إسلام ويب

التدليس في الحديث - بيان حكم تدليس الإسناد في الصحيحينللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر علماء الحديث بعض المسائل التي تحصل في التحديث ومع المحدثين على اختلاف أصنافهم، وحددوا مواقفهم منها، ومن ذلك التدليس في الحديث، فرد العلماء رواية المدلس إذا عنعن حتى يصرح بالتحديث، ولكن أشكل على بعض العلماء بعض الأحاديث التي رويت في الصحيحين عن بعض المحدثين المدلسين بالعنعنة دون التصريح بالسماع، فجمهور العلماء قالوا: تقبل هيبةً للصحيحين، وأن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول، ثم حملوا هذه الروايات على محامل أخرى كثيرة.

    1.   

    تدليس الإسناد في الصحيحين

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فما زلنا في موضوع التدليس وأقسام التدليس، تكلمنا في الأسبوع الماضي عن قسم من أقسام التدليس ألا وهو تدليس الإسناد، وبينا أقسام تدليس الإسناد وحكم تدليس الإسناد.

    رأي بعض المحققين في عدم قبول التدليس في الصحيحين وأدلتهم

    نتحدث اليوم إن شاء الله عن تدليس الإسناد في الصحيحين، أي: عنعنة المدلس في الصحيحين، ولا يقال: إن عنعنة المدلس في الصحيحين قليلة، بل الصحيح الراجح أن في كتاب البخاري ومسلم أحاديث ليست باليسيرة، بل أحاديث كثيرة جداً فيها عنعنة المدلسين، كأمثال هشيم بن بشير ، والوليد بن مسلم وسفيان بن عيينة والزهري وسليمان بن مهران الأعمش وأبي إسحاق السبيعي ، ومعهم قتادة وابن جريج والحسن البصري، فكل هذه الأسماء أسماء مدلسين، وقد عنعنوا في الأحاديث وذكروا في البخاري ومسلم بالعنعنة، فما الحكم في هذه المسألة؟

    جمهور المحدثين يفرقون بين الصحيحين وبين غير الصحيحين، فيرون إفراد الصحيحين بحكم غير حكم الكتب الأخرى.

    فيقولون: أي عنعنة في البخاري أو مسلم وردت عن هؤلاء المدلسين، فهذه تحمل على الاتصال ولا تحمل على الانقطاع، فانبرى لهم قلة من المحققين المتأخرين، كـابن دقيق العيد والحلبي وابن المرحل والمزي ، فهؤلاء ما ارتضوا هذا التفريق بين الصحيحين وبين غير الصحيحين، ولذلك لما سئل المزي في سؤال صريح عن عنعنة الأعمش وقتادة وأمثال هؤلاء في الصحيحين، فقال: هم يحسنون الظن في الشيخين، أي: في أصحاب الصحيح؛ لأنهم لما سألوه قالوا: جمهور المحدثين يحملون عنعنة المدلسين في الصحيحين على الاتصال، فقال: يحسنون الظن بالشيخين، وكأنه لا يرضى بهذا، لكن صرح ابن دقيق العيد تصريحاً تاماً أنه لا يرتضي بهذا الكلام، وأن الصحيحين كغير الصحيحين، ويقول: قالوا: بأن الأحاديث التي في الصحيحين تقبل عنعنة المدلس فيها لاحتمالين:

    الاحتمال الأول: إجماع الأمة على قبول هذين الكتابين، وهذا الإجماع فيه عسر، يشق على الإنسان أن يبين لنا إجماع الأمة بذلك، إلا أن يقول: قد تلقت الأمة هذه الأحاديث بالقبول، ومع ذلك يقولون: إلا أحرفاً يسيرة انتقدت، كما انتقد الدارقطني وغيره على البخاري ومسلم بعض الأحاديث، فهذه ينخرم بها الإجماع، فتلقت الأمة الأحاديث بالقبول، فيقول: هذا الاحتمال الأول، ويشق على الإنسان أن يأتي بالإجماع.

    الاحتمال الثاني: أن أصحاب الصحيح قد اطلعوا على الرواية التي فيها العنعنة من طريق آخر فيه اتصال، قالوا: وهذا إحسان ظن بأهل الصحيح، وهو محتمل.

