إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [10]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أخذ الله سبحانه وتعالى على عباده الميثاق بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وفطرهم عليه، وسيسألهم عنه يوم القيامة، وكتب الله عز وجل مقادير الخلائق عنده في الأزل، فالقدر سر الله الذي لا يطلع عليه أحداً من خلقه، وعقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا ينبغي الخوض فيه؛ لأنه من علم الله الغيبي الذي لا ندركه.

    1.   

    الاعتقاد في الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:

    [والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق وقد علم الله تعالى..].

    الميثاق: مأخوذ من الوثاق فهو اسم مصدر، وأصله الشد والربط، من وثق الشيء وأوثق إذا شد وربط، فالميثاق: هو ما عقد الله جل وعلا الناس عليه، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى من آدم وذريته، وهو حق كما قال المؤلف رحمه الله، يدل على ذلك قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:173] فهاتان الآيتان فيها الإشارة إلى الميثاق الذي أخذه الله جل وعلا على الناس.

    خلاف العلماء في حقيقة الميثاق

    وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حقيقة الميثاق، هل هو ما جاء في بعض الأحاديث كما في حديث ابن عباس : (أن الله سبحانه وتعالى أخرج ذرية آدم من ظهر آدم، ونثرهم بين يديه كالذر، ثم قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى) أي: أقروا له بالربوبية سبحانه وتعالى؟ على هذا حمل جماعة من العلماء الميثاق في هذه الآية وفسروه به، فقالوا: قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172] هو ما أخذه الله تعالى في عالم الذر مما كان قبل خلقهم.

    وهذا الميثاق هل يذكره الناس أو لا يذكرونه؟

    الجواب: أنهم لا يذكرونه، ولا إشكال في أنه ما من أحد يذكر هذا الميثاق الذي أخذه الله عليه في عالم الذر ، ولذلك ذهب جماعة من العلماء إلى أن الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم هو ميثاق الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو المشار إليه في قوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30] ، وهو المشار إليه في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة) فالفطرة: هي الإقرار بالرب جل وعلا، وهو المشار إليه فيما رواه الإمام مسلم في حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: خلقت عبادي حنفاء -أي: على التوحيد- فاجتالتهم الشياطين) أي: صرفتهم ، وهذا أمر لا ينكره أحد، بل هو مما ركز في الفطر، ولذلك كان المشركون إذا سئلوا: من الخالق؟ من الرازق؟ من المالك؟ من المدبر؟ كانوا يجيبون: الله، وهذا إقرار منهم بمقتضى الميثاق الذي واثقهم الله وفطرهم عليه، وهذا الذي ذهب إليه جماعة من العلماء: منهم شيخ الإسلام رحمه الله، ومنهم ابن القيم ، وأن الميثاق ليس ما جاء في بعض الأحاديث: من أنه أخرجهم من ظهر أبيهم في عالم الذر وأخذ عليهم الميثاق، قالوا: ومما يدل على ذلك:

    أولاً: أن الأحاديث التي وردت فيها ضعيفة، وأن هذا الميثاق لا يذكره أحد ، والله سبحانه وتعالى قال في الآية ما يدل على أن هذا الميثاق حاضر في أذهانهم لا يغيب عنهم، فقال سبحانه وتعالى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] يعني: لئلا تقولوا إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] ، ومعنى الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا [الأعراف:172] يعني: هذا الأخذ من ظهور بني آدم علته وسببه: أن لا يقول الناس يوم القيامة: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] ، وهل يذكر الناس هذا الميثاق؟

    الجواب: لا. فإذا كانوا لا يذكرونه في الدنيا فالغفلة عنه وعدم ذكره في الآخرة من باب أولى، وهذا مما يؤيد أن الميثاق الذي أخذه الله عز وجل هو ميثاق الفطرة، وليس الميثاق الذي جاء في حديث ابن عباس لضعف الحديث.

    ترجيح القول

    إذاً: عندنا في الميثاق قولان:

    القول الأول: ما جاء في حديث ابن عباس من أن الله أخذ على الناس الميثاق في عالم الذر فقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]، وهذا القول اختاره شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، ونسبه ابن القيم إلى جماعة وطائفة من السلف والخلف.

