إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - جوانب العظمة لعمر بن الخطابللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جوانب العظمة في شخصية الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرة، وقد ذكر العلماء كثيراً منها في كتب التواريخ والسير، فعلى المسلم أن يعرف عظمة هذا الخليفة، وأن يقتدي به.

    1.   

    فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    نتكلم بإذن الله عن جوانب العظمة في شخصية عمر بن الخطاب ، كما سلف أن تكلمنا عن جوانب العظمة في شخصية أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وسنتكلم في جزئية مهمة، هذه الجزئية هي التي تتضمن ما نريد، ألا وهي جزئية تعامل عمر رضي الله عنه وأرضاه مع أهل الكتاب، وهذه عظمة من جوانب العظمة في شخصية عمر سنبينها بإذن الله بالتفصيل، وسنذكر كيف كان يعامل عمر النصارى واليهود من أهل الكتاب.

    ونبدأ نتكلم عن أمير المؤمنين الفاروق الذي فرق الله به بين الحق وبين الباطل، والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عمر إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً غير فج عمر).

    عمر رضي الله عنه وأرضاه القوي الحاكم الرقيق اللين، عمر بن الخطاب الذي لم تلد النساء مثل عمر ، الذي قال فيه ابن مسعود : ما علمنا العزة إلا بعد إسلام عمر رضي الله عنه وأرضاه.

    عمر عنوان للمكانة والعظمة والدقة والقوة والرقي والسمو في جوانب الحياة كلها في الدنيا والآخرة.

    عمر رضي الله عنه وأرضاه قال عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: علته مهابة لم تعل أحداً، ولم أرها على أحد مثل عمر ، وقال: كنا نسير خلفه فإذا نظر خلفه وقعت قلوبنا في أرجلنا، والذي يقول هذا هو حيدرة ، أشجع الشجعان علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

    1.   

    تواضع عمر

    عمر كان كله تواضع، ولن ترى تواضعاً مثل هذا التواضع، فتواضع عمر من جوانب عظمة شخصية هذا الرجل الفاروق رضي الله عنه وأرضاه. ويوم الجمعة يوم مشهود، ويوم عيد ضيعه كثير من الناس، هذا اليوم الذي فيه ساعة إجابة لا يردها الله جل وعلا أبداً، ومن آداب يوم الجمعة: أن يغتسل المرء، والغسل فيه من السنن المستحبة على الراجح عند الفقهاء، ويرتدي إما ثياباً جديدة أو ثياباً نظيفة، فـعمر رضي الله عنه نظف ثيابه في يوم جمعة وارتدى ثياباً نظيفة؛ ليصلي بالناس، فهو أمير المؤمنين، ثم ذهب قاصداً المسجد، وكان للعباس ميزاب وذُبح له فرخان في ذلك اليوم، فصب الماء ووافى نزول الماء قدوم عمر رضي الله عنه وأرضاه، فنزل الماء المخلوط بالدم على ثياب عمر، فأمر عمر بقلع الميزاب، ثم رجع إلى بيته فغير ثيابه، ثم قام خطيباً في الناس، فبعدما انتهت الخطبة قام العباس وقال: يا أمير المؤمنين إن هذا الميزاب -أي: الذي أمرت بقلعه- ما وضعه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: عزمت عليك لتركبن ظهري، ولأحملنك فوق ظهري، ولتضعن الميزاب مكان ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعل هذا أمام الجماهير من رعيته تواضعاً.

