الشرط الثاني: حولان الحول القمري.

    بمعنى: أن رجلاً في واحد رمضان كان معه ستة آلاف جنيه، وحال عليها الحول وهي معه، فهل نقول بوجوب إخراج الزكاة في أول رمضان أم أن له الاختيار في أول رمضان أو آخر رمضان؟

    وفائدة الخلاف في هذه المسألة: أنه لو أخرج أول رمضان فلا عتب عليه، أما لو أخرج في ثالث يوم من رمضان فهو آثم عند ربه، نعم هو أخرج الفريضة، لكنه أثم بالتأخير. هذا عند من يقول بالفورية.

    وقد اختلف العلماء في فورية أداء الزكاة على قولين، فإذا لم يخرج المرء الزكاة في الوقت الذي بلغ فيه النصاب وحال عليه الحول القمري، هل يأثم أم لا يأثم؟

    فالحنابلة يقولون: من لم يخرج الزكاة في وقتها وتأخر ولو ساعة أثم بذلك، وهذا تشديد على الناس، ومنتشر بين العوام أن الرجل قد تكون زكاته في رجب، لكنه يقول: إنني أؤخرها لكي أدخل السعادة على الفقراء في رمضان، فيحبس الزكاة عنده، ثم يخرجها في رمضان، وهؤلاء لا يعلمون أن هناك مساءلة عند الله، وأن المرء يأثم إن أخر الزكاة عن وقتها.

    والشافعية والأحناف -على ما أصلوه من أن الأمر لا يقتضي الفور- قالوا: له أن يخرجها في رمضان، وله أن يخرجها في ذي القعدة، المهم أنها في ذمته، وهي دين يحاسب عليه أمام الله جل في علاه، لا يملك منها فلساً، ويخرجها وقت ما يشاء، وقد أسقط الفريضة بإخراجها.

    وهذا الكلام وإن كان أصولياً قد اتفق عليه الأحناف والشافعية وخالفوا الحنابلة فيه، لكن لو أخرجت كتب الفقهاء الأحناف أو الشافعية أو الحنابلة تراهم يسطرون فيها ما يخالف هذا التأصيل، حيث يقولون بوجوب إخراج الزكاة حين حولان الحول بعد بلوغ النصاب، فعلى الإنسان أن يحتاط لدينه.

    وإذا قلت لهم: هذا أصل أنتم أصلتموه وقلتم: الأمر لا يقتضي الفور، فلم تلزمون الناس بإخراج الزكاة في نفس الوقت؟ حينها ترى أن مستند الشافعية ليس هذا التأصيل، وإنما نظروا إلى حالة الغني وحالة الفقير، أي: حالة المزكي وحالة المزكى له، فقالوا: حاجة الفقير ناجزة، وهو يحتاج الآن للصدقة، فقالوا: نقول بالفورية لا لمقتضى الأمر ولكن لحاجة الفقير؛ لأن حاجة الفقير ناجزة فلا يجوز له أن يؤخر؛ لأنه لو تأخر عن إعطاء الفقير لألحق الضرر به، ولا ضرر ولا ضرار.

    إذاً: المسألة الفقهية أصبح فيها شبه اتفاق، لكن ليس على نفس التأصيل الأصولي، أما الحنابلة فقالوا بوجوب فورية إخراج الزكاة، للتأصيل العلمي المسبق بأن الأمر مقتضاه الفورية، وهذا هو الحق في المسألة.

    أما الشافعية والأحناف فقد وافقوهم في وجوب الإخراج لا للتأصيل، لكن لنظر آخر وهو: أن حاجة الفقير ناجزة، فقالوا: إذا كانت حاجة الفقير ناجزة فلا بد أن يخرج الزكاة بعد حولان الحول، وإن تأخر أثم عند الشافعية والأحناف للغير -أي: الفقير- وأثم عند الحنابلة لذات الأمر.

    قضاء الصوم

    ومما يتفرع عليها:

    قضاء صوم رمضان: هل هو على الفور أم على التراخي؟

    أما الحنابلة فيرون بأن قضاء صوم رمضان على الفورية، ولا يجوز تأخيره، واستدلوا بنفس التأصيل العلمي, قال الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

    قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وهو خبر يراد به الإنشاء، كأن الله يقول: فعليكم أن تصوموا أياماً أخرى مكان هذه الأيام التي أفطرتم فيها، فكأن الله أمرهم بالصيام، فقالوا: هذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب، وأيضاً الأمر يقتضي الفورية عند الحنابلة فقالوا: لا بد أن يصوم، والفورية تعني أن له أن يصوم إلى رمضان القادم، وإن لم يصم حتى أتى رمضان آخر فعليه أن يصوم هذه الأيام وعليه كفارة تأخير، وهو آثم بسبب التأخير، والكفارة هي أن يطعم عن كل يوم مسكيناً، ولكن هذه الكفارة لم أر عليها دليلاً؛ ولذلك لا يؤخذ بها، وهو يأثم عندهم لأنه لم يأت بالفورية.

