إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [4]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن تعريف التأويل بأنه: صرف اللفظ من الحقيقة إلى المجاز لقرينة ليس له معنى يعرف لا في لسان العرب ولا في كلام الصحابة، فضلاً عن أن يكون مراداً في نصوص الكتاب والسنة. وما وقع فيه أهل الكلام وبعض طوائف المنتسبين إلى الإسلام من تأويل في أسماء الله وصفاته إنما هو نوع من التحريف؛ لأنه تأويل لها على غير المعنى الذي أراده الله تعالى.

    1.   

    التأويل ومعانيه

    قال المصنف رحمه الله: [من غير تحريف ولا تعطيل].

    عبَّر المصنف هنا بلفظ التحريف، ومراده التأويل؛ إذ لا توجد طائفة من طوائف المسلمين تُصرِّح بأن شيئاً من كتاب الله يقبل التحريف، أو أن ما تقوله في القرآن هو من باب التحريف، لا في باب الأسماء والصفات ولا في غيره، واللفظ المستعمل في هذا المراد هو لفظ التأويل، لكن المصنف لم يقل: من غير تأويل؛ لأن لفظ التأويل لم يرد في النصوص القرآنية والنبوية ولا حتى في كلام الصحابة مورد الذم، بل ذُكر مورداً فاضلاً مناسباً، فإن التأويل في كتاب الله أو في سنة نبيه إما أنه يقع على معنى الحقيقة التي يئول إليها الشيء، وإما أنه يقع على معنى التفسير.

    وإذا تحققت في النظر وجدت أن المعنى الأول والثاني مادتهما واحدة، فالكل تفسير: إما تفسير المعاني، وإما أن يكون الحقيقة التي يئول إليها الشيء.

    وعلى مثل هذا المعنى وذاك جرى الخلاف بين طائفة من السلف في الوقوف على قول الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ [آل عمران:7] فإنه إذا وقف هاهنا كان المراد الحقيقة التي تئول إليها الأشياء، وهذه الحقيقة التي يؤول إليها أمر الغيب اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها، وإذا كان الوقوف على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] كان التأويل هنا بمعنى التفسير، فإن تفسير القرآن يعلمه الراسخون في العلم.

    فهذا المعنى وذاك المعنى هو المستعمل في كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم للتأويل.

    وأما التأويل الذي قال فيه أصحابه ونظَّاره: أنه صرف اللفظ من الحقيقة إلى المجاز لقرينة؛ فإن هذا التأويل بهذا الحد ليس له معنى يعرف لا في لسان العرب ولا في كلام الصحابة؛ فضلاً عن أن يكون مراداً في نصوص الكتاب والسنة.

    فمراد المصنف هنا حين قال: (من غير تحريف)؛ أي: من غير تأويل، ولكنه لم يعبر بلفظ التأويل؛ لأن لفظ التأويل لم يرد مورد الذم في النصوص، وإنما الذي ذمه الله في كتابه هو التحريف الذي وقع فيه أهل الكتاب من قبل.

    فمن تأوَّل صفات الباري على غير معناها، وعلى غير موردها من جهة اللغة، فهو في نفس الأمر قد وقع في قدر من تحريف معاني الكتاب والسنة، ومن هنا ناسب أن يسمى المصنف هذه الطريقة المستعملة عند المتكلمين تحريفاً.

    وهذا التأويل هو مسألة نظرية بخلاف مسألة التعطيل؛ حين قال المصنف: (من غير تحريف ولا تعطيل)؛ فإن لفظ التعطيل ليس لفظاً نظرياً عند أصحابه.

    والتعطيل لفظ أطلقه السلف على طريقة الجهمية ومن شاركهم فيها من المعتزلة أو غيرهم، ومعناه: الخلو والفراغ، فهم لما نفوا صفات الباري عطَّلوا الباري عن كماله اللائق به.

    وهذا دارج في كلام أهل السنة من المتقدمين والمتأخرين؛ وهو أنهم يسمون نفي الصفات تعطيلاً؛ أي: تفريغاً عن الكمال.

    1.   

    قاعدة التأويل عند المبتدعة وسبب القول بها

    التأويل عند أهل البدع يراد به صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة.

    وهذه القاعدة وهي قاعدة التأويل -ويجب أن ندرك أنها قاعدة أكثر من كونها تعريفاً أو رسماً لاسم من الأسماء- من أخص قواعد المخالفين للسلف في باب الأسماء والصفات.

    فإن أول من أحدث نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى هم الجهمية، وشاركهم في هذا المعتزلة، وهم مادة واحدة في هذا الباب.

    لم يكن نفي القوم من أوائل النظَّار لصفات الباري ناشئاً عن نظر في كتاب الله سبحانه وتعالى، فحصَّلوا منه نفي الأسماء أو نفي الصفات أو نفي ما هو منهما؛ ولكن القوم يخالفونك في الجواب؛ بل هم يصرحون بأن النصوص لم تنطق بالنفي، وإنما نطقت بالإثبات، ولكنهم تأولوا نصوص الإثبات ولم يتأولوا نصوص النفي؛ فنصوص النفي كقوله: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49]ليس فيها نزاع بين أحد من المسلمين؛ فهي على ظاهرها أو على وجهها؛ إنما الذي هو مورد النزاع هو نصوص الإثبات.

    فهم إنما أرادوا إثبات المعتقد الذي يعتبرونه معتقداً للمسلمين؛ فاتخذوا هذه الطريقة المسماة بطريقة المتكلمين، وهذا يبين لنا مسألة مهمة؛ وهي أن الفرق بين أهل السنة والجماعة وبين سائر الطوائف ليس مبنياً على آحاد النصوص، بل هو مبني على الأصول أو ما يسمى بالمنهج.

    قد يقول قائل: لم اتخذوا طريقة علم الكلام وتركوا الطريقة التي عليها أئمة السنة والحديث؟

    فأقول: هذا لضعف فقههم في طريقة أهل السنة، ولسببٍ مهم آخر قد لا يكون مشهوراً، وهو أن القوم أرادوا تقريب هذه الطريقة إلى قوم من الزنادقة والفلاسفة الذين لا يدينون بالإسلام أصلاً، فأرادوا الرد عليهم بتقرير عقيدة المسلمين بنفس مادتهم .. وهذا هو أول إشكال وقعت فيه المعتزلة وأمثالها، وهو أنهم أرادوا إثبات معتقد المسلمين والرد على الفلاسفة بنفس مادة الفلاسفة التي سموها علم الكلام الذي نقول: إنه محصل من الفلسفة من جهة جوهره، وإن كان فيه قدر من الشريعة واللغة والعقل، فهذا القدر هو باعتبار تفريعه أو ما يتعلق بمسائله وبحوثه.

