إسلام ويب

حال السلف مع القرآنللشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أعظم نعم الله على عباده إنزال القرآن الكريم، ولذلك فرح به السلف واحتفوا به، فنالوا بذلك الخيرية، فإنه على قدر قرب الإنسان من القرآن تكون خيريته، وقد أقبل السلف على القرآن إقبالاً عظيماً، وتأثروا به تأثراً بالغاً، دائماً مثمراً، فينبغي أن نعرف حالهم مع القرآن لنقتدي بهم.

    1.   

    نعمة إنزال القرآن

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واستمسك بهديه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن نعم الله جل وعلا على هذه الأمة -أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نعماً عظيمة متنوعة متعددة لا حصر لها، ولا يمكن للإنسان أن يحيط بها في مجلس أو مجالس، إلا أن أعظم ما أنعم الله جل وعلا به على هذه الأمة خاصة وعلى الناس عامة الكتاب الحكيم، إنزال هذا القرآن العظيم الذي امتن الله جل وعلا بإنزاله على الناس أجمعين، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب خاتمةً للكتب، وجعله حجةً على الخلق، فهو أعظم آيات الأنبياء، وأعظم ما جاءت به الأنبياء؛ لأنه المعجزة العظيمة الباقية التي لا يحد أثرها زمان ولا مكان، بل هي آية ما تعاقب الليل والنهار، حتى إذا حيل بين الناس وبين القبول، وصرفت قلوبهم عن الإقبال على الكتاب، وتعطل الانتفاع به؛ فإن الله جل وعلا يرفعه، وذلك في آخر الزمان، فإن من تعظيم الله لكتابه وحينئذٍ أن يرفعه من المصاحف والصدور.

    أيها الإخوة الكرام! بشر الله جل وعلا الناس عامة بإنزال هذا الكتاب الحكيم، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57] ، ثم قال سبحانه وتعالى بعد هذه البشارة والبيان لما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] هذه البشارة -أيها المؤمنون- تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرح، فكان فرحاً بكتاب الله جل وعلا، فرحاً بنعمه سبحانه وتعالى، وما خصه الله به من هذا الفضل العظيم، وفرحت به الأمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الكتاب من أعظم النعم عليهم، وكان انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم ما أصيبوا به؛ لما في ذلك من انقطاع المدد من السماء، وانقطاع هذا الخير.

    هذا الكتاب فرح به التابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ لما فيه من الأوصاف العظيمة التي تكفل للناس سعادة الدارين، سعادة الدنيا وفوز الآخرة، فإن هذا الكتاب لا يقتصر نفعه على دار القرار -الدار الآخرة- بل يجني المؤمن ثماره في الدنيا قبل الآخرة، فهو الكتاب الذي تصلح به أمور الناس، وتستقيم به أحوالهم في الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك بشر الله به الناس عامة، فهو رحمة وهدى وشفاء، قال الله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] وإنما خص المؤمنين بهذا؛ لكونهم المنتفعين من هذا القرآن، وإلا فإن القرآن رحمة لكل أحد، ففيه الهدى والنور، وفيه ترتيب شئون حياة الناس، وإصلاح دنياهم وآخرتهم؛ ولذلك فإن هذا الكتاب بهر عقول كثير من الناس حتى الذين لم يؤمنوا به، فإن ما فيه من البيان، وما فيه من الاعجاز، وما فيه من الأسرار التي لا يحيط بها عقل، ولا يدركها بيان، ولا يحيط بوصفها لسان؛ أمر يفوق الوصف، أمر يتجاوز التصور؛ وذلك لأنه كلام رب العالمين، والله جل وعلا قد قال في محكم التنزيل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فليس كمثل ربنا شيء: لا في صفاته، ولا في ذاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يجب له سبحانه وتعالى.

    ومن جملة ما وصف الله به نفسه الكلام، فكلام الرب جل وعلا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، كما أن صفاته سبحانه وتعالى ليس كمثلها شيء، وكما أن سائر ما يتعلق به جل وعلا ليس له نظير.

    1.   

    فرح السلف بالقرآن

    أيها الإخوة الكرام! هذا الكتاب -كما ذكرت لكم- فرح به السلف فرحاً عظيماً، وأقبلوا عليه، ولم يشبعوا من تلاوته، ولا من قراءته، ففي أحوالهم وأمورهم وما نقل عنهم مما ذكرته كتب السير من أعمالهم ما يتبين به عظيم فرحهم بهذا الكتاب، وعظيم إقبالهم عليه، وعظيم ما كانوا عليه من تعظيم لهذا الكتاب العظيم.

    من هم السلف الصالح؟

    إن السلف الصالح هم الصحابة بالدرجة الأولى، فهم الذين شهدوا التنزيل، وأخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، وهم الذين اصطفاهم الله جل وعلا وخصهم بأن جعلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هؤلاء هم السلف في الدرجة الأولى، ويليهم في الفضل من أثبت لهم الفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ، فالتابعون وتابعوهم يدخلون في مسمى السلف؛ لأنهم مِن من أثبت لهم النبي صلى الله عليه وسلم الخيرية على سائر قرون الأمة.