    أما جمهور الأحناف فيرون أنه على التراخي، وله ألا يعجل ويسارع في قضاء الصوم.

    أما الشافعية والمالكية فقد وافقوا الحنابلة، وأيضاً قولهم ليس مبنياً على التأصيل العلمي في أن الأمر يقتضي الفور.

    التنفل قبل قضاء رمضان

    رجل سافر سفراً يباح له الفطر فيه، فأفطر، فهل له أن يصوم النافلة قبل أن يقضي أم ليس له ذلك؟

    الخلاف هنا محتدم بين أهل العلم:

    أما الأحناف فقد قالوا: له أن يصوم نافلة كيفما شاء، ثم بعد ذلك يصوم الفرض؛ لأن القضاء ليس على الفورية.

    أما الشافعية والمالكية فقد وافقوا الحنابلة في الحكم -مع أنهم يخالفونهم في التأصيل- بأنه لا يصح منه أي نافلة حتى يقضي الصوم، ووجهة نظرهم هي قول الله تعالى: دين الله أحق، وإذا تعارض الفرض مع النفل يقدم الفرض.

    ونحن نقول خلافاً للحنابلة وللشافعية والمالكية، الصحيح الراجح أنه له أن يصوم من النافلة ما شاء قبل أن يقضي، لكن عليه القضاء قبل أن يأتي رمضان الآخر؛ لأن هذا الواجب موسع، وتوسيعه أنه يوجد وقت آخر من بعد رمضان إلى رمضان الآخر له أن يصوم الأيام التي عليه، والواجب الموسع هو الذي يسع غيره من جنسه، كصلاة الظهر، فإنها تبدأ من زوال الشمس عن كبد السماء إلى أن يصير ظل الشيء مثليه، فنقول: من هذا الوقت إلى ذلك الوقت له أن يصلي نافلة كصلاة الظهر، فكذلك قضاء رمضان، هل يسع في وقت القضاء أن يضم معه غيره أو لا يسع؟

    الجواب: يسع، ولذا قال الأحناف له: أن يتنفل.

    ونقول نحن رداً على الجمهور: له أن يتنفل؛ لأن هذا يعتبر واجباً موسعاً لا سيما وقد جاءت الأدلة مصرحة بتأخير القضاء، ومن أصرح الأدلة: أن السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها كانت تؤخر وتؤجل قضاء رمضان في شعبان لمكان النبي صلى الله عليه وسلم منها، فهذا فيه دلالة واضحة على أن واجب القضاء لصيام رمضان واجب موسع، إذاً: ينضم معه غيره من جنسه، ويصح أن تقدم عليه النافلة.

    وقت صيام المرأة للست من شوال

    تبقى مسألة متعلقة بهذا الباب، ألا وهي: المرأة الحائض إذا أفطرت في رمضان بسبب الحيض، واستمر معها حيضها حتى لم يبق من شهر شوال إلا ستة أيام، وهي تريد أن تنال الحظ الأوفر والأكبر في صيام شوال وصيام رمضان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر).

    فهي تقول: لو قضيت ما علي فلن أستطيع صوم الأيام الستة، فسأقضي ما افطرت من رمضان في أي وقت، فهل نقول بقول الجمهور: بأنه لا نافلة مع الفرض حتى تأتي بالفرض، أم نقول بقول الأحناف بأنه لها أن تتنفل ما دام الواجب موسعاً؟

    أقول: لن نقول بأي القولين، والصحيح الراجح: أن المرأة ليس لها إلا أن تقضي أولاً ثم تصوم الست من شوال، أو تريد أن تتنفل تنفلاً مطلقاً لها، ثم تقضي ما عليها، لمَ؟

    لست أقول بأنه محجور عليها النافلة حتى تقضي؛ لأن هذا واجب موسع، لكني أحجر عليها الفضيلة، فصيام المرأة ستة أيام قبل أن تقضي هل تندرج به في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال ..) لأن قوله: (صام رمضان) يعني: كل رمضان، هذا ظاهر اللفظ، وهي الآن لم تتم الشهر، إذاً: لا تندرج تحت الحديث لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام رمضان) رمضان هنا نكرة في سياق الإثبات، وهذا يفيد الإطلاق، يعني: من صام كل رمضان من أول يوم إلى آخر يوم، ثم أتبع رمضان بست من شوال، فكأنما صام الدهر كله، فنحن نقول: هي لم تصم رمضان، فعليها أولاً: أن تقضي الأيام التي أفطرتها من رمضان بسبب الحيض، فإذا قضت هذه الأيام نقول لها: أنت الآن قد صمت رمضان فلك أن تصومي الست من شوال.

