إسلام ويب

شرح أخصر المختصرات [23]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد خصص العلماء للجهاد باباً مستقلاً ذكروا فيه أحكام الجهاد ومسائله؛ كحكمه، وصفته، وأحواله، وفيئه وغنائمه، وعلى من يصرفان، ومن يقتل ومن لا يقتل، ومن تجب طاعته، ونحو ذلك، وهذا يدل على أهمية الجهاد في ديننا الإسلامي، وأنه لا يستقيم أمر الدين وعزه إلا به.

    1.   

    أحكام الجهاد في سبيل الله

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجهاد

    وهو فرض كفاية إلا إذا حضره أو حصره أو بلده عدو، أو كان النفير عاماً ففرض عين، ولا يتطوع به مَنْ أحد أبويه حر مسلم إلا بإذنه، وسن رباط، وأقله ساعة، وتمامه أربعون يوماً، وعلى الإمام منع مخذل ومرجف، وعلى الجيش طاعته والصبر معه، وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار حرب، فيجعل خمسها خمسة أسهم: سهم لله ولرسوله، وسهم لذوي القربى، وهم: بنو هاشم والمطلب، وسهم لليتامى الفقراء، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل. وشُرط فيمن يسهم له إسلام، ثم يقسم الباقي بين من شهد الوقعة: للراجل سهم، وللفارس على فرس عربي ثلاثة، وعلى غيره اثنان، ويقسم لحر مسلم مكلف، ويرضخ لغيرهم.

    وإذا فتحوا أرضاً بالسيف خُيِّر الإمام بين قسمها، ووقفها على المسلمين، ضارباً عليها خراجاً مستمراً يؤخذ ممن هي في يده، وما أخذ من مال مشرك بلا قتال -كجزية وخراج وعشر- فيءٌ لمصالح المسلمين، وكذا خمس خمس الغنيمة.

    فصل:

    ويجوز عقد الذمة لمن له كتاب أو شبهته، ويقاتل هؤلاء حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وغيرهم حتى يسلموا أو يقتلوا، وتؤخذ منهم ممتهنين مصغرين، ولا تؤخذ من صبي وعبد وامرأة وفقير عاجز عنها ونحوهم، ويلزم أخذهم بحكم الإسلام فيما يعتقدون تحريمه من نفس وعرض ومال وغيرها، ويلزمهم التميز عن المسلمين، ولهم ركوب غير خيل بغير سرج، وحرم تعظيمهم وبداءتهم بالسلام، وإن تعدى الذمي على مسلم أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء انتقض عهده، فيخير الإمام فيه كأسير حربي].

    تعريف الجهاد وحكمه

    الجهاد: هو قتال الكفار، ومن العلماء من يجعله مع الحدود كما فعل صاحب المغني وغيره كثير، ومنهم من يجعله مع العبادات كما في المقنع وشروحه؛ وذلك لأنه عبادة، وبعض العلماء جعلوه ركناً من أركان الإسلام؛ وذلك لكثرة الأحاديث التي وردت في فضل الجهاد، والتي وردت في كيفيته، وفي العمل فيه، وهي كثيرة، ويدل على ذلك -أيضاً- جهاد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يستقر في المدينة بعدما هاجر إلا وقتاً يسيراً ثم بدأ يغزو ويهادن، ووقعت في كل سنة عدة غزوات إلى أن فتحت البلاد، ودان العباد بالإسلام.

    وقد كان أولاً منهياً عن القتال، ومأموراً بالاقتصار على البلاغ: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48] ، مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة:99] ، وكذلك كان منهياً عن بداءة أحد أو قتال أحد إلا بعد أن يبدأ، فنزل عليه في أول الأمر: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق:45] ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22] ، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى:48] ، مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة:99] ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6] وأشباه ذلك.

    ولما قويت معنوية المسلمين أذن لهم في الجهاد، قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39] فأول الأمر كانوا ممنوعين، ثم بعد ذلك أذن لهم أن يقاتلوا من بدأهم، ويكون القتال للدفاع: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [البقرة:190] .

    ثم الحالة الثالثة: قتال كل الكفار في قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] واستقر الأمر على قتال جميع المشركين حتى يسلموا.

    والجهاد فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، ومعناه: أنهم مأمورون بأن يقاتلوا في سبيل الله، فإذا قامت به فرقة تكفي فإنه يسقط الإثم عن الباقين.

    الحالات التي يكون الجهاد فيها فرض عين

    متى يكون الجهاد فرض عين؟

    في ثلاث حالات:

    الحالة الأولى: إذا حضر المسلم الصف.

    الحالة الثانية: إذا استنفره الإمام.

    الحالة الثالثة: إذا دهمهم العدو.

    الدليل على الأول: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال:45]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15] فهذا دليل على أن من حضر الصف وجب عليه الصبر، ووجب عليه القتال، وصار فرض عين.