    القول الثاني: الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وابن القيم وابن كثير في تفسيره من أن الميثاق هو ميثاق الفطرة لضعف حديث ابن عباس؛ ولأن الآية ليس فيها ما يدل على ذلك، فإن الله عز وجل قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ [الأعراف:172] ولم يقل: (من آدم) فالأخذ من بني آدم وليس من آدم، ولم يقل: من ظهره، بل قال: ( من ظهورهم ) ولم يقل: ذريته، بل قال: ( ذريتهم) كل هذا يدل على أن الأخذ ليس ما جاء في حديث ابن عباس ، وأن الأخذ هنا هو أخذ الميثاق عليهم حيث فطرهم جل وعلا منذ أوائل خلقهم، وهو خروجهم من آبائهم نطفاً إلى أرحام أمهاتهم فمن تلك اللحظة أخذ الله جل وعلا الميثاق عليهم بالفطرة التي قارنت خلقهم.

    ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) والفطرة التي ولد عليها هي الإقرار بالتوحيد للرب جل وعلا لو خلي من الموانع والشواغل والصوارف.

    فإذا كان كذلك فما الجواب على قوله: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأعراف:172]؟ يقول: (أشهدهم على أنفسهم) الشهادة على أنفسهم في القرآن يراد بها الإقرار، ولا يلزم في هذا النطق، بل الشهادة تكون حالاً ومقالاً.

    فالشهادة على النفس معناها الإقرار أي: جعلهم مقرين بهذا الميثاق: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأعراف:172] أي: قررهم عليه، والشهادة لا يلزم منها التكلم، بل قد تكون الشهادة بالحال لا بالمقال، ومن ذلك قوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [التوبة:17] وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر حالاً لا مقالاً، فإنهم لم يقروا بأنهم كفار، إنما شهادتهم شهادة حالية لا شهادة مقالية.

    وكذلك قوله: قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] القول قد يكون باللفظ، وقد يكون بالحال، وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل لتقرير هذا المعنى، وكذلك نقله ابن القيم في أحكام أهل الذمة، والمراد أن الآية ليس فيها دليل على ما ذكر في الميثاق السابق الذي جاء في حديث ابن عباس .

    أما إخراج الذرية فقد جاءت فيه أحاديث كثيرة، لكن ليس منها صحيح يثبت أن الله كلمهم وخاطبهم، إنما فيها أن الله أخرجهم وميزهم إلى فريقين: إلى أهل السعادة وإلى أهل الشقاء، وهذا ليس فيه ذكر للميثاق، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي ثابتة صحيحة، لكن الذي لم يصح هو تكليم الله لهم في ذلك الوقت وإخراجهم وأخذه الميثاق عليهم.

    فقول المؤلف رحمه الله: (والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق) يحتمل أن المؤلف رحمه الله تعالى أراد بالميثاق ما جاء في حديث ابن عباس ، ويحتمل أنه يريد بالميثاق الفطرة، وهما قولان لأهل العلم كما سبق.

    1.   

    إثبات علم الله عز وجل بأفعال العباد ومصائرهم وتقديره ذلك

    ثم قال المؤلف رحمه الله بعد هذا.

    [ وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، ولا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله ].

    هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله هو بداية بحث مسألة القدر، وبدأه المؤلف رحمه الله بإثبات علم الله جل وعلا السابق لكل شيء، وبدأ بالعلم لأنه أقوى ما يرد به على نفاة القدر.

    قال الإمام الشافعي رحمه الله: (ناظروهم بالقدر -أي: القدرية- فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا) وهذه كلمة عظيمة من الإمام الشافعي رحمه الله فيها بيان طريق إثبات القدر.

    علم الله السابق بمصائر خلقه

    والمؤلف سلك ذلك المسلك حيث قرر -في أول تقرير مسائل القدر- علم الله جل وعلا السابق لكل شيء، قال رحمه الله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص).

    وهذا دل عليه أحاديث كثيرة.

    أولاً: إثبات علم الله السابق للأشياء أدلته أكثر من أن تحصر ، فإن الله جل وعلا قد خلق كل شيء بقدر، ومن لازم تقديره العلم كما قال جل وعلا: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وكما قال سبحانه وتعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2] فإن من لازم إثبات القدر إثبات العلم، وأدلة إثبات العلم كثيرة كما تقدم شيء منها في الدروس السابقة.

    وأما علم الله عز وجل الخاص الذي ذكره المؤلف رحمه الله -وهو علمه سبحانه وتعالى بعدد أهل الجنة، وعدد أهل النار، وأنه قد فرغ من ذلك فلا يزاد في العدد ولا ينقص- فقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها: ما رواه مسلم من حديث عائشة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعي إلى جنازة صبي من الأنصار فقالت عائشة رضي الله عنها: طوبى له عصفور من عصافير أهل الجنة، لم يعمل سوءاً ولم يدركه. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوغير ذلك يا عائشة -يعني: أوغير هذا الكلام- فإن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم) فدل ذلك على أن أهل الجنة وأهل النار قد فرغ منهم، يعني: العلم بهم قد تم واستقر قبل أن يخلقهم.