    إذاً: تكون هنا العنعنة احتملت الانقطاع ورواية البخاري لعنعنة المدلس تحتمل أنه سمعه، أو نقول: فيها اتصال، وهذا الكلام مع أن فيه احتمالاً لكن ليس بأكيد، أو ليس بمقطوع به، فلذلك لا يصح لنا أن نمرر عنعنة المدلس، مع أن القاعدة عند المحدثين العامة هي: أن كل مدلس قد عنعن في الإسناد لا بد أن نوقف الحكم على حديثه حتى يصرح بالسماع، قالوا: فإن لم يصرح فلا نمشي هذه الرواية، فالقاعدة العامة لا بد أن يعمل بها في الصحيحين وفي غيره.

    قول الجمهور بقبول التدليس في الصحيحين وأدلتهم

    فأما جمهور المحدثين فقالوا: هذا من الغلط بمكان، بل كل عنعنة لمدلس في الصحيحين لا بد أن تمر، قلنا: لم؟

    قالوا: لأمور عدة أولها: أن صاحب الصحيح هو البخاري ، جبل الحفظ، وطبيب العلل، وهو عالمها؛ لأنه أخذ علم علل الحديث من علي بن المديني ، وهو نفسه قال: ما استصغرت نفسي عند أحد كما استصغرتها عند ابن المديني . وأما مسلم فقد أخذ علم علل الحديث من شيخين جبلين وهما:

    محمد بن يحيى الذهلي ، فقد كان وتداً عظيماً، وكان أعلم الناس بعلل حديث الزهري ، فـمسلم أخذ عنه.

    كذلك أخذ عن البخاري ، فهو جبل في علم العلل، وهم الذين قعدوا التقعيدات المهمة جداً بأن عنعنة المدلس لا تمر، فلا يمكن أن يقعد البخاري هذه القاعدة ويأتي في الصحيح فيخرج من القاعدة، وكتابه أشرف الكتب، وفيه أشد الاجتهادات التي اجتهد فيها البخاري في تصنيف هذا الكتاب؛ لحاجة الناس إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

    الوجه الثاني: أن البخاري قال: صنفت هذا الكتاب من ثلاثمائة ألف حديث، فهو يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف من الضعيف، قال: فانتقيت من ذلك هذا الكتاب، وهو لا يأتي عشر هذه الأحاديث، فهذا يدل على حرص البخاري وتحريه جداً في أن تكون الأحاديث كلها من الصحاح.

    الوجه الثالث: كما قلنا عن البخاري أنه كان يستخير الله في كل حديث يكتبه.

    كذلك الإمام مسلم رحمه الله يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعةأبو زرعة كان آية في الحفظ في ذلك الزمان- فكان إذا علَّم أو أشار لي على حديث أن فيه علة علمت عليه وتركته.

    فمعنى ذلك أن كتاب الصحيح مر على مسلم ومر على أبي زرعة الحافظ الثقة الثبت، فإذا ضيعنا أبا زرعة ومسلماً وقلنا: إنهم ما أدركوه، فهذا اتهام صريح لـمسلم ولـأبي زرعة، هذه وجهة نظر الذين ينافحون عن الصحيحين.

    وقالوا أيضاً: عندنا إجابات أخرى غير هذه الإجابات، وهي: أن العنعنة التي في مسلم ليست كالعنعنة في غير مسلم والبخاري ؛ لأنكم لو نظرتم فستجدون العنعنة التي في مسلم عن مدلس لا يدلس إلا عن ثقة كـابن عيينة ، وهذا بالإجماع أحاديثه تمر، كذلك البخاري ومسلم يروون عن مدلس إلا إذا كان مكثراً من الحديث، قليل التدليس، كـسفيان الثوري، فإنه كان علماً معلماً كان رجلاً حافظاً بحراً في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والبخاري نفسه الذي أخرج له في صحيح البخاري قال عنه: ما سمع الثوري من حبيب بن أبي ثابت ، ونحن لا نوافقه على هذا، فقد وردت أدلة تدل على أنه سمع، ولكن مقصود البخاري أن الثوري لم يسمع من حبيب بن أبي ثابت ، قال: ما سمع من حبيب بن أبي ثابت وعدد، ثم قال: ما أقل تدليس الثوري ! فتدليس الثوري قليل في بحر أحاديثه، وقلنا: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.