    أما النفير فدليله قوله تعالى: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [التوبة:38] فإذا دعاهم الإمام أن ينفروا وجب عليهم النفير.

    وإذا دهم البلاد عدو، وليس لهم به قدرة فإنه يتعين الجهاد عليهم جميعاً حتى على النساء وعلى الكبار والصغار، كل بقدر ما يستطيعه.

    وجوب استئذان الوالدين في جهاد التطوع

    ذكر المصنف رحمه الله أنه: لا يجاهد الحر المسلم تطوعاً إلا بإذن أبويه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل يستأذنه في الجهاد: (أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد) فإذا أذنا له جاز، وأما إذا كان فرض عين فإنه لا يستأذن أحداً، بل ينفر.

    وهذا يدل على عظم حق الوالدين؛ لأن رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين.

    سنية الرباط في سبيل الله

    يسن الرباط، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا [آل عمران:200] الرباط: هو ملازمة الثغور التي يأتي منها العدو، إذا كان العدو يأتي من هذا الطريق، سواء على أرجلهم أو على خيل أو سيارات أو نحوها، فالذين يرابطون فيها لهم أجر كبير؛ لأنهم يحرسون المسلمين لئلا يأتيهم أحد من هذا الفج وهم على حين غفلة، فإذا أحس المرابط بالعدو جاء وأنذر المسلمين وقال: جاءكم العدو فاستعدوا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) .

    وأقله ساعة، وأكثره أربعون يوماً، فإذا رابط أربعين يوماً في هذا الثغر فإن على الإمام أن يبدله بغيره.

    منع الإمام للمخذلين والمرجفين

    إذا غزا المسلمون أو أرادوا الغزو فلا يجوز أن يكون فيهم المخذل والمرجف، فيمنع الإمام المخذل والمرجف، قال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ [الأحزاب:60] فالمخذل: هو الذي يخذل المجاهدين، فيقول: لا تخرجوا، لا حاجة لأحد منكم، وليست هناك ضرورة إليكم، والجهاد ليس بضروري، ولا حاجة إلى الجهاد في هذا الوقت؛ يخذلهم ويمنع كثيراً منهم عن مقابلة العدو.

    والمرجف: هو الذي يهول الأمر، فيقول: إن عدوكم سوف يستولي عليكم، أنتم ضعفاء لا تقدرون على أن تقاوموا، العدو أكثر منكم عدداً وقوة، ليس عندكم ما تقاومون به عدوكم، سوف يستولون عليكم، فماذا تفعلون؟! فيسبب أن ترتجف القلوب، فمثل هؤلاء لا يجوز أن يكونوا في الغزو، ويمنعهم الإمام من الخروج معه.

    وجوب طاعة الأمير

    قوله: (وعلى الجيش طاعته والصبر معه).

    يجب على كل الجيش الذي ينفر أن يطيعوا أميرهم ويصبروا معه، ولكن إنما الطاعة في المعروف، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر على سرية عبد الله بن جحش ، وأمرهم أن يطيعوه، ثم إنه غضب عليهم، فأمرهم مرة أن يوقدوا ناراً وقال: ادخلوها، فقد أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني. فأراد بعضهم أن يدخلها، ثم قالوا: ما فررنا إلا من النار، كيف ندخلها؟! ولم يزل بعضهم يحفز بعضاً حتى خمدت النار وسكن غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) فطاعته تكون فيما فيه مصلحة.

    ولهم أن يشيروا عليه بما يرون فيه مصلحة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطي غطفان ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا في غزوة الأحزاب، فاستشار سعداً فقال: إن كان أمراً تأمرنا به فسمعاً وطاعة، وإن كان رأياً فلا والله ولا تمرة واحدة، فعند ذلك قبل كلام سعد، وكذلك في كثير من الأمور كان يستشيرهم عملاً بقوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159] فعليهم أن يشيروا عليه بما يرونه صالحاً، وأن يصبروا معه، وألا ينصرفوا ولا يرجعوا حتى يرجع الجيش.

    صفة الغزو وترتيب الجيش

    صفة الغزو والقتال موسعة في كتب الفقه، ووقت اختيار البداءة في القتال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر حتى إذا زالت الشمس، وهبت الرياح، ونزل النصر ابتدأ في القتال، وكان يدعو عندما يبدأ في القتال فيقول: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وزلزلهم، وانصرنا عليهم)، فكان يعبئ الجيش فيجعله مقدمة وجناحين، ويجعل لكل جناح وجانب من يحثهم، وكان يجعل في مؤخرته من يحث الذين يكادون أن ينهزموا، فيحثهم على الصبر والثبات، ثم يشجعهم على الإقدام والمبارزة.