    فأرادوا ذكر معتقد المسلمين، فبدءوا بمسألة وجود الرب سبحانه وتعالى، فلما أراد القوم إثبات وجود الرب سبحانه وتعالى، قالوا: الدليل على وجوده هو وجود العالم، والعالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، وظنوا أن هذا هو قول الله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ [الطور:35] وثمة فرق بين دليلهم على إثبات وجود الرب سبحانه وتعالى وبين طريقة القرآن، فإن قول الله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ [الطور:35] ليس هو في مورد إثبات وجود الرب؛ فإن هذا بديهة؛ بل هو في مورد إثبات جملة من معاني الربوبية التي لم يحقق الإيمان بها جملة من المشركين .. فهنا فرق بيِّن.

    وبعد أن قال هؤلاء: إن الدليل على ثبوت وجوده هو حدوث العالم، أرادوا إثبات حدوث العالم، فإن منازعيهم من الفلاسفة يقولون: إن العالم قديم، فأراد هؤلاء إثبات حدوث العالم، فبم استدلوا على حدوث العالم؟

    هنا انقسموا إلى قسمين:

    - تعداد جهميتهم ومعتزلتهم قالوا: إن الدليل على حدوث العالم هو اتصافه بالصفات التي سموها الأعراض.

    - تعداد متكلمة الصفاتية منهم كـابن كلاب والأشعري والماتريدي : إن الدليل على حدوث العالم هو اتصافه بالحركة، وأنه لا يبقى على زمان واحد.

    فأثبتوا وجود الله بهذه الطريقة التي عليها جملة من الإشكالات:

    أولاً: أنها طريقة مُتكلَّفة.

    ثانياً: أنها استلزمت عندهم لوازم باطلة.

    ثم جاءوا إلى صفات الباري سبحانه وتعالى، فلم يمكن للجهمية والمعتزلة أن تثبت صفات الله على طريقتهم؛ لأن دليل حدوث العالم عندهم هو اتصافه بالصفات، فلزم أن يكون الرب على خلاف هذا العالم؛ فلو أثبتوا صفات الله -على زعمهم- لوصفوه بالحدوث، ومن هنا نفوا الصفات.

    ثم لما جاء الأشعري وترك الاعتزال وأعلن توبته منه، تمسك بأصل الاعتزال في باب الصفات، وقال: إن الدليل على حدوث العالم هي الأعراض والصفات، ولكن ليس جميعها، وإنما المتحرك منها، فالدليل على حدوث العالم: أنه متحرك ولا يبقى زماناً واحداً ثابتاً.

    وهذا مما يبين لك غلط من يقول بأن الأشعري رجع إلى معتقد أهل السنة، بل المسألة فيها تفصيل.

    فإن الأشعري -ومن قبله ابن كلاب - وكذلك قرينه -أعني: قرين الأشعري - الماتريدي ، التزموا نتيجة لهذه القاعدة نفي بعض الصفات، وهي كل صفة من صفات أفعال الرب المتعلقة بمشيئته وإرادته، ومن هنا نفى القوم من هؤلاء أو هؤلاء: إما سائر الصفات، وإما صفات الأفعال المتعلقة بالقدرة والمشيئة.

    ومن هنا وقع الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية والكلابية فيما يسمى عند أهل السنة بالتعطيل، وهو نفي الأسماء والصفات أو نفي الصفات أو نفي جملة من الصفات.

    وقد نفى أولئك القوم الصفات أو ما هو منها وهم لم ينظروا في دليل القرآن: أهو مثبت للصفات أم ناف لها.

    فلما نفوا الصفات على هذا الدليل الذي جعلوه مثبتاً لحدوث العالم -وهو ما يسمى عند القوم بدليل الأعراض- رجعوا إلى القرآن، فوجدت المعتزلة أن القرآن يثبت الصفات لله، ونتيجتهم التي يرون أنها لازمة لإثبات وجود الله تقول بالنفي، وكذلك لما رجع ابن كلاب والأشعري والماتريدي إلى القرآن وجدوا أن القرآن في أكثر من مائة موضع؛ كما يقول الرازي من الأشاعرة؛ يقول: (إن القرآن في أكثر من مائة موضع يثبت مسألة الحركة) أي: الأفعال المتعلقة بالقدرة والمشيئة.

    فوجد هؤلاء وهؤلاء أن القرآن خالف نتيجتهم العقلية.

    مما سبق يتبين أن القوم نفوا الصفات أو نفوا ما هو منها لا تفريعاً عن أدلة من القرآن؛ بل بناءً على أصل باطل ابتدعوه.

    ومن هنا كان خلاف هؤلاء في الصفات يختلف عن خلاف الخوارج ..، وذلك لأن الخوارج لما كفَّروا مرتكب الكبيرة استدلوا بقول الله تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192].. كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [السجدة:20] بخلاف هؤلاء، فليس عندهم على نفي الصفات أو ما هو منها أدلة مفصَّلة من القرآن؛ بل المعتبر عندهم دليل واحد، وهو ما يسمى بدليل الأعراض؛ وهو دليل ليس له أصل في الشرع ولا معنى في لغة العرب؛ إنما هو منقول من الفلسفة التي كان عليها جملة من الملاحدة اليونان، وهذا الدليل أنتج عند المعتزلة والجهمية وأمثالهم نفي الصفات، وأنتج عند ابن كلاب ومن وافقه كـالأشعري وأبي منصور الماتريدي نفي صفات الأفعال.

    فلما رجع القوم إلى كتاب الله .. وجدوه يخالف ما هم عليه، فأرادوا أن من تهمه مخالفتهم له؛ فأما السنة فإنهم يخرجون منها بمخارج كثيرة، من أخصها: جهلهم بالسنة؛ فإن كثيراً من النصوص لا يعرفونها، وحين نقول: جهلهم بالسنة؛ ليس من باب التجني عليهم، فإن عامة أهل الكلام من أجهل الناس بالسنن والآثار، وفيهم جهل واسع بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن آثار الصحابة.

    ثم ما يثبتونه من السنة يخرجونه على مورد الظن وأنه من باب الآحاد، وأنه لا يحتج بالآحاد في العقائد... إلخ.

    ولكن لما نظروا القرآن وجدوا أن للقرآن تفصيلاً على خلاف طريقتهم؛ فرجعوا إلى لغة العرب؛ فحصَّلوا من لغة العرب نظريةً زعموها أصلاً في اللغة وهي محدثة، وإن شئت فقل على سبيل التنزل: إنها بدعة في اللغة، فكما أنك تقول: إن هذه بدعة في الشرع، فهذه بدعة في اللغة، ذلك هو ما زعموه بأن اللغة منقسمة إلى حقيقة ومجاز، فاستدعوا مسألة الحقيقة والمجاز ليبنوا عليها قانون التأويل الذي يقول: صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة.

