وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:
فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم خير الناس، وهم خير من صحب نبياً في هذه الدنيا، بل هم الذين فضلهم الله جل في علاه على الخلق أجمعين سوى الأنبياء والمرسلين، أنزل الله عدالتهم في القرآن، وزكاهم من فوق سبع سماوات، وزكاهم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول الله جل في علاه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18].
وزكاهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم شرف أصحابه عندما (جاءه جبريل يسأله فقال: يا رسول الله! كيف تعدون من شهد بدراً فيكم؟ فقالوا: هم خيارنا، فقال جبريل: وكذلك هم عندنا خيار الملائكة) فخيار الملائكة هم: الذين شهدوا بدراً، وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن حاطباً بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه، عندما أرسل بالمكتوب ليخبر أهل مكة بأن النبي صلى الله عليه وسلم يجهز الجيش للسير والزحف إلى مكة، أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، فأرسل علياً والزبير فأتياه بهذا المكتوب فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عمر فلما رأى عمر رضي الله عنه وأرضاه هذا المكتوب قال وكأنه الأسد الزائر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يا عمر! لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا -أو قال: اعملوا- ما شئتم، فقد غفرت لكم) إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أظهر للناس أجمعين حظ ومقدار وعظمة هؤلاء الأخيار الأماجد الأكارم، الذين وصل الدين إلينا طرياً على أكتافهم، وباعوا أنفسهم وأموالهم ونساءهم وأولادهم من أجل حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا أشد الناس تعظيماً وتبجيلاً وتوقيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال عروة رضي الله عنه وأرضاه قبل أن يسلم: والله! لقد وفدت على النجاشي وكسرى وقيصر وما رأيت أحداً يعظم أحداً، أو ما رأيت أصحاباً يعظمون صاحبهم؛ كما رأيت أصحاب محمد يعظمون محمداً صلى الله عليه وسلم، والله! ما تفل فوقعت في يد أحدهم إلا دلك بها جسده، والله! ما تكلم إلا وكأن على رءوسهم الطير، ولا أشار إلا ائتمروا بأمره -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
وكان متهكماً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذ بلحية النبي صلى الله عليه وسلم، والمغيرة بن شعبة يضرب يده بالسيف، ويقول: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن أخته، فقال عروة له: أيْ غدر! ما زلت في غدرتك حتى الآن أسعى فيها للتأليف بين القبائل.
وأيضاً: قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى حولك إلا أوباشاً، أي: أخلاطاً من الناس لا يجتمعون على شيء، ويفرون إذا حمي الوطيس، فقال: أبو بكر كالأسد الغاضب رضي الله عنه: نحن نفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، امصص بظر اللات، وهذه كلمة مشينة وشديدة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أقره بذلك؛ لأنه اتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الجواب على عروة كالصاعقة.
وهذا طلحة رضي الله عنه وأرضاه يضرب لنا أروع الأمثلة في فدائه للنبي صلى الله عليه وسلم بروحه وهو يرشق بنباله، وأخذ السيف ينافح به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد لما تفرق الناس عنه (من يرد عنا القوم وله الجنة؟ فقام
وفي رواية قال: (ما أنصفْنا إخواننا) وهذا له معنيان، والشاهد هو: قيام طلحة ينافح عن رسول الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أظهر رأسه، قال طلحة : لا يا رسول الله! يأتيك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله! وظل ينافح بسيفه حتى كُسِرَ في يده، وشلّت يده دفاعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) أي: وجبت له الجنة بما فعل.
أولاً: حبهم، فإن حبهم دين ندين الله به، قال الله تعالى حاكياً عن الذين جاءوا من التابعين بعد الصحابة: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس الصحيح: (حب الأنصار إيمان وبغض الأنصار نفاق) وإذا كان هذا في حق الأنصار فمن باب أولى أن يكون في حق المهاجرين، فالمهاجرون أفضل من الأنصار، والأنصار حافظوا على رسول الله، ودافعوا عنه بأموالهم وأنفسهم ونسائهم وأولادهم، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما جاءهم وحيداً فريداً.
والمهاجرون جمعوا بين الهجرة والنصرة، فقد نصروا الله ورسوله بنص الكتاب، وما هاجروا وتركوا الأموال والأنفس إلا نصرة لله، قال تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [المائدة:2]، فهذا فضل المهاجرين على الأنصار.
وإذا كان حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق فمن باب أولى أن يكون حب المهاجرين إيمان وبغضهم نفاق، وقد قال علي بن أبي طالب : (قد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق) فحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم دين ندين الله به.