    وقد جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه بكتابين فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: هذا كتاب فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم، وهذا كتاب فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم).

    وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة فقالوا: (يا رسول الله! أخبرنا كأنا خلقنا اليوم -يعنى: أخبرنا عن هذا الأمر- عن العمل أنعمل أو العمل فيما جرت به الأقلام، وفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير. ثم قال السائل: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، وهذا يدل على أن أهل الجنة قد قضي الأمر فيهم، وأهل النار كذلك، فقد سبق علم الله جل وعلا بما يكون من الخلق.

    إثبات علم الله بما سيفعله العباد

    ثم بعد هذا التقرير قال رحمه الله: (وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه).

    أفعالهم كذلك على هذه الحال، فإن الله جل وعلا قدر الأشياء وقدر أسبابها، فقدر أهل الجنة وقدر أعمالهم، وقدر أهل النار وقدر أعمالهم، وعلم أهل الجنة والنار وعلم أعمالهم، فالجميع قد أحاط به علم الله جل وعلا.

    ثم قال رحمه الله تعالى: (وكل ميسر لما خلق له من سعادة أو شقاء) لذلك قال الله جل وعلا: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10] فكل أحد من أهل السعادة ومن أهل الشقاء ميسر لما خلق له، أي: خلق ليكون إما من أهل الجنة أو من أهل النار، وكل ميسر لما خلق له.

    وهذا ليس فيه إلغاء اختيارهم كما سيأتي، بل فيه الإخبار بأن الله علم بما يكون عليه الخلق في المآل، وعلم الأعمال التي تفضي إلى ذلك المآل، وأنه ييسر كل أحدٍ إلى ما علم في سابق علمه من كونه من أهل السعادة أو من أهل الشقاء.. من أهل الجنة أو من أهل النار.

    وقوله رحمه الله: (وكل ميسر لما خلق له) هذا من أفضل الكلام؛ لأنه مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وهو أفضل من قول القائل: الإنسان مسير أو مخير، فالإنسان لا شك أنه مسير في بعض ما قدر له لكن هذا التسيير لا يلغي اختياره.

    ولفظ المؤلف رحمه الله أفضل من لفظ (مسير) فإنه يوحي بأن الإنسان لا اختيار له بالكلية، وهذا مخالف لما دلت النصوص من إثبات المشيئة والاختيار للإنسان، كما قال الله جل وعلا: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] فأثبت للعبد مشيئة، لكن هذه المشيئة لا تخرج عن مشيئة الرب جل وعلا.

    الأعمال بالخواتيم والسعادة والشقاوة بقدر الله عز وجل

    وقال رحمه الله: (والأعمال بالخواتيم) أي: الأعمال من حيث الثواب والعقاب، ومن حيث الفوز والنجاة، بما يحصل به الختم والنهاية (والأعمال بالخواتيم) أي: بما يختم للإنسان بها، وبما تنتهي عليه.

    وقد جاء الحديث في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث سهل بن سعد في الصحيحين أنه قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يرى الناس، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يرى الناس، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم).

    فدل ذلك على أن العمل بالخاتمة وما يختم للإنسان به، فالعبرة بالخواتيم والنهايات لا بالبدايات، فقد يكون الإنسان في بدايته كافراً معانداً لرب العالمين، ثم يختم له بالخير.

    يقول رحمه الله: (والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله) أي: أن السعادة والشقاء بقدر، فكل لا يخرج عن تقدير الله جل وعلا، فطاعة الطائع بقدر الله جل وعلا، ومعصية العاصي بقدر الله سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى لا يكون في ملكه إلا ما يشاء.

    فالسعيد إنما يسعد بما سبق من قضاء الله، والشقي إنما يشقى بما سبق من قضاء الله عز وجل، فقضاء الله وقدره محيط بالعباد أهل السعادة وأهل الشقاء على حد سواء لا فرق بين هذا وهذا.

    ثم بعد هذا قال رحمه الله في جواب إشكال قد يلقيه الشيطان في قلب الإنسان، فيقول: إذا كان الأمر كذلك ففيم العمل؟ فالجواب ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق).

    والجواب أيضاً فيما قاله المؤلف رحمه الله: [ وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى في كتابه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فمن سأل: لم فعل فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.

    فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم ].