    وصرف نصوص الصفات عن ظاهرها إلى معاني لا يشترط عندهم فيها إلا شرط واحد، وهو أن يكون المعنى الذي صُرف اللفظ إليه لا يتعارض مع مذهبهم.

    لقد وجدوا أن الله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه الصفات على التفصيل في كتابه، فأرادوا بمسألة التأويل أن ينفوا إثبات القرآن للصفات، وأن يجعلوا القرآن غير معارض لطريقتهم التي نفوا بها الصفات أو ما هو منها، فقالوا: إن سائر ما أثبته القرآن من الصفات والأفعال، فإنه يؤوَّل؛ بمعنى: يُصرف من الحقيقة إلى معنىً مجازي.

    فقوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] مشكل على طريقة القوم؛ لأنهم يقولون: إن الله لا يتصف بفعل، وهذا متفق عليه بين الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم؛ لأن العالم يتصف بالفعل.

    فهم لذلك يلجئون إلى التأويل بأن يقولوا: إن المقصود جاء ملك، فإذا كان المجيء متعلقاً بملك، فإن هذا لا يعارض قاعدتهم في نفي الصفات؛ لأن الملك جزء من العالم المخلوق، والعالم المخلوق يتصف بالأفعال؛ فهذا هو معنى التأويل عندهم؛ صرف الألفاظ التي ملئ القرآن بذكرها عن ظاهرها إلى معاني لا تتعارض مع ما أصلوه.

    وهذا يبين لنا أن القوم لم يستعملوا لغة العرب لفهم القرآن بها عند تقريرهم للمذهب -أي: لمذهبهم-، بل كان ذلك لدرء معارضة القرآن لمذهبهم.

    إذاً: هم وضعوا المذهب كاملاً بعيداً عن لغة العرب، وبعيداً عن دلالة القرآن والسنة!

    وهذا يكفي المسلمين خاصةً وعامةً دليلاً على فساد هذه الطريقة، وأنها طريقة مخترعة مخالفة لطريقة الرسل، وأن طريقة نفي الصفات تخالف حتى طريقة أهل البدع الأخرى كالمرجئة والخوارج؛ فإن هؤلاء على ما فيهم بنوا كثيراً من أقوالهم على مفصل من القرآن فهموه غلطاً؛ بخلاف هؤلاء؛ فإنهم بنوا المذهب كاملاً خارجاً عن اللغة؛ فإن دليل الأعراض ليس مبنياً على ذوق العرب، فالعرض في لغة العرب معناه شيء ومعناه عند المتكلمين شيء آخر، والجوهر عند العرب معناه شيء ومعناه عند المتكلمين شيء آخر... إلخ.

    فهو دليل غير مبني على اللغة ولا على النصوص، إنما هو منقول من الفلسفة.

    ولكن لما تحصَّل مذهبهم، ووجدوا القرآن معارضاً له تفصيلاً وإجمالاً، جاءوا إلى لغة العرب، فحصلوا منها طريقة، وهي الطريقة التي سموها التأويل، وهي لا تفيد أن القرآن يوافقهم، بل قصاراها أنها تفيد أن القرآن لا يعارضهم.

    ولو صححنا هذه الطريقة من باب الجدل فإنها لا تفيد القوم، لأن عليها اعتراضات، ومن أخص هذه الاعتراضات: أن التوحيد اللائق بالله لا بد أن يكون مذكوراً في القرآن، وحسب طريقتهم فهو لا يهملها فقط؛ بل يعارضها بما لا بد من تأويله.

    نقول: هذه الطريقة التي سموها التأويل غرضهم منها بيان أن القرآن لا يعارضهم؛ فغرضهم تحصيل عدم المعارضة فقط؛ لأنهم مسلمون يؤمنون بصدق القرآن وقدسيته، ولو قالوا: إن القرآن يعارضهم بالتصريح لكفروا بالقرآن وكذبوا به.

    فأرادوا من هذه الطريقة تحصيل عدم معارضة القرآن لطريقتهم فقط، فمثلاً: قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]لا يعارض طريقتهم؛ لأن المقصود: جاء ملك من الملائكة.

    وعلى ذلك: لا يكون في القرآن ذكر لتوحيد الأسماء والصفات على ما يليق بالله، ويكون توحيد الأسماء والصفات إنما عرف من علم الكلام؛ ولهذا يذكر شيخ الإسلام رحمه الله -كما في الحموية- أننا لو صححنا طريقة المتكلمين كلها للزم منها لوازم غاية في الفساد، من أخصها: أن القرآن لم يذكر توحيد الصفات على ما يليق بالله؛ بل ذكره على وجه مخالف للحق يحتاج إلى التأويل.

    ويعلم المتكلمون أن القرآن لو ترك بدون تأويل عارض طريقتهم التي يعتقدون أنها حق.

    فإذا كانت طريقتهم حقاً، فإن هذا الذي عارضها يلزم أن يكون ظاهره باطلاً؛ فيحتاج هذا الباطل إلى التأويل، فأقل ما في هذه الطريقة من الفساد أن يكون ظاهر القرآن ابتداءً باطل، ولازم هذه الطريقة أن القرآن لم يذكر التوحيد اللائق بالله وبذاته وأسمائه وصفاته، وكفى هذا فساداً لهم.

    1.   

    فساد التأويل الذي حرف به المبتدعة النصوص شرعاً وعقلاً ولغة

    ذكر المبتدعة للتأويل حداً قالوا فيه: التأويل هو صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة .. فنقول: هذا الحد للتأويل فاسد شرعاً وعقلاً ولغةً.

    فساد التأويل شرعاً

    أما فساده الشرعي فباعتبار كونه بدعةً لم تذكر في كلام الله ورسوله ولا في كلام الصحابة، ولو كان القرآن يفقه بهذه الطريقة في مورد الأحكام أو في مورد الأخبار، للزم أن يشير الصحابة رضي الله عنهم أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن نفسه إلى هذه الطريقة، فهذه الطريقة مخالفة للشرع باعتبار كونها بدعة.

    فإن قالوا: إن التأويل مذكور في القرآن.

    قلنا: الذي ذكر في القرآن ليس على هذا المعنى؛ بل على معنى التفسير أو على معنى الحقيقة التي يئول إليها الشيء.

    فساد التأويل عقلاً

    وهو فاسد من جهة العقل من أوجه؛ من أخصها: أن أصحابه قالوا: إن التأويل هو صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة.

    فنقول لهم: النص بذاته هل يفيد الحق، أم أنه يفيد الباطل، أم أنه لا يفيد هذا ولا هذا؟

    فإن قالوا: إن النص بذاته يفيد الحق الذي يزعمونه هم حقاً، قلنا: إذاً لا نحتاج إلى شيء يقال له: صرف ودليل وقرينة.

