إسلام ويب

الاختلاف في القواعد الأصولية - التشريع ومصادره في عهد الرسولللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للخلاف بين العلماء أسباب كثيرة، منها: الاختلاف في القراءات، فكل يستدل بقراءة معينة على الحكم الذي يراه، ومن أسبابه: الاختلاف في السنة، وله أسباب منها: عدم الاطلاع على الحديث، والاختلاف في ثبوته ونحو ذلك.

    1.   

    الاختلاف في القراءات وأثره في الاختلاف في المسائل الفقهية

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد.

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد.

    إن أفضل الأصول الذي يحتج به كل إنسان يشتم رائحة العلم هو كتاب الله جل في علاه، ثم سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    فأصل الأصول هو الكتاب، وقد اتفق العلماء على أن القرآن هو كلام الله المبين الحاكم على عباده، فما اختلف العلماء في الكتاب، ولكن اختلفوا في أمر آخر مهم جداً ألا وهو: فهم دلالات الكتاب، وفهم المراد من كتاب الله جل في علاه، وفهم ما هو مراد الله من الآية أو من الحكم الشرعي.

    واختلفوا أيضاً في القراءات، أما بالنسبة للاختلاف في الدلالات فسيأتي؛ لأن بابها واسع جداً.

    الاختلاف في القراءات قد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك -أو أمتك- أن يقرءوا القرآن على حرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسأل الله المعافاة! إن أمتي لا تطيق ذلك، فجاءه جبريل في المرة الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تأمر أمتك أن يقرءوا القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله المعافاة! إن أمتي لا تستطيع ذلك، فقال: إن الله يأمرك -في المرة الثالثة- أن تأمر أصحابك -أو أمتك- أن يقرءوا القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله المعافاة! فجاءه في الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تأمر أمتك أن يقرءوا القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا، أو فمن قرأ بها فقد أجزأته).

    فالقرآن نزل على سبعة أحرف، وكل حرف يختلف عن الآخر؛ ولذلك نجد في بعض الروايات أن الله عز وجل يقول: فتثبتوا وفي قراءة أخرى تقرأ: (فَتَبَيَّنُوا).

    الاختلاف في مسألة غسل الرجل في الوضوء

    والاختلاف في فهم القراءات أثمر خلافاً في المسائل الفقهية، مثال ذلك: مسألة غسل الرجل في الوضوء، فنتيجة لأن العلماء اختلفوا في القراءات أثمر ذلك الاختلاف في حكم غسل الرجل أو مسحها، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] هذه قراءة نافع والكسائي وأبي عمرو ، وأما ابن كثير وحمزة فقرأا: وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم بالكسر فالقراءة المعهودة المعروفة عند المصريين: وَأَرْجُلَكُمْ بالفتح فتكون معطوفة على فَاغْسِلُوا وجُوهَكُم أي: معطوفة على الغسل.

    أما القراءة الثانية، وهي قراءة سبعية، وصلت إلينا بالتواتر، أي: أنها متفق عليها، فقرأت: وأرجلِكم، فتكون معطوفة على المسح، وبذلك نبع من الاختلاف هذا في القراءة اختلاف الفقهاء في الحكم الفقهي.

    حكم غسل الرجل في الوضوء

    فالجمهور من أهل العلم يرون أن غسل الرجل هو الوارد، وهو الذي يجب، ومعنى ذلك أن المسح عندهم لا يجزئ؛ لأن الواجب معناه هو الذي يجزئ وهو الذي يقبل، واحتجوا بالقراءة المشهورة: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) المائدة:6] وعضد ذلك الاستدلال أحاديث كثيرة، منها حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما كانوا في سفرة؛ فنظر إلى أقوام يتوضئون فكانوا يمسحون على أرجلهم، فصرخ فيهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (ويل للأعقاب من النار) فهذه دلالة على أن المسح لا يجزئ.

    القول الثاني: قول من أخذ بالقراءة الثانية وهي قراءة: (وأرجلِكم)، وهو قول ذهب إليه أنس بن مالك وابن عباس ، وهو قول الشيعة، فقالوا: الواجب هو المسح، ولا بد أن يقولوا: إن الغسل يجزئ؛ لأن الغسل يشمل المسح.