    توجيه آخر: أنهم لما رووا عن مدلسين ما رووا عن أي مدلس، وليس المدلس الذي يروي عن الضعفاء وغيرهم، وإنما رووا عن بعض المدلسين الثقات الذين لا يدلسون إلا عن ثقة، أو يكون أحدهم بحراً في الأحاديث.

    الوجه الثالث: يقولون: لو قلنا بأن هناك من يدلس عن الضعفاء وأدخلوا أحاديثه في كتاب الصحيحين فهذا قول له وجهة نظر، قلنا: ما هي هذه الوجهة؟

    قالوا: لأنهم ضمنوا عدم التدليس عن الضعفاء أو التصريح بالسماع ممن يروي عن هؤلاء المدلسين، كأمثال الأعمش وأبي إسحاق وقتادة، وكثيراً ما يرد في الصحيحين إن نظرت إلى هؤلاء الثلاثة الذين اتهموا بالتدليس الالتقاء، فـالبخاري ومسلم لا يرويان عنهم إلا برواية أخرى متصلة، وهذا ليس حصراً، لكن أقول: هذا الغالب، فيرويان عن شعبة ، وشعبة قد قال: قد كفيتكم تدليس ثلاثة: تدليس أبي إسحاق ، وتدليس قتادة ، وتدليس سيلمان بن مهران الأعمش، فقالوا: وأيضاً يرويان كذلك عن يحيى بن سعيد القطان الذي يروي عن الثوري ، وهو الذي تكفل لنا سماع الثوري ؛ لأن ابن القطان ما كان يرضى بحال من الأحوال أخذ الأحاديث عن الثوري حتى يبين له سماعه، ويحيى بن سعيد القطان كان يروي عن أبي إسحاق بواسطة، فلا يروي عنه مباشرة، وإنما يروي عن زهير عن أبي إسحاق ، وهم قالوا: نحن نأتي بهذه الرواية وفيها أبو إسحاق مدلس، لكن ابن القطان كان يأخذ من زهير سماع أبي إسحاق ، وكان ينتقي من رواية زهير ما انتقاه من سماعات أبي إسحاق ، فمكانه أيضاً يرضى بتدليسه، فإذا وجدت الرواية عن يحيى بن سعيد عن أبي إسحاق بواسطة زهير ، فاعلم أنه انتقى من أحاديثه السماعات، ولو كانت عنعنة فتحمل أيضاً على السماع.

    الوجه الرابع: قالوا: نحن نحسن الظن بأصحاب الصحيح؛ لأن مسلماً كان يقول: كنت أعرض الحديث -يروي الحديث بإسناد عالٍ فيه عنعنة المدلس- لشهرة المتن، يعني: المتن مشهور وصحيح ما يحتاج إلى أحد، قال: ولم أنزل بالإسناد، فكان يعلو بالإسناد ولا ينزل لشهرة المتن، ولذلك قالوا: العنعنة تقبل في من هذه الحالة؛ لأن الحديث في كل أحواله سواء فيه العنعنة أو غير العنعنة قد اشتهر بين أهل العلم أنه من الأحاديث الصحيحة، فلا حاجة لنا أن نتكلم فنقول: هذه عنعنة ولا يستدرك على مسلم.

    وهذه الأوجه من إجابات ابن حجر والنووي على الدارقطني في استدراكه على مسلم والبخاري في نفس المسألة.