    قالت: إذاً لو قضيت ما علي فلن يتسع لي الوقت أن أصوم الست من شوال، نقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ولك ما نويت، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكم من مريد للخير لم يبلغه، وهذه قواعد شرعية أصولية عامة لا بد أن نعمل بها.

    ولو قلنا بأنها تصوم الست ثم تقضي ما عليها لم تكن قد دخلت تحت عموم الحديث: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال).

    فاعترض علينا المعترضون، وقالوا: كيف تقولون ذلك وهي قد صامت ما فرض عليها، لكن ليس بفرض عليها في أيام الحيض؟

    قلنا: ليس بفرض عليها حين الحيض، لكن هل القضاء فرض عليها أو ليس بفرض عليها؟

    سيقولون: فرض عليها.

    قلنا: إذاً لم تتم الشهر، فتتم الشهر بالقضاء.

    قالوا: ماذا تفعلون في حديث عائشة ، ألا تظنون خيراً في عائشة رضي الله عنها وأرضاها؟ هل عائشة رضي الله عنها وأرضاها تترك صيام الست من شوال، وتترك هذا الخير العميم العظيم وهو أن تصوم الست من شوال مع رمضان فتفوز بصيام الدهر كله، فهي لم تقض القضاء إلا في شعبان، ويبعد كل البعد أن تترك أيام الست من شوال، ولدينا أيضاً قاعدة: كلما ضاق الأمر اتسع، فكيف نجيب عن هذه الأسئلة؟

    أقول: الراجح والصحيح أنه ليس لها أن تصوم الأيام الستة حتى تقضي، وهذا ليس تضييقاً عليها، وإذا دارت مع الشرع فليس هذا من التضييق بشيء، بل الدوران مع الشرع كله خير.

    أما عن حديث عائشة ، فهي لم تصم الست، وأين الدليل على أنها صامت؟ أنا عندي الدليل أنها لم تصم، مع أني لست ملزماً أن آتي بالدليل، فالمخالف هو الذي يأتي بالدليل؛ لأن الأصل عدم القيام بهذه الطاعة، فإذا قامت بالطاعة فائتوني بالدليل، ولا دليل لديكم إلا حسن الظن، ونحن نحسن الظن، وفوق هذا الإحسان أقول: إنها لم تصم لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منها؛ لأنها بينت العلة -كما في البخاري - أنها ما كانت تقضي رمضان إلا في شعبان لمكان رسول الله منها، إذا كان يريدها النبي صلى الله عليه وسلم فكانت تجعل لنفسها وقتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا أحسن بها الظن ألا تقدم النفل على الفرض وهي الفقيهة رضي الله عنها وأرضاها؛ لأن استجابتها لرسول الله إذا أراد وطأها واجب والصيام نفل.

    لذلك أنا أقول: المرأة لو صامت يوم الإثنين ودخل زوجها فاشتهاها فلا بد أن تفطر وجوباً، ولولم تفطر أثمت بذلك؛ لأنها تقدم النفل على الفرض.

    فقدمت عائشة الفقيهة فرضية الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على النفل وهو صوم ستة أيام، وهي تعلم أنها لو نوت خيراً ما ضاع هذا الخير (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فهذه دلالة واضحة جداً على أن عائشة لم تصم الأيام الستة.

    وأما القول بأن الأمر إذا ضاق اتسع، وإذا اتسع ضاق، فنقول: أين محل هذه القاعدة مما نقول؟

    نحن نقول لها: صومي النافلة كيفما شئت، لكن لن تحوزي فضيلة الأيام الستة بعد صيام رمضان وتكوني قد صمت الدهر كله إلا بعد أن تطبقي الحديث؛ لأنها مقدمة ونتيجة، المقدمة (من صام رمضان)، أي: كل رمضان، (ثم أتبعه بست من شوال) النتيجة: (فكأنما صام الدهر كله) فالحائض إنما جاءت ببعض رمضان وبست من شوال، فلا تأخذ النتيجة؛ فإذا صامت رمضان، وقضت ما أفطرته في شعبان، وكانت قد صامت ستة أيام من شوال، نقول: هل صامت رمضان حقيقة وأتبعته بالست، أم قدمت الست ثم أتبعت الصيام؟

    نؤصل تأصيلاً آخر لكي نوضح أكثر.

    النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: (لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) الصحيح الراجح المتوافق مع ظاهر كلام النبي هو وجوب التسمية، فلو صلى بوضوء لم يذكر اسم الله عليه، فصلاته باطلة، لمَ؟

    اجعلوها معادلة، مقدمة ونتيجة، المقدمة: وضوء بتسمية مع صلاة فالصلاة صحيحة، وضوء بدون تسمية فالصلاة غير صحيحة، كذلك هنا: صيام رمضان كاملاً مع ست من شوال، فالنتيجة: صام الدهر كله، وإذا لم يصم كل رمضان لم يدخل تحت الحديث.

    إذاً: محور الكلام كله على لفظ النبي صلى الله عليه وسلم.

    امرأة صامت نصف رمضان، وصامت الست من شوال، فلا يقال إنها صامت رمضان وأتبعته ستاً من شوال؟ إلا أن يوجد دليل يوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد المسارعة ولا يقصد هذه المقدمة، ولا يوجد دليل إلا حسن الظن بـعائشة ، ونحن نحسن الظن، لكنها إنما تركت الصيام من أجل مكان النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهل تترك صيام الدهر؟! نعم؛ لأن الله جل وعلا سيعطيها فوق ذلك أضعافاً مضاعفة؛ لأنها قدمت الفرض على النفل، وقدمت رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر في ذاتية نفسها.

    بل القاعدة عند العلماء: لو تعارضت العبادات المتعدية مع العبادات الذاتية فالمتعدي يقدم على الذاتي، كصلاة ركعتين والتصدق بدرهم، فالتصدق بدرهم أفضل من صلاة الركعتين، لأن الركعتين تنفع صاحبها فقط، أما الصدقة فتنفع المتصدق والمتصدق عليه. وقد قالت عائشة للرواي: أما أنا وأنت فمن الذين ظلموا أنفسهم؟ هي تصرح بنفسها، كأنها لا تفعل إلا الفرائض فقط.

    ابن مسعود كان يقول: إن الصيام يضعفني فلا أصوم حتى أستطيع القيام، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في العصر يطوف على نسائه ويقبل كل امرأة، ولو افترضنا أنه قبل امرأة فاشتهاها فهل تمتنع؟ لا.

    ثم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقضي أولاً ثم تصوم الست، ولا يوجد مخالف لهذا، ولا يوجد دليل أنها لم تصم وأخرت وصامت بعد ذلك.

    هناك قاعدة علمية تقول: إذا تعلق الحكم على شرطيه لا يتواجد إلا بوجودهما، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهنا الشرط الأول: أن تصوم كل رمضان، والشرط الثاني: أن تصوم الست، فاختل الشرط وهو صيام رمضان كله.

    إذاً: الصحيح الراجح في هذه المسألة: أنها لا تصوم.

    الحج على الفور

    هل الحج على الفور أم على التراخي؟

    فلو أن رجلاً سهل الله له الاستطاعة بالمال والزاد والراحلة، وأراد السفر للحج ثم تقاعس وقال: أذهب إلى الحج العام القادم، فما محله من العقاب والثواب؟

    يرى الحنابلة أنه آثم وعاصٍ لله جل في علاه؛ لأنه لم يمتثل لأمر الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، هذه أيضاً دلالة على الأمر، والأمر يقتضي الوجوب والفورية، فإذا استطاع المكلف الحج وجب عليه في حينه أن يسافر إلى الحج، ولو كان قبله بيوم أو بأسبوع إلا أن يمنع من قبل السلطات، فقد اتقى الله ما استطاع. هذا قول الحنابلة.

    أما الجمهور من الشافعية والأحناف فقد قالوا بأنه ليس على الفور، بل لو تراخى في الحج بعدما وفر الله له الزاد والراحلة لم يأثم بذلك، لكنه في ذمته ولا بد أن يأتي بهذه الفريضة.

    دليل الحنابلة: أن مقتضى الأمر الفورية.

    وأما دليل الأحناف والشافعية فليس على هذا التأصيل.