    كيفية تقسيم الغنائم

    والقتال هو مقابلة الصفين، وقتل كل منهم للآخر إلى أن يحصل النصر للمسلمين والهزيمة للكافرين، ثم إذا انهزموا فإنهم يدفعونهم ويقتلون، ولا يجوز الأسر إلا بعد الإثخان؛ لقوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ [محمد:4] يعني: أكثرتم فيهم القتل فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4] أي: الأسر، أي: أوثقوهم واربطوهم.

    ثم بعد ذلك إذا انهزموا ملك المسلمون ما كان عندهم، ويسمى غنيمة، وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها بدار الحرب، فمتى استولى عليها المسلمون يملكونها، وسميت غنيمة؛ لأنهم غنموا وربحوا، فإذا غنمها المسلمون قسموها خمسة أسهم: خمس يقسم، وأربعة أخماس للغانمين، والخمس الذي يحرز يجعل خمسة أسهم، قال الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41] السهم الذي لله ولرسوله مصرفه كمصرف الفيء، يجعل في مصالح المسلمين، ويكون لبيت المال في المصالح التي يحتاج إليها من بناء مساجد، وإصلاح الطرق، وبناء القناطر والجسور التي فوق البحار مثلاً وكذلك أيضاً رزق وإعاشة القضاة ونحوهم، كل هذا يدخل في بيت المال.

    أما سهم ذوي القربى فاختلف في أهله، فأكثر العلماء على أنهم بنو هاشم وبنو المطلب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم من سهم ذوي القربى، وفي هذه الأزمنة قد يقال: إنهم تفرقوا وكثروا، فلا يمكن حصرهم، فلذلك يعطى من هو محقق النسب، وكذلك أيضاً يعطى أقارب الرؤساء والسلاطين، ويكون لهم حق في خمس الخمس.

    وسهم لليتامى الذين هم من الفقراء؛ وذلك لأنهم غير قادرين على الكسب.

    وسهم للمساكين عموماً، ويدخل فيهم الفقراء أيضاً.

    وسهم لأبناء السبيل، وقد تقدم تعريف الفقراء والمساكين وأبناء السبيل في الزكاة، وأنهم ممن تحل لهم الزكاة، وكذلك يعطون من خمس الغنيمة.

    ثم بعد ذلك يقسم على الغانمين، ويشترط فيمن يسهم له الإسلام، فإذا قاتل مع المسلمين كافر فلا يجوز أن يعطوه، فلا يعطى الكافر من غنائم المسلمين، بل تقسم الغنائم على المسلمين الذين قاتلوا.

    تقسم أربعة أخماس الغنيمة على من شهد الوقعة، للراجل سهم -والراجل: هو الذي يقاتل على رجليه- وللفارس على فرس عربي ثلاثة، وللفارس على فرس غير عربي سهمان؛ وذلك لأن الخيل العربية أقوى في الصبر، وأقوى في الجلد، وأقوى في السباق؛ لذلك يفضل الفرس العربي على غيره، ويقال في غير العربي: الهجين، وهو من كان أبوه عربياً، والثاني: المقرئ، وهو ما كانت أمه عربية، والبرذون وهو ما ليس أحد من أبويه عربياً، ولما فتحت بلاد فارس اختلطت خيول المسلمين بخيول الفرس، والفرس غير العربي أقل نكاية من العربي، فلذلك كان يعطى هذا الفرس سهماً، ويعطى الرجل سهماً، فأما إذا كان أبواه عربيين فإن الفارس له ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه، هذا هو القول المشهور، وذهب الحنفية إلى أنه لا يزاد الفارس على سهمين، فيعطى الفرس سهماً، ولا يفرقون بين العربي وغيره.

    والذي يقسم له من الغنيمة هو الحر المسلم المكلف، فلا يقسم للنساء، ولا يقسم للعبيد، ولا يقسم لغير مكلف كالصغير والمجنون، ولا يقسم للكافر، وإنما يرضخ لهم، والرضخ: هو إعطاؤهم من الغنيمة دون تسويتهم بغيرهم، ويعطون شيئاً يكون مناسباً لهم.

    تخيير الإمام في الأرض المفتوحة بالسيف

    إذا فتح المجاهدون أرضاً بالسيف خُير الإمام بين قسمها أو وقفها على المسلمين، ويضرب عليها خراجاً مستمراً يؤخذ ممن هي بيده، فمكة لما فتحت عنوة بالسيف وقفها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأصبحت وقفاً، أما خيبر فلما فتحها قسمها، وأعطى كلاً من الغانمين جزءاً من أرضها، أما أرض الشام ومصر والعراق فإنهم قسموا المساكن والدور، وأما المزارع فلم تقسم على الغانمين، بل جعلها عمر وقفاً يدر على بيت المال، وقال: إنا لا نأمن أن تنقطع هذه الغنائم وتتوقف، فإذا جعلنا هذه الأراضي كلها وقفاً كانت غلتها لبيت المال، فوقفها كلها، وضرب عليها خراجاً، فإذا زرعها المسلم دفع أجرة عليها ودفع الزكاة، وإذا زرعها غير المسلم دفع الأجرة، وأجرتها العشر، والزكاة نصف العشر إذا كانت تسقى بمئونة، أو العشر بغير مئونة، فإذا زرعها مسلم وسقاها بلا مئونة فإنه يدفع الخمس، عشر أجرتها، وعشر زكاة، وأما إذا سقاها بمئونة فإنه يدفع ثلاثة أرباع الخمس، يعني: عشر ونصف عشر، وأما إذا زرعها غير مسلم فليس عليه إلا الخراج مستمراً كل سنة، حتى ولو لم يزرعها، فإذا كانت في يده وتحت تصرفه ضربت عليها أجرة سنوية.