    وإن قالوا: إنه لا يفيد حقاً ولا باطلاً. قيل: هذا ممتنع؛ لأن القرآن قد نزل القوم يعرفونه وهم عرب، فلا بد أن يفهموا عنه معنى؛ إما أن يكون هذا المعنى حقاً وإما أن يكون باطلاً.

    أما كون الآية لا يفهم منها لا الحق ولا الباطل، فهذا ممتنع.

    إذاً: النص بذاته قبل مسألة القرينة والصارف وغير ذلك إما أن يفهم عنه حق وإما أن يفهم عنه الباطل، فإن فهم عنه الحق فإنه لا يحتاج إلى تأويل، ونبقى على طريقة أهل السنة.

    بقي عند القوم أن يقولوا: إن النص بذاته من حيث هو لا يفهم عنه إلا الباطل الذي لا يليق بالله، وهو النقص، وتنقيص الباري كفر به، فاستقر اللازم العقلي على أن النصوص عند القوم لا يفهم منها إلا الباطل.

    وكون نصوص القرآن المقدس الذي هو كلام الله لا يفهم منه إلا الباطل ممتنع عقلاً، فلنا أن نقف على هذا الجواب، ونقول: إنه يمتنع عقلاً أن تقول: إني أومن بهذا القرآن، وأنه من عند الله، وأنه محفوظ من الغلط، ثم تأتي وتقول: إنه لا يفهم عنه إلا الباطل؛ فهذا تناقض في العقل.

    ولكنا نزيد التقرير العقلي إضافة ونقول: وإذا كان النص لا يفهم عنه إلا باطلاً؛ فإن الحق إذاً تحصَّل بالدليل الصارف، فقد صار الدليل الذي يسمونه قرينة ليس مجرد قرينة أو صارف، وإنما هو محصل تام للحق.

    إذاً يكون النص ليس له مورد في الحق لا باعتبار ذاته ولا باعتبار تأثير الدليل الصارف عنه؛ بمعنى: أن القوم لو قالوا: إن النص بذاته لا يفهم عنه إلا باطل، ولكنا نفهم الحق عن النص إذا قارنه الدليل، نقول: الجواب العقلي هنا أن الحق الذي زعمتم عرف من جهة الصارف وحده؛ فإذاً ما كان ينبغي لكم أن تطيلوا هذه المسألة؛ وتقولوا: إننا فهمنا من النص كذا، فمثلاً: قول الله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]إذا صرف بقولكم: جاء ملك من الملائكة، لم يكن له أثر على تقريركم للتوحيد إيجاباً، وكان مجرد فعل من أفعال المخلوقين كسائر أفعالهم، وهم يستدلون بقيام الناس وقعودهم على نفي الصفات من هذا الوجه؛ فيكون قولهم في مثل قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]على هذه الطريقة.

    فساد التأويل من جهة اللغة

    فساد التأويل من جهة لغة العرب مسألة أشكلت على كثير من المتأخرين وترددوا فيها.

    والتحقيق: أن التأويل -الذي يعرفه أصحابه بقولهم: صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لقرينة- فاسد من جهة لغة العرب .. لأن هذا الحد مبني على فرض لغوي، إذا صح هذا الفرض اللغوي أمكن صحة هذا التأويل من جهة اللغة، وإذا بطل هذا الفرض اللغوي بطل هذا الحد للتأويل من جهة اللغة.

    هذا الفرض اللغوي هو أن لغة العرب على زعم هؤلاء تنقسم إلى حقيقة ومجاز. فنقف مع مسألة الحقيقة والمجاز.

    مسألة الحقيقة والمجاز

    أولاً: حتى لا يرى في كلام شيخ الإسلام ، أو حتى في كلام ابن القيم ؛ وإن كان ابن القيم تارة يخلط بعض المعاني مع بعض، ولكن باعتبار كلام شيخ الإسلام رحمه الله، ولا بأس أن أقول هذه الكلمة ليس من باب الطعن على ابن القيم رحمه الله، ولكن بعض الذين ردَّوا على الشيخين -أعني: ابن القيم وابن تيمية رحمهم الله- في المسألة تتبعوا كلامهم فوجدوا أن ابن القيم رحمه الله يستعمل الإقرار لمسألة الحقيقة والمجاز كثيراً في كلامه، ومن هنا قال قوم من المتتبعين: إنه تناقض؛ فهو ينفي الحقيقة والمجاز تبعاً لشيخه، ولكنه يطبقها في كلامه، ويصرِّح بمسألة الحقيقة والمجاز كثيراً.

    والتحقيق أن أكثر ما أثبته الإمام ابن القيم حين يذكر الحقيقة والمجاز هو من باب التقسيم اللفظي، ولكنه أحياناً قد يُدخل عليها شيئاً من الأثر المتعلق بمعاني الألفاظ، وليس بمجرد صورها اللفظية.

    أما فيما يتعلق بـشيخ الإسلام فإن منهجه في هذه دقيق، وشيخ الإسلام له كلمات أحب أن تكون مقدمة بين يدي الجواب عن مسألة الحقيقة والمجاز، فهو يقول: (مسألة الحقيقة والمجاز إما أن يُنظر فيها باعتبار كونها من عوارض الألفاظ، فهذا اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح، وإما أن يُنظر فيها باعتبار كونها من عوارض المعاني، فهذا هو القدر الذي ينازع فيه أرباب النظر من المعتزلة وغيرهم).

    إذاً: القدر المنكر عند شيخ الإسلام في مسألة الحقيقة والمجاز ليس هو صورها اللفظية، أو مصطلحها اللفظي؛ ففي قوله تعالى: وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ [يوسف:82] لك أن تقول: إن هذا من المجاز اللغوي، باعتبار أن المقصود: سل أهل القرية.

    فتسمية ما يقع من هذا النوع مجازاً هو اصطلاح، كما أن المصطلحين سموا الفاعل والمفعول والحال والتمييز .. إلى غير ذلك.

    وإنكار شيخ الإسلام لذلك هو باعتبار كون هذا التقسيم من عوارض معاني اللغة، وهذا هو مراد المتكلمين في تقريرهم.

    فنقول: إن هذه النظرية نظرية الحقيقة والمجاز- لا تصح لغةً، بل هي ممتنعة من جهة اللغة، وامتناعها حين تتأمل تعريف المتكلمين للحقيقة والمجاز، فقد قالوا: إن الحقيقة هو اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له.

    هذا التعريف للحقيقة والمجاز تضمن ذكر الوضع وذكر الاستعمال، وكأن بين الوضع والاستعمال اختلافاً، فإذا قرأت تعريف المجاز تبين لك أن هؤلاء يفرقون بين وضع اللغة وبين استعمالها ..