ولذلك كان الرعيل الأول من السلف في القرون الخيرية كـابن المبارك ومالك وغيرهما يقولون: علموا أولادكم حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الإمام مالك وغيره: من الدين أن تعلم أولادك حب أبي بكر وحب عمر رضي الله عنهما وأرضاهما.
فالواجب على هذه الأمة أن تحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل قلبها لأمور كثيرة.
أولاً: لو لم يكن إلا لحفظ عرض النبي صلى الله عليه وسلم لكفانا حبهم لأجل ذلك.
ثانياً: لو لم يكن إلا أنهم قد بلغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل حركة وكل سكون، وكل قول وفعل، ووصل إلينا الدين عفناً طرياً على أكتافهم، لكفى ذلك في حبهم، فالمؤمن الحق هو الذي يرى في قلبه امتلاء بحب هؤلاء الأخيار.
ومن واجب الأمة أيضاً نحو هؤلاء الأخيار: الترحم عليهم، والترضي عنهم، ولا يقال: علي بن أبي طالب صلى الله عليه وسلم، أو اللهم صل على أبي بكر .
والصحيح: الترضي على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] فلابد من الترضي على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنالك أمر عظيم بين الإخوة وهو أنه عندما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يسمع منهم الصلاة والسلام عليه، وهذا بخل ليس بعده بخل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من البخيل؟ البخيل: من ذكرت عنده ولم يصل علي).
وهذا العدم وجود الاحترام العالي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولصحابته الكرام فعندما يذكر أبو بكر أو عثمان لم تسمع عبارة رضي الله عنه وأرضاه، فهذا من الأدب مع هؤلاء، وهو حق هؤلاء علينا، الترضي والترحم والاستغفار كثيراً لهم.
الثالثة -وهي المهمة جداً-: الكف عن الكلام في الفتن والمساوئ التي وقعت بينهم، فهذا أدب جم لا بد أن يتحلى به كل مؤمن، فلا نتكلم في هذه الفتن كثيراً؛ فإن المسلم يُعرف بأدبه الجم مع صحابة رسول الله، وبالكف عن الكلام على مساوئ هؤلاء الأخيار، كما قال ابن كثير : هذا القتال الذي حدث بينهم قتال عصم الله سيوفنا منه، فلنعصم أو نحفظ ألسنتنا من الكلام فيه.
فلا بد أن نكف عن الكلام عن مساوئ هؤلاء الأخيار، وأن نمر عليها مرور الكرام، حتى نحق الحق ونبين أن الذي وقع بينهم وقع عن اجتهاد؛ وليس عن هوى، أو طلب دنيا، أو خلافة، أو رئاسة.
فهذا الكلام نضعه في عين من يتكلم بهذا وفي قلبه عله يرجع إلى حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يقع بلسان بذيء في أعراض هؤلاء الأخيار.
إن الفتنة حدثت ونجمت وظهرت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال أنس : ما وارى جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب فنفضنا التراب عن أيدينا إلا وتغيرت قلوبنا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه) .
وقال أبو هريرة كما في الصحيح: مات رسول الله يوم مات وارتد من ارتد من العرب، وما بقي على الإيمان إلا بقايا من أهل الحجاز والمدينة ومكة، ونجمت فتنة الردة وادعاء النبوة، فأخمدها الله جل في علاه بـأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ونصر الله به الدين، ثم استقرت أركان الدولة، واستقر عرش الدولة على الدنيا بأسرها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
وقد قال عمر لأصحابه -وهو الملهم المحدث- : أيكم سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتن.
فقال حذيفة : أنا يا أمير المؤمنين! فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصدقة والصوم والصلاة. قال: ليس عن هذا أسأل، قال: تسأل عن الفتن التي تموج كموج البحر؟ قال: نعم، قال: مالك ولها يا أمير المؤمنين! بينك وبينها باب، قال: أيفتح أم يكسر؟ قال: يكسر، قال: إذاً لا يقوم مرة ثانية، وكسر الباب هو: قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فادلهمت الخطوب، ونزلت البلايا والفتن على الأمة، فلم تنقطع إلى يومنا هذا.
فـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه تكالب عليه بعض العلوج من أهل مصر، والأوغاد والأعراب من أهل العراق والكوفة، وهجموا عليه فقتلوه مظلوماً أبياً خليفةً، وكان قد بين له النبي صلى الله عليه وسلم نبوءة، كما في مسند أحمد : أنهم سيطلبون منه أن ينزل عن شيء ألبسه الله إياه، فلا ينزل عن هذا الأمر، وهو الخلافة، فطلبوا منه أن ينزع يده من الخلافة فأبى عليهم فقتلوه مظلوماً رضي الله عنه وأرضاه.