    الأموال التي تؤخذ من المشركين دون قتال

    الأموال التي تؤخذ من المشركين بلا قتال تسمى فيئاً، قال الله تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الحشر:7] إلخ، وقال: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ [الحشر:6]، والجزية تلحق بالفيء، وكذلك عشر خراج الأرض الخراجية، والعشر الذي يؤخذ من أموال الكفار إذا اتجروا إلينا، فإذا كان الكفار يجلبون أموالاً إلى بلاد المسلمين للتجارة فإنه يؤخذ منهم العشر من التجارة كل سنة. فعشر تجارة الحربي مثلاً، وخراج الأرض الخراجية، والجزية التي تؤخذ من أهل الكتاب؛ كلها نسميها فيئاً، والفيء قد ذكر الله تعالى مصرفه فقال: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الحشر:7] أي: تصرف في هذه الأشياء كما يصرف في ذلك خمس الغنيمة.

    1.   

    عقد الذمة

    يجوز عقد الذمة لمن له كتاب أو شبهته، ومعنى (عقد الذمة): أن الكفار من اليهود أو النصارى ونحوهم تعقد لهم الذمة، والذين يشبهونهم هم المجوس، فاليهود لهم كتاب التوراة، والنصارى لهم كتاب الإنجيل، أما المجوس فقيل: لهم شبهة كتاب، والله تعالى ما أمرنا أن نعقد الذمة إلا لأهل الكتاب، قال تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، فقيدهم بالذين أوتوا الكتاب، أما الوثنيون فلا يعقد لهم ذمة، وهذا هو القول المشهور.

    وذهب بعض العلماء إلى أنها تؤخذ الجزية من جميع الكفار: من الوثنيين والمشركين والدهريين والهندوس والبوذيين ونحوهم؛ وذلك لأن القصد من أخذها هو إقرارهم حتى يعرفوا الإسلام، ثم يدخلون فيه، وهذا هو الواقع؛ فإن كثيراً من المجوس الذين في المدائن وخراسان لما رأوا معاملة المسلمين لهم كان ذلك مما حملهم على الإسلام، فأسلموا وصاروا من جنود الإسلام، وصار أولياؤهم وأولادهم من علماء المسلمين، فـأبو حنيفة كان أصله مجوسياً، وكذلك البخاري من أصل مجوسي وكثير غيرهما، فدخل أجدادهم في الإسلام بسبب حسن التعامل الذي كانوا يشاهدونه من المسلمين، فرأوا أن هذه المعاملة حرية أن أهلها أهل دين صحيح، فلذلك دخلوا في الإسلام.

    فعلى هذا لا فرق بين الكتابي وغيره في أخذ الجزية، ولكن الآية صريحة في تقييد أخذ الجزية بأهل الكتاب: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] فهذا قيد، فلذلك اقتصر بعض العلماء في أخذ الجزية من أهل الكتاب فقط.

    وإذا نظرنا في الأدلة الأخرى وجدنا فيها ما يجيز أخذها من غيرهم، ففي حديث بريدة الذي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا لقيت عدوك من المشركين -ولم يقل: عدوك من أهل الكتاب- فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك لها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، ثم ادعهم إلى الجزية، ثم إن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) فجعل ثلاث خصال:

    الخصلة الأولى: الإسلام، والخصلة الثانية: الجزية، والخصلة الثالثة: المقاتلة، فاستدل بهذا الحديث على أنها تؤخذ من جميع الكفار.

    وعلل الذين قالوا: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب بأن أهل الكتاب لهم دين يعتقدون صحته، ويظنون أنهم على حق، وأنه دين سماوي، ولكن دينهم منسوخ، ولا يعتبر صحيحاً.

    فالحاصل أن الفقهاء قالوا: لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتابين، ومن المجوس وأتباعهم، وهم الذين دانوا بدينهم، مثل كفار بني تغلب، مع كونهم كانوا عرباً، ولم يدخلوا في الإسلام، ثم لما كان في عهد عمر ضرب عليهم الجزية فامتنعوا، وقالوا: نحن عرب، كيف تضرب علينا الجزية؟!