    فهم يفرضون أن ثمة فرقاً بين وضع اللغة وبين استعمالها، والسؤال هنا: من الواضع للغة؟ ومن المستعمل؟

    السؤال الثاني: أيهما أسبق الوضع، أو الاستعمال؟

    السؤال الثالث: ما مثال الوضع في اللغة؟ وما مثال الاستعمال؟

    هذه سؤالات ترد على النظرية وتشكل عليها، فيتبين أنها فاسدة من جهة اللغة.

    السؤال الأول: ما الفرق بين الوضع وبين الاستعمال؟

    السؤال ليس له جواب محصِّل لنتيجة؛ فإذا قالوا: إن الواضع للغة هم العرب، وإن المستعمل للغة هم العرب؛ قلنا: لا يمكن أن يحصل فرق في الخارج بين الوضع وبين الاستعمال؛ فما الذي يجعل هذا النطق العربي وضعاً، وذلك النطق العربي الآخر استعمالاً؟!

    ومن هنا احتاج القوم -ولا سيما منظِّري المعتزلة من أهل اللغة- إلى البحث في مبدأ اللغات، ومن أين جاءت اللغة.

    ففي كتب أصول الفقه -ناهيك عن كتب علم الكلام وبعض كتب اللغة- نجد بحثاً في مسألة مبدأ اللغة، فقيل: إنها من آدم، وقيل: إنها من تعليم الله لآدم، وقيل: إنها من تعليم الملائكة، وقيل: إنها من الجن.

    وسائر هذه الأقوال غاية ما يقال فيها: أنها أقوال ممكنة، لكن يمتنع الجزم بواحد منها.

    وقول الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ [البقرة:31]نؤمن به على وجهه، لكن تسلسل اللغات وكيف تحصلت هو أوسع مما يدل عليه قول الله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31].

    وقد يقال: إن الاستعمال هو استعمال العرب، وعلى الترتيب الزماني: الوضع يسبق الاستعمال؛ فالوضع هو الأول ثم جاء الاستعمال؛ وغاية ذلك أن الاستعمال معلوم وهو استعمال العرب، أما الوضع فهو مجهول، ولا يمكن أن يبنى المعلوم على المجهول؛ فإن المجهول لا يفيد بذاته؛ فمن باب أولى ألا يكون مفيداً لغيره.

    وإذا تتبعت كلام محققي المعتزلة -وهم أئمة النظر في هذا الباب- وجدت أنهم يقولون: إن الوضع هو الكلمة المفردة، وإن الاستعمال هو الكلمة المركبة، بمعنى أنك تقول: اللفظة كاليد -مثلاً- هي التي يسمونها وضعاً، والمركب يسمونه استعمالاً، فهم حتى لا يلتزموا مسألة القدم التاريخي التي لا يستطيعون اكتشافها، قال بعض محققيهم: إن المسألة ليست مبنية على التعاقب التاريخي، إنما هي مبنية على أننا نريد بالاستعمال الجمل المركبة كقولك: جاء زيد، فهذا يسمونه استعمالاً، وأما كلمة: (زيد) أو كلمة (جاء) فيسمونها وضعاً.

    فيقال لهم: إن هذا أيضاً من باب الممتنع تحصيلاً؛ لأنه لا يعقل أن عربياً يقول: يد، ويسكت؛ بل لا يوجد في لسان بني آدم لا من العرب ولا من غيرهم كلام على هذه الطريقة.

    فهذا تكلف على اللغة، لا حقيقة له في الخارج؛ لأنه لا أحد ينطق بلسان لا عربي ولا غير عربي إلا وهو يتكلم بجملة، ولا يعقل أن أحداً يتكلم بلفظ مفرد، إلا في حالة واحدة: إذا قال حرفاً مفرداً، سواء كان اسماً أو فعلاً أو صفة؛ لأن بقية الجملة معلوم تقديراً؛ فإذا قيل له: كيف زيد؟ قال: حسن. فإنه قال: حسن؛ ولكن التقدير: زيد حسن، وحَذْفُ ما يعلم جائز باتفاق ألسنة بني آدم، ولا أحد ينازع في هذه البديهة العرفية، فعند بني آدم كلهم أن المعلوم من الكلام يحذف، وهذا ليس خاصاً بلغة العرب، بل هو في كل لغات بني آدم.

    إذاً: على هذه الطريقة لا يوجد لغة إلا استعمالاً، ولا يوجد لغة تسمى وضعاً.

    وقال بعض محققيهم لإثبات الوضع: إننا إذا نظرنا اللغة وجدنا أن العرب تقول: اليد، وتريد بها الجارحة، وتقول: اليد، وتريد بها في سياق آخر النعمة، والجواب عن هذا ليس مشكلاً، فنقول لهم: ما المانع عقلاً ولغةً أن يراد بهذا اللفظ أكثر من معنى، والسياق نفسه هو الذي يحدد واحداً من هذه المعاني.

    فإن قالوا: إن اللفظ الواحد لا يكون إلا لمعنىً واحد، ولا يكون لبقية المعاني، قيل: هذا تحكم على اللغة، فإن اللفظ الواحد يمكن عقلاً ولغةً أن يدل على أكثر من معنى؛ أما عقلاً فإن العقل لا يمنع ذلك، وأما لغةً فإن العرب إذا تأملت كلامها وجدت أنها تستعمل الحرف الواحد أو الكلمة المفردة الواحدة في أكثر من سياق، وفي كل سياق تدل على معنى.

    فإن قالوا: الدليل على أن هذه اللفظة تستعمل في معنىً واحد كحقيقة وفي البقية كمجاز، أن اللفظ إذا أطلق تبادر منه معنىً أخص، فإذا قيل: يد، لا تتبادر النعمة، وإنما تتبادر اليد الجارحة، قيل: إن اليد إذا أطلقت فالتحقيق العقلي يقول: إنه لا يتبادر أي معنى منها، فالعقل لا يعين لها معنى لكونها لفظاً مجرداً، ثم لو سُلِّم جدلاً أن الذهن يتبادر إليه ابتداءً -إذا قيل: يد اليد الجارحة- فهذا باعتبار أن استعمال هذا اللفظ بهذا المعنى هو الأكثر في اللغة، فلكثرته ولشيوعه صار هو المتبادر، والكثرة والقلة ليست ميزاناً لمسألة: وضع اللفظ لهذا المعنى أو ذاك.

    وما المانع أن لفظ (اليد) وضع في اللغة لأكثر من معنى، فاللغة لا تمنع ذلك، والعقل لا يمنع ذلك.

    إن قالوا: إذا كان وضع لأكثر من معنى فما الذي يحدده؟

    نقول: الذي يحدده السياق، ولن نحتاج عندها إلى دليل صارف؛ فإن اللفظ إذا وضع لمعاني مختلفة، فإن السياق نفسه يستلزم تحديد واحد من المعاني، قد يكون المعنى المحدد هو الشائع كاليد الجارحة، وقد يكون غيره.