    فأي تواضع هذا تجده في أمير المؤمنين حاكم البلاد، وهو الذي فتح مشارق الأرض ومغاربها؟! ومع ذلك لما قال له العباس : إن هذا الميزاب وضعه رسول الله، قال: لتركبن على ظهري ولتضعنه في موضعه الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ومن تواضع الفاروق الذي ما أتت النساء بمثله: أنه خرج في يوم شديد الحر، فالتفع بثوبه وغطى بثوبه رأسه، فوجد غلاماً على حمار، فقال: يا غلام! تحمل مثلي خلفك؟ انظروا إلى التواضع، فلو أن حاكم البلاد رأى رجلاً بسيارة وقال: استأذنك أن تحملني معك؟ فسيترك الرجل السيارة ويترك كل شيء، بل يقبل يده أن يركب هذه السيارة، أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال للغلام: يا غلام! أستأذنك أن تردفني خلفك؟ فأردفه الغلام خلفه ومشى الغلام بالحمار وعمر خلفه، والناس في المدينة ينظرون إلى تواضع هذا الأمير الكريم الذي كان نبراساً لكل أمير، فرضي الله عنه وأرضاه.

    وأيضاً من تواضعه رضي الله عنه وأرضاه: أنه مر بالمدينة فأوقفته امرأة فقالت: إيه يا عمر! كنت في مكة تلعب مع الصبيان صغيراً تدعى عميراً، ثم كبرت فدعوت عمر ، واليوم إيه يا عمر ! يقال لك: أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية يا عمر ! فهذه امرأة عجوز تشد وطأتها على عمر وتقول له: إيه يا عمر ! اتق الله في الرعية، ثم وعظته ونصحته في الله، فلما وعظته أغلظت له في القول، فقام عامله وقال: يا امرأة! اتقي الله، أما تعرفين من تكلمين؟ فقال: اسكت أما تعرفها؟ هذه المرأة هي: خولة التي سمع الله مقالتها من فوق سبع سماوات، أما يسمع مقالتها عمر ؟

    وانظروا إلى تواضعه لربه جل وعلا قبل أن يتواضع لهذه المرأة، فرضي الله عنه وأرضاه، فإن من تواضعه ما يؤلف فيه الكتب. وهذا جانب من جوانب العظمة في شخصيته رضي الله عنه وأرضاه.

    ومرة قام رجل فقال لـعمر : يا عمر ! أو يا أمير المؤمنين، إنك أقوى الناس في الحق، وأشد الناس في الصدق، وأشد الناس على المنافقين، والله يا عمر ! ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عوف بن مالك منتفضاً فقال: كذبت والله! فاندهش القوم! قال: بل رأينا من هو خير من عمر ، أو قال: كذبت، والله! لقد رأينا بعد رسول الله، فقالوا: من هو؟ قال: أبو بكر ، فقام عمر متواضعاً يعطي لكل قدره ويضع الشيء في نصابه، فقال: والله! لقد صدق عوف بن مالك وكذبتم أنتم، كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أطيب من ريح المسك، وكان عمر أضل من بعير أهله!

    يعني: أن أبا بكر أسلم قبله، فقال هذا تواضعاً منه؛ ليعرف كل إنسان مقدار غيره.

    1.   

    اهتمام عمر رضي الله عنه برعيته

    من جوانب عظمة عمر رضي الله عنه وأرضاه اهتمامه بالرعية، فقد حمل على كاهله شئون رعيته، فهو أمير المؤمنين، والإمارة ليست تشريفاً، بل هي تكليف، وكثيراً ما كان عمر يقول: وددت أن أخرج منها كفافاً لا لي ولا علي، وكثيراً ما كان يقول: ضع خدي على التراب عل الله يغفر لي.

    فانظروا إلى مبادئ عمر وهو أمير المؤمنين كيف يهتم بشئون الرعية، وهو من قال: قوام الحياة الآمنة وقوام العزة وقوام الكرم لا يكون إلا في نصاب الدين، فصب اهتمامه على الأمر الديني، ثم الأمر الدنيوي.