    الخيرية في هذه الأمة عامة

    أيها الإخوة الكرام! إن الخيرية في هذه الأمة لا يحصرها مكان ولا زمان، بل هي باقية، فالله جل وعلا قد أثبت الخيرية لمن اتبع المهاجرين والأنصار بإحسان، فقال الله جل وعلا: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100]، فاتباع سلف الأمة بإحسان ينظمك في سلكهم، ويضمك إلى حزبهم، ولو لم تكن معهم في زمانهم، ولو افترقت عنهم في مكانهم، فإنك تشاركهم في الفضائل إذا وافقتهم في الأعمال.

    1.   

    تعظيم الله لكتابه

    أيها الإخوة الكرام! إن الله جل وعلا بين شأن القرآن ووصفه بنفسه، وكفى ببيان الله بياناً، وكفى بوصفه وصفاً، فهو الحكيم الخبير العليم الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يبلغ الخلق -مهما أوتوا ومهما اجتمعوا- في وصف الكتاب ما وصف الله جل وعلا كتابه، قال الله جل وعلا في وصف كتابه: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] فوصفه الله سبحانه وتعالى بالمجد، والمجد في لغة العرب: السعة في أوصاف الكمال، فكل ما اتسع في أوصاف الكمال أثبت له هذا الوصف، وأطلق عليه هذا اللفظ، فالمجيد هو: الذي كمل في صفاته، واتسع في صفات الكمال والشرف، حتى بلغ منتهاها وبلغ غايتها، كيف لا وهو الروح؟ كيف لا وهو النور؟ كيف لا وهو الهدى؟ كيف لا وهو شفاء لما في الصدور؟ قال الله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ [الإسراء:82] ، وقوله سبحانه وتعالى: (من القرآن) (من) هنا ليست للتبعيض، بل هي لبيان الجنس، أي: إن كل القرآن شفاء لما في الصدور، ويشفي -أيضاً- من الأمراض الحسية، ويشفي -في الأصل والأساس وفي الدرجة الأولى- من أمراض القلوب، من أمراض الشبهات من أمراض الشهوات.

    1.   

    تعامل الصحابة مع القرآن

    أيها الإخوة! إن سلف الأمة أقبلوا على هذا القرآن، وإن وقفةً مع بعض أحوالهم تبين لنا ما كانوا عليه -رحمهم الله- من حسن التعامل مع هذا القرآن، وليس عجباً؛ فإن السلف الذين نتندر بما كانوا عليه من الفضائل، ونتعجب مما كانوا عليه من السبق، كانوا رضي الله عنهم بهذه المنزلة، وبلغوا هذه المرتبة بما ارتسموه من كلام الله جل وعلا وتوجيه رسوله صلى الله عليه وسلم.

    فهذه الأمة التي هي: خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] إنما خرجت من بين دفتي المصحف الكريم، من بين هذا القرآن الحكيم، خرجت على ضوء توجيهات هذه الآيات المبينات، وهذا القرآن العظيم، قال الله جل وعلا في وصف هذه الأمة -وأول من يدخل فيها الصحابة رضي الله عنهم-: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] ، وإنما كانت هذه الأمة على هذه الصفة وعلى هذا النحو بتمسكها بالقرآن الكريم، ولا عجب بعد هذا أن تنقل السير والسنن والكتب والدواوين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التابعين وتابعيهم العجائب في التعامل مع القرآن الحكيم.

    النموذج الأول في تعامل الصحابة مع القرآن

    إن وقفة مع بعض ما حفظته السنة من تعامل الصحابة وتلقيهم الحي للقرآن العظيم يعجب منه الإنسان، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]) هذه الآية يحفظها كثير منا، ويقرؤها كثير منا، لكنها لا تستوقف أكثرنا؛ وذلك لأننا نقرأ القرآن لا على وجه التلقي لما فيه من المعالم، وإنما نقرأ القرآن طلباً للأجر بقراءة لفظه دون نظر إلى ما تضمنه من المعنى، صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أنزل الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآية التي فيها إثبات الملك لله عز وجل، إثبات ما في السموات وما في الأرض له سبحانه وتعالى، وأنه جل وعلا يحاسب الناس على ما دار في صدورهم ونفوسهم، ولو لم يتكلموا به ولو لم يعملوا، فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا هذا اشتد عليهم الأمر، فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- ثم بركوا على الركب -أي: جلسوا على الركب من شدة ما جاءهم في هذه الآية- فقالوا: يا رسول الله! كلفنا من العمل ما نطيق: الصلاة .. الصيام .. الجهاد .. الصدقة -أي: كل هذا نطيقه- وقد نزلت علينا آية لا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -مؤدباً ومعلماً لهم كيف يتلقون القرآن، وكيف يتلقون كلام رب العالمين: (أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟! قولوا: سمعنا وأطعنا)، فما كان منهم رضي الله عنهم إلا أن انقادوا إلى توجيه النبي صلى الله عليه وسلم: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] ، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، وتكلموا بها وقرءوها، وقبلوها قبولاً تاماً؛ جاء التخفيف من رب العالمين، وجاء الفرج من الله جل وعلا الذي قال: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147] مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ أي: بإلحاق المشقة بكم: إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ، جاء الفرج من الله جل وعلا لهذه الأمة، ونزل في كتاب الله جل وعلا تزكيتها، وبيان فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال الله جل وعلا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:285-286] فجاء التخفيف من رب العالمين بعد إثبات إيمانهم وقبولهم لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