    فحين قال عروة بن مسعود لـأبي بكر : (لولا يد لم أجزك بها لأجبتك). ما تبادر إلى ذهن أحد ممن سمعوا هذه الكلمة أو قرءوها أن عروة يقصد اليد الجارحة التي يزعم القوم أنها هي الحقيقة في لفظ اليد، وهي الأكثر استعمالاً، بل إن حَمْلَ كلام عروة بن مسعود على اليد الجارحة حمل ممتنع؛ بمعنى أن تفسير الكلام به ممتنع.

    ولهذا يمتنع أن كلاماً عربياً يقبل أكثر من معنى مختلف إلا لأحد موجبين: إما أن يكون الناظر فيه ليس عنده كمال في تحقيقه؛ فربما تردد في أكثر من معنى، وإما أن يكون المتكلم بهذا السياق لم يذكره فصيحاً بيِّناً، ومعلوم أن القرآن يمتنع أن يقال فيه: إنه ليس فصيحاً بيِّناً، ويمتنع أن يقال: إن المسلمين عجزوا عن فهم كلام الله على معنىً مناسب؛ لأنه إذا كان كذلك، فإن الكلام بذاته لا يكون بيِّناً.

    وأصل نظرية المجاز والحقيقة باعتبار كونها من عوارض المعاني من المعتزلة، وأما باعتبار كونها من عوارض الألفاظ، فهذا استعمله قوم كـأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي عبيدة معمر بن مثنى ، واستعمله الإمام أحمد وجملة من الناس، وهذا -كما أسلفت- اصطلاح، وهم يريدون بقولهم: (مجاز اللغة) ما تجوزه اللغة وتأذن به، أما باعتبار كونها من عوارض المعاني فهو منطق اعتزالي أُدخل على اللغة.

    ومن هنا يتبين أن هذه مسألة مفتاتة على اللغة، فإذا قال: فما يقول القوم فيه أنه حقيقة ومجاز ما حقيقته في اللغة؟

    أقول: إن عامة ما قال أصحاب نظرية الحقيقة والمجاز باعتبارها من عوارض المعاني أنه من باب المجاز هو في اللغة لا يخرج عن نوعين:

    النوع الأول: لفظ مشترك اسُتعمل في غير معنى باعتبار تعدد السياق، كلفظ اليد؛ فإنه وضع لأكثر من معنى، وكلفظ العين وضع لأكثر من معنى .. وهلم جراً.

    وقد يكون هذا اللفظ له ثلاثة من المعاني هو في أحدها أظهر، وقد يكون متساوياً بين المعاني.

    فأحياناً قد يكون الاشتراك اشتراكاً محضاً يستلزم قدراً من التساوي في المعاني، وقد يكون اللفظ في أحد المعاني أظهر.

    إذاً: القسم الأول مما قال القوم فيه أنه من باب المجاز هو ألفاظ من جهة كونها مفردةً مقطوعةً عن التركيب تحتمل في اللغة أكثر من معنى، ولكن إذا جاء السياق قطع هذا التردد والاحتمال ضرورةً.

    ونحن نعلم أن القول في عقيدة المسلمين ليس مبنياً على ألفاظ مجردة، وإنما هو مبني على جمل ومعانٍ مركبة، وعليه: فآيات القرآن الواردة في الأفعال والصفات ليست مشكلة، حتى لو فرض أن اللفظ الذي ذكر فيه اشتراك، ففي قوله سبحانه وتعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]إذا قال قائل: إن لفظ اليد تُستعمل في اللغة في أكثر من معنى. قلنا له: لنا عن هذا جوابان:

    أولاً: أنتم تقولون: إنها حقيقة في الصفة، فإذاً ينبغي ابتداءً أن تحمل على حقيقتها.

    ثانياً: أننا نحقق أنه يمتنع من السياق نفسه أن تحمل على غير ذلك؛ لأن اليد هنا جاءت مثناة ومضافة إلى الله، والعرب لا يمكن أن تستعمل اليد بمعنى النعمة على طريقة التثنية المضافة.

    ولهذا إذا أردنا أن نرد على القوم فإننا نعتبر السياقات، وهذه قاعدة مهمة.

    وقد يقول قائل من المخالفين: إن الدليل على تفسيرها بالقدرة أو بالنعمة قول عروة بن مسعود لـأبي بكر . فنقول: هات من لغة العرب سياقاً كسياق القرآن، فيه تثنية اليد مضافة إلى معيِّن، أريد باليد فيه النعمة أو القدرة أو ما إلى ذلك من المعاني التي تخرج عن الصفة.

    النوع الثاني: مما سماه القوم مجازاً وأشكلوا به على اللغة وعلى الاستعمال والوضع أسهل من الأول، وهو سياقات في لغة العرب، بل وفي القرآن نفسه، وغاية ما فيها أن فيها حذفاً لما هو معلوم، قال الله تعالى: وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]لو كان السياق القرآني (واسأل أهل القرية) سيقولون: هذا حقيقة، فلما جاء السياق: وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]قالوا: هذا مجاز. لماذا مجاز؟ قالوا: لأن المسئول القرية، والجمادات لا تسأل، إنما يسأل العقلاء.

    نقول: هذا من باب حذف المعلوم، وحذف المعلوم كذكره، فإن المقصود من الألسنة الآدمية كلها عقل المعاني، فإذا ما تيسر عقل المعاني بإيجاز، فإن هذا أنسب للمخاطب وأكثر دلالة له، وحذف ما يعلم جائز في كل لغات بني آدم، فهذا الحذف أو الاختصار موجود في كل اللغات الفصيحة أو الملفقة أو المركبة أو المخترعة أو حتى اللغات العلمية المستحدثة كمصطلحات العلوم؛ فمسألة الاختصار للمعلوم بديهة عند العقلاء أجمعين.

    وقسم واسع مما قال القوم فيه أنه مجاز؛ هو من باب حذف المعلوم، وحذف المعلوم كذكره، فإذا قالوا: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]كقوله: وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]التقدير: وجاء ملك .. قيل: كلا، هناك فرق بيِّن .. لأن قول الله تعالى: وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]جميع المخاطبين من المسلمين والكفار يعلمون أن المراد واسأل أهل القرية، لكن قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]ما الدليل على أن المقصود ملك؟ القاعدة تقول: وحذف ما يُعلم جائز؛ والملك هنا غير معلوم عند سائر المخاطبين، والدليل على أنه ليس معلوماً أنه يمكن أن يفرض أن المحذوف شيء آخر؛ فإنه لو قال معتزلي: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]وجاء ملك، فجاء صاحبه الآخر وقال: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22]وجاءت رحمته، وقال ثالث: وجاء جبريل، وجاء رابع: وجاءت الملائكة، وجاء خامس: وجاء أمره ..، فإن المعاني المحذوفة تكون مختلفة، لكن إذا قيل: كيف زيد؟ فقلت: حسن، فإن المحذوف معلوم، والتقدير: زيد حسن، لا أحد يتوقع إذا قيل لك: كيف زيد؟ فقلت: حسن، أنك تريد عمراً.