    ومن شئون الدولة التي كان يهتم بها عمر جداً: دين الناس، ولذلك قال: لن تنتصر أمة ولن ترتقي أمة ولن يكشف عنها الغمة إلا بالدين، والدين لا يصل الإنسان إليه إلا بالعلم والتعلم، فلذلك نجد عمر رضي الله عنه وأرضاه اهتم اهتماماً كبيراً بالمدارس الفقهية والحديثية والعلم، حتى ينتشر العلم في الأمصار والبلاد، فكان يعظم أهل العلم، ويخرج للناس عظماء لهم القدر الأعلى، حتى يأتسي الناس بهؤلاء ويأخذون منهم العلم، فيرتقون عند ربهم جل وعلا، ويأمنون في الدنيا، ويصلون إلى رضا الله جل وعلا في الآخرة.

    وكان أهم ما كان يشغل عمر رضي الله عنه وأرضاه أن ينصب من هو أهل ليعلم الناس، فبعث في الأمصار الصحابة الكرام، وتأسست مدرسة الكوفة ومكة والبصرة، المدارس الفقهية المختلفة كلها كان على رأسها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم باهتمام عمر رضي الله عنه، وكان يبين للناس أن طلب العلم هو أفضل شيء يمكن أن نرتقي به، فكان يقول: المرء يتحمل ذنوبه ثم يذهب إلى مجالس العلم فيرجع كيوم ولدته أمه، أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه، والمعنى: أنه إذا جلس في مجلس علم يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فرضي الله عن عمر وأرضاه.

    اهتمام عمر رضي الله عنه بالتوحيد

    اهتم عمر بالعلم وقال: أهم العلوم التي يرتقي بها المرء التوحيد؛ إذ إن العقيدة السليمة هي التي يصل بها المرء إلى الله وإلى جناته دون أدنى حساب، فالتوحيد هو أهم العلوم التي لابد أن ينصب الاهتمام عليه؛ لأن التوحيد أشرف العلوم، وشرف العلم من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا، فـعمر رضي الله عنه وأرضاه انبرى ليحافظ على توحيد الله، فقد بعث عمرو بن العاص إلى مصر ونظر إلى العقائد الخربة وحبال الشرك فقطعها، وسد الذرائع عن الشرك، وقد كانت تنتشر في مصر عقائد خربة جداً، هي العقائد الفرعونية التي مازال كثير من الناس يتغنى بها ويفتخر بها.

    فـعمر لما بعث عمرو بن العاص لفتح مصر وفتحها، جاء أهل مصر إلى عمرو بن العاص فقالوا له: عادتنا كل عام في شهر معين أنه بعدما تمر عشرة أيام من هذا الشهر نأتي ببنت فنزينها أحسن الزينة، ونلبسها أحسن الثياب بالحلي والذهب، ثم تلقى في النيل، حتى يجري النيل ولا يحدث الجفاف فيه، فبين عمرو بن العاص أن هذا من الشرك، وأن هذه عقائد خربة لابد أن تقطع، وقال: لا تفعلوا هذا، فلما سمعوا له وأطاعوا ابتلى الله صدقهم فحدث الجفاف، ولم يجر النيل، فبعث عمرو إلى عمر مستشكلاً، وقال: القصة كذا وكذا وكذا، فقام عمر فأثنى على عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه بين لهم العقيدة الصحيحة، ثم كتب بطاقة وكتب كتاباً على هذه البطاقة، وقال لـعمرو بن العاص : إذا وصلت هذه البطاقة فألقها في النيل، ففتح البطاقة فوجد فيها التوحيد الخالص الذي يبين أن العبودية هي رأس الأمر، وجد فيها: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، وأما الذين يتغنون به ويقولون: مصر هبة النيل، فهذا شرك محض، وهذا من الألفاظ التي لابد أن تعدل في أفراد المسلمين، فمصر هي هبة الله جل وعلا، والنيل هبة الله، والذي يهبنا الحياة هو الله جل وعلا، والذي يهبنا الرزق هو الله جل وعلا النافع الضار.