    وجوب التسليم لقدر الله الذي هو سره

    نعم يقول رحمه الله: (وأصل القدر هو سر الله تعالى في خلقه) (أصل القدر) أي: قاعدته التي يبنى عليها أنه سر الله في خلقه، والسر في الأصل: هو ما خفي وكتم، فالقدر هو سر الله تعالى في خلقه أي: أنه جل وعلا أخفاه وكتمه فلم يظهره لخلقه، يبيّن هذا قوله: (لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل) فإذا عجزت عن إدراك وفهم هذا السر، أو فهمت القدر وما تضمن فيجب عليك أن تسلم لله سبحانه وتعالى، وأن توقن أصلاً ثابتاً لا يتزحزح أنه جل وعلا حكم عدل: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44].. وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] فإذا أيقن العبد أن الله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً، وأنه ليس بظلام للعبيد، وأنه حرم على نفسه الظلم قر قلبه واطمأن وزال ما فيه من الشوائب والكدر المتعلقة بهذا الباب.

    فالواجب على المؤمن أن يسلم لله عز وجل كما تقدم في كلام المؤلف رحمه الله، فأصل القدر سر الله، وهذه الكلمة نقلت عن عيسى عليه السلام فيما نقل، وهي مأثورة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وهي تفيد فائدتين:

    الفائدة الأولى: قطع النظر والتعمق في هذا الباب فالنظر فيه لا يوصل إلى علم؛ لأنه سر، والسر خفي، والخفي لا سبيل إلى تحصيله.

    الفائدة الثانية: التسليم لله عز وجل؛ لأنه إذا كان سراً فلا يمكن الاطلاع عليه، وإذا أيقنت بأن ربك حكم عدل جل وعلا فإنك ستمتنع عن المعارضة والمناقشة والتعمق في هذا الباب.

    التحذير من التعمق والخوض في باب القدر بالنظر والفكر والوسوسة

    قال رحمه الله: (لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك) أي: في باب القدر (ذريعة الخذلان) (ذريعة) أي: وسيلة (الخذلان) أي: هو عدم النصر، يعني: سبب لعدم نصر الله عز وجل لعبده، فالخذلان هو ترك النصر، فمن أراد أن يترك الله جل وعلا نصره فلينظر في القدر، وليماحك فيه وليناقش وليتعمق.

    قال رحمه الله: (وسلم الحرمان) أي: أنه وسيلة تحصيل الحرمان، والحرمان أصله المنع، والمنع هنا: منع طمأنينة القلب ومنع اليقين والانشراح، فإن من شك في هذا الأمر وعمق النظر فيه ألقى الشيطان في قلبه الوساوس التي تورثه حرمان لذة الإيمان.

    قال: (ودرجة الطغيان) أي: يحصل للإنسان بها الطغيان وهو مجاوزة الحد؛ لأنه إذا كان القدر سراً أخفاه الله عز وجل عن خلقه؛ ولم يطلع عليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فالواجب التسليم والوقوف وعدم تجاوز ما أمر الله به وما أخبر الله به في هذا الشأن.

    قال: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسةً) وقد نصح رحمه الله في هذا التحذير، وفي التكرار للتنفير من النظر في هذا الباب.

    (فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه) (طوى) أي: أخفى (علم القدر) أي: حقيقته (عن أنامه) أي: عن الخلق (ونهاهم عن مرامه) يعني: عن النظر فيه وعن طلبه.

    وقد (خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أصحابه وهم يخوضون في القدر -كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه- فغضب غضباً شديداً، كأنما تفقأ في وجهه حب الرمان)، ونهاهم عن ذلك، وأمرهم بالاجتماع على ما كتب الله عز وجل، وعدم ضرب بعضه ببعض، ثم قال: (إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على كتاب ربهم، اجتمعوا عليه ما ائتلفت قلوبكم، وقوموا عنه إذا اختلفتم) أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة) وهذا الحديث وإن كان في أفراد الأحاديث الواردة فيه مقال لكن مجموع الأحاديث ثابت في ذم القدرية؛ وذلك لأنهم بحثوا وتنطعوا فيما نهوا عنه، وطلبوا تحصيل ما منعوا منه.

    قال رحمه الله: (كما قال تعالى في كتابه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فمن عارض الله في قدره فقد نازع الله عز وجل في حكمه، فمن سأل :لم فعل؟) يعني: إذا قال الإنسان: لم فعل كذا ولم يفعل كذا، فإنه قد رد حكم الكتاب ما حكم الكتاب الذي رده؟ النهي عن السؤال عن أفعال الله لماذا فعل كذا؟ ولماذا لم يفعل كذا؟ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ، (ومن رد حكم الكتاب) أي: كتاب الله جل وعلا في هذا وفي غيره (كان من الكافرين) أي: من جملتهم؛ لأن السؤال عن أفعال الله عز وجل على وجه الاعتراض كفر بالله عز وجل.