    فهذه الإجابات كلها لجمهور المحدثين الذين أحسنوا الظن بالصحيحين، وعموماً لا نستطيع أن نخالف الجمهور، ولسنا ممن يكون من الاجتهاد بمكان حتى يفصل في النزاع بين المحققين الذين قالوا: قاعدة التدليس لا بد أن نمرها على الصحيحين وغيرهما، لكن الأسلم لنا أن نكون مع الجمهور، لا سيما وأن فحل علم النقد وعلم الرجال المحدث الشهير الذهبي ، أنه بعدما ترجم لـخالد بن مخلد القطواني قال: ولا أدري كيف يروي البخاري لمثل هذا الرجل، ولولا هيبة الصحيح .. وسكت. فـالبخاري ومسلم أوقفوا الذهبي في أن يتكلم في مثل هذه المسائل، فهذه المسائل صراحة لا بد لنا أن نسلم فيها بإحسان الظن بـالبخاري ومسلم .

    وقد أعياني حديث مهم جداً، وهو حديث هشيم بن بشير ، وهو مدلس تدليس التسوية، وتدليس التسوية ليس بالهين؛ ولذا يشترط العلماء في تمرير الإسناد الذي فيه تدليس التسوية: أن العنعنة تلغى من أول الإسناد إلى آخره، يعني: لا بد من التصريح بالسماع من أول الإسناد إلى آخره، فلا يكتفى بأن هشيماً يقول: حدثني شيخي، بل لا بد من التصريح بالسماع من الطبقة التي فوقه، والطبقة التي بعده؛ لأنه يسوي، فإذا كان يسوي في التدليس فيمكن أن يعملها في أي طبقة من طبقات الإسناد، فلذلك لا بد من التصريح في طبقات الإسناد.

    وقد أعياني البحث كثيراً في كثير من الروايات التي أجد فيها رواية الأعمش أو غيره يعنعن صراحة في مسلم ، وقد وجدت في مستخرج أبي عوانة على صحيح مسلم كثيراً ما يأتي بالروايات التي تصرح بالسماع، وهذا من فوائد المستخرجات، من أهم فوائد المستخرجات أنه دائماً يبين لك التصريح بالسماع، أو يبين لك الانقطاع أين هو بالضبط، أو ضعف الراوي بالمتابعة والمشاهدات والشواهد، فهو له فوائد كثيرة، لكن هشيماً ما وجدت له تصريحاً بالسماع.

    وأعياني البحث أيضاً أنني لم أر أحداً استدرك على مسلم هذا الحديث الذي فيه تدليس التسوية، وهشيم بن بشير يعنعن، والحديث كله مليء بالعنعنة، ومع ذلك لم يستدرك الدارقطني هذا الحديث، وهذه جعلتني أقف وأقول: أسلم شيء على الإنسان أن يقف مع الجمهور، ولا يتكلف أو يتنطع.

    القول الراجح في مسألة التدليس في الصحيحين

    الصحيح الراجح أن نقول إحساناً للظن بالصحيحين: كل عنعنة جاءت من مدلس في الصحيحين فهي محمولة على الاتصال، وكما قلت: إن أصحاب الصحيح تلقت الأمة أحاديثهم بالقبول، فلا بد علينا أن نقول: تمر عنعنة المدلس كما هي على السماع في الصحيحين دون غيرهما.

    1.   

    تدليس الشيوخ

    القسم الثالث من التدليس: تدليس الشيوخ، وتدليس الشيوخ يندرج تحته تدليس البلدان.

    وتدليس الشيوخ: هو أن يأتي التلميذ فيروي عن شيخه الذي سمع منه ما سمع منه، لكن يكني شيخه أو يسميه باسم غير مشهور، أو ينسبه نسبة لقبيلة أو نسبة إلى جد أو والد غير مشهور، كأن يكون اسمه محمد فيسميه حماداً من الحمد، ويكنيه الناس أبا الفضل، فيكنيه هو بأبي العباس، أو يسميه باسم غير مشهور، فيقول: الزيات أو السمان أو السماك أو الحذاء في خالد الحذاء، فهذا هو تدليس الشيوخ.

    بواعث تدليس الشيوخ

    تدليس الشيوخ له بواعث كثيرة، من هذه البواعث:

    أولاً: محبة الإغراب، فيريد أن يبين للناس أنه رجل كثير المشايخ، فيغرب الاسم عن الذين يسمعون ويقفون على الإسناد، فيبحثون ويشق عليهم البحث حتى يأتوا بهذا الراوي.