    فـعمر رضي الله عنه وأرضاه انبرى ليحقق كامل التوحيد، فقال: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، إن كنت تجري بأمرك فلا تجر ولا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بأمر الواحد القهار فنسأل الله أن يجريك. هذا هو التأسيس الصحيح للعقيدة، فالنيل لا يملك شيئاً، ولا أحد يملك شيئاً، وأنا وأنت لا أحد منا يملك لأحد شيئاً، حتى كبيري في العمل لا يملك لي شيئاً، بل لا يملك لنفسه شيئاً، ولا أحد في هذه الدنيا يملك لأحد شيئاً، لا دول تتحكم في مقدرات الناس، ولا أشخاص ولا جماعات ولا طوائف، فالله جل وعلا هو النافع الضار، وهو المعز المذل، ولذلك قام عمر يؤكد أصول التوحيد التي إذا أثرت في القلوب انتهى الظلم، وارتقى المرء وارتفع عند ربه جل وعلا، وتحققت كل الأماني، فقال مخاطباً النيل: إن كنت تجري بأمرك فلا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بأمر الله فنسأل الله جل وعلا أن يجريك، وما إن ألقيت هذه البطاقة إلا وأجرى الله النيل عشرة أذرع وكثر كثرة لم يعهدها مثلها؛ كرامة لتحقيق التوحيد من عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهذه القصة مشهورة جداً، وما ذكرتها إلا لشهرتها، وفي إسنادها ابن لهيعة وهو مختلف في تجريحه وتوثيقه.

    ومن جوانب حب عمر للتوحيد وسده ذرائع الشرك: أنه كان إذا طاف بالكعبة مضى إلى الحجر فقبله، ثم قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر. حتى يظهر للناس أن النافع الضار هو الله، وأن المعز المذل هو الله جل وعلا، فقال: إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك فقبلتك، فقعد قواعد عظيمة في التوحيد:

    أما الأولى فهي قاعدة مهمة في قلوب الناس: فإن النافع الضار هو الله جل وعلا، فابتهل لربك وتذلل إلى ربك ولا تعتقد إلا في ربك، لا تعتقد في البشر، فهم لا ينفعونك ولا يضرونك.

    القاعدة الثانية: التسليم التام لأوامر الله جل وعلا، فإذا أمر الله بالسجود لبشر نسجد للبشر؛ لأن الله أمر به، كما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم مع أن السجود لا يكون إلا لله، لكن كان السجود امتثالاً لأمر الله جل وعلا، وإذا أمر الله جل وعلا بتقبيل الحجر فيقبل الحجر إرضاءً لله جل وعلا.

    أيضاً من مظاهر حب الفاروق للتوحيد: أنه كان بعض التابعين يريدون التبرك بشجرة موقعها من أهم المواقع، وهذه الشجرة هي التي حدثت عندها بيعة الرضوان، وذلك لما أنبئ النبي صلى الله عليه وسلم بأن عثمان رضي الله عنه قد قتل، فبايعهم على الموت، وأنزل الله جل وعلا: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، فكان كثير من التابعين وكثير ممن يعرفون فضل هذه الشجرة يذهبون فيصلون عند هذه الشجرة، فأراد عمر رضي الله عنه أن يقطع دابر الشرك؛ لأن هذا من باب التبرك الممنوع.

    فالتوحيد مهم جداً، والله! ما ننتصر إلا بالتوحيد، ولا نرتقي إلا بالتوحيد، ولا ترفع عنا الغمة إلا بالتوحيد: لأن الله جل وعلا ما أنزل الكتب إلا للتوحيد، وما أرسل الرسل إلا للتوحيد، والله ما رفع علم الجهاد إلا للتوحيد.