    فنقول: الدليل على أن ما أضيف إلى الباري من الصفات والأفعال يمتنع أن يقال: إنه من باب حذف المضاف، أن العرب لا تحذف المضاف إلا إذا كان معلوماً علماً قطعياً لسائر المخاطبين، أما المحذوف هنا فإن العلم به ممتنع، والدليل على امتناعه: أنه يمكن أن يُقَدَّر بأكثر من معنى.

    فإذا قيل في قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] أن المراد به: جاء جبريل، كان هذا من باب الرجم بالغيب.

    فإذا قيل: إن مجيء جبريل ممكن، نقول: نعم ممكن، ولكن ما الذي أدراك أن المقصود جبريل؟! لعله ملك مختص بهذا المجيء، لعله أمره، لعله رحمته، لعله جملة من الملائكة.

    فلما كان المحذوف يمتنع العلم به دل هذا على أن الله سبحانه وتعالى أراد من الخطاب الظاهر؛ لأن الخطاب لا بد له من معنى، فلما كان المعنى المجازي ممتنعاً عرف أن الحقيقة هي المرادة، هذا لو سلمنا بالحقيقة والمجاز.

    وقد وقفنا كثيراً عند هذا المعنى؛ لنفقه كيف نفى القوم الصفات، وأنه فرع عن عقلهم الفلسفي وليس فرعاً عن النصوص، وكيف ردوا على النصوص بما سموه تأويلاً، ولنعرف أن التأويل فاسد من اللغة والعقل والشرع، وهذا مما لا بد لطالب العلم الناظر أن يحصله، وبه يتبين صدق مذهب أهل السنة والجماعة، وأنه مبني على العقل، ومبني على اللغة، ومبني على الشرع، وأن المخالفين لا حصلوا عقلاً ولا لغةً ولا شرعاً.

    1.   

    تنزيه الله سبحانه عن التمثيل والتكييف

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى كمثل شيء وهو السميع البصير] .

    أراد المصنف بقوله: (ومن غير تكييف ولا تمثيل).

    درأ مسألة التشبيه عن مذهب أهل السنة والجماعة، فإن الإثبات عندهم مبني على الاختصاص، ومعنى ذلك: أن إثبات الأسماء والصفات يختص بالله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال المصنف: (من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل).

    التكييف والتمثيل والفرق بينهما

    التكييف: هو ذكر كيفية لصفة من الصفات، فإن كل كيفية يذكرها ذاكر أو يتخيلها متخيل، فإن الله سبحانه وتعالى منزه عنها.

    والتمثيل: هو ذكر مثال للصفة.

    والتكييف والتمثيل كلاهما على معنى التشبيه.

    فإن قيل: فما الفرق بينهما؟ قيل: الفرق من جهة أن التكييف هو حكاية كيفية للصفة، ولو لم تكن هذه الكيفية على مثال سابق، وأما التمثيل فإن فيه قدراً من القياس بين شيئين؛ إذ هو ذكر مثال للصفة.

    ثم قال: [بل يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]] .

    ومن هنا يتحصل -كما سيقرر المصنف فيما بعد- أن مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وسط بين التعطيل وبين التشبيه والتمثيل، وإذ قد تبين أن التعطيل فرع عن دليل العقل الذي زعمه أصحابه كذلك، وإلا فهو في الحقيقة ليس من حكم العقل وقضائه، فإن التشبيه والتمثيل مذهب لقومٍ من المتكلمين، وهو فرع عن الدليل نفسه كما سيأتي.

    [بل يؤمنون بأن الله سبحانه تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]] .

    قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]هذه جملة من كتاب الله، وقد اتفق المسلمون على إمضائها، ولا أحد من طوائف المسلمين يعارض في شأن هذه الجملة ودلالتها، ولهذا تُعد هذه الجملة من الجمل التي تذكرها سائر الطوائف في ذكر توحيد الصفات، فأما النفاة للصفات أو لما هو منها، فلا شك أنهم يذكرون هذه الجملة ومعناها؛ إذ ينصرون مذهبهم بما يظنونه مناسباً. وأهل السنة والجماعة يذكرون أن مذهبهم وسط بين التعطيل والتمثيل، فيقولون: إن الله ليس كمثله شيء مع إثبات الأسماء والصفات له.

    فإن قيل: فالمشبهة هل يؤمنون بهذه الجملة من كتاب الله؟ قيل: الجواب: نعم، فإن من وصفوا بأنهم مشبهة من الطوائف ليس أحد منهم يذهب إلى أن الباري سبحانه وتعالى مماثل مماثلة مطلقة للمخلوقين أو لشيء من المحدثات والممكنات، بل هذا مذهب لم يقل به أحد من المنتسبين إلى قبلة المسلمين، صحيح أن مذهب التشبيه والتجسيم عرف عن قوم من متقدمي الشيعة الإمامية كـهشام بن الحكم وهشام بن سالم وداود الجواربي وأمثال هؤلاء، وعُرف ذكر التجسيم فيما بعد عن جملة من متأخري الحنفية أتباع محمد بن كرام السجستاني الحنفي، إلا أنه لا أحد من هؤلاء أو هؤلاء يقول بمماثلة الباري لأحدٍ من خلقه، فإن نفي هذا القدر من المعنى كما هو منطوق الجملة القرآنية متفق عليه.

    فقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] معناه الكلي: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن المماثلة المطلقة لأحدٍ من خلقه، وهذا المعنى الكلي قد اتفق سائر القبلة عليه، حتى من قال منهم بالتجسيم كقوم من متقدمي الشيعة والرافضة، أو طائفة من متأخري الأحناف أتباع محمد بن كرام .

    لكن هؤلاء المشبهة وإن كانوا يؤمنون بهذا المعنى الكلي، إلا أن الآية نفسها دليل على إبطال مذهبهم، فإنهم لم يحققوا قول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]حين قالوا: إنه جسم، وحينما صاروا إلى قدر من المشاكلة والقياس في إثبات صفات الباري سبحانه وتعالى وأفعاله؛ فلا شك أن القوم عندهم قدر من التشبيه والتجسيم المخالف لكمال الرب سبحانه وتعالى، ولا شك أن القوم -أعني المشبهة- مخالفون لقول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

    ولكن لا يفهم من ذلك أن طائفة من الطوائف الإسلامية تذهب إلى أن صفات الباري كصفات المخلوقين؛ إذ لا أحد يقول بذلك من المسلمين البتة، وإن حكى ذلك بعض المتأخرين من أهل السنة أو غيرهم؛ كبعض الأشعرية ولا سيما في مقام الرد على الأحناف، وكالمعتزلة حين يتحدثون عن المشبهة؛ فإن حكاية أقوال الطوائف بعضهم عن بعض قد يقع فيه قدر من الاستطالة، وإن كان أئمة السنة والجماعة المتقدمين لم يقع منهم استطالة في ذكرهم لأقوال مخالفيهم، ولكن المتأخرين منهم قد يقع من بعضهم بعض الاستطالة في ذكر أقوال المخالفين، وذلك بأخذ المخالفين بلوازم أقوالهم، ومثل هذا لا يُعد مذهباً لأصحابه، وإنما المذهب المعتبر هو ما نطق به القوم.