    القول الثالث: لـابن جرير الطبري، فقد نظر إلى القراءتين فقال: المصلي مخير بين أن يغسل وبين أن يمسح، وهذا كلام جيد جداً، وهو من الحسن بمكان؛ ذلك لأنه يعضد القاعدة التي قعدها العلماء: إعمال الدليلين أولى من إعمال أحدهما، لكن يشكل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار)؛ لأنه لم يرض بالمسح.

    القول الرابع: قول ابن حزم ، وهو قول عجيب، فقد قال: إنه يجب على المصلي الغسل والمسح، ولا بد أن يجمع بين الغسل وبين المسح، وحجته في قوله أن الله جل وعلا أمر بالغسل وأمر بالمسح، ففي القراءة الأولى أمر بالغسل في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ ، وفي القراءة الثانية أمر بالمسح، وكلا الأمرين من الله، وهذا القول قريب من كلام ابن جرير .

    ولكن الأصل إذا تعارضت القراءات في حكم من الأحكام، أو كان ظاهرها التعارض، فإنه لا بد لنا من الرجوع للسنة والمرجحات.

    ومن الأدلة التي تعضد وجوب الغسل: أن جميع الذين رووا ونقلوا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (فغسل رجله ثلاثاً)، وفي حديث عثمان المتفق عليه قال: (فغسل رجله إلى الكعبين) ولم يذكر ثلاثاً ولا واحدة.

    فالغرض المقصود أن كلاً من زيد أو أسامة أو علي بن أبي طالب أو عثمان أو أنس ، وكل من روى لنا وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ما قال أنه قد مسح على رجله مرة واحدة، إذاً فعل النبي صلى الله عليه وسلم المداوم عليه دل على أن الواجب هو الغسل.

    لكن الأصل في الفعل أنه لا يفيد الوجوب، ولكن الفعل هنا يفيد الوجوب للقاعدة التي تقول: بيان الواجب واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين لنا الوضوء قد بين لنا ما أوجب الله علينا، والقاعدة عند العلماء: بيان الواجب واجب.

    والواجب هو قول الله تعالى: فَاغْسِلُوا وهذا لفظ أمر، وظاهر الأمر الوجوب، فأوجب علينا الغسل، والقراءة الثانية أوجب المسح، فلو كان المسح هو المراد لمسح مرة واحدة ليبين لنا الجواز؛ لأنه لما حرم الشرب قائماً شرب هو قائماً؛ ليبين لنا أن هذه ليست على التحريم ولكنها على الكراهة.

    أما الإجابة عن القراءة الثانية فهي من وجوه:

    الوجه الأول: أن القراءة بالجر جاءت للجوار، فالجر هنا للجوار، وهذه معروفة في اللغة وفي أشعار العرب؛ بل ورد في القرآن جر ما حقه الرفع من أجل الجوار، قال الله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ [الرحمن:35]، وقد ورد في القراءة السبعية الأخرى: (يرسل عليكما شواظ من نارٍ ونحاسٍ)، مع أن النحاس مختلف، فقالوا: الجر هنا للمجاورة، والأصل فيها الرفع، وهي القراءة المشهورة: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ [الرحمن:35] فلما جرت في القراءة الثانية جرت للمجاورة.

    الوجه الثاني: أن قراءة: (وأرجلِكم) خاصة بالخف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث صحيح عن المغيرة بن شعبة : (قام فبال على سباطة قوم قائماً، ثم توضأ، فلما توضأ أهوى المغيرة لينزع خف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، ثم مسح على خفيه) فتكون (وأرجلكم) عطفاً لبيان جواز المسح على الخفين.

    والرد على كلام ابن جرير الطبري الذي يقول: يجوز الأخذ بالقراءتين: بأنه لو كان صحيحاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، لبيان الجواز، ولو كان يجزئ المسح لبينه، ولما أنكر على من مسح وقال: (ويل للأعقاب من النار).

    1.   

    الخلاف وأسبابه وبعض أمثلته

    السنة حدث فيها خلاف، فقد نجم خلاف بين الفقهاء والعلماء في السنة: إما في فهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما لعدم الثبوت، وإما لعدم الاطلاع.