    واليهود لعنة الله عليهم جميعاً هم الذين وضعوا الشرك وأسسوه في الأمم، وقد كان المشركون يتبركون بشجرة، ويقولون: النصر من عندها، فقال بعض الصحابة الذين كانوا حديثي عهد بالجاهلية: (يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! قلتم مثلما قال أصحاب موسى لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138])، فبين أن هذا من الشرك، فـعمر كان يخشى من ذلك، وكان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرج على الصحابة، وقال: (الله أكبر! قلتم مثلما قال أصحاب موسى لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]) فقطع هذه الشجرة وقطع دابرها حتى لا يتبرك بها؛ إعلاناً لكلمة التوحيد، فرضي الله عن الفاروق الذي حافظ على جناب التوحيد.

    ومن جوانب العظمة لهذا الشخص العظيم: أنه عزل خالداً أيضاً؛ حفظاً لجناب التوحيد، فإنه لما تولى الخلافة بعث إلى خالد يعزله من إمارته، فلما عوتب: كيف تغمد سيفاً سله رسول الله، بل سله الله جل وعلا قبل أن يسله رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فاعتذر للناس بوجاهة، وبعلم دقيق وفقه عالٍ، فقال: رأيت الناس قد افتتنوا بـخالد . يعني: لأنه ما في معركة دخل فيها خالد إلا وجعل الله النصر على يديه حتى في الجاهلية.

    ففي غزوة أحد كان خالد رضي الله عنه وأرضاه سبب الهزيمة للمسلمين، قال: فأردت أن يعلموا أنه بصنيع الله لا بصنيع خالد ، فعزله حماية للتوحيد حتى لا يفتتن به الناس.

    اهتمام عمر بعبادات الناس

    ومن جوانب العظمة في شخصية عمر أنه اهتم بعبادات الناس بعدما اهتم بالتوحيد الخالص؛ لأنهم لن يصلوا إلى ربهم جل وعلا إلا بتوحيد خالص ولن يرتقوا عنده إلا بتوحيد خالص، فاهتم بعبادات الرعية واهتم بالدين؛ فإن الدين هو الذي يأتي بالنصر، وكان صلاح الدين الأيوبي يمر على جنوده فينظر: إن رآهم في قيام الليل وقراءة القرآن وذكر الله قال: من هنا يأتي النصر، وإن مر عليهم فوجدهم يمرحون ويلعبون قال: من هنا تأتي الهزيمة، وما من قائد عسكري كان من لدن الخلافة التي جابت مشارق الأرض ومغاربها إلا كان يهتم بالعبادة.

    وإذا نظرنا في انتصاراتهم ومحصنا النظر وقرأنا في التاريخ نرى أنه لا يمكن أن ينتصر إلا أن يُعْبِّد الناس لله جل وعلا، ثم يذهب بعد ذلك إلى القتال، والله جل وعلا يجعل النصر لأهل الإسلام، فكان يقول: عبادة الناس هي التي تأتي بالتمكين للحق، وبالنصر للحق، فكان يهتم بأهم العبادات وبالركن الرصين والأصل الأصيل لهذا الدين وهو الصلاة، ويضرب عليها، ويضرب على الخشوع فيها، بل جمع الناس لصلاة التراويح، ولما نظر إلى المسجد ووجده يؤمه رجل واحد، ووجد الناس يصلون مع هذا الإمام، قال: نعمت البدعة هي، ويقصد بذلك المعنى اللغوي.

    وكان يضرب على الخشوع وكان هو يخشع بلسان الحال، فمرة صلى بالناس في الفجر فقرأ من سورة يوسف حتى وصل إلى قول الله تعالى: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] فبكى بكاءً شديداً حتى سمع نحيبه من آخر الصفوف، فرضي الله عنه.

    وكان يعدد الطرق للعبادات، فلعبادة الحج كان من المسارعين، فقد حج مع الناس عشر سنوات، وعلم الناس مناسك الحج، وفي الزكاة وفي الصوم كان يحث الناس على الزكاة، ونشر الدواوين، وكان يهتم بإبل الصدقة، وهو الذي أمر بوسم إبل الصدقة ليميزها عن غيرها.