    أيها الإخوة! الشاهد من هذه القصة ومن هذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتقبلون القرآن ويتلقونه على أنه شيء يتلى، وتستنبط منه الأحكام، ويعرف ما فيه من المعاني فقط، بل قرءوه رضي الله عنهم على أنهم هم المخاطبون، وهم المعنيون بما فيه من المعاني؛ ولذلك شق عليهم، فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي شق عليهم من هذا القرآن، وهذه القصة ليست الفريدة، وليست الوحيدة التي حفظتها كتب السنة من أفعال الصحابة رضي الله عنهم عندما أنزل الله جل وعلا ما وجدوا فيه مشقة وعسراً وصعوبة.

    النموذج الثاني في تعامل الصحابة مع القرآن

    في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إن الله جل وعلا لما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]) وهذه الآية فيها البشارة من الله جل وعلا لمن آمن وسلم من أن يخلط إيمانه بظلم، فقوله تعالى: َولَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] أي: لم يخلطوه بظلم، أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] لهم الأمن في الدنيا والآخرة، وهم مهتدون أيضاً في الدنيا والآخرة؛ لأن الهداية المسئولة والمثبتة لأهل الإيمان ليست فقط في الدنيا بل الهداية في الدنيا والآخرة، وهداية الآخرة أعظم من هداية الدنيا، لكنها لا تكون إلا لمن اهتدى في الدنيا؛ لأن هداية الآخرة بها النجاة من أهوال ذلك الموقف العظيم الذي تشيب فيه الوالدان وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2] ففي ذلك اليوم يحتاج الإنسان إلى هداية يخرج بها من تلك الأهوال، وينجو بها من تلك المزالق، ويجوز بها الصراط، فإنه لو لم يهده الله جل وعلا إلى اجتياز الصراط ما اجتاز، وما تمكن من السلامة من صراط ورد في وصفه: (أنه أدق من الشعر، وأحد من السيف).

    أيها الإخوة! إن صحابة رسول الله صلى الله وعليه وسلم لما نزلت عليهم هذه الآية أتوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -وقد شق عليهم الأمر- (فقالوا: يا رسول الله! أينا لم يظلم نفسه؟!) يعني: مَنْ منا لم يقع في الظلم؟! كلنا واقع في الظلم، وهذه الآية تدل على عدم حصول الأمن والاهتداء إلا بالإيمان الذي لم يخلط فيه الإنسان ظلماً، فشرط حصول الأمن والاهتداء ألا يقع الإنسان في الظلم، ففهم الصحابة أن هذا يشمل كل ظلم: الدقيق والجليل، الصغير والكبير، الشرك فما دونه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه؛ لأنه لا سلامة من الظلم، بل كل إنسان ظالم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) ، وكما قال الله جل وعلا -قبل ذلك- في شأن الإنسان: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] حيث حمل الأمانة وقد أعرضت عن حملها السموات، والأرض، والجبال: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، وهذا الوصف لا يختص بفرد من الناس، ولا بجنس منهم، بل هو لعموم الناس، فكلهم ظالم جهول، ولا يسلم الإنسان من هذين الوصفين إلا بالاهتداء بكتاب الله وما جاءت به الرسل عن الله سبحانه وتعالى.

    أيها الإخوة الكرام! لما جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكون ما في هذه الآية من مشقة قال لهم: (ليس الذي تظنون -أي: ليس الظلم هو الذي ذهبتم إليه- إنما هو الشرك، كما قال الله جل وعلا في وصية لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]) ، فالظلم الذي في الآية هو الشرك، فهان الأمر على الصحابة رضي الله عنهم.