    والإغراب هذا إما أن يكون نيته فيه حسنة، وهو الاختبار، ليختبر أذهان العلماء، كما قال ابن دقيق العيد في الاقتراح: وهذا حسن غير مذموم، وهو أن تختبر الطلبة عندك، أو تختبر المشايخ، ولذلك الذهبي كان تلميذ ابن دقيق العيد وتلميذ ابن تيمية أيضاً، فـابن دقيق العيد علم بانشغال الذهبي بعلم الرجال، فأراد أن يختبره فسأله: يا أبا عبد الله ! من هو أبو محمد الهلالي ؟ فهو أغرب الكنية فقال له الذهبي : سفيان بن عيينة ، فانبهر ابن دقيق العيد من شدة استحضار الذهبي ، والذهبي كما قلت كان فحلاً، وفارس الميدان في علم الرجال، فانبهر منه ابن دقيق العيد ، وقال: هنا المصلحة، أي: بين أن المصلحة في الإغراب أن تختبر حفظ التلميذ أو الشيخ.

    الباعث الثاني: إن كان يقصد هذا لبيان تكثير الشيوخ فهذا يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، فهذا فيه نوع من الذم وإن كان أخف من تدليس الإسناد.

    كذلك من البواعث على تدليس الشيوخ: الإحن التي توجد بين التلميذ والشيخ، فقد يوجد تشاحن بين التلميذ وشيخه، كما حصل للإمام البخاري مع محمد بن يحيى الذهلي ، فـالبخاري روى له ديانة، وكان يغرب في اسمه، وهذا غاية الإنصاف من الإمام البخاري رحمه الله؛ ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا)، فهذا هو ميزان العدل، فإذا سئلت عن رجل وتعلم ديانته وتعلم ما هو فيه من علم ودقة وإتقان، لا بد أن تتكلم عنه، لكن عندما تهواه وتحبه وتمشي معه ترفعه، وعندما تغضب تنزل من قدره، فهذا قدح فيك أنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا)، ولذلك محمد بن يحيى الذهلي أقام الدنيا على البخاري ولم يقعدها، وهذا حسد منه صراحة على البخاري ؛ لأن البخاري دخل نيسابور فاتجهت الأفواج المفوجة إلى البخاري صاعقة الحفظ لتسمع منه؛ فحسده محمد بن يحيى ، فتكلم فيه، وقال: هو يقول بخلق القرآن، ووشاه عند الأمير، حتى إن البخاري من شدة غمه مما يحدث له قال: اللهم اقبضني إليك الساعة، ودعا على نفسه بالموت خشية الفتنة، فما مر أسبوع إلا وقد مات.

    لكن لما دفن -انظروا كرامات الأولياء- قال الراوي: والله لقد اشتممنا رائحة المسك من قبره شهراً لم تنقطع، والبخاري معلم من المعالم في الإسلام، وفعل محمد بن يحيى أراد به إبعاد الناس من الحضور له، ولذا قد يحجب الشخص الناس عن سماع الخير؛ لأنه يعلم أنه لو سمعوا من غيره سيعلمون ضعفه، وهو لا يريد ذلك، أو نقول: لو أنه جعل الناس يذهبون إليه ضاعت السلطة التي كان يبحث عنها؛ فهذه هي المصيبة الكبرى التي ابتلي بها الإخوة الملتزمون في هذه العصور، فنحن الآن الضرر علينا ليس من الخارج، لا تقولوا لي: إن الدواعي الأمنية عندنا كذا .. والدواعي الشرطية كذا .. نحن في دعوة سرور ونعمة بفضل الله سبحانه وتعالى، وعافية ما بعدها عافية، ولذلك ما استباح بيضتنا إلا نحن من الداخل فقط، كما قال ابن القيم يعتب على هؤلاء الذين جعلوا الأخوة في الله غربة داخل غربة، وصنفوا الناس هذا يسمع له! وهذا لا يسمع له! وإذا تكلمت عن عالم من علماء الأمة -بل هو من لجنة الفتوى مثلاً- يقول لك: لا، دعك من هذا لا تأخذ منه شيئاً، وهذا الذي يتكلم لا يعرف (ألف باء تاء)، والله لا يعرف شيئاً عن العلم ولا طلب العلم!