    اهتمام عمر بأحوال رعيته الدنيوية

    كانت اهتمامات عمر بن الخطاب لرعيته بأمر دينهم أهم شيء، فإذا تولى الإمارة قال: دين الناس أولاً، ثم دنيا الناس ثانياً، فلما اهتم بدين الناس ورأى الناس قد أتموا هذه العبادات بدأ في الاهتمام بأمر دنياهم، وأمر الدنيا هي: معاملات، فكان يدخل السوق ومعه الدرة ينظر إلى الباعة فيقول للبائع: تعلمت فقه البيوع؟ فإذا قال له البائع أو المشتري أو التاجر: لا، ضربه بالدرة وقال: وقعت في الربا لا محالة.

    وكان دائماً يذكر الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر التجار، إن التجار يوم القيامة يأتون فجاراً إلا من صدق وبر)، فمر على رجل قد غش اللبن، جعل مع اللبن الماء، فأراق كل اللبن تعزيراً له، ولذلك استند العلماء الذين يقولون بجواز التعزير بالمال إلى فعل عمر رضي الله عنه وأرضاه.

    وكان يحث الناس على التجارة، يقول: اتجروا في الأموال حتى لا تحتاجوا إلى مثل هؤلاء، فلا تحتاج إلى كافر، أو تحتاج لرجل أقل منك أو أدنى منك، فيقول لأصحاب الوجاهات: اتجروا بهذه الأموال، فاهتم بالمعاملات، واهتم بنشر فقه البيوع رضي الله عنه وأرضاه حتى تسلم دنيا الناس.

    وكان يأمر عماله أن يعلموا الناس فقه البيوع، ودخل الأسواق فوجد الاحتكار فمنع الاحتكار، ومنع الغش، ولم يسعر، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قعد هذه القاعدة لما قالوا له: (سعر لنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله هو المسعر، وإني أرجو أن آتي يوم القيامة وليس لأحد عندي مظلمة).

    حراسة عمر رضي الله عنه لرعيته

    من اهتمامه برعيته أنه كان يحرسهم ليلاً مع أن الحراسة كانت للشرطة، وهي التي لها الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن عمر كان هو الذي يحرس رعيته رضي الله عنه وأرضاه، ويضرب أروع الأمثلة في الحفاظ على الرعية، فكان يعس ليلاً، يدور ليحرس الرعية، وكان من ثمار هذا الحفظ من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أنه كان يسد الخلة عن الناس ويحفظ الأعراض.

    فقد مر ليلاً ببيت فسمع امرأة تتكلم وتقول:

    ألا سبيل إلى خمر فأشربها أم هل من سبيل إلى نصر بن حجاج؟

    فاندهش من هذا البيت الذي يدعو للريبة من امرأة مسلمة تطلب كأساً من خمر أو تطلب رجلاً يسمى نصر بن حجاج ، فلما أشرق الصبح قال: ائتوني بـنصر بن حجاج ، ففتشوا المدينة حتى أتوه بـنصر بن حجاج ، يقول الراوي: فرآه أصبح الناس وجهاً -أي: أجمل الشباب- وأحسنهم شعراً، فقال له -حفظاً على الأعراض-: احلق شعرك، فحلق شعره فوجده أجمل مما كان، فقال له: تعمم، فصار أجمل مما كان، فقال: ستفتتن النساء بمثل هذا الرجل، فبعدما وجد الجمال منه في كل حالة أمر بأن يرحل إلى البصرة حيث الجهاد؛ حتى لا يهتم بنفسه ولا تفتن به النساء، عمل هذا حفظاً على رعيته.