    فعند ذلك ضعّف عليهم الزكاة، وقال: الزكاة التي نأخذها من العرب المسلمين نجعلها عليكم مضاعفة، فرضوا بذلك، ونفروا من كلمة (جزية) ولكنهم بذلوها باسم الزكاة مضاعفة، فهؤلاء من كفار العرب، ولكنهم تبعوا النصارى، ولكن يقول علي وغيره: ما تبعوهم إلا في شرب الخمر؛ لأنهم يقولون: إنا نصارى بالاسم.

    يقاتل أهل الكتاب ومن تبعهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، أما غيرهم من الكفار العرب أو من العجم الذين لا كتاب لهم فإنهم يقاتلون حتى يسلموا أو يقتلوا، فليس لهم إلا الإسلام أو السيف.

    تعريف الجزية وكيفية أخذها

    الجزية: هي ضريبة تؤخذ من أهل الذمة سنوياً، وكانت تؤخذ منهم على قدر اليسار، فكانت تؤخذ من النصارى الذين في اليمن في نجران وفي الحبشة اثنا عشر ديناراً سنوياً، وأما من أهل الشام ومصر والعراق فإنها كانت أربعة وعشرين ديناراً؛ لأنهم أيسر، ومن أجل كثرة المال والقدرة على الدفع، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في حياته من يقبضها من البحرين، فأرسل أبا عبيدة وأبا هريرة، وجبيت منهم أموال كثيرة، وقسمها النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، وأعطى منها المستحقين، ولم يدخر لنفسه منها شيئاً، وكذلك جُبيت بعده ممن التزم بالجزية من المجوس ونحوهم.

    وتؤخذ منهم ممتهنين صاغرين، يقول الله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] فلابد أن يعطيها عن يد، فلا يرسل بها خادمه ولا ولده، بل يأتي بها وهو صاغر، ثم يقف، ويطال وقوفه حتى يشعر بالصغار والذل والهوان، وقوله: (عن يد) أي: لا عن يد غيره، فلا يوكل من يدفعها، (وهم صاغرون) الصغار: هو الذل والهوان، فلابد أن يشعروا أنهم أذلاء، وأنهم مهانون، ولا تؤخذ الجزية إلا ممن عنده قدرة على دفعها، فالصبي لا تضرب عليه؛ وذلك لأنه لا يملك، وكذلك العبد المملوك ليس له ملك حتى يدفع منه، وكذلك المرأة فهي تابعة لزوجها أو لأبيها، وهكذا الفقير العاجز، وهكذا الراهب الذي ينفرد في صومعته للتعبد، فإنه غالباً لا يملك شيئاً، فمثل هؤلاء تسقط عنهم، وكذلك من يشبههم مثل الأعمى والزمن والشيخ الكبير.

    وأما الرهبان الذين يخالطون الناس، ويتخذون مساجد ومزارع فحكمهم كسائر النصارى، تؤخذ منهم الجزية، فتؤخذ من الرهبان، وتؤخذ من الأحبار الذين هم علماؤهم، وتؤخذ من التجار وما أشبههم، هذا حكمهم في الجزية.

    وجوب معاملة أهل الذمة بأحكام الإسلام

    يُلزم الإمام أخذ أهل الذمة بحكم الإسلام فيما يعتقدون تحريمه من نفس ومال وعرض وغيرها، فيعاملهم بأحكام الإسلام، ويلزمهم بها؛ لأنهم دخلوا تحت حكم الإسلام، فإذا حصل بينهم قتال فإننا نحكم عليهم بالقصاص كما نحكم به على المسلمين، وإذا سرق أحد منهم -ولو كانت سرقة من نصراني مثله- حكمنا بقطع يده، والزنا هم يعتقدون تحريمه؛ فيرجم من زنى منهم إذا ثبت الزنا منه، إما بالإقرار وإما بالشهود، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم اليهوديين اللذين زنيا، وكان اليهود -لما كثر فيهم الزنا- اصطلحوا على إسقاط الحد الذي هو الرجم، وتعويضه بالجلد والتحميم، وقالوا: إنه كثر في أشرافنا، فاصطلحنا على أن نجعل حداً يقام على الشريف والوضيع، وهو: أن يركب الزاني والزانية على برذون منكسين، ويحممون وجوههم، ويطوفون بهم في العشائر، فلما حصل الزنا منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: احكم فيهم، وقالوا: إن حكم فيهم بحد الزنا الذي هو الرجم لم نقبله، وإن حكم بالتحميم قبلناه وجعلناه حجة لنا عند الله؛ فأنزل الله تعالى فيهم قوله تعالى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42]، وقوله قبل ذلك: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا [المائدة:41] فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بالتوراة، فوجدوا فيها آية الرجم، فأمر أن يرجما.

    وقوله تعالى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42] ثم قال بعد ذلك: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] قيل: إن الآية الأخيرة منسوخة بالأولى، وأن الحاكم فيهم مخير بين الحكم وتركه، وهذا قول أكثر العلماء، أننا مخيرون أن نحكم بينهم أو أن نتركهم، وقيل: العكس: أن الأولى هي المنسوخة، والأخيرة هي المحكمة: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ).

    والحاصل أننا إذا حكمنا بينهم حكمنا بينهم بشرعنا، ولم نحكم بينهم بقوانينهم الوضعية، بل نختار الحكم الذي هو حكم الله تعالى في النفس كالقصاص، والعرض كالزنا، والمال كالسرقة، أي: إذا قتلوا اقتص منهم أو دفعت الدية كما في الحكم الإسلامي، وإذا زنى أحد منهم جلد إن كان بكراً، ورجم إن كان ثيباً، وكذلك نحكم بينهم في القذف كحكمنا فيما بيننا، وكذلك يحكم فيهم في المال بحكم السرقة والنهب والاختلاس وقطع الطريق وما أشبه ذلك.

    إلزام أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في العادة والهيئة والمعاملة

    أهل الذمة يقيمون فيما بين المسلمين، ولكن يؤخذ عليهم العهد أن يكونوا متميزين عن المسلمين، وقد كتب عليهم عمر رضي الله عنه كتاباً طويلاً لما تعهدوا له ببذل الجزية، وقد أورده ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة:29] في سورة التوبة، ورواه البيهقي في سننه الكبرى، وفيه التزامهم على أنفسهم بما يلي:

    أننا نلتزم على أنفسنا بألا نركب خيول المسلمين، وألا نلبس لباسهم، ولا نتشبه بهم، وبأن نتميز عنهم معاملاتنا وأعمالنا، وبأن نكون على حال لا يكون عليها المسلمون، وكذلك نتميز بشد أوساطنا بالزنار، وجز مقدم رءوسنا، أي: قص الناصية علامة عليهم.

    فكانوا يجعلون لهم علامة يتميزون بها على المسلمين، حتى إذا رآهم المسلمون عرفوا أنهم ليسوا مسلمين، فيعاملونهم المعاملة التي أمروا بها، فمن ذلك ألا يبدءون بالسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) وأمرنا إذا سلموا علينا أن نقول: وعليكم، ولا نقول: وعليكم السلام؛ وذلك لأنهم كانوا يقولون: السام عليكم. فأمرنا بأن نقول: وعليكم.

    ولو تحققنا أن النصراني يقول: السلام عليكم -ولا يقول: السام- فإننا نرد عليه فنقول: وعليكم السلام، أو نقول: وعليكم.

    ومعنى اضطرارهم إلى أضيق الطريق أنهم إذا دخلوا في الطريق وكان ضيقاً كان لهم حافة الطريق، وللمسلمين وسط الطريق؛ ليشعروا بأنهم أذلة، وهذا من جملة إذلالهم وإهانتهم.

    ومما يتميزون به أنهم لا يركبون الخيل، بل يركبون البراذين، والبرذون هو الخيل الذي ليس من أبوين عربيين، ويركبون البغال، والبغل: هو الذي أحد أبويه من الحمر، فيركبون الحمر، وهذا في الوقت الذي كانت الخيول تركب، وركوبها يعتبر زينة؛ لأن الخيل كانت تركب لأجل الزينة، فقد جعلها الله تعالى زينة قال سبحانه: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، ولكن إذا تعطلت كما في هذه الأزمنة، واستبدلت بمراكب جديدة فإنهم يتميزون في مراكبهم، كما أنهم يتميزون في عملهم.

    وقد ذكرنا أنهم كانوا يلزمون أن يقصوا مقدم الناصية حتى يعرف المسلم أن هذا ذمي، وكانوا يتميزون بأن يشدوا على أوساطهم الزنار الذي يعرفون به أنهم ليسوا من المسلمين، فكذلك في ركوب الخيل ونحوها، وهكذا يقال: إذا كانوا من أهل الذمة فلا يركبون السيارات الفارهة، بل يركبون سيارات دنيئة أو رخيصة أو نحو ذلك حتى يعرفوا بذلك، وقد كانوا يمنعون من استعمال السرج، وهو الذي يكون على الخيل ويركب عليه، فكانوا يركبون على الإكاف، وهي: البرذعة التي تبسط على ظهر البرذون أو نحوه لتقي الراكب، فيركبون ببرذعة بدون سرج.

    فيتميزون بهذه السمات حتى يكونوا مهانين أذلة، وهذا سبب تميزهم، فلأجل ذلك يقال لهم: لا تشبهوا بالمسلمين، بل تميزوا تميزاً ظاهراً.