وبعد ذلك لم تقف الفتن في هذه الأمة، فجاء علي بن أبي طالب وهو يستحق الخلافة بالإجماع، وما من أحد يداني مكانة علي بن أبي طالب فكل الصحابة في عصره كـعبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام و>عمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان كل هؤلاء يقولون: أفضل الموجودين هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فلما اتفقت كلمتهم على أفضلية علي على كل الموجودين، لم تستقر الخلافة لـعلي ؛ لأن الفتنة نجمت بالاجتهاد، فكل قد اجتهد فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر.
أما طلحة والزبير فبايعا علياً بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ثم استأذنا علياً بالذهاب إلى مكة فلما ذهبا إلى مكة، وسمعت عائشة رضي الله عنها وأرضاها بمقتل عثمان أرادت الثأر لدم عثمان ، فلم تنظر للخلافة ولا للاستقرار ولا لمقاصد الشريعة في أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
فإعدام وقتل الذين قتلوا عثمان فيه مصلحة، والشر المستطير الذي سيحدث للأمة بعد قتل قتلة الخليفة مفسدة، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح، لكن عائشة رضي الله عنها وأرضاها اجتهدت اجتهاداً وقد أخطأت فيه وهي زوجة نبينا في الدنيا وفي الآخرة، ورأت طلحة بن عبيد الله والزبير فقالت لهما: إن الثأر لـعثمان لا بد أن يقدم.
فخرجوا إلى البصرة وكان علي بن أبي طالب في المدينة، وبعث إلى عثمان بن حنيف في هذه المسألة، وبعث إليهما وسألهما: ما الذي أتى بكما؟
فقالوا: للثأر لـعثمان فعلم علي بن أبي طالب بذلك، فجاء بجيشه إلى البصرة، وحدث الكلام بين جيش علي بن أبي طالب وبين جيش طلحة وعائشة والزبير، فقد بعث كل منهما أفراداً من القوم، وتكلموا في هذه المسألة ثم اصطلحوا وباتوا على خير ليلة، وعلموا أن المصالح تقدم على المفاسد واتفقوا جميعاً، لكن الذين قتلوا عثمان كانوا في جيش علي وهو يعرف أنهم على خفاء في جيشه ولهم قبائل وقوة ومنعة وشوكة فقالوا: قد اتفق القوم علينا، وما من أحد قاتل إلا نحن، فقاموا بالليل فناوشوا جيش الزبير رضي الله عنه وأرضاه فقتلوا منهم، فقام جيش الزبير وطلحة فحسبوا أن جيش علي قد غدر بالاتفاق، ثم هجم جيش الزبير على جيش علي ، وحدثت المناوشة بينهما، فحسب جيش علي أن جيش الزبير قد غدر بهم، فحمي الوطيس واشتدت بساط الحرب، وقد قضى الله أمراً كان مفعولاً، ولله في ذلك حكم.
لكن بعد أن وقعت المقتلة العظيمة، وكان أشدها وأوجها حول جمل عائشة رضي الله عنها وأرضاها، حتى إن رجلاً من جيش علي قال كذا في عائشة فلطمه عمار أو سبه أو زجره فقال: اسكت، والذي نفسي بيده! إنها زوجة نبيكم في الدنيا وفي الآخرة، وإن الله يختبركم بها أتسمعون له -يعني: الحق- أو تسمعون لها باجتهادها؟ فبعد ما انتهت هذه المقتلة العظيمة، وانتهى الخسار على الطائفتين والحيين من المسلمين، تساقط المسلمون صرعى وقتلى، قام علي بن أبي طالب وقد تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيحدث بينك وبين
وقد بكت عائشة بعد ذلك عندما علمت بمعركة النهروان، وقتل علي الخوارج فقالت: والله! إن الحق كان مع علي ، وليس بيني وبينه إلا ما بين الأحماء بعضهم وبعض.
فالحاصل: أن هذه المعركة وهذه الفتنة ما حدثت وما أثيرت إلا من الذين تكالبوا على قتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وأن الفريقين كل منهما كان مجتهداً.
ولذلك ما قاتل طلحة ولا الزبير ، إنما قتلا ظلماً.
فقصة قتل الزبير وإن كان في أسانيدها كلام وضعف، لكن يستأنس بها، وذلك أن علياً بن أبي طالب (مر على
والغرض المقصود: أن عائشة وطلحة والزبير وعلياً رضي الله عنهم كانوا مجتهدين، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنقص من حق واحد من هؤلاء الأربعة فقد قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) .