    وأيضاً: مر ذات ليلة على امرأة فسمعها تقول بعدما أرخى الليل سدوله:

    تطاول هذا الليل واسود جانبه وليس إلى جنبي ضجيع ألاعبه

    فوالله لولا الله تخشى عواقبه لحرك من هذا السرير جوانبه

    فرأى امرأة تشتاق إلى رجل وتقول: سيتحرك السرير لولا تقوى الله جل وعلا، فخشي على رعيته من الزنا، فسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عن صاحب هذا البيت، فقالوا: هذا البيت لفلان، وسأل عن زوجته فبعث إليها، وقال لها: سمعت منكِ كذا وكذا، ما بالك تقولين هذا؟ فبينت له أن زوجها قد ابتعد عنها أشهراً عديدة ولم تستطع الصبر، فذهب إلى حفصة -وهنا أخذ الفقهاء قاعدة في بعد الرجل عن زوجته- فقال: يا ابنتي! ما المدة التي تحتمل فيها المرأة البعد عن زوجها؟ فطأطأت رأسها حياءً من أبيها، قال: عزمت عليكِ أن تقولي، فقالت: أربعة أشهر، فحددت أن الرجل لا يبتعد عن امرأته أكثر من أربعة أشهر، ومع أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، لكن عمر أراد أن يحافظ على رعيته ويحافظ على دينهم، فكتب: لا يغزون أحد فوق أربعة أشهر، ولا تخرج سرية فوق أربعة أشهر، فعل كل هذا حفاظاً على الرعية.

    وأيضاً: لما كان يعس ليلاً جاءت رفقة فنزلت بالمصلى، فقال لـعبد الرحمن بن عوف : ما رأيك أن نبيت نحرسهم؟ قال: نعم، فذهب معه عبد الرحمن ، فسمع عمر بن الخطاب بكاء طفل، فذهب إلى أمه قال: يا امرأة! أما تتقين الله في هذا الطفل أو هذا الصبي؟ وتركها وذهب، حتى إذا كان آخر الليل وهو ما زال يسمع البكاء فذهب إليها فقال: والله! إنكِ أم سوء، كيف لا تتقين الله في هذا الصبي؟ فقالت: يا رجل! إليك عني، إني أشغله عن الرضاع ولا ينشغل، قال: فلمَ لا ترضعينه؟ قالت: فطمته، قال: ولم تفطميه؟ فقالت: إن عمر لا يكتب الفرض -أي: لا يعطي عطاء بيت مال المسلمين- لكل مولود في الإسلام إلا إذا فطم، فـعمر بن الخطاب حدد العطاء للذي يفطم، فكانت بعض النساء التي ترضع ابناً تفطمه قبل الحولين حتى تأخذ المال، فقال لها: لا تفطميه، ثم صلى بهم الصبح، وبعد أن صلى بكى بكاءً شديداً، ثم قال: ابعثوا في الأمصار: كل مولود فطم أو لم يفطم فله حصة كذا وكذا، ثم قال: يغفر الله لـعمر كيف قتل أولاد المسلمين، أو كم قتل من أولاد المسلمين؟

    فهذا من باب حفظه على رعيته وعدله معهم رضي الله عنه وأرضاه.

    وكان أيضاً يعس ليلاً، ومن فوائد هذه الحراسة ليلاً أنه سمع امرأة تقول لابنتها: ضعي على اللبن الماء، فقالت: يا أماه! اتقي الله، أما علمتِ أن أمير المؤمنين قد حرج على ذلك أو حرم هذا؟ فتحريم الأمير إن كان لا يخالف الشرع يجب اتباعه، فقالت: قد حرم أمير المؤمنين ذلك، فقالت لها: أين أمير المؤمنين الآن؟ فقالت البنت: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فإن رب أمير المؤمنين يرانا!

    فأعجب عمر بذلك، وزوجها بابنه، فخرج من هذا النسل الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه ورضي الله عن الصحابة أجمعين.

    1.   

    ورع عمر رضي الله عنه وخوفه

    كان دأب عمر في رعيته حفظ دينهم أولاً بالتوحيد، ثم بالعبادات، ثم بالمعاملات، ثم حفظ أعراضهم، وحفظ أموالهم.

