إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - نصيحة في إصلاح القلوبللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • صلاح القلب واستقامته هو الأساس في صلاح الفرد أولاً ثم المجتمع ثانياً، فلا يستقيم الإنسان ولا تصلح أمور حياته وتصرفاته إلا إذا صلح قلبه، ومقاييس الناس عند الله تعالى هي القلوب، وليست الأعمال والأشكال الظاهرة، فمتى ما صلحت القلوب أصلح الله الفرد والمجتمع.

    1.   

    أهمية صلاح القلوب

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    إن الأمة لا يمكن أن ترتفع عن هذه الكبوة العظيمة الشديدة التي هي فيها إلا بقلوب صادقة وأعمال صالحة يتقبلها الله جل وعلا.

    لحمة صغيرة ومضغة ضئيلة تدور عليها سعادة الأمة، بل سعادة البشر أجمعين، هذه المضغة إذا صلحت صلح كل شيء، وإذا فسدت فسد كل شيء، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

    فالقلب محل السعادة أو محل الدمار والشقاء على العبد، فالنبي صلى الله عليه وسلم وصف القلب بأنه إذا صلح صلح الجسد كله؛ لأن القلب ملك والأعضاء جنود، وإذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، وإذا زهد الملك وكان أميناً زهدت الرعية وكانت أمينة.

    دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه على عمر بن الخطاب وفي حجره أموال كسرى وهو يبكي بكاء شديداً، فقال علي : ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: قوم أدوا هذه الكنوز والله إنهم لأمناء، فقال: يا أمير المؤمنين زهدت فزهدوا، وكنت أميناً فصاروا أمناء.

    فإذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، وإذا سرق الملك سرقت الرعية، وإذا زنى الملك زنت الرعية، ومن قبل قالوا:

    إن كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص

    القلب له مكانة عظيمة جداً جليلة يبينها قول الله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء:25].

    القلوب مقاييس الناس عند الله عز وجل

    مقاييس الناس عند رب الناس القلوب، ومقاييس الناس عند أراذل الناس وأغرارهم وسفهائهم الوجاهة والسلطان والمال. (جلس النبي صلى الله عليه وسلم وسط أصحابه فمر عليهم رجل مليء غني وسيم قسيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا ترون هذا فيكم؟ -هذا المليء الغني ذو السلطان والوجاهة- فقالوا رضوان الله عليهم: هذا حري به إذا تكلم أن يسمع..) وأربأ بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيسوا الناس بهذا المقياس، لكن تقدير الكلام: أن الصحابة الكرام يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عند الناس حري به إذا تكلم أن يسمع، وإذا نكح أن ينكح، وإذا شفع أن يشفع.

    ثم مر بعد ذلك رجل رث الثياب، بشع الهيئة، ضعيف، نحيف، حقير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا ترون هذا فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! هذا حري به إذا تكلم أن لا يسمع، وإذا نكح أن لا ينكح، وإذا شفع أن لا يشفع)، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مصححاً لهم ليصححوا للأمة أن مقياس الناس وموازين الناس ومعايير الناس عند رب الناس غير مقاييس الناس عند الناس، قال عن هذا الرجل الذي هو رث الثياب، بشع الهيئة النحيف الضعيف الفقير: (هذا عند الله بملئ الأرض من هذا).

    فمقياس الناس عند الناس المال، ويقولون: معك درهم تساوي درهماً، إن كان معك مال تكلم فيسمع لك، إن نكحت ينكح لك، يعني تقبل إن نكحت، وإن تقدمت تقبل، وإن شفعت تشفع، ويؤخذ بكلامك؛ لأنك من ذوي الوجاهات، ومن ذوي الرياسات، ومن ذوي الأموال.

    أما مقياس الناس عند رب الناس: فهو طهارة القلوب، نقاء القلوب، فهذه التي عزت بحق في هذه الأمة، وفي هذه الآونة خصوصاً، فقلب واحد مخلص لنصرة الدين أقسم بالله غير حانث وأقسم على قسمي قسماً آخر لقلب واحد صادق مخلص لنصرة الدين، مخلص لوجه الله جل وعلا، والله الذي لا إله إلا هو يجعل الله النصر على يديه، قال الله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ [الإسراء:25] بما في قلوبكم. إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء:25].

    وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمحص الناس بالقلوب، وأمره أن يتكلم مع الأسرى الذين في أيديهم فقال: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال:70].

    فليست المقاييس بالأعمال ولا بالمظاهر.