    ولكن الواقع في هذه الأزمنة أن المسلمين هم الذين يتشبهون بهم، فصاروا يتميزون غالباً بحلق اللحى، وحلق اللحى كان ميزة لهم، وبالأخص للمجوس والفرنجة ونحوهم، أما دعاتهم وعبادهم فإنهم يرون أن اللحى من شعار المسلمين ولا يحلقونها، فجاء هؤلاء المتأخرون فحلقوها، وصار حلقها شعاراً لهم، وقلدهم الكثير من المسلمين، واعتقدوا أن هذا التشبه والتقليد رفعة ورقي وشرف! فهذا من المصائب، يعني: كونهم يقال لهم: لا تشبهوا بالمسلمين، ثم نرى أن المسلمين هم الذين يتشبهون بهم في هذا اللباس أو في هذه الأخلاق!

    وذكر العلماء أنه لا يجوز أن يحترم هؤلاء الذميون، بل يهانون، فلا يجوز أن يجلسوا في صدور المجلس، بل إذا دخلوا مجلساً فإن لهم أطرافه، ولا يكونون في وسط المجالس أو في صدورها؛ ليشعروا بالإهانة، ولا يجوز القيام لهم، وإذا قدم واحد منهم -ولو كان عالماً كما يسمونه أو مفكراً أو مخترعاً أو له مكانة- لا يجوز القيام له، ولا يجوز أن يبدءوا بالسلام لما ذكر من الأحاديث، ويمنعون من بناية معابدهم في بلاد الإسلام، فلا يبنون الكنائس ولا البيع ولا الصوامع التي يتعبد فيها رهبانهم، ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع ونحوها، وإذا انهدمت فلا يجددونها، وإذا كانت موجودة في وقت عقد الذمة فلا نهدمها، ولكن متى انهدمت فيما بعد ذلك فلا يجوز أن تجدد؛ وذلك لأنهم أصبحوا في بلاد قد استولى عليها المسلمون.

    ولا يرفعون مساكنهم فوق مساكن المسلمين، بل تكون مساكنهم منخفضة، إما مساوية لمباني المسلمين أو دونها.

    انتقاض عهد الذمي

    إذا تعدى الذمي على مسلم بضرب أو بقتل أو زنى بمسلمة أو نحو ذلك انتقض عهده، وقد وقع في عهد عمر رضي الله عنه أن ذمياً كان يسوق امرأة راكبة على حمار، ثم إنه تحين غفلة الناس فحاول أن يسقطها، فسقطت من الحمار، وحاول أن يفجر بها، حتى جاء من أنقذها، فقال عمر رضي الله عنه: ما على هذا عاهدناكم، فأمر بقتله؛ لأن هذا يعتبر نقضاً للعهد.

    وكذلك إذا قتل الذمي مسلماً أو مسلمة كما في حديث اليهودي الذي رض رأس جارية بين حجرين، فرض رأسه بين حجرين.

    كذلك إذا ذكر الله تعالى بسوء، كأن سب القرآن، أو سب الله تعالى، أو سب النبي صلى الله عليه وسلم، أو سب الإسلام، أو تنقص الإسلام تنقصاً ظاهراً، فلا شك أن هذا كله يعتبر اعتداءً ونقضاً للعهد، فينتقض عهده، فيخير الإمام فيه كما يخير في الأسير الحربي، فإما أن يجعله رقيقاً يسترقه، وإما أن يأسره ويكون أسيراً، وإما أن يقتله، والأسرى يخير فيهم الإمام، قال تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4] فإذا أُسر من الحربيين أسارى، أو من الذين انتقض عهدهم بمثل هذه الأعمال فماذا يفعل بهم؟

    يخير الإمام فيهم: فإما أن يقتلهم؛ وذلك لأنهم يعتبرون قد استحقوا القتل لنقضهم العهد أو بالاستيلاء عليهم لما غنم المسلمون أموالهم وأسروهم، سيما إذا كان لهم مكانة في قومهم، فله أن يقتلهم أو يفادي بهم أسرى المسلمين، فيرسل إلى الكفار فيقول: أطلقوا أسرانا ونطلق أسراكم، أو نعطيكم من الأسرى على أن تخلوا أسرانا، حتى ولو كان الأسرى من غيرهم، فقد يكون الأسرى الذي عند المسلمين من اليهود، وأسرى المسلمين عند النصارى، فيكون الفداء بمعنى: أن نعطيهم أسارى على أن يخلوا سبيل الأسارى الذين عندهم، أو تؤخذ الفدية التي هي فدية مال يبذلونه لفك أساراهم كما حصل من الفداء الذي دفعه كفار مكة في فداء أسراهم، يعني: أنه يخير فيهم بين أربعة أشياء:

    إما أن يفادي بهم أسارى المسلمين.

    وإما أن يسترقهم.

    وإما أن يمن عليهم.

    وإما أن يأخذ بدلهم مالاً.

    وقد ذكر الله بعض ذلك في قوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4].