    وارتقى حفظ عمر وانشغاله بالرعية من بني آدم إلى الحمير والغنم والإبل، فبعدما حفظ رعيته من بني آدم قال: الإبل والبهائم لها علينا حق، فما ترك حق البهائم، وهو الذي قال الكلمة المشهورة التي كل مسلم دائماً يلوكها في فمه، وهي: لو عثرت دابة في العراق لسئل عنها عمر.

    ويقال: إن عمر نظر إلى جمل فوجد عليه إعياءً وعرقاً شديداً، فأخذ يده على ذفره وقال: اسكن اسكن، أخشى والله! أن يسأل عمر عنك!

    واشتهى عمر مرة سمكاً طرياً، فقال لعامله: اشتهيت السمك، فذهب يبحث له عن السمك وبقي ليلتين ذهاباً وإياباً حتى أتاه بالسمك، فشق على الجمل، فقال: ذهبت تأتي بهذا السمك ليلتين على هذا البعير؟ قال: نعم، قال: عذبت بعيراً من أجل شهوة بطني، والله! لا آكله أبداً، وحرمه على نفسه طاعة لله جل وعلا.

    وكان يرفق كثيراً بإبل الصدقة، وكان هو الذي يعاملها، فقد دخل عليه رجل فوجده يسم إبل الصدقة -أي: يميزها عن غيرها من الإبل بعلامة- فقال: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين! أما كان عبد من عبيد الصدقة يقوم بذلك عنك؟ فقال له عمر بن الخطاب : أو عبد غيري؟ يعني: أن حق الأمير على الناس أن يكون لهم خادماً.

    فرضي الله عن عمر ورضي الله عن الصحابة أجمعين، وهذه جوانب من باب جوانب العظمة في شخصية هذا الرجل الفذ الذي يعد أمة وحده.

    1.   

    تعامل عمر مع أهل الكتاب

    من جوانب هذه الشخصية تعامل عمر رضي الله عنه مع أهل الكتاب، وهذا سنفصله تفصيلاً تاماً بإذن الله في الدرس القادم، ولكن نذكر نتفاً صغيرة منه؛ فقد كتب عمر بن الخطاب إلى حذيفة يشدد عليه الوطأة لما أرسل إليه حذيفة: إني قد تزوجت امرأة من أهل الكتاب -امرأة يهودية- فقال له: أنكحت المومسات وتركت المسلمات؟ وشد عليه الوطأة، حتى بعث إليه حذيفة فقال: يا أمير المؤمنين! أحرام النكاح من أهل الكتاب؟ فبين له المسألة الفقهية، وسنسرد الكلام الذي كان بين حذيفة وبين عمر ، حتى نزل حذيفة على أمره وطلق هذه المرأة.

    وأيضاً: لما جاءه أبو موسى الأشعري بعامل من النصارى يعمل عنده، فلما دخل عليه أبو موسى يبين له الكتب لم يدخل معه، فقال له: لِمَ لم يدخل هذا الرجل، أجنب هو؟ فقال له: لا يا أمير المؤمنين! قال: لِمَ لم يدخل المسجد؟ قال: هو نصراني، فغضب عليه غضباً شديداً، وقال: كيف تكرمونهم وقد أهانهم الله؟ وكيف تقربونهم وقد أبعدهم الله؟ ثم قال له: والله! ما رأيت أكفأ منه، فقال له: عليك بالمسلم، وقال له عمر حاسماً للمادة منهياً للقضية: مات النصراني -أي: اعتبر النصراني مات- وانظر إلى مسلم يقوم مقامه.

    وسنبين كيف أجلاهم، وكيف عاملهم، وكيف فتح البلاد، وكيف أنه عبدهم لله جل وعلا ولم يخضع لهم رضي الله عنه وأرضاه، وسنبين كل هذا في الدرس القادم بإذن الله.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755906633