    عدم الاطلاع على الحديث

    أولاً: عدم الاطلاع على الحديث، فبعض الصحابة كانوا يجلسون حول رسول الله، ويكتبون عنه الحديث، وبعضهم كان يعمل وينشغل بالتجارة والزراعة وغيرها.

    ونتيجة لهذا فإن بعض الصحابة لم يدركوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحدثوا بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت تعرض عليهم المسائل فيخالفون أو يوافقون، أو أنهم ما كانوا يعرفون عن هذه المسألة شيئاً فيتفقون.

    خلاف العلماء في حكم تيمم الجنب

    ومن هذا تيمم الجنب، فإذا أجنب امرؤ فلم يجد ماءً فقد قال الله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43] لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينكر على الجنب الذي يتيمم إن لم يجد الماء، وكان يقول: إن لم يجد الماء فعليه أن يمتنع عن الصلاة عشر سنين، ووافقه في هذا القول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقال: إذا أجنب المرء ولم يجد الماء فلا يتيمم ويبقى جنباً، فلا يصلي حتى يجد الماء ثم يقضي.

    أي مشقة هذه؟! وهذا مخالف لمقاصد الشريعة، والذي جعل عمر بن الخطاب يفتي بذلك أنه لم يطلع على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وافقه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.

    فاستنبط العلماء: أن من كانت عنده آلة الاجتهاد؛ فاجتهد وأقام العبادة على اجتهاده وإن كانت على خطأ فلا يعيدها، فقد أصاب أجراً بذلك ولا يعيد الصلاة، ومن ذلك قصة عمار بن ياسر الذي تمرغ في التراب كما تمرغ الدابة؛ لأنه أجنب ولم يجد ماءً، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقص عليه القصة، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وبعدما أقره قال: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا) ثم ضرب بيديه الأرض ومسح ظاهر كفيه ووجهه، وفي رواية: (نفخ التراب، ثم تمسح وجهك وتمسح كفيك، فيكفيك ذلك لكل بدنك) فقام عمار فقال لـعمر -وكان عمر يفتي أنه لا تيمم من جنابة-: أما تذكر حين كنت جنباً وقد حدث كذا وكذا وكذا.. فلم يتذكر عمر الواقعة، فقال عمار : إن أردت أن أكف عن هذا الحديث أكف، فقال له: لا والله! نوليك ما توليت. فالذي جعل هذا الخلاف يحدث بين الصحابة أنه لم يصل إلى عمر حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

    خلاف العلماء في ميراث المفوَّضة

    أيضاً علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه كان دائماً ما يسأل عن المفوَّضة، والفرق بين المفوَّضة والمفوِّضة: أن المفوِّضة في العقيدة، والمفوَّضة في الفقه، فالمفوضة في العقيدة من الفرق الضالة، والإمام حسن البنا رحمة الله عليه كان يقول بالتفويض، وكثير من الإخوان يعتقدون بعقيدة التفويض، وهو أن يفوض الكيف ويفوض المعنى، بمعنى إذا قيل لك: ربك سميع، فماذا تعلم عن سميع؟ وما معنى سميع؟ أي: يسمع الأصوات والحركات والسكنات، وهم يقولون: نعم سميع، لكن لا نعلم ما معنى سميع، والذي نعرفه عن سميع أنه سين بجانب ميم بجانب ياء بجانب عين! وهكذا بقية الأسماء.

    أما المفوَّضة فهي المرأة التي عقد عليها زوجها ولم يسم مهرها، ومات عنها، فكان علي يقول: المفوضة التي مات عنها زوجها ليس لها شيء، أفتى بهذا؛ لأنه لم يصل إليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، وهو حديث بروع بنت واشق ، فقد مات عنها زوجها ولم يسم لها المهر؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها المهر، وجعلها ترث من زوجها.

    فالخلاف الذي بين الصحابة كان منشؤه أنه لم يطلع على حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فـعلي بن أبي طالب لا يريد أن يخالف حديث النبي الله صلى الله عليه وسلم، لكنه اجتهد رأيه وخالف.

    الخلاف في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها

    ومن الأمثلة أيضاً: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، فكتاب الله قد فسر لنا العدد، قال الله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] أي: ثلاث حيضات، والحامل حتى تضع حملها قال تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر، قال تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فإذا كان عندنا عدتان: عدة الحامل، وعدة المتوفى عنها زوجها، فنجمع بين الاثنين أن المرأة حامل ومات زوجها، فاختلف العلماء في حكمها، وهذا الخلاف نابع من عدم الاطلاع على الأحاديث.