فهؤلاء وإن كان الحق ليس معهم فلهم أجر، أما علي بن أبي طالب فإننا ندين الله أن الحق كان معه رضي الله عنه وأرضاه، والقرائن بأسرها تبين ذلك، لا سيما وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق عمار : (إن
لكن الاجتهاد وصل بالطائفتين إلى ذلك، فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر.
ثم جاءت فتنة عمياء أشد من هذه الفتنة وهي معركة صفين الذي حدثت بين معاوية وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وقام علي يريد عصمة دماء المسلمين، فقال لـمعاوية : ابرز إلي نتقاتل فإن قتلتني سلم الأمر لك، وإن قتلتك سلم الأمر لي ونكفي المؤمنين شر القتال، فلم يرض معاوية فنزل عمرو بن العاص وكاد علي أن يقتله، كما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ثم لم يحدث القتل بينهما، وتراجعا وتراجع الصفان.
وفي هذه المعركة حدثت أباطيل وأكاذيب لا بد من ذكرها.
أولاً: قصة التحكيم وهي أن أبا موسى الأشعري بعثه علي بن أبي طالب ... إلخ القصة، والصحيح أن علياً بن أبي طالب أمر أن يبعث إليهم ابن عباس، ولذلك قال ابن كثير في البداية النهاية: ليته كفانا بـابن عباس ؛ لأن ابن عباس لو أرسل إليهم فلن يستطع أحد أن يقف أمام حجته رضي الله عنه وأرضاه، لكنهم قالوا له: لا يصح أن يبعث إليهم ابن عمه، فـابن عباس كانت الحجة معه ولن يرجع عنها.
لكن قضى الله أمراً كان مفعولاً، فذهب أبو موسى فتكلم بكلام رصين فقال لـعمرو : أما علمت أن علياً هو الأحق؟ قال: نعم. والله! هو الأحق، ثم قال: أما علمت أن علياً أفضل من معاوية ؟ قال: والله! هو أفضل من معاوية ، بل معاوية قال ذلك، ثم قال: ومقداري لا يساوي ولا يداني مقدار علي بن أبي طالب والأسبقية لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال: وما شأني وشأن معاوية ؟ قال: سلموا الأمر لـعلي ويستعين بكما، أو يستغني عنكما، وهذه العبارة هي التي كان فيها ما فيها، فرجع عمرو بن العاص إلى معاوية ، وتكلم معه وذكر له ما قيل.
أما قصة خلع الخاتم وإدخاله، فإن أبا موسى ما فعل هكذا وهل الخلافة تنزع؟ وهل علي بن أبي طالب بعد ما يبايع بالخلافة ينزع بخاتم؟
فالصحيح الراجح أن هذه قصة موضوعة فيها كذاب فلا تصح، ولا يمكن أن نظن بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغرر بعضهم ببعض بهذه الطريقة، ولا يمكن أن نصدق ذلك، ولكن الله قضى أمراً كان مفعولاً.
فالحقيقة: أن معاوية اجتهد فطالب بدم عثمان ، وعلياً بن أبي طالب كان يقول: دم عثمان ليس الآن؛ لأن المفسدة أعظم من المصلحة، فلا بد من البحث عن القتلة، ولا بد من الانتصار حتى نأخذ بثأر عثمان المظلوم رضي الله عنه وأرضاه.
والغرض المقصود: أنه يجب علينا تجاه هؤلاء أن نحبهم، وأن نترضى عنهم، وأولهم هو: معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وقد قال بعض المحدثين: معاوية بوابة الصحابة، فمن تجرأ على معاوية فهو على غيره أجرأ.
وقال بعض العلماء: يوم من أيام معاوية كتب فيه الوحي أو رأى فيه وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير من عمر بن عبد العزيز وأهل بيته أجمعين.
وقال أبو زرعة كلاماً في حق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب بماء الذهب بل بماء العين، وفيه نبراس للفرق بين الصف المؤمن والصف المنافق.
قال رحمه الله: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي -وأحداً نكرة في سياق الشرط تفيد العموم، أي أحد صغيراً أو كبيراً- فاعلم أنه زنديق؛ لأن علامة الزندقة الولوغ في أعراض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، والقرآن حق وما جاء به حق، وإنما نقل إلينا ذلك كله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نقلوا إلينا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وأفعاله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء يريدون أن يطعنوا في شهودنا ليبطلوا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يجرحوا شهودنا، والجرح بهم أولى وهم زنادقة.