    صلاح القلوب سبب لاستجابة الدعاء

    جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب أشعث أغبر) أي ضعيف نحيف حقير رث الثياب، لكنه تقي نقي، قلبه طاهر، معمر بحب الله جل وعلا (مدفوع بالأبواب)أي: دفعه أغرار الناس وسفهاؤهم وأراذلهم، الذين يقيسون الناس بالأموال والوجاهات (لو أقسم على الله لأبره) أي: لاستحى الله جل وعلا أن يرده خائباً إذا رفع يديه، وإذا قال: يا رب، قال الله: لبيك لبيك، كما ورد ذلك عن البراء بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أنه كان رثاً ضعيفاً فقيراً وهو من الصحابة الكرام، ولما كانت المعركة قالوا له: يا براء قد دولت علينا فادع الله جل وعلا أن يولينا ظهورهم، فقام إلى الله جل وعلا ورفع يديه وقال: (اللهم بحق لا إله إلا الله -أو قال كلمة نحوها- اللهم ولنا ظهورهم، اللهم واجعلني أول شهيد فيهم، فدخل المعركة فكان رضي الله عنه وأرضاه أول الشهداء)، فنصر الله جل وعلا الأمة بدعائه، وولاهم ظهور الكافرين بدعائه؛ لأن الله علم طهارة ونقاء قلبه وصدقه وإخلاصه لنصرة الدين.

    صلاح القلوب سبب للسبق في الآخرة ودخول الجنة

    قال تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ [الإسراء:25] أي بما في قلوبكم. هناك أمور تبين أن أعمال القلوب تسفر للناس عن أعمال تسبق أعمال الجوارح بمراحل، يبيت الرجل نائماً على سريره هادئاً، ساكناً، لا يقوم الليل، ولا يستغفر بالأسحار، ولا يصوم النهار، لكنه متقدم عند الله جل وعلا بنقاء قلبه وطهارة قلبه، ففي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فاشرأبت أعناق الصحابة على من يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو بين أظهرهم يمشي على رجليه أمامهم، فخرج الرجل، فجاء في اليوم الثاني والثالث، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة فخرج نفس الرجل)فتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص يريد أن يكشف عن أعماله، فقال: بيني وبين أبي ملاحاة، وأردت المبيت عندك، قال: أهلاً، فأكرمه وبات عنده، فلما أرخى الليل سدوله قام عبد الله بن عمرو يترقب هذا الرجل، هل يطيل ليله بالقيام تعبداً لله؟ فما وجده قائماً، قال: لعله في ظمأ الهواجر يصوم النهار، وصوم النهار لا عدل له، فلم يجد الرجل صائماً! فتعجب عبد الله بن عمرو وقال: والله ما كان بيني وبين أبي ملاحاة ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرجت أنت، فأردت أن أرى عبادتك فما رأيت شيئاً يتطلع إليه، فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، ولكني لا أبيت ليلة وأنا أحمل لأحد في قلبي شيئاً، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص : هذه التي لا نقدر عليها)، انظروا إلى نقاء القلب وطهارته مع قلة النافلة من الصيام والصلاة، ومع قلة الصدقة، ومع قلة سائر العبادات غير المفروضة، فجعله الله بذلك مقدماً على أقرانه من الصحابة، بل يشهد له وهو حي يرزق بين أظهرهم بالجنة؛ لطهارة قلبه.

    ما أعظم طهارة القلب! وما أحوجنا إلى طهارة القلب! وما أعظم الصدق والإخلاص واليقين مع الله جل وعلا!

    صلاح القلوب سبب لقبول التوبة وتكفير الذنوب

    أعجب من ذلك الرجل الذي قتل مائة نفس، وهو بقتل نفس واحدة كفيل بأن يقتص منه فيقتل، أو يعذب في نار جهنم كما قال ابن عباس : (لا توبة لقاتل)، وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، مفهوم المخالفة: أن من أصاب دماً حراماً لم يجد فسحة في دينه، يعني: هو في الآخرة من الخسران بمكان، وهذا قتل مائة نفس، ومع ذلك كشف الله عن قلبه فوجده صادقاً تائباً راجياً رحمة ربه جل وعلا، نقياً طاهر القلب، فمسح الله له كل هذه الأدران والجبال من المعاصي بعمل صغير يسير، هذا العمل هو أنه سأل عالماً: (هل لي من توبة؟ قال: نعم لك توبة، اذهب إلى أرض كذا فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، فذهب الرجل فمات قبل أن يصل إلى هذه الأرض، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، قالت ملائكة العذاب: استحق النار لقتله مائة نفس ولم يعمل خيراً قط، فقالت ملائكة الرحمة: تاب إلى ربه وأناب) فالله تعالى ينظر إلى القلوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)، فالأصل أعمال القلوب وأعمال الجوارح تكون تبعاً، فالله تعالى نظر إلى قلب هذا الرجل فوجده تائباً صادقاً خالصاً نقياً لله جل وعلا. (فأوصى إلى أرض التوبة أن تقترب، وإلى أرض المعصية أن تبتعد، ثم أمر ملكاً يأتيهم على صورة رجل ليحكم بينهم ويحل الإشكال، فقال لهم: قيسوا بينه وبين الأرض التي سار إليها، فإن كان أقرب إلى أرض التوبة فهو من أهل التوبة، وإن كان أقرب إلى أرض المعصية فهو من أهل المعصية).

    هذه القصص لا أذكرها لنتسلى بها، بل لأبين لكم ما نحن فيه من عطب، وأن الأمة لا يمكن أن ترتفع من كبوتها إلا بنقاء هذه القلوب وبالصدق والإخلاص مع الله جل وعلا؛ لأن محل الكرامة والنصرة القلوب، والله جل وعلا ينظر إلى القلوب، فإن وجد قلباً صادقاً طاهراً قبل هذا العبد الذي هو من أصحاب القلوب الطاهرة.

    وأعجب من هذه القصة بمراحل ما في الصحيحين من قصة امرأة من بني إسرائيل كانت تزني، فرأت كلباً يلهث من شدة العطش، فسقته بموقها، فغفر الله لها؛ لأن الله علم نقاء قلبها، يقول الله جل وعلا: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال:70]، وقال عز وجل: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ [الإسراء:25] أي: بما في قلوبكم.

    فالصالح التقي طاهر القلب، وإن بذل كل نفسه في المعاصي فإن الله سيختم له بالصالحات؛ لعلمه بأن هذا القلب طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً).

    فعلم الله طيب قلب هذه المرأة ونقائه وطهارته، لما وجدت الكلب بلغ منه العطش ما بلغ بها، وهي قد ارتوت، سقت هذا الكلب فشكر الله لها هذا العمل، وتقاطرت ماء السقيا على جبال ذنوب الزنا فهدمتها وجعلتها كثيباً مهيلاً!

    إذاً: الله تعالى يزن الناس بنقاء القلب وطهارة القلب، أما سمعتم إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير) أي: في الرقة والتوكل والنقاء لله جل وعلا.

    صلاح القلوب سبب للنجاة يوم القيامة

    أعجب من هذا وذاك: رجل مؤمن أو مسلم عاث في الأرض فساداً، فقام إلى ربه يحاسبه، فقام إلى الميزان والكفتين فوجد كفة السيئات فيها سجلات بلغت عنان السماء، وما وجد في كفة الحسنات شيئاً، فنظر أيمن منه فلم يجد إلا ما قدم من سجلات المعاصي، ونظر أشأم منه فلم يجد إلا النار، فقال: قد هلكت، واستيقن بالهلاك، فقيل له: لك عندنا شيء، فقال: وما عسى هذا الشيء أن يفعل مع هذه السجلات؟ قيل: لا ظلم اليوم، لك عندنا بطاقة، فأخذ البطاقة فوجد فيها: لا إله إلا الله، فوضعت هذه البطاقة في كفة، وتلك السجلات في كفة؛ فرجحت هذه البطاقة على كفة السجلات التي فيها أمثال الجبال العظام من المعاصي؛ لطهارة القلب ونقائه، قال عز وجل: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء:25]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال:70].

    إن أتتنا المصائب والبلايا تترى فاعلم أن الطامة من قلوبنا؛ لأننا لسنا صادقين مع الله جل وعلا، ولسنا مخلصين لنصرة الدين، ولسنا نعمل لله، فالذي ينبغي على كل واحد منا أن يصدق مع نفسه، وأسألكم سؤالاً: من منا قام ليلاً فقال: أنا وقف لله، وقتي لله، مالي لله، عملي لله، ما أريد إلا الله، فأنا بالله ولله ومع الله؟ والله لو منا صادق فعل ذلك ليلة واحدة ثم رفع يديه في ذلك الوقت الذي هو وقت إجابة ووقت صدق مع الله جل وعلا، فإن الله سيأتي بالنصر والتمكين لهذه الأمة. كل مسلم يقول: لا إله إلا الله، لكن هناك فرق بين من يقولها بصدق قلبٍ وإخلاصٍ مع الله جل وعلا وبين من يقولها بغير إخلاص.

    ولذلك عقب ابن القيم على حديث البطاقة فقال: كل يصلي ويصطف خلف الإمام والإمام يقرأ، وكل مستمع وكل يقرأ الفاتحة وكل يسبح وكل يسجد لله جل وعلا، والفرق بين مصل وآخر كما بين السماء والأرض، ما الذي فرق بينهما؟ طهارة القلب وصدق القلب وإخلاص القلب مع الله جل وعلا.

    صلاح القلوب سبب للاصطفاء والتكريم

    إن كان مقياس الناس عند أراذل الناس وسفهاء الناس وأغرار الناس: المكانات والوجاهات والأموال، فإن محل الكرامة عند الله هي القلوب، فالله جل وعلا لا يكرم إلا صاحب القلب النقي التقي الطاهر، الله جل وعلا لما نظر إلى الناس عربهم وعجمهم مقتهم واختار واصطفى منهم العرب؛ لأنهم أطهر قلوباً من العجم، ثم بعد ذلك اصطفى منهم كنانة، ثم اصطفى من كنانة بني هاشم؛ لأنهم أطهر قلوباً، ثم نظر في قلوب بني هاشم فلم يجد أطهر من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله محل كرامته ورسالته، فقد جعله خاتم النبيين، بل أفضل الرسل وأكرم الرسل عنده جل وعلا؛ لطهارة قلبه ونقائه.

    وأيضاً لما أراد الله جل وعلا أن يصطفي صحابة رسول الله الصفوة، التي تنصر هذا الدين وتحمله على أعناقها، ليصل إلينا غضاً طرياً كما نزل، نظر الله إلى القلوب فلم يجد أطهر من قلوب الصحابة رضوان الله عليهم بعد الأنبياء فاختارهم لهذا الأمر.

    وقد ورد في سنن الدارمي عن ابن مسعود بسند صحيح قال: (من أراد أن يتأسى فليتأس بمن مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أطهر قلوباً) أي: هذه أهم العلل التي جعلت الله جل وعلا يختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أطهر قلوباً، وأخلص قلوباً، وأنقى قلوباً، وأصدق قلوباً مع الله جل وعلا؛ ولأنهم أحسن أخلاقاً، وأعمق علماً.

    قال ابن عباس : (والله يؤتي المرء الفهم بإخلاصه وصدق نيته) يعني: بما في قلبه من طهارة ونقاء، قال الله عز وجل: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء:25]، وقال تعالى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال:70].

    و أبو بكر أفضل البشرية على الإطلاق سوى الأنبياء، وأفضل الصحابة، أفضل ملازم للنبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، كفى فخراً بـأبي بكر أن يذكره الله جل وعلا بصيغة الجمع في الكتاب العزيز، قال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور:22] قوله: (أولوا الفضل) المقصود به أبو بكر ، فالله جل وعلا يخاطب أبا بكر بصيغة التعظيم، ما الذي جعل لـأبي بكر هذه المكانة! ما أرفعها من مكانة! ما أعظمها من مكانة، ما السبل التي اتخذها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه ليرتقي إلى هذه المنزلة؟ والله لو وضع إيمان الأمة في كفة ووضع إيمان أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في كفة لرجحت كفة أبي بكر ) هل لأنه كان وسيماً قسيماً ذا مال ومن أغنى الصحابة وله السلطان والوجاهة عند الناس؟ لا والله ما كان كذلك، وإنما العلة أنه كان أطهر قلباً وأعمق علماً وأحسن خلقاً، والذي يدلك على ذلك الحديث الموقوف عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه قال: (والله ما سبق أبو بكر هذه الأمة بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه).

    إذاً: محل الكرامة القلوب، ومحل النجاة يوم القيامة القلوب، قال الله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] لم يقل: إلا من أتى الله بمال وفير أو بذرية عظيمة أو بجمال أو بسلطان أو بجاه، وإنما قال: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ .

    والقلوب هي الميزان وهي المعيار عند الله جل وعلا، نسأل الله جل وعلا أن يطهر قلوبنا، وأن يصفي قلوبنا ويجعلها صادقة مخلصة معه؛ لتتنزل الرحمات، وترتفع البلايا التي على هذه الأمة.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755789561