    والشاهد -أيها الإخوة- أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتلقوا القرآن تلقياً بارداً، بل تلقوه للعمل، وأخذوا به على أنهم هم المعنيون، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت الله جل وعلا يقول في كتابه: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك -يعني: أصغ إليها، وأعطها أذنك- فهي إما خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه. وهذا لكونهم أخذوا القرآن للتلقي والعمل، وأن كل ما فيه خطاب لكل من سمعه، وخطاب لكل من بلغه، وليس المخاطب به قوم مضوا ولم يبق لنا منه إلا أن نتعبد ونتقرب إلى الله جل وعلا بما فيه من الألفاظ، وما فيه من الكلام الذي جرد عن معناه، ولم يقصد ما تضمنه، لا؛ بل إن الصحابة رضي الله عنهم ضربوا في هذا أمثلة رائعة، وانقادوا لما في كتاب الله جل وعلا انقياداً تاماً، فهذا أبو بكر رضي الله عنه تتهم ابنته عائشة في عرضها! ويبرأها الله جل علا في سورة النور في قصة الإفك، وتبين أن من جملة من رمى عائشة وتكلم فيها: مسطح بن أثاثة ، وهو قريب لـأبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر يصله ويعينه، وكان فقيراً، ثم لما تبين الأمر وتبينت براءة عائشة رضي الله عنها حلف ألا يصله -بعد أن فعل ما فعل- شيئاً من عطاياه، فأنزل الله جل وعلا قوله سبحانه وتعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى بلى، فانتهى عن الامتناع مما جرت به يده رضي الله عنه من الصدقة والإحسان على مسطح بسبب ما كان منه من إساءة لـعائشة رضي الله عن الجميع.

    1.   

    السلف وقراءة القرآن

    أيها المؤمنون! إن الصحابة رضي الله عنهم تعاملوا مع القرآن تعاملاً عظيماً، وليس هذا في جانب التلقي فقط، بل فاقوا الأمة في جوانب عديدة، من ذلك قراءتهم للقرآن، فإن الصحابة رضي الله عنهم لازموا قراءة القرآن، فكان أحدهم يلقى أخاه في الطريق فيقول: اجلس بنا نؤمن ساعة، فيقرأ أحدهم على الآخر سورة العصر، وثبت عنهم رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا اجتمعوا جعلوا أحدهم يقرأ، والبقية يستمعون للقرآن، فالقرآن كان مخالطاً لحياتهم: في قلوبهم .. في مجالسهم .. في تذكرتهم وموعظتهم، فالقرآن دخل معهم في كل أمر، وكانوا رضي الله عنهم مقبلين عليه مشتغلين به عن غيره؛ فلذلك فاقوا غيرهم في الفقه.. في العمل.. في الجهاد.. فيما كتب الله على أيديهم من النصر، كل ذلك بسبب ما كانوا عليه -رضي الله عنهم- من تعهد القرآن، والإقبال عليه، والأخذ به، والاستكثار منه.

    إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكثرون من قراءة القرآن في مجالسهم.. في طرقهم.. في كل شأنهم، فهذا عثمان رضي الله عنه كان ليلة مقتله تالياً لكتاب الله جل وعلا، حتى ذكر أن الذي قتله -عليه من الله ما يستحق- قتله وكان في يديه كتاب الله جل وعلا.

    أيها الإخوة الكرام! سار السلف الصالح: التابعون ومن بعدهم على منوال أولئك في قراءة الكتاب الحكيم، وفي الأخذ به رضي الله عنهم، فهذا عفان يقول: قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة ، لكن ما رأيت أشد مواظبةً على الخير وقراءة القرآن والعمل لله تعالى منه رضي الله عنه. وقال آخر: ما رأيت أحسن انتزاعاً لما أراد من آي القرآن من أبي سهيل بن زياد ، وكان جارنا، وكان يديم صلاة الليل والتلاوة، فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه. يعني: في الاستشهاد والاستفادة مما في هذا القرآن من الأحكام، ويقول آخر في وصف ما كان عليه مالك بن أنس إمام دار الهجرة: قيل لأخت مالك بن أنس : ما كان شغل مالك بن أنس في بيته؟ -بماذا يشتغل في بيته؟ وماذا كان يعمل في بيته؟- قالت: المصحف والتلاوة. هذا شغل الإمام مالك رحمه الله في بيته، المصحف والتلاوة.

    والآثار في ذلك كثيرة، ومن العجيب! أن بعض السلف كان إذا اجتمع إليه أصحابه أوصاهم عند التفرق بألا يجتمعوا في سيرهم، بل يمشي كل واحد منهم بمفرده، قال لهم: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا؛ لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم فانشغلتم عن القرآن.

    من سمات السلف قراءة الألفاظ وتدبر المعاني

    هكذا كان السلف رحمهم الله في قراءتهم للقرآن، وإقبالهم عليه، وحرصهم على تلاوته، ولكن هذه التلاوة لم تكن مجرد قراءة للألفاظ، فإن الله سبحانه وتعالى أثنى على الذين يتلون الكتاب ثناء حسناً، ولكنه أيضاً ذم قوماً يقرءون الكتاب لكنهم لا يفقهون ما تضمنه الكتاب من التوجيه، فقال الله جل وعلا في وصف طائفة من بني إسرائيل: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] يعني: إلا قراءة، فليس عندهم من معرفة كتاب الله من نصيبٍ، ولا من الكتاب إلا مجرد التلاوة، فليس عندهم فقه ولا معرفة ولا فهم للمعنى ولا تدبر؛ ولذلك حث الله جل وعلا في كتابه على النظر في الآيات، ومن جملة تلك الآيات التي تضمنها الكتاب الحكيم قوله جل وعلا: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، فهذا الكتاب أنزله الله جل وعلا ووصفه بأنه مبارك، ثم بين الطريق الذي تحصل به بركة هذا الكتاب، والطريق الذي تنال به خيرات هذا الكتاب فقال سبحانه وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] أي: ليحصل لهم التدبر، ولا سبيل لتحصيل بركة الكتاب إلا بهذا.

    وقد أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم في أول البعثة بقيام الليل، فقال الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:1-4] أي: رتله في قراءته وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:4-5] وهو القرآن، فالقرآن قول ثقيل يحتاج إلى تهيئة إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:5-6]، أمره بقيام الليل وعلل ذلك بقوله: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا [المزمل:6] يعني: يتفق فيها قول اللسان مع تدبر القلب ونظره وتأمله وتفكره، وناشئة الليل قيل في تفسيرها: أوقات الليل، وقيل: عمل الليل، وكلا القولين يؤيد ما استشهدنا به من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله عز وجل بما أمره، ووجهه إلى أن يكون ذلك في الليل قياماً؛ لكونه أدعى لمواطأة القلب للسان بالتدبر، وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيه الله جل وعلا وأمره، ففي صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً فقرأ: البقرة وآل عمران والنساء في ركعة!) كل هذا في ركعة في ليلة، وما هي صفة هذه القراءة؟ هل هي قراءة الهذ والنثر التي لا يعقل معها معنى، ولا يعرف معها مقصود؟! لا والله، يقول حذيفة رضي الله عنه في وصف قراءته صلى الله عليه وسلم: (وكان إذا مر بآية فيها تسبيح سبّح، أو سؤال سأل، أو تعوذ تعوذ) هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قراءة تدبر ونظر وتفكر، ليست قراءة هذٍ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في وصف القراءة التي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، قال: (لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب).

    هذا القرآن فيه من العجائب والأسرار ما لا ينفتح للذي يقرؤه قراءةً لا تدبر فيها ولا نظر، فإن الله جل وعلا يمنع من امتهن القرآن ولم يعطه حقه من أن يقف على أسراره وعجائبه.

    السلف وتعلم القرآن

    السلف رحمهم الله من الصحابة ومن بعدهم كان أحدهم يمكث في تعلم السورة من القرآن السنين الطويلة، فـابن عمر رضي الله عنه مكث في تعلم سورة البقرة ثمان سنين، وقيل: مكث اثنتي عشرة سنة، قال أبو عبد الرحمن السلمي : كان الذين يقرئوننا القرآن من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: عثمان وأبي بن كعب وغيرهما يقولون: كنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز العشر آيات حتى نعرف ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. هكذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، ابن مسعود يقول: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن). وروى مالك أن ابن عمر رضي الله عنه تعلم البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزوراً رضي الله عنه، وهذه المدة الطويلة ليست فقط لحفظ ذلك وضبطه من جهة اللفظ، بل إن المظنون فيهم رضي الله عنهم أنهم أسرع حفظاً من المتأخرين، لكنهم كانوا يتفقهون، وينظرون إلى ما تضمنه هذا الوحي من الخير العظيم، الذي به حصل لهم الفقه، فكلامهم رضي الله عنهم قليل لكنه كثير البركة؛ لأنه نابع عن فقه ونظر دقيق، أما كلام المتأخرين فهو كثير لكنه قليل البركة.

    قيام الليل بآية واحدة

    أيها الإخوة الكرام! إن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يقوم الليل بآية واحدة، وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في حديث أبي ذر فإنه قال: (قام النبي صلى الله عليه سلم بآية يرددها حتى أصبح، وهي قوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]) هذه الآية قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة تامة في ترديدها وقراءتها، وورد ذلك عن جمع من الصحابة، فعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كرر قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية:21] ردد هذه الآية حتى أصبح، وورد أيضاً عن أسماء رضي الله عنها: أنها قرأت قول الله تعالى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] فوقفت رضي الله عنها عندها، فجعلت تعيدها وتدعو، قال الراوي: فطال عليّ ذلك فذهبت إلى السوق، فقضيت حاجتي، ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو رضي الله عنها، هذا هو التدبر للقرآن! فالتكرار لآيات القرآن ليس تكراراً لطلب الأجر بقراءة الأحرف، إنما هو لطلب ما فيها من المعاني، وطلب ما فيها من الخير، وورد أن ابن مسعود رضي الله عنه ردد قول الله تعالى: رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114] ، وورد عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه ردد قول الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] ، وورد ذلك عن جمع من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.

    والترديد للآية ليس أمراً مشروعاً في الفرائض؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يفعل ذلك ولم ينقل عنه، إنما هو في النوافل كما جاء ذلك في حديث أبي ذر الذي رواه النسائي وغيره، وهذا الترداد للآيات دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتدبرون القرآن؛ لأن الترداد والتكرار لهذه الآية إنما هو للنظر في معانيها.

    1.   

    مشروعية البكاء عند قراءة القرآن

    كان الصحابة رضي الله عنهم يكثرون البكاء عند آيات الكتاب، ولا عجب فقد رءوا ذلك من رسولهم صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك فإن الله جل وعلا أثنى في كتابه على الأنبياء وعلى أولي العلم الذين يخرون للأذقان سجداً يبكون مما في هذا الكتاب من المواعظ، قال الله جل وعلا في وصف جماعة من الأنبياء: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58] ، وانظر إلى قوله: (خروا) فإنه يدل ويشعر بالمسارعة إلى السجود، وأن سجودهم سجود ذل وخضوع وانكسار وتضرع، خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، وأيضاً أخبر الله جل وعلا عن قوم من أهل الكتاب فقال سبحانه وتعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:83]، فشواهد ثناء الله جل وعلا على الباكين عند تلاوة القرآن كثيرة، وهي من الفضائل التي امتدح الله بها من امتدح من النبيين، وأولي العلم، ومَنْ تعقلوا وتدبروا ما في هذا الكتاب من الحكم، ولذلك كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أعظم الخلق نصيباً في ذلك، ففي حديث عبد الله بن الشخير قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا -أي: يصلي بالصحابة- وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء) والأزيز: هو الحركة والحنين الناتج عن التدبر والتأثر بالقرآن الحكيم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ عليَّ، فقال عبد الله رضي الله عنه: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحب أن أسمعه من غيري، يقول: فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك، فإذا عيناه تذرفان) فبكى صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم متأثراً بالقرآن.

    هذان مثالان فقط، وإلا فإن البكاء من هديه صلى الله عليه وسلم، فإنه كان كثير البكاء والتأثر بالقرآن؛ لما تضمنه من الحكم والعبر والآيات.

    نماذج من بكاء الصحابة عند قراءة القرآن

    وقد سار على ذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه عند أن كانوا بمكة بنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فتتقصف عليه نساء المشركين -أي: تجتمع- وأبناؤهم يتعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بكاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، وهذا ليس خاصاً بـأبي بكر رضي الله عنه، بل إن عمر رضي الله عنه -مع ما عرف به من الشدة والقوة- كان بكاءً، يقول من روى من أصحاب السير: إن عمر رضي الله عنه صلى بالجماعة الصبح، فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته. وفي رواية: كان في صلاة العشاء، أي: كان يقرأ ذلك في صلاة العشاء، فهذا يدل على كثرة تكراره لهذه السورة، وأنه رضي الله عنه كثير البكاء، ويقول: عبد الله بن شداد بن الهاد : سمعت نشيج عمر بن الخطاب وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح يقرأ في سورة يوسف: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86].

    أيها الإخوة! إن الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في البكاء والتأثر بتلاوة القرآن عديدة وكثيرة، لكن هذه وقفة مع حال السلف في التأثر والبكاء عند قراءة القرآن.

    أنواع البكاء

    البكاء نوعان:

    النوع الأول: يأتي بلا طلب، وبدون تكلف، وهو ما يكون من تأثر طبيعي لا يطلبه الإنسان، وإنما هو ناتج عن تدبره وتأمله لما في هذه الآيات من الترغيب أو الترهيب، أو عظيم صنع الله جل وعلا، أو عظيم وصفه، وهذا هو الذي كان عليه السلف رضي الله عنهم، وهو دال على سلامة القلب ولينه وصحته وحياته.

    النوع الثاني: هو البكاء الذي يكون بطلب، فينظر الإنسان ويحث نفسه على النظر في معاني الكتاب؛ ليتأثر، ومنه قول عمر رضي الله عنه لنبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لما رآهما يبكيان فقال لهما رضي الله عنه: (يا رسول الله! أخبرني ما يبكيك وصاحبك، فإن وجدت بكاءًَ بكيت معكما، وإن لم أجد تباكيت) ، وليس المقصود أنه يتكلف البكاء، وإنما يطلب أسباب البكاء التي من أجلها حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعليه يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن نزل في حزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا) فهذا الحديث يدل على مشروعية التباكي، لكنه التباكي الذي ليس فيه تكلف، وليس فيه طلب رياء ولا سمعة، إنما فيه طلب التأثر بالكتاب، وإذا كان القلب قد منعه مانع، أو عرض وحال دون حصول البكاء منه حائل، فينبغي لنا أن نطهر قلوبنا، وأن نطيبها؛ ليحصل لها التأثر بالقرآن دون تكلف.

    1.   

    تأثر السلف بالقرآن

    إن التدبر والبكاء المطلوب ليس آنياً محصوراً في وقت القراءة، ولا يثمر أثراً، ولا تحصل به ثمرة بعد القراءة، بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتأثرون تأثراً ممتداً غير منقطع؛ ولذلك كانت أعمالهم رضي الله عنهم على خير حال، وعلى خير مطلوب؛ لأن تأثرهم بالقرآن أثمر في حياتهم رضي الله عنهم.

    والواقع في حياة الناس اليوم أنك تجد في بعض الصلوات من يبكي عند قراءة القرآن بكاءً خاشعاً، إلا أن هذا لا يتجاوز حدود المسجد الذي حصل فيه التأثر، وحصل فيه البكاء، فليس لهذا البكاء أثر في العمل، ولا أثر في السلوك، ولا أثر في الأخلاق، ولا أثر في ترك المعصية، ولا أثر في الإقبال على الطاعة، ولا شك أن هذا قصور وتقصير فيما ينبغي أن يكون عليه المسلم المتأثر بالقرآن، قال الله جل وعلا في بيان أثر القرآن على من اتبعه وأخذ به: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، لا يضل في عمله، ولا يشقى في مآله، ولا في حاله، فهو سالم من الضلال، وسالم من الشقاء.

    ما ينبغي أن يكون عليه حامل القرآن

    ينبغي أن يكون هناك أثر للقرآن عند قارئه وسامعه، في سلوكه وخلقه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ينبغي لحامل القرآن -وليس هذا في حق الحفاظ فقط، بل هو لكل حامل له ولو حمل منه شيئاً يسيراً- أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي أن يكون باكياً محزوناً حكيماً عليماً ساكناً، ولا يكون جافياً ولا غافلاً ولا صاخباً ولا صيّاحاً ولا حديداً -أي: ولا شديداً- في مطالبة الخلق ومعاملتهم.

    وقد ورد مثل هذا التوجيه -وبيان أثر القرآن على حامله وعلى القارئ له- في عدة أقوال من أقوال الصحابة رضي الله عنهم، منها ما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (يا حملة القرآن! -أو قال: يا حملة العلم!- اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم). أي: لا يجاوز حناجرهم، بل هو مجرد قول على اللسان ليس له أثر في القلب، ولا شك أن هذا الحاجز وهذا المانع يمنع من التأثر بالقرآن والانتفاع به.

    أيها الإخوة الكرام! إن القرآن نزل معالجاً لأمراض ووقائع كانت في زمن الصحابة رضي الله عنهم؛ ولذلك كانوا يرقبون ويخافون أن ينزل شيء من القرآن يبين شيئاً من عوراتهم، أو يكشف شيئاً مما يكرهونه، أو يكون سبباً لهلاك بعضهم، فكانوا رضي الله عنهم على غاية الحذر والوجل عند نزول القرآن وتلقيه؛ ولذلك كانت أحوالهم مستقيمة رضي الله عنهم.

    عمل الصحابة بالقرآن

    وكان الصحابة إذا نزلت الآية تلقوها على الوصف السابق، ثم كان العمل، وإذا عاتبهم الله جل وعلا في شيء حصل منهم الانزجار، كما قال الله جل وعلا: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] ، فكان الصحابة رضي الله عنهم يعاتبون بالقرآن فيحصل منهم الاستعتاب، تحصل منهم المراجعة، يحصل منهم إصلاح الخطاء، وإذا نزلت بهم مصيبة، أو نزلت بهم هزيمة كما جرى في أحد، وطلبوا السبب؛ جاءهم الجواب، فقد قالوا في غزوة أحد: أنى هذا؟! أي: من أين أوتينا؟ فقال الله جل وعلا في بيان ذلك: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] ، فالقرآن في حياة الصحابة يختلف عنه تماماً في حياة غيرهم؛ ولذلك تميزوا عن غيرهم تميزاً سابقاً واضحاً، فلا يلحق مقامهم أحد، ولا يدرك شرفهم أحد رضي الله عنهم، ولكن كل من سلك سبيلهم مِن من اتبعهم بإحسان وسار على طريقهم فإنه يحصل على مثل ما حصلوا عليه من الفضل والخير أو قريباً منه.

    الصحابة رضي الله عنهم اقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن وفي تلاوته وفي العمل به وفي جعله منهجاً للحياة، وفي الصحيح أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما خلقه؟ -فقالت للذي سألها مستغربة ومنبهة-: أولست تقرأ القرآن؟ قال: بلى)، فقالت جملة مختصرة تجمل مسلك النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وخلقه، فقالت: (كان خلقه القرآن) يعمل به في نهاره، ويقوم به في ليله، فهو قائم به، عامل به آناء الليل وآناء النهار، لا يتركه لحظة من اللحظات، بل كان يترجم القرآن ويبينه للناس بقوله وعمله وسائر شأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    والصحابة رضي الله عنهم ساروا على هذا المنوال، فكانوا ينظرون إلى القرآن في كل أفعالهم وفي كل أعمالهم، ولذلك لما سئل ابن عمر رضي الله عنه عن مسألة من مسائل الحج قال لهم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، ولما طلبوه عن دليل فعل من الأفعال لم يجبهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل أو ترك، وإنما لفت أنظارهم إلى الدليل الأكبر الذي فيه الحث على الالتزام بكل فعلٍ فعله صلى الله عليه وسلم وكل قول قاله، فقال لهم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

    1.   