    فننظر إلى الدليلين فنعملهما؛ لأن كل الأدلة خرجت من مشكاة واحدة، فإعمال الدليلين أولى من إهمال واحد منهما.

    فلذلك نظر علي بن أبي طالب وابن عباس في هذه المسألة فقالا: قال الله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، وقال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فللجمع بينهما قالوا: تعتد بأبعد الأجلين، فإن كانت حاملاً ومات زوجها مات فننظر: إن كانت حاملاً في الشهر الثاني فعدتها أن تضع؛ لأن هذا أبعد، وإذا كانت في الشهر الخامس فعدتها أربعة أشهر وعشر؛ لأنه أبعد الأجلين.

    وهذا الذي أفتى به علي وابن عباس ، حتى إن أبا هريرة وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنكرا على ابن عباس، فتناظرا في هذه المسألة، فقال ابن عباس : تعتد أبعد الأجلين، ونعمل بالدليلين، فقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : لا والله! بل عندما تضع، أي: عدتها عندما تضع، فقال أبو هريرة : نبعث إلى أم سلمة حتى ننظر هل فيها سنة أم لا؟ فبعثوا إلى أم سلمة ، فقالت أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها: إن سبيعة الأسلمية كانت حاملاً، ومات عنها زوجها، وما لبثت أن وضعت، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك وقال: تريدين النكاح يا لكع؟ لا والله حتى يبلغ الكتاب أربعة أشهر وعشراً، قالت: فجمعت عليَّ ثيابي فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما وضعت (قد حللت للنكاح)، وهنا فصل الخطاب بين الآيتين، فقد فصل النبي صلى الله عليه وسلم وبين لنا مرجحاً من المرجحين، وهو أن المرأة الحامل التي توفي عنها زوجها عدتها أن تضع حملها، إذاً إذا كان عندنا امرأة حامل، مر عليها أربعة أشهر وعشر، واشتاقت للنكاح، فماذا نقول لها؟

    نقول: الراجح في الخلاف أنها تنتظر إلى أن ترضع، فإذا وضعت حملنا عموم قول الله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] على خصوص الحامل أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].

    الخلاف بين الصحابة في الربا

    ومن الأمثلة أيضاً: أنها حدثت خلافات بين فقهاء الصحابة -بسبب عدم الاطلاع- في الربا، فـابن عباس وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد والزبير بن العوام يجعلون الربا في النسيئة فقط، ويقولون: إنه لا ربا إلا في النسيئة، ويحدثون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ربا إلا في النسيئة)، واختلف معهم جماهير الصحابة على أن الربا عام: ربا نسيئة وربا فضل، وكان سبب الخلاف أنهم ما عرفوا بحديث عمر بن الخطاب ولا حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء) وقال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، ولا تشفوا بعضه على بعض) يعني: لا تزيدوا بعضه على بعض، ولا بد من التقابض في المجلس، فكان ابن عباس يفتي إلى آخر عمره أنه (لا ربا إلا في النسيئة)، أي أنه يجوز أن يعطي الدينار بدينارين، ويعطي الدينار بعشرة، ولكن لابد من التقابض في المجلس؛ لأن عنده النسيئة -وهو التأخير- هو المحرم، فطالما أنه كان التقابض في المجلس فيجوز أن تفعل ذلك بزيادة كيفما شئت، فقال له أبو سعيد الخدري : اتق الله، أما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، سواء بسواء!)وروى ابن عبد البر : أن ابن عباس قد رجع عن قوله، ورجع أسامة .

    لكن الصحيح أن الذي رجع أسامة وزيد والزبير وابن مسعود ، لكن ابن عباس اختلفت الروايات اختلافاً شديداً هل رجع أم لم يرجع، ولذلك يقول ابن عبد البر في التمهيد سواء رجع ابن عباس أو لم يرجع فالحجة ليست في ابن عباس ولكن الحجة في السنة، وإذا لم يرد شيء عن رسول الله فنرجع إلى الصحابة، لكن الصحابة إذا قالوا خلاف قول النبي وجب الأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755939657