    ولهذا نقول: إنه لم يقع في كلام السلف رحمهم الله أن ذكروا أقوال المخالفين على غير وجهها، لكن المتأخرين من أصحاب الأئمة الأربعة قد يقع منهم زيادة في ذكر أقوال مخالفيهم، سواء كان هذا الفقيه -باعتباره منتسباً لأحد الأئمة الأربعة- ينتسب إلى السنة والجماعة وطريقة الأئمة المحضة، أو كان ينتسب إلى طريقة كلامية، فإن بعض الحنابلة -كمثال- زادوا في ذكرهم لأقوال الأشعرية، وكذلك بعض الأشعرية زادوا في ذكرهم لأقوال السلفية من الحنابلة .. وهلم جراً.

    وهذا أمر مطرد ليس في الفقهاء الذين مروا في القرون المتأخرة، بل يوجد قدر منه في هذا العصر، فمثلاً: حين تُذكر أصول المدرسة الأشعرية -كمثال- ترى بعض الباحثين يجعل لها أصولاً مبنيةً، وحين يقرر أصول هذه المدرسة بالمسائل والدلائل: (ماذا يثبتون من الصفات، ما هو مصدر التلقي عندهم). تجد أنه يقرر أصول هذه المسألة حسبما يذكره محمد بن عمر الرازي في كتبه. ولا شك أن طرد منهج الأشعرية في الدلائل والمسائل على طريقة الرازي ليس من العدل، فإن ثمة فرقاً بين طريقة الرازي وبين طريقة الجويني فضلاً عن طريقة القاضي أبي بكر الباقلاني ، فضلاً عن طريقة أبي الحسن الأشعري نفسه، ولا سيما في آخر آحواله التي نصر فيها -ولا سيما في المنهج- مذهب أهل السنة والحديث.

    إذاً الاستطالة لا يسلم منها أحد من الطوائف المتأخرة حتى المنتسبين للسنة والجماعة منهم، وهذا مما ينبغي لطالب العلم أن يدركه: وهو أن المتكلم وإن كان سنياً فليس بالضرورة أن سائر ما ينقله عن غيره يكون نقلاً عدلاً وصواباً، وليس بالضرورة أن يكون موجب هذا الغلط هو الكذب المحض، بل قد يكون موجبه غلط في الفهم أو في النقل أو ما إلى ذلك، وكلنا يعلم أنه وقع حتى في بعض الكتب المتقدمة -كالسنة لـعبد الله بن أحمد - نقل واسع في ذم أبي حنيفة ورميه بكثير من البدع، مع أن جمهور ذلك لا يثبت منه شيء.

    فباب الاستطالة هو باب من أحوال النفس والإرادات، وليس معتبراً بالعقائد، فحينما يكون الرجل سنياً أو سلفياً فليس بالضرورة أن كلامه عن الآخرين يكون على طريقة الصواب والجزم، بل قد يقع منه غلط في النقل، ومن ذلك -كما أسلفت- ما وقع من بعض الحنابلة أو غيرهم، ومن ذلك أيضاً ما يذكره كثيراً أبو إسماعيل الأنصاري الهروي ، فإنه سني في الجملة ولا سيما في باب الأسماء والصفات، ولكنه إذا ذكر أقوال المخالفين للسلف في باب الأسماء والصفات زاد عليها زيادة كثيرة، ورماهم بكثير من اللوازم إلى حد الزندقة، كما صنع مع مخالفيه من الأشعرية، وإن كانت الاستطالة عند مخالفي أهل السنة أكثر منها فيهم، وهذا -كما أسلفت- في متأخري المنتسبين إلى السنة والحديث، وليس في أئمة السلف.

    الجمع بين التنزيه وإثبات الصفات

    قول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]يقال: ليس كمثله شيء، سواء كان هذا الشيء موجوداً كالحس، أو كان موجوداً مفارقاً، أو كان شيئاً متصوراً، أو كان شيئاً مفروضاً، أي: أن الرب سبحانه وتعالى منزه عن سائر موارد التشبيه والمماثلة، ليس كمثله شيء؛ سواء كان هذا الشيء موجوداً في الحس كأحوال بني آدم وأفعالهم وصفاتهم؛ فإن الباري ليس كمثلها.

    أو كان هذا الشيء موجوداً، ولكن وجوده ليس حسياً، وإنما هو وجود مفارق لا يراه الناس ولا يعلمه المخاطبون، فإن الرب سبحانه وتعالى ليس كمثل هذا الشيء.

    أو كان هذا الشيء من الأشياء المتصورة في العقل، فإن كل صفة من الصفات تصور العقل لها كيفية، فإن هذا التصور الكيفي الذي حكم به العقل يعلم أن الله سبحانه منزه عنه.

    أو كان هذا الشيء ليس متصوراً في العقل ولكن الذهن يفرضه، وفرض الذهن هو قبل التصور، ويُقصد من هذا الإطلاق بيان أن الله سبحانه وتعالى منزه تنزيهاً مطلقاً عن المثيل والشبيه، فإنه سبحانه وتعالى كما في صريح الآية: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].

    وهذه الآية من أخص ما اعتصم به أهل السنة والجماعة في أن الإثبات لا يستلزم التشبيه، فإن الله يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]فإن الإثبات هنا جاء في مورد النفي، أي: جمع بين الإثبات والنفي في سياق واحد؛ فدل على أن الإثبات ليس معارضاً للنفي المذكور في القرآن، بل إن الإثبات لا يكون لائقاً بالله سبحانه وتعالى إلا إذا تضمن هذا التنزيه، وإلا فإن مطلق الإثبات ليس تنزيهاً، فإن الصفات يشترك فيها الخالق والمخلوق، واختصاص الباري سبحانه وتعالى ليس بأصل الصفة، فإن الله يوصف بالكلام، والمخلوق يوصف بالكلام، والله يوصف بالعلم، والمخلوق يوصف بالعلم .. إلى غير ذلك، وإنما اختصاص الباري سبحانه وتعالى أن ما أضيف إليه من الصفات لا يكون مماثلاً لما أضيف إلى المخلوق من الصفات، فإن صفات الباري متعلقة بذاته، وكما أن ذاته منفكة عن ذوات المخلوقين فإن صفاته سبحانه وتعالى كذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755991971