إذاً: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وأشهره بين الناس أنه على زندقة؛ لأنه تجرأ على عرض من أعراض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا يجوز سب صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لما بيَّن الله ورسوله من عدالتهم، والسب ينقسم إلى أقسام:
أولاً: من سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دينهم ولعنهم، أو كفرهم عن بكرة أبيهم آحاداً وأفراداً فهذا كفره من وجهين:
الوجه الأول: تكذيب لله ورسوله، ومن كذب الله ورسوله فقد كفر، فقد عدَّل الله الصحابة من فوق سبع سموات، قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18].
وقال أيضاً: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) وقال أيضاً: (لا يا
فهذه كلها أدلة على عدالة صحابة رسول الله من كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الوجه الثاني: أنه يدخل تحت عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما) وهذا له تأويل عند الجماهير أي: فقد باء بوزره، أو باء بهذه الكبيرة، لكن في سب الصحابة ينطبق هذا الحديث على ظاهره، فمن قال لـأبي بكر : يا كافر، فقد كفر، ومن قال لـعمر : يا كافر، فقد كفر، ومن قال لـعائشة : يا كافرة، فقد كفر، ومن قال لـعثمان أو لـعلي : يا كافر، فقد كفر (ومن قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)، وفي الرواية الأخرى قال: (إن كان كذلك وإلا حارت) أي: رجعت عليه.
أما الأقوى من ذلك: فمن لم يكفر من كفر الصحابة فهو كافر؛ لأن الراضي بالمنكر كمرتكبه، وهذا الرضا الذي يظهر لنا عنده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لا بد من الإنكار بالقلب، والإنكار بالقلب: ألا تبقى بالمكان الذي يسب فيه صحابة رسول الله، أما أن تضحك، وتقر بذلك، ولا ترد عليهم، وتجالسهم فأنت ممن قال الله تعالى فيهم: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، والمثلية هنا على حالاتها التي فندها العلماء.
وأيضاً: من شك في كفره فقد كفر؛ لأنه يشك في كفر من كذب الله، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، فمن شك في كفر من يكذب الله جل في علاه فقد كفر؛ لأن هذا من باب المعلوم من الدين بالضرورة.
قولان عند أهل العلم:
القول الأول: أنه يكفر، فيخرج من الملة لعظم مكانة صحابة رسول الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني وهو قول جماهير أهل العلم: إنه يستحق التفسيق والتأديب والتعزير والتبديع بذلك، لكنه لا يكفر، والتعزير يكون من قبل ولي الأمر. وتفصيل القولين فيما يلي:
القول الأول: يكفر، فما هي وجهة الكفر هنا؟ فهم ما كفروهم بل سبوهم فقالوا: أبوه كذا وأمه كذا، وهو كذا، أو لعنة الله على فلان وفلان وأبيه وأمه، وهذا فيه تكذيب لله، الذي أنزل عدالتهم وهم لا يعدلونهم، فهؤلاء ما طعنوا فيهم، بل دعوا عليهم بالشر، ونحو: اللهم أهلكهم، اللهم اطردهم من رحمتك، وهذا هو الكفر باللازم، فالقاعدة عند أهل السنة والجماعة أن لازم القول ليس بقول، فلا يحكم على صاحبه بالكفر حتى يقر هو به.
ووجهة نظر الذين كفروهم هي: أن من سب صحابة رسول الله فقد آذى رسول الله، ومن آذى رسول الله فقد كفر، قال: (فبحبي أحبوهم وببغضي أبغضوهم).
فالنبي صلى الله عليه وسلم بين كثيراً النهي عن عدم إيذاءه في أصحابه فقال: (لا تسبوا أصحابي) وعند ما قال لـعمر : (هلا تركتم لي صاحبي، لا تؤذوني في أصحابي) فهذا إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم بطريق لازم القول، وقد قيل: لا تسأل عن المرء، وسل عن خليله، فكيف يصاحب النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ملعوناً؟ فلعن الصحابة أو سبهم إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم بل انتقاص من قدره صلى الله عليه وسلم من باب اللزوم.
ولازم القول ليس بقول حتى يقر به، فمن لعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى رسول الله وانتقص من قدره صلى الله عليه وسلم، ولازم هذا القول يعتبر قولاً إن أقروا به، فإن لم يقصدوا إيذاء رسول الله، ولا الانتقاص من قدره، فيعتبر هذا فسقاً، وصاحبه على شفير هلكة. وهذا هو الراجح الصحيح.
وبهذا نكون قد ختمنا شرح الكتاب بفضل الله سبحانه وتعالى، ونكون بذلك قد انتهينا بفضل الله من هذا الكتاب العظيم الجليل وهو من أنفع ما كتب شيخ الإسلام ، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، وجزاه عن نبينا خير الجزاء، وجزاه خير الجزاء عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر