إسلام ويب

جيل القرآنللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أهل القرآن هم أهل الله وخاصته؛ لأنه كلام الله العظيم، وقد اختار الله سبحانه وتعالى نبيه لتبليغه لأمة وعته وصدقته وعملت بمقتضاه، حيث كانت قلوبهم كالأرض الطيبة أصابها الغيث، فكانوا يقفون عند كل آية منه، ويعرضون أنفسهم عليه، فحري بنا أن نقتدي بهم، فإن من تمام حقوق القرآن علينا أن نغرس حب القرآن في الأهل والأبناء والزوجات؛ لأنه سيأتي يوم القيامة إما حجة لنا أو حجة علينا.

    1.   

    فضل القرآن على الجيل الأول وتأثرهم به

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] أما بعد:

    فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    سلامٌ على جيران بيت الله الحرام، وسكان أرض الحطيم والحِجر والحَجر والمقام، سلامٌ عليكم إذ أكرمكم الله عز وجل بنعمه، فجاورتم بيته، وكنتم على أرضه، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم حسن الجوار، وحسن المقام.

    أيها الأحبة في الله: ما أطيب المجالس إذا طيبت بذكر الله، وما أطيب المجالس إذا طابت بطاعة الله، وما الذي يأخذه المؤمن من هذه الدنيا غير كلمةٍ تدله على الله، أو نصيحة تثبته على طاعة الله ومرضاته.

    أو ما الذي يأخذه العبد من هذه الدنيا غير أمرٍ بينه وبين الله، في طاعةٍ يحبها أو قربةٍ يرضاها، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر مجالسنا ومجالسكم بذكره، والإنابة إليه وشكره، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    أيها الأحبة في الله: أطيب ما طيبت به المجالس من ذكر الله، وأحسن ما عمرت به الأوقات من طاعة الله: أن يكون الكلام عن كلام الله، هذا الكلام الذي أنزله الله تبارك وتعالى هدايةً ونوراً يقود إلى دار السلام، هذا الكلام الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، الجد لا الهزل، والقول الحق الفصل، كلام رب العالمين، وموعظة إله الأولين والآخرين.

    كم قادت إلى الله قلوباً، وأنارت في سبيل محبته مناهجاً ودروباً، كم هدى الله عز وجل به الضالين؟ وكم أيقظ به من النائمين؟ وكم دل به إلى رحمته الحائرين؟

    كلام رب العالمين، الذي ختمت به الرسالات، وقطعت به الحجج والبينات، كلام الله الذي منه مبتدؤه وإليه منتهاه، كلام الله الذي سمعته الجن فآمنت، وأقرت وصدقت، فقالت: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً [الجن:1-2].

    هذا الكلام الذي أنزله الله نوراً ودليلاً إلى دار السلام، أوجد به الرحمات، وأعد لأهله علو الدرجات، وكفر به الخطيئات، وجعله موجباً للرحمات.

    هذا الكلام العظيم والنور الكريم، الذي اصطفى الله له الأخيار، فقلب قلوبهم على أوامره وزواجره آناء الليل وأطراف النهار، كلام الله الذي اصطفى الله له رجالاً، واختار له على مر العصور أجيالاً، كلام الله الذي أحل به الحلال، وحرم به الحرام، فكان به صدق المقام، وحسن الفعال وكريم الخصال، فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أهله، وأن يحشرنا في زمرة أهله.

    التخلق بالقرآن ومحبته من مزايا السلف

    أيها الأحبة في الله: إن الله عز وجل اختار لكتابه أمةً وعته، وأحبته وصدقته، فنزل القرآن إلى جذور قلوبها، ففتحت قلوبها للقرآن واطمأنت لموعظة الرحمن، حتى إذا تغلغلت تلك الآيات في الجنان، قادت أهلها إلى المحبة والرضوان.

    وإذا نزلت الآيات إلى تلك القلوب، نزلت كالغيث إذا أصاب الأرض الطيبة، فكلام الله مع أحباب الله وأوليائه، يطهرهم لطاعته، ويؤهلهم لمرضاته ومحبته، إذا سمعوا القرآن وجلت قلوبهم لسماعه، فبكيت عيونهم من عظاته، وتحركت أشواقهم لجناته.

    كم سمعوا فيه من الآيات التي تفطر القلوب لطاعة رب الأرض والسماوات، سمعوا تلك الآيات فاستقرت في قلوبهم فترجموها في الحياة، حتى أصبح القرآن دليلاً أمام أعينهم.

    القرآن الذي أحب الله أهله، واصطفى أولياءه فاختار له رجالاً وأمماً وأجيالاً أحبته من قلوبها وحققته بقوالبها.

    فهذه الأمة التي عاشت ليلها مع كتاب الله، ونهارها في تحقيق العبودية لله، ما أفضت إلى الله إلا والقرآن شاهدٌ لها لا شاهدٌ عليها، نزل هذا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم يوم نزل، فافترق العباد إلى فريقين وطائفتين ونحلتين:

    طائفةٍ كذبت ولم تؤمن به، ولم ترض به، فأعرضت عنه وأنكرته وكفرت به، فأذاقها الله الهوان، وألبسها الذل في سائر الأزمان.

    وطائفة أحبته واقتربت منه وارتضته، هذه الطائفة المنصورة، أعلامها مشهورة، وفي الخير مشهودة.

    أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، الذين أحبوه بقلوبهم وطبقوه بقوالبهم، وهذه الطائفة المحبوبة، والفرقة الناجية المنصورة، يطيب الحديث عنها وعن أخلاق وصفات أهلها، هذه الصفات التي تترجم القرآن في الحياة، أعلاهم وأشرفهم قدراً هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجيل القرآن أول شواهده وأعظم دلائله: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، نزل القرآن يوم نزل، ففتحوا قلوبهم لآياته، وفتحوا قوالبهم لعظاته، فقادهم القرآن إلى الله، فحققوه وطبقوه، حتى أخذوا أرواحهم في أكفهم، يجاهدون في سبيل الله، ويقاتلون أعداء الله، ويوالون أولياء الله بكلام الله.

    أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين اصطفاهم الله واجتباهم لرؤية منازل القرآن وحوادثه ومعاركه، فكان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم والكل يراه، والكل يعلمه ويشاهده، فحققوا القرآن بالعمل، وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وكل واحدٍ من أصحابه قرآنٌ يمشي على وجه الأرض، فكانت هذه الأمة مع كتاب الله، التي سهرت ليلها وأظمأت نهارها، رهبان الليل وفرسان النهار، بقال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وإذا أحب الله العبد رزقه أن يسير على نهجهم، فما مات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وخلفوا أشباههم من التابعين، ومن الأئمة المهديين المحبين لكلام رب العالمين، توفي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تحكم القرآن في قلوبهم، وترجم في قوالبهم، فغرسوا هذا القرآن في أتباعهم، والسائرين على نهجهم بإحسان.

    غرس الصحابة رضوان الله عليهم كلام الله في قلوب التابعين، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، حتى أحبت القلوب القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تبارك وتعالى جمع للصحابة في القرآن خصلتين، قل أن تجتمع لإنسان في الدنيا: خصلة العلم بالقرآن والعمل به وتطبيقه أمام العيان.

    كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن بقلوبهم، سهروا معه، فكان الواحد منهم تبكيه الآية وتفرحه الآية، يعيش الوعد والوعيد والشوق والتهديد، فكانوا مع القرآن على الحقيقة، عاشوا مع هذا القرآن، إذا تليت عليهم آيات الجنان طارت قلوبهم شوقاً إلى الروح والريحان، إذا تلا الواحد منهم آيات الجنان كأنه يقطف من ثمارها، ويتكئ على أرائكها، وينظر إلى أشجارها وثمارها وأنهارها، فما أعظمها من أمة، وإذا تلا الواحد منهم الآية التي فيها ذكر النيران، وغضب الواحد الديان، صعق كأن زفير النيران بين أذنيه.

    أمة أحبت كتاب الله صدق المحبة، فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم به، ويعظهم به، علموا أنه القول الفصل، وأنه الجد لا الهزل الذي يحتاج لمن يحمل همومه وغمومه، ويبادله مشاعره وأشجانه وأحزانه، فإذا أردت أن تنظر إلى جيل القرآن في أبهى صوره، وأجمل حُلله، فانظر إلى تلك الأمة المصطفاة، واقرأ عن سيرة أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

    إذا قرأت في سيرتهم لا تدري أتعجب من علمهم بالقرآن! ومعرفتهم لكلام الرحمن!

    إذا قرأت سيرتهم لا تدري أتعجب من عملهم بكلام الله، أم بمعرفتهم بأحكام الله وشرائع الله، أم بوقوفهم عند حدود الله وزواجر الله، تعطرك السيرة، وتنفحك السريرة، فتجد الصدق الذي لا كذب فيه، والحب الذي لا شائبة فيه.

    نماذج من السلف في حالهم مع القرآن

    كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، فلما رأوا آثار القرآن في حياتهم ووجدوا لذته في دنياهم، غرسوه في قلوب الناس، فكان إمامهم عبد الله بن عباس إذا وقف يتلو كتاب الله، تفجرت ينابيع الحكمة من لسانه، وظهرت دلائل الحق من حسن بيانه، ووقف في عرفة يوم أن ولاه علي رضي الله عنه الحج عامه، فتلا آيات البقرة ففسرها آيةً آية، يقول القائل: [لو رأته الفرس والديلم لأسلمت لله من جماله وبيانه].

    هذا الصحابي الجليل، لما رأى عظمة التنـزيل ومآله عند الله العظيم الجليل، أحب كتاب الله، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلق بكلام الله، وقال في نفسه: إن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتاب ربي موجود، وإن ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلام الله غير مفقود، فعاش مع هذا القرآن فالتزم باب زيد بن ثابت وكان نعم الصحابي القانت الثابت، فكان رضي الله عنه وأرضاه يسأله عن القرآن آيةً آية، ويوقفه أمامه حرفاً حرفاً، فرضي الله عنه وأرضاه، حتى كان يبكر من الفجر إلى بيت ذلك العالم الجليل من الصحابة.

    وهنا وقفة لأهل الخير والرضا، وشباب الصحوة وطاعة الله جل وعلا، أن تُشحذ الهمم إلى العلم بالقرآن، فإن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه مع صغر سنه لم ير أن بينه وبين القرآن حاجزاً، فأقبل على زيد وتعلم منه ذلك العلم النافع، وكان يبكر قبل صلاة الفجر على باب زيد، يحب أن يراه الله وهو يضرب الخطا لكي يتعلم كلام الله، كان يغدو من الفجر، فينام على عتبة زيد بن ثابت، حتى إذا خرج إلى صلاة الفجر أيقظه، وكان رضي الله عنه وأرضاه يخرج في شديد الظهر والهاجرة، لكي يسأل الصحابي عن آيةٍ من كتاب الله، يقول رضي الله عنه: [إن كنت لأجلس على باب الرجل أسأله عن آيةٍ من كتاب الله وهو نائم، وإن كنت لآتي الرجل في بيته وهو نائم في شدة الهاجرة، فأجلس على بيته والريح تسفني -يعني السموم والريح- لو أمرتهم أن يوقظوه لأيقظوه، أنتظر خروجه فأسأله] فكان كتاب الله في قلبه عظيماً، وكان يعظم من كان يعرف كلام الله.

    وهنا وقفة لكل من يريد أن يكون من جيل القرآن، أن يغرس في قلبه حب كلام الرحمن، وأن يكون مع هذا الكلام في جميع ساعاته وحركاته وسكناته.

    فلما توفي زيد بن ثابت إمامه وشيخه، وقف أمام ذلك العالم الجليل، الذي فقه التنـزيل فدمعت عيناه، وبكي رضي الله عنه وأرضاه، فقال: [ألا من سره أن ينظر كيف يقبض الله العلم، فلينظر! هكذا يقبض الله العلم] (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بموت العلماء) فبكى رضي الله عنه، وأبكى الناس لفراق شيخه في كتاب الله، فلما بلغ مبلغه من العلم تصدر رضي الله عنه وأرضاه، فشعت أنوار التنزيل من كلامه، وظهرت حجج القرآن من بيانه، فكان رضي الله عنه علماً من أعلام المسلمين، وإماماً من أئمة الدين، غرس في نفوس طلابه من التابعين فقه الكتاب المبين، فكان مجاهد بن جبر ومكحول وطاوس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير رحمة الله على الجميع، تلاميذه يذكرون به، فتصدر رضي الله عنه لتربية الأجيال على كلام الله عز وجل، وما خرج من هذه الدار إلا وقد غرس كلام الله عز وجل في نفوس أصحابه.

    وهكذا تكون أجيال القرآن يغارون على تعلمه، ويحرصون على تعلمه، ويحرصون على تفهمه وتطبيقه وتعليمه، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم منه أوفر حظِ ونصيب.

    صفة أهل القرآن

    أيها الأحبة في الله: أصدق كلمة خرجت من الأفواه كلمةٌ تذكِّر بكلام الله، وأحب الكلام إلى الله القرآن، به ختم الله الرسالات، وقطع به الحجج والبينات، فأقامه شاهداً على وحدانيته، ودليلاً على عظمته وألوهيته، ولقد تكفل الله عز وجل للقرآن بالعز، وجعل أهل القرآن في العزة والمكانة والجلالة والكرامة، فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، ما عاش أحدٌ مع كتاب الله عز وجل إلا قاده إلى الله، وعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى.

    أهل القرآن تمكن حب القرآن من أفئدتهم، وعاشوا مع تلك الآيات ساعات ليلهم ونهارهم، إذا جاء الليل بثوبه فأرخى عليهم سدوله، وجاء الرجل منهم بعد أن أعياه التعب والنصب لكي يضع كف الراحة، ويبدي للنفس ما هي به من استراحة، جاءته آيةٌ من كتاب الله، أو عظةٌ من كلام الله، فأقضت مضجعه ونغصت نومه، وقادته للوقوف بين يدي ربه، فهان عليه النوم والكرى، وقام يناجي ربه جل وعلا، تحركه آيات القرآن لكي يقف بها بين يدي الواحد الديان، حتى إذا تلا فاتحته، واستفتح علومه وأخباره، إذا بتلك الآية تذكره بما عند الله عز وجل من النعيم، أو ما عنده من العذاب والجحيم، فقرعت مسامعه مقارع التنزيل، فقادت قلبه وقالبه إلى العظيم الجليل.

    يستفتح الآية من الجنان، حتى إذا استقرت منه في الجنان فتذكر ما فيها من الروح والريحان، وما فيها من الكرامة من ربه الديان، أحس بأن الشوق يقوده إلى الله، ونادى بلسان حاله ومقاله: رباه رباه، إذا ذكر بالجنان وما عند الله من الروح والريحان بكى، واشتجى إلى ربه واشتكى؛ لأنه يخاف أن تحول ذنوبه بينه وبين تلك الفرقة الصالحة، فكم نزل بالجنان من الأخيار، وكم تقلد ما فيها من الحور وحسن القرار؛ من أممٍ خلت، في أزمنةٍ مضت، أطاعت ربها وسارت على نهج خالقها.

    فإذا قرأ المؤمن آية الجنان يخاف أن تنقطع ما بينها وبينهم من العرى، يخاف أن ينقطع المسير به، فيحال بينه وبين الجنان بسبب الذنوب التي أصابها، والعيوب التي اقترفها، يخاف من ذنبٍ يحول بينه وبين الله، أو إساءةٍ تبعده عن جوار الله، وإذا ذكر الآية التي فيها ذكر النيران والجحيم وسخط الديان، خاف من الله عز وجل أن يكون ذلك مآله، وأن ينتهي به إلى ذلك المنتهى فيكون قراره، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل الذي يعيش مع القرآن عظاته، ويحيا بآياته.

    1.   

    خصال أعظم الناس نصيباً في القرآن

    أيها الأحبة في الله: أعظم الناس مصيداً في القرآن من جمع بين ثلاث خصال:

    كثرة تلاوة القرآن والحرص على سماعه

    الخصلة الأولى: كثرة تلاوة القرآن والحرص على سماعه، والله عز وجل أثنى على تلك الطائفتين، فقال في كتابه المبين: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29] والله لا يحرص على تلاوة القرآن واستماعه إلا من أحبه الله عز وجل، وذلك بداية التوفيق لكي يكون الإنسان من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، الحرص على سماع القرآن وقراءته، ومن الناس من لا يرتاح إلا بسماع القرآن، وأذكر بعض العلماء الفضلاء:

    كان إذا جلس على طعامه جلس والقرآن يتلى عليه، ومن الناس من لا تهنأ نفسه ولا يرتاح قلبه إلا بتلاوة القرآن، يتلوه قائماً، وقاعداً، ومضطجعاً كأنه نائم.

    هذا من أعظم التوفيق أن تكثر تلاوة القرآن، ولا يوفق لكثرة تلاوة القرآن إلا من أحبه الله، وفي تلاوة القرآن رفعة الدرجات، ومضاعفة الحسنات، وحت الذنوب والخطيئات، فمن أكثر تلاوة القرآن جاء القرآن له شفيعاً، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن سورةٍ من سوره، أحبها رجلٌ من العباد، وأكثر من تلاوتها، فأحل حلالها وحرم حرامها، وشاء الله عز وجل أن يختاره إلى جواره، فمات وانتقل إلى ربه فجاءت هذه السورة، وهو في ظلمات القبر وفي لحده ومضجعه، فجادلت عنه حتى أنجته من عذاب القبر وفتنة القبر، فما أجل القرآن إذا وفق العبد لتلاوته، وتفهم آياته، وتدبر عظاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) كثرة تلاوة القرآن من أجل النعم التي يوفق لها الإنسان بعد نعمة الإيمان.

    الوقوف عند كل آية وعرض النفس عليها

    الخصلة الثانية: إذا أكثرت من تلاوة القرآن فإياك ثم إياك أن تجاوز آيةً واحدة إلا وقد سألت نفسك ما موقفك من هذه الآية؟ أمرتك فهل ائتمرت، ونهتك فهل كففت وانزجرت، ما موقفك من هذه الآية الكريمة؟ هل هذه الآية حجة لك، أو حجة عليك؟

    إذا تلوت آي آيةٍ من كتاب الله فقف معها، وسل نفسك، هل هذه الآية لك أو عليك، فإن كانت الآية لك، فاحمد الله على التوفيق، واسأله الثبات عليها إلى لقائه، فوالله الذي لا إله إلا هو ما من آيةٍ تقرأها ولا آيةٍ تسمعها، إلا وقفت بين يدي الله تقول: يارب عمل بي أو ردني؟

    ما من آية تسمعها في حديث أو محاضرة أو صلاة، أو تكتبها أو تقرأها أو تنظر إليها، إلا كانت حجةً لك أو عليك، قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: إن الناس يصلون في قيام رمضان، فمن قام رمضان كاملاً حتى ختم القرآن وهو يسمعه، فقد تمت حجة الله عليه.

    كملت حجة الله عليه إذ بلغته جميع الآيات وانتهت إليه جميع العظات، فإما أن تنتهي به إلى الجنة، أو تنتهي به إلى النار، فإن الإنسان إذا تليت عليه آيات الله ما تليت عبثاً، إذا وقفت في أي موقف في الصلاة أو في محاضرة أو في ندوة أو في مجلس، وقرأت في كتاب أو في صحيفة على ورقة، ومرت بك آيةٌ من كتاب الله، فاعلم أن هذه الآية بمجرد أن تقرأها أنها قد بلغتك، فإما لك أو عليك.

    تقف أمام القرآن وقفة الخائف الوجل، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم، يقفون مع القرآن حرفاً حرفاً، وكانوا إذا علَّموا طلاب العلم كتاب الله، علموهم كتاب الله آيةً آيةً.

    يقول مجاهد : [عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة -وقال في راوية ثانية-: عرضته ثلاث مراتٍ أسأله عن القرآن آيةً آيةً] وهذا من أبلغ ما يكون، فإنك إذا تلوت من القرآن قليلاً مع التدبر والتفهم، عرفت مكانك من القرآن، ولو لم يكن للإنسان مع القرآن إلا أن يعرف قدره، فإن ذلك من أعظم التوفيق.

    1.   

    مراتب القارئين للقرآن

    فإن الناس مع القرآن على ثلاث مراتب:

    منهم سابقٌ بالخيرات، ومنهم مقتصد، ومنهم ظالم لنفسه، ثلاث مراتب إذا سمعت كتاب الله، أو قرأت كتاب الله، فإما أن تكون من السابقين، وإما أن تكون من الظالمين، وإما أن تكون من المقتصدين، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من السابقين.

    أن تقف مع كل آية، فإن وجدتها لك حمدت الله، وإن وجدتها عليك ففكر علّ الله عز وجل أن يعينك للعمل بها، وتطبيقها وتحقيقها، فإن كانت ذنوباً بينك وبين الله، فاستح من الله وقد بلغتك حجة الله، فاستدم لها الاستغفار، والتزم لها التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، وإن كانت حقاً واجباً فأد هذا الحق لمن أمرك الله بأدائه إليه.

    فإن الإنسان إذا هيأ نفسه للعمل بالقرآن وفقه الله عز وجل، وكان الصحابة رضوان الله عليهم، إذا نزلت الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فبلغوا تلك الآية عملوا بها، رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً، فكانوا يتبعون السماع بالعمل، وإذا أردت أن تعرف حب الله لك، وحبك للقرآن فانظر إلى تأثرك بعد سماعك كلام الله عز وجل.

    إن خرجت من المسجد أو من الموعظة، أو بعد النصيحة، وأنت تشتاق لعمل ما يأمرك الله به، وترك ما حرم الله عز وجل عليك فاعلم أن الله يحبك، وأنه يهيئك لكي تكون من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وما أنصف عبد نفسه من القرآن، إلا تكفل الله له بحسن الختام.

    قال بعض العلماء: سمعت بعض أهل العلم يقول: ما حفظ عبدٌ كتاب الله وعمل به، إلا ضمن الله له حسن الخاتمة، وأذكر أحد العلماء الذين توفوا قريباً من أهل القرآن، الذي أمضوا ليلهم ونهارهم في حب القرآن، وتعليم القرآن وتدريسه، جاءه رجل من بلدٍ بعيد فقال له: إني أريد أن أقرأ عليك القرآن، قال: إن عندي طلاباً كثيرين، قال: يا شيخ أقبلت عليك من بلد كذا وكذا فأعطني من وقتك، فأعطاه وقتاً عزيزاً عليه في ليله، فشاء الله عز وجل أن يستفتح ذلك الطالب كتاب الله عز وجل، وما زال يقرأه حتى بلغ قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12] قال: فخشع الشيخ وسقط مغمىً عليه، فكانت خاتمته عند هذه الآية الكريمة. فنسأل الله حسن الختام.

    والقصص في هذا كثيرة، فإن أهل القرآن الذين يحبون كلام الله عز وجل، ليس كثيراً عليهم هذا، وهذا الشيخ الفاضل الذي توفي عند هذه الآية الكريمة، كان يقرأ عليه أحد الأقارب يقول: فرأيته بعد وفاته في المنام فقلت: يا شيخ ما فعل الله بك؟ قال: فغضب عليّ واحمر وجهه، قال: ما تظن الله يفعل بأهل القرآن! هل تظن الله سيعذبني وأنا من أهل القرآن، يفتخر ويعتز بنعمة الله تبارك وتعالى عليه.

    فنسأل الله عز وجل أن يسكن قلوبنا وقلوبكم حب القرآن، وأن يجعل حياتنا وحياتكم مع القرآن.

    إذا قرأت القرآن واستمتعت إلى آيات القرآن وسألت نفسك عن هذه الآيات.

    فالقرآن على ضربين:

    القسم الأول: ضرب منه الأوامر والنواهي، تفعل ما أمرك الله، وتترك ما حرم الله عليك.

    وأما القسم الثاني: فهو العظة والعبرة التي جعلها الله عز وجل في قصص الماضين، ومآل العباد إلى الله رب العالمين، فما كان من العظات وقفت أمامه، فإن استطعت البكاء فذلك من السناء والبهاء، وإن لم تستطعه فتباك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى البكاء عند تلاوة القرآن وعند سماع كلام الرحمن، فالعظات ينبغي للإنسان أن يعيش معها وأن يحس أنها تخاطبه، وأنه هو المعني بها.

    ولذلك قال بعض العلماء: إذا قرأت آيةً فيها ذكر الجنة فعد نفسك كأنك من أهلها، حتى تشتاق إلى بلوغها، وإذا ذكرت آيةً فيها ذكر النار، فعد نفسك كأنك من أهلها، وكان الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعون لهم بإحسان، إذا قرءوا القرآن، أهانوا أنفسهم عند تلاوة القرآن، قال بعض السلف: والله ما عرضت نفسي على كلام الله إلا اتهمتها بالنفاق.

    وقال الثاني: ما عرضت نفسي -قولي وعملي- على كتاب الله إلا وعددتها من الراسخين في النفاق.

    وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [ما زال ينـزل في سورة براءة ومنهم ومنهم حتى خشينا على أنفسنا أن نذكر] فينبغي للإنسان إذا تلا كتاب الله أن يعيش مع كلام الله عز وجل، حتى تكمل موعظته، وتكمل عظته، ونسأل الله العظيم أن يبلغنا وإياكم ذلك المبلغ.

    1.   

    حقوق القرآن على من تعلمه

    أيها الأحبة في الله: إن من تمام حقوق القرآن أن يغرس الإنسان حب القرآن في أبنائه وأهله وزوجه، فمن توفيق الله عز وجل لأهل القرآن أنهم كالشجرة خيرها لا يقتصر عليها، جناها للناس وظلها للناس، كذلك حافظ القرآن وتاليه، يبلغ حجة الله إلى العباد، ويهدي كلام الله عز وجل داعيةً إلى سبيله، سبيل الحق والسداد.

    فإذا أردت أن يتمم الله عز وجل عليك نعمته، وأن يكمل عليك منته، فإذا تأثرت بكلام الله، فذكِّر به الأقربين، وذكر به الناس أجمعين، فمن تمام النعمة في القرآن أن تهدى ثماره، وأن يذكر بآياته من بعد عنه من الأقربين والأبعدين، فكن أخي في الله حامل رسالة الله إلى عباد الله، شرفٌ لك أن تقف أمام عبدٍ تذكره بآيةٍ من كتاب الله عز وجل، وفخرٌ لك أن تعتز بكلام الله فتبلغه إلى عباد الله، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وأخبر صلوات الله وسلامه عليه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس ...)، فإذا أتاك الله القرآن ووجدت للقرآن أثراً فابذله إلى غيرك.

    قال بعض الفضلاء من الدعاة: إن العبد إذا وفقه الله للآية فتأثر بها، وأراد أن يذكر بها غيره فوفقه الله لتذكيره بها فإن الله سيوفقه لغيرها.

    لأن من شكر نعمة الله عز وجل عليه بعلم القرآن وعمله بارك الله له في ذلك العلم.

    والناس في علم القرآن على قسمين:

    القسم الأول: بارك الله له في علمه.

    والقسم الثاني: محقه بركة علمه.

    ولذلك تجد الرجل يدخل المسجد فيسمع من بجواره يخطئ في القرآن لا يرد عليه خطأ واحداً، وهو يعلم أنه مخطئ في كتاب الله، ورجل ثانٍ يجلس بجوار الرجلين، يخطئ هذا فيرده ويخطئ هذا فيرده، كم له من الأجور والحسنات، وهو يقوم في كتاب الله، فينبغي للراغب الموفق في رحمة الله ومرضاته أن يحرص على تبليغ القرآن للغير، ودلالة الناس إلى كلام رب الناس.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحيي قلوبنا وقلوبكم بالقرآن، وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن، اللهم إنا نسألك أن ترفع بالقرآن ذكرنا، وأن تهدي به ضالنا، وأن تجمع به شملنا، وأن تثبت به قلوبنا، وأن تشرح به صدورنا.

    اللهم إنا نسألك حب القرآن والعمل به، والدعوة إليه، والثبات على ذلك إلى لقائك، حتى يكون حجةً لنا لا حجةً علينا، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    الجمع بين تأثر الصحابة وتأثر التابعين بالقرآن

    السؤال: عندما ينظر الإنسان في سيرة الصحابة ومن بعدهم، يجد أن تأثرهم بالقرآن يختلف، ففي التابعين ومن بعدهم يصعق الواحد منهم ويغمى عليه وغير ذلك من أنواع التأثر، أما في الصحابة فلا يتأثرون مثل هذا النوع من التأثر بل أقل، فكيف نفسر هذا؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    هذا السؤال لا شك أنه من أفضل الأسئلة وأدقها، وهو يعتبر إشكالاً عند العلماء رحمهم الله، ووجه هذا أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمعون القرآن ويذكرون به، ولم يقع لهم ما وقع للتابعين من بعدهم، فنسمع في قصص التابعين أن الرجل كان إذا سمع الآية صعق ومات، كما في الترمذي أن رجلاً تلا قول الله عز وجل: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر:8] فسقط مغشياً عليه ميتاً.

    فهذه الحالة هل تدل على أن التابعين أكثر تأثراً من الصحابة؟

    والجواب كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الناس تختلف قلوبهم، فقلوب الصحابة رضوان الله عليهم كمل فيها الإيمان، وقوي فيها اليقين، وكانوا إذا تليت عليهم آيات القرآن تأثروا بها، وكان تأثرهم في القلوب، وفي العمل والتطبيق، وأما الأثر الظاهر، وهو دمع العين، ووجل القلب والسقوط مغشياً عليه ونحو ذلك مما وقع للتابعين، فهذا ضعفٌ في الوارد والمحل الذي وردت عليه التلاوة، فكان الصحابة أقوى في الثبات، وأقوى في التأثر بالآيات وكان علمهم بالقرآن عملاً وتطبيقاً، فهذا لا ينقص من قدر الصحابة شيئاً، وهذا هو أنسب الوجوه في الجمع، أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد قوي يقينهم، ولم تكن قلوبهم كقلوب التابعين أرق، وهذا لا ينقص قدر الصحابة كما قلنا والله تعالى أعلم.

    نصيحة لمن تمر عليه أيام ولم يقرأ القرآن

    السؤال: تمر عليَّ بعض الأيام وما أقرأ شيئاً من القرآن، فهل يعتبر هذا هجراً للقرآن؟

    الجواب: هذا يعتبر حرماناً وأي حرمان!! إذا وجدت نفسك تمر عليك الأيام ولم تتلُ شيئاً من كتاب الله فابكِ على نفسك، فوالله ما حرم عبد طاعة إلا دل ذلك على بعده من الله عز وجل.

    قال سفيان الثوري رحمه الله: "أذنبتُ ذنباً فحرمتُ قيام الليل ستة أشهر" فإذا وجدت أن الأيام تمر عليك وليس لكتاب الله حظٌ في أيامك وساعات ليلك ونهارك، فابكِ على نفسك واسأل الله عز وجل العافية، واطّرح بين يدي الله عز وجل منيباً مستغفراً، فما ذلك إلا بذنبٍ بينك وبين الله، والناس الآن يهجرون كتاب الله، أما السلف فكانوا يرتبطون بكتاب الله، والفرق بين الطائفتين أن الفتن كثرت في هذا الزمان، وما يدريك لعل فتنةً في البصر أو في السمع أو الهرج، طفئ نور الإيمان بها في القلب، فلم تعِ كتاب الله ولم تحبه ولم تتله، فكثرة الذنوب في هذه الأزمنة المتأخرة صرفت قلوب الناس عن الطاعة، وأصبح حظ كثيرٍ من الناس من التأثر بكلام الله أقل من حظ الأولين، الذين انتشر فيهم الخير وقل فيهم الشر.

    فنسأل الله العظيم أن يتداركنا وإياكم بلطفه، ولذلك من أفضل العلاج، أن نفر من الله إلى الله، وأن يحاول من يريد الخشوع والقربى من القرآن أن يفر عن الفتن، وأن يبتعد عن كل سيئة تبعده عن الله، سواءً في سمعه أو بصره، أو فرجه أو يده، أو لسانه يبتعد عن ذلك كله.

    كان السلف الصالح رحمهم الله يتركون فضول الحديث خوفاً من الوقوع فيما لا خير فيه، فكيف بنا وقد وقعنا في الغيبة والنميمة وغير ذلك من الذنوب، فنسأل الله العظيم أن يتداركنا برحمته، والله تعالى أعلم.

    وصية لمن حفظ القرآن وترك مراجعته

    السؤال: أنا شابٌ قد منّ الله عليّ بحفظ القرآن الكريم إلا القليل منه، ولكنني مقصرٌ جداً في مراجعته وأنا خائفٌ أن أموت وأنا على هذا الحالة، فأرجو منك توجيهي الوجهة الصحيحة؟

    الجواب: إذا حفظ الإنسان كلام الله، واستقر في قلبه كلام الله، فينبغي أن يستحي من الله عز وجل أن يؤاخذه بكلامه، ولذلك أكمل الناس عملاً بالقرآن حفاظ كتاب الله، وإذا حفظت كتاب الله فاعلم أن كتاب الله يسألك حقاً عظيماً، لقد كان بعض الأخيار لا يأكل في السوق ولا يقف في المطاعم، وكان يبتعد عن كل شيٍ فيه منقصة يقول: أخشى أن يؤاخذني الله بالقرآن الذي في صدري، فالقرآن عظيم، وصاحب القرآن في الجلال والتكريم، فإذا حفظت القرآن حفظك، وإذا أكرمت القرآن أكرمك، وإذا رفعت القرآن رفعك، ولذلك لا ينبغي للإنسان الذي أورثه الله عز وجل كتابه أن يقصر في تلاوته، فإن من دلائل الإيمان كثرة تلاوة القرآن، قال الله في كتابه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:121].

    فأخبر أن من حرم تلاوة القرآن، وحصل له الكفر بكلام الرحمن أنه من أهل الخسارة، فنسأل الله العظيم أن يعافينا وإياكم من ذلك.

    أوصيك أخي في الله، وقد أكرمك الله بكلامه أن تجعل للقرآن حظاً من الليل، فتراجع كلام الله عز وجل في قيام الليل، اجعل لك ولو جزءاً واحداً من كتاب الله عز وجل.

    اتصلت عليّ امرأة البارحة عمرها أكثر من ستين سنة، من حفاظ كتاب الله عز وجل، من القرابة، تشتكي أنها في قيام الليل لم تعد تطيق الوقوف، وتترخص في تلاوته وهي جالسة، فقلتُ: سبحان الله، أين الشباب الأصحاء الأقوياء الذين هم في عافيةٍ من الله، امرأة في آخر العمر عند المشيب والكبر تتمنى أن الله عز وجل يكرمها بذلك، ومع هذا لما سألتها إذا بها في الركعة الواحدة تقرأ حزباً كاملاً من القرآن!! فأي فضل وأي غنيمة، والله إن الإنسان في بعض الأحيان إذا فكر في حال الصالحين وما كانوا عليه من الخيرات، وجاءك ذكر الموت يحصل في القلب من الشجى والحزن ما الله به عليم؛ لا لشيء، فقط والله نخشى أن تنتهي آجالنا وأن تنقضي أعمارنا وما عبدنا الله حق عبادته، نخشى أن نخرج من الدنيا ولسنا من أهل قيام الليل.

    ونخشى أن نخرج من الدنيا ولسنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، ولكن نسأل الله عز وجل بعزته وعظمته ألا يخرجنا من الدنيا إلا وقد جعلنا من أهل القرآن، الذين هم أهله وخاصته، فأي غبن حينما يأتي الإنسان في عرصات يوم القيامة، فيجد الصالحين قد سبقوه بمراتب ومفائز، فنسأل الله أن يقرب بيننا وبينهم، وأن يرزقنا التأسي بهم.

    أوصيك بمراجعة القرآن وبتلاوته في قيام الليل، فإن من أفضل ما يكون في مراجعة القرآن قراءته في قيام الليل أكثر من تلاوته، ابتدأ أول يوم ولو لم تكن حافظاً، اجعل لقيام الليل من القرآن جزءاً، حاول بعد صلاة العشاء ألا تتصل بأحد، واجعل ليلك لله، ويكفيك النهار للناس، فكف أحاديث الناس ومجالسهم، فاجعل هذه الساعة بينك وبين الله، فإن قدرت أن تقوم آخر الليل فذلك أجل وأكمل، وإن لم تقدر فاحرص أن تقوم منتصف الليل، فإن لم تستطع فبمجرد أن تصلي العشاء أقفل باب غرفتك وخذ كتاب ربك، وصل واقرأ، أنا أقول: طالب العلم أقل ما ينبغي أن يقرأ في الليلة على الأقل ثلاثة أجزاء.

    الإمام الشافعي رحمه الله كان يختم القرآن كل ثلاث ليالٍ مرة، يعني يقرأ عشرة أجزاء في الليلة الواحدة، فنحن نقول طالب العلم عليه ثلاثة أجزاء، الثلث والثلث كثير، أقل شيء ثلاثة أجزاء، والله ثلاثة أجزاء في اليوم الأول تراهم مثل الجبل، واليوم الثاني نصف الجبل، واليوم الثالث ولا جبل، واليوم الرابع مثل الغذاء الذي لا تستطيع أن تصبر عليه.

    ولو كانت على الإنسان أحمال الدنيا وهمومها وهو من أهل قيام الليل وجد أثر قيام الليل في حياته، وجرب وستجد ذلك، لا تقل هذه نصف ساعة، أحياناً نصف ساعة تختم فيها جزءاً، وفي هذا الجزء ملايين الحسنات، والله تتأثر بها في قولك، وتتأثر بها في سمعك، وتتأثر بها في سلوكك، ويورثك الله بها الحب عند عباده على قدر ما تلوت من كتابه، جرب وستجد ذلك، كتاب الله بيننا وبينه فجوات، محبة الخلق على قدر ما بينك وبين كتاب الله عز وجل من المحبة، فاجعل نصف ساعة تختم بها جزءاً كاملاً، إذا قرأته بارتياح، فإذا تلوت ثلاثة أجزاء من كتاب الله جنيت ملايين الحسنات، مع ما فيها من العظات، وقد يعز عند الله لحظة حينما تقوم بين يدي الله وأنت تستطيع أن تنام، تأتي بعد العشاء في عز شبابك وقدرتك، فتقف بين يدي الله بالقرآن ولو تنظر إليه، فتقرأ الجزء ربما أن الله عز وجل يعظم منك هذا الموقف فيورثك خصلة من خصال الصالحين، ولربما أن يشرح صدرك للطاعة فلا ينقبض أبداً، فالله كريم.

    وما نال الصالحون درجات الصلاح بعد فضل الله إلا بالعمل الصالح، فأرِ الله عز وجل من نفسك، أرِ الله من نفسك خيراً، والله إذا رآك تقترب منه قليلاً زادك منه قرباً: (من تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً).

    فنسأل الله العظيم أن يحي قلوبنا وقلوبكم بتلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

    نصيحة في حث النساء على تلاوة القرآن

    السؤال: الرجاء حث النساء على تلاوة القرآن، خاصةً في أوقات فراغهن في البيوت، فهن يشغلن أوقاتهن بالنوم أو غير ذلك من الأمور، فنرجو توجيه النصيحة لهن والله يحفظكم؟

    الجواب: أما الكلام الذي ذكرناه في الرجال، فالرجال والنساء فيه سواء، وكما أن في الرجال الطيبين كذلك في النساء الطيبات، وكما أن في الرجال الصالحين، كذلك في النساء الصالحات، والله تبارك وتعالى أثنى على الصالحات وذكر أنهن مسابقات إلى الخيرات، وفي خاتمة سورة آل عمران ما يدل على أن النساء منهن من الذاكرات.

    فأوصي أختي المسلمة أن تكثر من تلاوة كتاب الله، وكل الذي قلناه من قبل وصيةً لها، ووصيةٌ للذكر والأنثى كثرة تلاوة القرآن، لكن المرأة إذا أكثرت تلاوة القرآن ظهر الأثر في بيتها، وظهر الأثر في أولادها وبناتها، فإذا نظرت إليك البنت وأنتِ تحافظين على تلاوة كتاب الله، تعلق قلبها بكلام الله عز وجل، وكم من امرأة صالحة ورثت بنتها أو ابنها حب الصلاح بصلاحها، فالمرأة الصالحة فيها خيرٌ كثير، ولذلك ينبغي للمرأة أن تكثر من تلاوة كتاب الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم حفز النساء والرجال فقال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من أصحابه، والله تعالى أعلم.

    ضرر الرياء عند حفظ كتاب الله

    السؤال: لقد أتممت حفظ كتاب الله ولكني قبل أن أختم القرآن كنتُ أتفاخر بأني حافظٌ لكتاب الله، وكنتُ أحب أن يقال: فلانٌ حافظ، وكنتُ على غير علم، والآن ولله الحمد عرفت أن هذا لا يجوز وهو من الرياء، فهل ينطبق عليّ الحديث: (أول من تسعر بهم النار ثلاثة

    الجواب: عفا الله عما سلف وعليك بما بقي من عمرك أن تصلح ما بينك وبين الله في نيتك، فما كان وما مضى فلا تعلق قلبك به، وإذا ذكرت أقوالك الأولى، فاستغفر الله عز وجل منها وتب إلى الله، فإن الذي ذكرته عظيماً، فإن الإنسان إذا ورثه الله حفظ كتابه فقال مفتخراً: أنا حافظ للقرآن، فقد أحبط على نفسه العمل.

    فإن الغرور يحبط العمل والعياذ بالله، ويمحق بركة العمل، ولذلك إذا وجدت الإنسان على خصلةٍ من خصال الصلاح، ووجدته قد قرنها بالغرور محق الله بركة ذلك الصلاح، فينبغي للإنسان أن يخاف من الغرور، وأن يخشى الله عز وجل فيما يقوله من الثناء والتزكية لنفسه، ولكن يقول: أرجو أن أكون حافظاً وأرجو أن يوفقني الله عز وجل لحفظ القرآن والعمل بالقرآن، أي يصرف نظره عن كونه حافظاً فيقول: أسأل الله أن يوفقني للعمل بالقرآن، المهم أن تسأل عن العمل بالقرآن، لا عن حفظ القرآن والله تعالى أعلم.

    كيفية التخلص من الوسواس

    السؤال: أنا إنسانٌ مبتلى بالوسواس في كل شيء، وخاصةً في الصلاة والوضوء، فكيف أتخلص من هذا الوسواس؟

    الجواب: استعن بالله عز وجل فإنه نعم المولى ونعم النصير، سل الله عز جل أن يشرح صدرك، وأن يثبت قلبك وأن يدفع الوساوس عن جنانك، واسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذك من الشيطان الرجيم، فإن الله تبارك وتعالى لما ذكر الوساوس قرنها بقوله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36].

    فمن استعاذ بالله أعاذه الله، فأكثر من الاستعاذة واتفل عن يسارك ثلاثاً إذا وجدت الوسوسة في صلاتك، أو وجدتها في وضوئك فالله يعينك.

    أما الأمر الثاني: إذا غسلت كفك وجاءك الشيطان فقال: لم تغسل؟ فقل: قد سألت وكفيت المسألة، فالمرة كافية، فلا تصب مرةً ثانية ولو قال لك: إن صلاتك باطلة، ولذلك خير ما يعالج به الموسوس ألا يفتي نفسه، فباب الوسوسة يأتي والعياذ بالله من فتوى الإنسان لنفسه، إذا غسلت الأعضاء أو قمت فصليت الركعة أو الركعتين أو الثلاث وجاءك الشيطان فقال لك: لم تغسل يدك، ولم تغسل رجلك! غسلت يدك! وأنت تعلم أنك قد صببت الماء عليها، قال لك: امسح حتى يصل الماء إلى البشرة، فقل له: إن الله لم يكلفني بذلك، ولن أفعل شيئاً إلا بفتوى ومثلك لا يفتي، فكن مع الله عز وجل بضبط نفسك بفتوى أهل العلم، فأوصيك ألا تسمع لأي وسواس يأتيك، إذا قال لك: لم تغسل يدك ورأيت الماء عليها فلا تلتفت، ولو قال لك: إن هذا سيبطل صلاتك ويبطل وضوءك؛ لأن الشيطان خبيث يأتي الإنسان من باب الطاعة كما يأتيه من باب المعصية، فتقوى الوسوسة حينما يعظم له الأثر، فيقول له: أنت توضأت ولكن وضوءك غير صحيح، إذاً: صلاتك باطلة، وإذا بطلت صلاتك فأنت غير مصلٍ، وإذا كنت غير مصلٍ فأنت كافر، وقس على ذلك؛ حتى ينتهي به الأمر إلى أقصى ما يكون من الشدة والحرج، فإذا بلغت هذا فاعلم أنه على غير شرعة ولا دين؛ لأنه يخالف منهج رب العالمين فالدين يسر وهذا عسر، والدين رحمةٌ وهذا عذاب، فإذا وجدت من نفسك هذا فأعرض عن هذا كله، واستعن بدعاء الله عز وجل عليه، والله تعالى أعلم.

    نصيحة لمن تكاسل عن صلاة الفجر وهو من حفظة القرآن

    السؤال: بعض حفظة القرآن تجدهم يتكاسلون عن صلاة الفجر، فتجدهم في بعض الأحيان يأتون الصلاة متأخرين، وفي بعض الأحيان ينامون ولا يأتون إلى الصلاة فما هو توجيهكم لهؤلاء؟

    الجواب: طلاب العلم هم القدوة للناس، فينبغي أن يكون حالهم على الكمال، ومن حفظ كتاب الله عز وجل فقد حمل النبوة بين جثتي صدره، وينبغي عليه أن يكون على الكمال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فلا يقصر لا في صلاة الفجر ولا في غيرها، فينبغي عليه أن يتعاطى الأسباب التي تعينه على التبكير إلى المساجد إذا أمكنه ذلك، إلا إذا كان مشغولاً بأمرٍ عظيم، أو بمصلحةٍ هي أعظم من تعليم الناس وتوجيههم ونحو ذلك، فهذا أمرٌ آخر، ولكن ينبغي عليه أن يتعاطى أسباب الكمال، وأن يحرص على ذلك الكمال، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756271909