    فـمحمد بن يحيى الذهلي حسداً على البخاري حوط على طلبة العلم، ومنع الناس أن يسمعوا للبخاري ، ومنع أحداً أن يحضر جلسة البخاري ، وكان أنبل تلاميذ محمد بن يحيى الذهلي هو مسلم ، وكان موجوداً في حلقة محمد بن يحيى، فقال على الملأ: من حضر لهذا المسمى محمد بن إسماعيل فلا يحضرن مجلسي أو لا يجلسن معنا، فقام مسلم في وسط الحلقة -وكل الحلقة تتمنى أن تشتم رائحة مسلم ، وهذه رفعة للذهلي ؛ لأن التلميذ يرفع شيخه- وأخذ كتبه فرحل وهجر مجلس الذهلي من أجل البخاري ، ولما ذهب إلى البخاري يسأله عن حديث، فقال: هذا الحديث فيه علة، فجاء مسلم يتململ تحت يد البخاري ، ويقبل يده ورجله ويقول: دعني أقبل يدك ورجلك، ما علة هذا الحديث؟ فلما أخبره قال له: دعني أقبل رجلك يا أستاذ الأساتذة، أو كلمة نحوها، ثم قال: لا يبغضك إلا حاسد.

    مسلم يفهم أنه لا يبغضه إلا حاسد، وسمع منه العلل، ولكنه لم يرو له للمسألة التي حدثت أولاً وهم من طبقة واحدة، والأمر الثاني: مسألة العنعنة واللقيا هذه التي باعدت بينهما حتى جعلت مسلماً لا يروي عن البخاري .

    الغرض المقصود هنا كانت المشاحنة بين البخاري وبين الذهلي ، فكان البخاري يروي عنه ديانة؛ لأنه يعلم أنه حافظ ثقة، كان الذهلي جبلاً، يقول أحمد بن حنبل: ما رأينا مثل الذهلي في نيسابور، أعلم أهل نيسابور هو محمد بن يحيى الذهلي ، فكان رجلاً جبلاً، وكان أتقن الناس وأثبتهم في رواية الزهري ، وكان أعلم الناس بعلل حديث الزهري ، فكان البخاري يروي عنه ديانة، وهذا هو الإنصاف، وأنا أردت أن أبين لكم هذا الإنصاف وهذا الدين، وهذا من باب الدين النصيحة، يعلم أنه رجل متقن فأخذ منه، لكن كان البخاري يغرب باسمه؛ لأنه لو قال: محمد بن يحيى الذهلي فكل التلامذة سيقولون للبخاري : لم ترو عنه؟

    فهم أولاً: سيقولون: روايتك عنه تعديل له، فإن كان عدلاً عندك وثقة فما قال فيك هو الحق، فهو خشي من ذلك، والبخاري في نفسه يقول: إن محمد بن يحيى كان متأولاً، فيعتذر له كما يعتذر للكرابيسي، فقد كان من تلاميذ الشافعي وكان قريناً للإمام أحمد ، فقال الكرابيسي : لفظي بالقرآن مخلوق، وهذا كلام حق؛ فإن لفظه مخلوق، لأن لفظه خرج من لسانه، ولسانه مخلوق، فيكون كل آلة يستخدمها مخلوقة، فهو يقصد ذلك، وهذا كلام صحيح كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وقرره، لكن أحمد أراد أن يحسم المادة، ويسد الذريعة، فقال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، أحمد قال ذلك، ونحن نقول: كيف يقول أحمد ذلك؟ أيكفر رجلاً يقول قولاً صحيحاً؟ فبحثنا ونقبنا وفتشنا فوجدنا عبد الله بروايته عن أبيه قال: فسألت أبي عمن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: إن قصد الصوت فليس بكافر، وإن قصد كلام الله فهو كافر.

    فيكون إذاً أحمد هنا يفصل المسألة، ويقول: لو قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقصد الآيات فهو كافر، وإن قصد الأصوات فليس بكافر، لكنه لما قالها على الملأ، من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، إنما ذلك سداً للذريعة، فاعتذر للإمام أحمد من أجل ذلك.