    والذميون يبقون في بلاد المسلمين مراقبين، فإذا تشبهوا بالمسلمين فقد نقضوا العهد، وكذلك لو تركوا التميز عن المسلمين انتقض عهدهم، فإذا انتقض عهدهم حلت دماؤهم، وهل تحل دماء أولادهم ونسائهم؟

    الصحيح أنها لا تحل، روي أن رجلاً أسلم ثم ارتد، وبقيت زوجته لم ترتد، فلم يتعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرها، وحكم بقتل المرتد دون غيره.

    هذا آخر ما يتعلق بالجهاد، والبحث فيه طويل، ولكننا اقتصرنا على الذي ذكر في هذا المتن، وبه يتضح المقام إن شاء الله.

    1.   

    الأسئلة

    حديث (رباط يوم في سبيل الله..) لا ينطبق على طلب العلم

    السؤال: هل هذا الحديث: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ينطبق على طالب العلم الذي ترك أهله وماله وحضر عند العلماء لطلب العلم؟

    الجواب: الرباط إنما فضل لكونه في مكان مخوف، يتعرض فيه المرابط لقتل المشركين إذا جاءوا على حين غرة وغفلة، أو لأنه في حالة مرابطته قد ابتعد عن أهله، وكان في غاية من الشدة والضيق، وطلب العلم لا شك أنه عمل بر، وعمل صالح، ولكن ليس مثل الرباط، وطالب العلم له أجره حيث إنه رابط على هذا العمل، وهناك أدلة على ذلك، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة) وغير ذلك من الأدلة.

    الحالة التي يجوز فيها الهروب من العدو

    السؤال: ما حكم هروب كثير من المسلمين إذا دهمهم العدو في بلادهم؟

    الجواب: ذكر العلماء أنه لا يجوز الهروب من العدو إلا إذا كانوا أكثر من مثليهم، كان المسلمون مأمورين أن يقاتلوا عشرة أمثالهم كما في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:65] يعني: مثلهم عشر مرات، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا [الأنفال:65]، ثم خفف الله ذلك فقال: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال:66].

    فنقول: يجوز الهروب إذا كانوا أكثر من مثليهم، فإذا جاءهم العدو الذين عددهم عشرون ألفاً، والمسلمون مثلاً ثمانية آلاف أو سبعة آلاف، وهم لا يقدرون على مقاومتهم، أو كان عند العدو من الأسلحة الفتاكة ما ليس عند المسلمين؛ فإنهم يهربون طلباً للنجاة منهم، فأما إذا كانوا مثليهم، كأن كانوا -مثلاً- عشرين ألفاً والمسلمون عشرة آلاف، أو المسلمون أكثر من العشرة، فليس لهم حق في الهرب، بل يقاتلونهم ويستعينون بالله تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126].

    فرضية الجهاد على من يختص بمعرفة نوع السلاح

    السؤال: بعض العلماء يلحق حالة رابعة في فرض العين في الجهاد، وهو أنه إذا كان يوجد سلاح أو آلة لا يعرف استعماله إلا هو فيجب عليه الجهاد، هل هذا صحيح؟

    الجواب: إذا كان هذا السلاح الفتاك لا يعرفه إلا فلان، والمسلمون محتاجون إلى استعماله لحرب العدو، فإما أن يعلم غيره وإما أن يلزمه الخروج حتى يستعمله لأجل النكاية به في العدو.

    نصيحة لطالب العلم المبتدئ ببعض كتب الحديث

    السؤال: ما هي الكتب التي توصي بها طالب العلم المبتدئ في أبواب الحديث؟

    الجواب: كتب الحديث كثيرة، فنوصيه بمختصر الصحيحين الذي هو: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، وكذلك جامع الأصول الذي جمع ستة كتب: الصحيحين، وسنن أبي داود والترمذي، والنسائي، وموطأ مالك، ففيه الأحاديث التي في هذه الكتب، وإن كان ترتيبه فيه شيء من الغموض، لكن فيه فهارس تبينه، وكذلك منتقى الأخبار إذا كان يريد الحفظ وكذا بلوغ المرام، وكذلك الأدب المفرد للبخاري وما أشبهها من الكتب المفيدة.

    حكم تحديد الرباط بأربعين يوماً

    السؤال: قال المصنف: (الخروج أربعين يوماً وهو أكثره) هل هذا سنة أم يجوز الزيادة عن أربعين يوماً؟

    الجواب: المراد المرابطة، بمعنى أنه يقيم في هذا الثغر أربعين يوماً، هذه نهاية الرباط، وإن زاد فله ذلك، ولو أقام سنة أو سنوات؛ لأنه في جهاد؛ ولأنه يحمي المسلمين ويحرسهم وأجره عظيم، إذا كان: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) فكيف برباط أربعين يوماً أو مائة يوم أو أكثر أو أقل؟!

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756369526