    يقول رحمه الله: (فهذا جل ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله عز وجل) يعني: غاية ما نحتاج في مسألة القدر أن نعلم أن الله جل وعلا قد أحاط بكل شيء علماً، وأن نعلم أنه سبحانه وتعالى قد كتب ما علم، وأنه سبحانه وتعالى قد شاء ما قدر، وأنه جل وعلا قد خلق كل شيء، وهذه الأربع المراتب بها يحصِّل الإنسان انتظام التوحيد؛ لأن القدر نظام التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله عنه، ومعنى نظام التوحيد أي: أنه ينتظم التوحيد ولا ينتقض، فمن أنكر القدر انتقض وانتفى توحيده.

    فنظام التوحيد الإيمان بالقدر، والقدر هو أن تؤمن بأن الله علم الأشياء وكتبها وشاءها وخلقها كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مراتب القدر.

    هذا ما يحتاجه منور القلب، أما الذي يتمحك ويتنطع ويتعمق فهذا قد ضرب طريقاً يحصل له به ما ذكره رحمه الله من الخذلان والحرمان والطغيان.

    قال: (وهي درجة الراسخين في العلم) جعلنا الله وإياكم منهم وممن حصلها، هذه درجة الراسخين في العلم الذين آمنوا بالقدر ولم يعارضوا قدر الله عز وجل أو يقعوا في شك أو ريب.

    والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    التحذير من الخوض في القدر

    قال: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسةً) وقد نصح رحمه الله في هذا التحذير، وفي التكرار للتنفير من النظر في هذا الباب.

    (فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه) (طوى) أي: أخفى، (علم القدر) أي: حقيقته، (عن أنامه) أي: عن الخلق (ونهاهم عن مرامه) يعني: عن النظر فيه وعن طلبه.

    وقد (خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أصحابه وهم يبحثون في القدر فغضب -كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه- فغضب غضباً شديداً، كأنما تفقأ في وجهه حب الرمان، ونهاهم عن ذلك، وأمرهم بالاجتماع على ما كتب الله عز وجل، وعدم ضرب بعضه ببعض، ثم قال: إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على كتاب ربهم، اجتمعوا عليه ما ائتلفت قلوبكم، وقوموا عنه إذا اختلفتم) أو كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة) وهذا الحديث وإن كان في أفراد الأحاديث الواردة فيه مقال لكن مجموع الأحاديث ثابت في ذم القدرية؛ وذلك لأنهم بحثوا وتنطعوا فيما نهوا عنه، وطلبوا تحصيل ما منعوا منه.

    قال رحمه الله: [كما قال تعالى في كتابه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فمن عارض الله في قدره فقد نازع الله عز وجل في حكمه، فمن سأل لم فعل؟] يعني: إذا قال الإنسان: لم فعل كذا ولم يفعل كذا، (فإنه قد رد حكم الكتاب)، ما حكم الكتاب الذي رده؟ النهي عن السؤال عن أفعال الله لماذا فعل كذا؟ ولماذا لم يفعل كذا؟ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ، (ومن رد حكم الكتاب) أي: كتاب الله جل وعلا في هذا وفي غيره (كان من الكافرين) أي: من جملتهم؛ لأن السؤال عن أفعال الله عز وجل على وجه الاعتراض كفر بالله عز وجل.

    يقول رحمه الله: (فهذا جل ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله عز وجل) يعني: غاية ما نحتاج في مسألة القدر أن نعلم أن الله جل وعلا قد أحاط بكل شيء علماً، وأن نعلم أنه سبحانه وتعالى قد كتب ما علم، وأنه سبحانه وتعالى قد شاء ما قدر، وأنه جل وعلا قد خلق كل شي، وهذه الأربع مراتب بها يحصل الإنسان انتظام التوحيد؛ لأن القدر نظام التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله عنه، ومعنى نظام التوحيد أي: أنه ينتظم التوحيد ولا ينتقض، فمن أنكر القدر انتقض وانتفى توحيده.

    فنظام التوحيد الإيمان بالقدر، والقدر هو أن تؤمن بأن الله علم الأشياء وكتبها وشاءها وخلقها كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مراتب القدر.

    هذا ما يحتاجه منور القلب، أما الذي يتمحك ويتنطع ويتعمق فهذا قد ضرب طريقاً يحصل له به ما ذكره رحمه الله من الخذلان والحرمان والطغيان.

    قال: (وهي درجة الراسخين في العلم) جعلنا الله وإياكم منهم وممن حصلها، هذه درجة الراسخين في العلم الذين آمنوا بالقدر ولم يعارضوا قدر الله عز وجل أو يقعوا في شك أو ريب.

    والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755973696