    فـالبخاري يعتذر أيضاً لـمحمد بن يحيى الذهلي ويقول: لعله يفعل ذلك حسماً للمادة، فعذره وروى عنه، وهذا من الإنصاف والديانة، وهذه إن وجدتها الآن بين طلبة العلم أو بين المشايخ مثلاً والعلماء فستجد النصر للدين؛ لأن هذه لا تدل ولا تنم إلا على أن المراد واحد وهو الله جل في علاه، ونصر الدين ابتغاء وجه الله جل في علاه.

    فـالبخاري كان يغرب ويقول: محمد، ولا يسميه، فلا يقول: محمد بن يحيى الذهلي، ويقول مرة: محمد بن عبد الله ، أو محمد مجرداً من غير نسبه، أو ينسبه إلى جده.

    فهذه عرفت عن البخاري وليس فيها تدليس على الناس، لكن فعل ذلك من أجل المشاحنة التي حصلت بينه وبينه، فهذا باعث من بواعث تدليس الإسناد.

    كذلك من بواعث تدليس الشيوخ: التكبر، وهذه مذمة مشهورة (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) كما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في الصحيحين.

    أحياناً ترى التلميذ يروي عن الشيخ، وإذا نظرت في التراجم تجد أن التلميذ أكبر من الشيخ بسنوات عديدة، فيكون إذاً التلميذ يروي عن شيخ أصغر منه، فهذه تجعل هذا التلميذ يقول: كيف أروي عن شيخ أصغر مني؟! وكيف يأخذ الناس مني هذا الحديث؟! فيغرب ويأتي بتدليس الشيوخ ويكنيه بكنية لا يعرفها، حتى يقال: إن هذا الشيخ هو أكبر منه، ولا يقولون: إنه يروي عن شيخ أصغر منه، وأذكر قصة لطيفة جداً وهي قصة ابن عيينة والأعمش، وقد قلتها أكثر من مرة.

    الأعمش لما نزل إلى مكة وقابل ابن عيينة فكان يقول له: حدث الزهري بأربعة أحاديث لفلان، قال: حديث بحديث، وهذا فيه تبادل منفعة درهم بدرهم، قال له: آخذ منك حديثاً للزهري وأنت تعطيني حديث فلان، فقال ابن عيينة : لا؛ لأن ابن عيينة ليس بالهين، فقال له: حديث بحديثين، قال: لا، قال: حديث بثلاثة، قال: لا، قال: إذاً: حديث بأربعة، فقال ابن عيينة : ننزل على رغبتك، فكان ابن عيينة يعطيه حديثاً والأعمش يعطيه أربعة أحاديث، فبعدما مرت الأيام، ورجع ابن عيينة، أراد زيارة الأعمش في الكوفة، فذهب إلى الكوفة، فدخل المسجد فوجده يعج بالناس، ويكتظ بطلبة الحديث، والأعمش جالس يحدث، وابن عيينة ينظر إلى هذا المجلس الفسيح العظيم للأعمش وجلس ابن عيينة هنيهة، ثم قام وسط الحلقة أمام الناس جميعاً فقال له: يا ابن مهران ! فنظر إليه، فقال: أما تعرفني أنا ابن عيينة ؟ فسلم عليه فقال له: أما لك فيما مضى؟ هو لا يريد أن يصرح وإنما قال له: أليس لك فيما مضى؟ فقال له متبسماً وكان الأعمش ليس بالهين: قد ولى يا ابن عيينة ! ما مضى، يعني: انتهى، أنت الذي تأتي الآن تأخذ الواحد بأربعة.