    والدليل من اللغة على أن الأمر يقتضي الفورية: أن السيد لو قال لعبده: ائتني بكوب من الماء، فتركه إلى الليل فضربه لم يكن ملوماً؛ لأن العبد لم يأتمر بأمره، فهذا دليل من لغة العرب على أن الأمر على الفورية؛ لأنه لو كان على التراخي لم يكن له أن يعاقبه.

    فالقول بالفورية هو قول الحنابلة، أما الشافعي فله قولان، أحدهما بالفورية؛ والآخر بأن الحج ليس على الفور، لا لمقتضى الأمر -يعني: لا على التأصيل- ولكن للقرائن المحتفة التي صرفت الأمر من الفورية إلى التراخي، وهذا القول هو الراجح الصحيح.

    قالوا: أولاً: أن الحج فرض في السنة السادسة، على خلاف بين العلماء هل فرض في السنة السادسة أو السنة التاسعة، والذي أميل إليه أن الحج فرض في السنة السادسة، وحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة.

    لكن الحنابلة قالوا بأنه فرض في السنة التاسعة، والوفود التي قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم هي التي أخرته من أجل مصالح المسلمين إلى السنة العاشرة.

    فالشافعية قالوا: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه كانوا على يسر، وكانوا يملكون الزاد والراحلة فلم يحجوا إلا مع حج النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا تقولون في هؤلاء الذين أخروا الحج؟ هذه شبهة قوية جداً، وإذا قلنا بأن الحج فرض في السنة السادسة والنبي صلى الله عليه وسلم أخره إلى السنة العاشرة كان ذلك ليس على الفور.

    والشبهة الثانية: أن الصحابة كانوا مياسير وكان معهم المال ولم يحجوا، فكانت هذه دلالة قوية جداً صارفة من الفورية في مسألة الحج إلى التراخي، لكن الأحوط وخروجاً من الخلاف نقول بالفورية، ويأثم من وفر الله له الزاد والراحلة فلم يذهب إلى الحج.

    ينبثق عن هذه المسألة مسألة مهمة جداً.

    إذا قلنا بالتراخي، وقلنا: ليس الوجوب على الفورية في مسألة الحج بالذات لوجود الصارف إلى التراخي، فإذا وجد المكلف الزاد والراحلة ثم مات وهو يقول بأن الأمر ليس على الفورية، فهل يجب أن يقضى عنه الحج أم لا؟

    نقول: يجب الحج عنه، ومال الحج لا يدخل في الميراث -كالزكاة- ثم يحج عنه بالنيابة، فهذه المسألة هي التي انبثقت من هذه المسألة.

    وقال المالكية والأحناف: لا يجب إلا إذا أوصى، للتأصيل العلمي الذي يقول: الوصية واجبة التنفيذ، فإذا وصى بذلك حج عنه، وإن لم يوص فلا يحج عنه.

    قالوا: وأيضاً للتأصيل العام الشرعي أن الأصل في العبادات عدم النيابة.

    فلو حج رجل عن رجل كان هذا نيابة، والأصل في العبادات أنه لا نيابة فيها، فقالوا: هذا التأصيل العام وأنتم توافقون عليه، فإنه لا يجوز النيابة في الحج إلا إذا أوصى، فتكون المسألة بواجب آخر غير النيابة وهو وجوب تنفيذ الوصية.

    وأما الشافعية والحنابلة فقالوا بوجوب الحج عنه إذا مات وإلا فآثم، وسيسأل عند ربه عن هذا الحج. وهذا هو الراجح الصحيح.

    والدليل على ذلك: المرأة الخثعمية التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلت نفسها، وفي رواية ذكرت الصوم، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ فقالت: نعم، فقال: دين الله أحق أن يقضى).

    وأيضاً المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي شيخ كبير أدركته فريضة الحج ولا يستطيع أن يستوي على الراحلة ..إلى آخر الحديث.

    المقصود: أن هذا الحديث فيه فصل الخطاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دين الله أحق أن يقضى).

    إذاً: دين الله في الحج لا بد أن يخرج من التركة قبل أن يقسم الميراث.

    إذاً: الراجح الصحيح: أن من مات وعليه حَج حُج عنه وجوباً، هذا إن مات وهو مستطيع، لكن إن مات وهو غير مستطيع فهذا لا يطالب بالحج، ولا يحج عنه وجوباً، لكن هل يحج عنه استحباباً؟

    هذا خلاف فقهي عريض بين العلماء ليس هذا مجال التفصيل فيه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755834671