    كذلك من البواعث على ذلك: أن يكون الراوي ضعيفاً هالكاً، لا يؤخذ منه شيء، وهذا هو أشد ذماً من غيره، فهو يكنيه بكنية لا تعرف، أو يسميه باسم لا يعرف من أجل أن يقال: إن هذا ثقة يؤخذ منه؛ حتى يضيع على النقاد والباحثين الوقوف على ترجمة أو على توثيق هذا الراوي، ومثاله ما رواه الخطيب أن عطية العوفي -وهو من المفسرين- كان يروي كثيراً عن محمد بن السائب الكلبي -وهو معروف بضعفه فقد ضعفه أهل العلم- فيأتي إلى مجلس التفسير فيقول: حدثني أبو سعيد ، فهو يكني محمد بن السائب بكنية لا تعرف، فهو عندما يكنيه بهذه الكنية يظن الناس أنه الحسن البصري أو أبو سعيد الخدري ، فهو يكني محمد بن السائب الكلبي بكنية أبي سعيد حتى يغرب على الناس، فيظن السامع أنه ينقل عن أبي سعيد الخدري ، وهذا مذموم جداً؛ لأنه يسقط الضعيف ويضع مكان الضعيف ثقة، وهذه أيضاً تضيع على النقاد معرفة صحة الحديث من ضعفه، فهذه أيضاً من البواعث على تدليس الشيوخ.

    تدليس البلدان

    هناك قسم آخر من تدليس الشيوخ يندرج تحته وهو: تدليس البلدان، وتدليس البلدان مشهور؛ لكنه أهون بكثير من غيره، وتدليس البلدان: هو أن يأتي الراوي فيوهم السامعين أنه سمع من رجل مشهور في بلاد بعيدة وما سمع منه، وإنما سمع من شخص آخر يشترك معه في الاسم أو غيره، وهذه معروفة الآن في الإسكندرية فأكثر الناس يمكن أن يدلسوا هذا التدليس؛ لأنه والحمد الله عندنا الشوارع عامرة، شارع بور سعيد ، وشارع سوريا، وشارع دمشق، ومدينة زايد، فيمكن شخص يأخذ شيخاً أو طالب علم غير مشهور إلى شارع سوريا ويقول: حدثني فلان، ويكون هذا من طلبة العلم المشهورين، فيقول مثلاً : حدثني الشيخ محمد بن إسماعيل في سوريا، كأن الشيخ محمد بن إسماعيل كان في سوريا، والرجل رحل من مصر من أجل أن يسمع منه في سوريا.

    والأغرب من ذلك أن يقول: حدثني علي حسن، ويكون هذا ليس طالب علم، إنما هو رجل يقفل المسجد ويفتحه، واسمه علي حسن، قال: الحمد لله، تعال، فأمسكه وجعله يروي حديثاً في البخاري بسند متصل للنبي صلى الله عليه وسلم، فيروي الحديث ويقول: حدثني علي بن حسن الحلبي في حلب، وهو إنما حدثه رجل عادي في شارع هنا اسمه شارع حلب.

    أو أنه يأتي خلف ترعة المحمودية ويقول: حدثني فلان في بلاد ما وراء النهر.

    فهذا اسمه تدليس البلدان، فهو يريد أن يتشبع بما لم يعط، أي: أنه رجل كان رحالاً يذهب إلى البلاد والقفار، ويتحمل هذه الأسفار من أجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كما قلت: أخف أنواع التدليس.

    حكم تدليس الشيوخ

    ما حكم تدليس الشيوخ؟

    أقول: إن كان للاختبار فممدوح وفيه مصلحة، وإن كان لبيان الإكثار من المشايخ فهذا متشبع بما لم يعط، لكن روايته صحيحة، وإن كان لإسقاط الضعيف فكثير من المحدثين يرى أنه ليس بجرح، والصحيح الراجح أنه جرح، وروايته تكون غير مقبولة.

    أقول: إذا كان يريد كـعطية العوفي يسقط الضعيف محمد بن السائب الكلبي ، ويضع مكانه ثقة كـأبي سعيد الخدري ، فهذا اختلف العلماء في قبول روايته.

    فكثير من المحدثين يرون أنه غير جرح؛ لأنه إيهام فقط، والصحيح أن هذا جرح، وأن رواية الراوي الذي يتعمد إسقاط الضعيف ووضع الثقة مكانه لا تقبل، وهذا جرح فيه.

    هذا حكم تدليس الشيوخ وتدليس البلدان، ونكون بهذا قد انتهينا من الكلام على التدليس، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767504352