    منزلة القرآن عند السلف

    كانت منزلة القرآن عند السلف عظيمة، وعلومه مقدمة على سائر العلوم؛ ولذلك كانوا لا يشتغلون عن القرآن بشاغل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه منع من كتابة الحديث، حتى استقر الأمر، وميز القرآن عن غيره، وحفظ القرآن عن غيره، وقيل: إن منع النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في وقته صلى الله عليه وسلم إنما كان ليتميز القرآن عن غيره، ولئلا يشتغل الناس بغير القرآن، حتى بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد تنبه الصحابة إلى هذا الأمر فكان القرآن عندهم في الدرجة الأولى، حتى إنهم كانوا يقولون: إذا حفظ الرجل سورة البقرة جد عندنا. أي: عظم وارتفع قدره، وكان له من المنزلة ما ليس لغيره؛ لأنها السورة التي تضمنت الأحكام الكثيرة، والأوصاف العظيمة لرب العالمين، ففيها آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله جل وعلا.

    فالصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يعدلون بالقرآن شيئاً، والناظر في أحوال كثيرٍ مِن من يشتغلون بالعلم في هذه الأزمنة يجدهم عن القرآن معرضين، والإعراض ليس إعراض هجر وبعد، وإنما هو إعراض ترتيب في أولويات طالب العلم، إن أولى وأعظم ما اشتغل به من أراد العلم أن يشتغل بالقرآن العظيم حفظاً وتلاوةً وتدبراً وفهماً للمعنى، وإقبالاً على ما قاله أهل العلم في هذا الكتاب الحكيم، وقد سار على هذا السلف الصالح، فكانوا يقدمون القرآن على كل شيء.

    استمع إلى ما جرى لـابن خزيمة رحمه الله وهو الملقب بإمام الأئمة، يقول ابن خزيمة : استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة -ليتلقى عنه- فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك، فاستظهرت القرآن -أي: حفظته- فقال: أمسك حتى تصلي بالختمة -يعني: حتى تصلي بنا وتختم القرآن- يقول: ففعلت، فلما عيدنا -أي: انتهى رمضان- وختمت بهم القرآن أذن لي، فخرجت إلى مرو -ليطلب هذا المحدث ليتلقى عنه- وسمعت بمرو من فلان وفلان فنعي إلينا قتيبة -أي: أنه لم يدركه ولم يتلق عنه- .

    والشاهد من هذا: أن السلف رحمهم الله، ومن سلك سبيلهم وسار على طريقهم، كانوا يجعلون القرآن في المرتبة الأولى في التعلم، وحال الناس اليوم أنهم يشتغلون بعلوم الآلة وبالعلوم الأخرى عن القرآن، فليس لهم نصيب من التفسير، وليس لهم نصيب من علم القرآن وما فيه من الأحكام، بل حتى الذين يشتغلون بالقرآن تفسيراً ليس لهم نصيب من القرآن في استنباط الأحكام، فالقرآن مشتمل على أحكام وحكم كثيرة تحتاج إلى استنباط، وتحتاج إلى نظر، ولا يمكن أن تستنبط ولا أن تحصّل ولا أن تدرك إلا بإمعان النظر والتأمل والقراءة في كلام العلماء، وجمع ما تفرق من كلام أهل العلم في آيات الكتاب الحكيم، فيحصل للإنسان الخير، ويحصل له الفقه بكتاب الله عز وجل، والمعرفة بالقرآن الحكيم.

    1.   

    خيرية هذه الأمة بتعلم القرآن

    إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطانا معياراً دقيقاً وميزاناً واضحاً في مسألة الخيرية، فقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم -وهو الذي لا ينطق عن الهوى- في فضيلة تعلم القرآن وتعليمه، (خيركم) أي: خير هذه الأمة، (من تعلم القرآن) وليس التعلم هنا فقط تعلم الألفاظ، إنما هو تعلم اللفظ مع المعنى (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فإقبال المرء على القرآن دليل واضح على خيريته، وله من الخيرية بقدر هذا الإقبال، فالذي يُقبل -فقط- على حفظ القرآن فيه من الخيرية ما يقابل الحفظ فقط، والذي يقبل على حفظه وفهم معناه، وتدبر واستنباط الحكم والأحكام منه، فهذا فيه من الخيرية ما ليس في غيره، ومن يقبل على هذا كله: حفظاً وفهماً وتدبراً ويعقب ذلك بالعمل فهذا فيه من الخير ما ليس في غيره، وهلم جراً، فبقدر أخذك للقرآن علماً وعملاً بقدر ما يكون معك من الخير، وبقدر ما يحصل لك الكمال إذا استكملت مراتب التعلم، ثم انتقلت إلى مراتب التعليم.

    فالتعليم للقرآن العظيم من خير الأعمال؛ لأنه به تحفظ الشريعة، وليس فقط -كما ذكرنا- التعليم للفظ بل التعليم للفظ والمعنى، والعجيب! أنك إذا نظرت إلى سير العلماء على اختلاف أزمانهم ودرجاتهم في العلم ونفعهم الأمة تجد أنهم في آخر أعمارهم يتحسرون أو يندمون على عدم الاشتغال بالقرآن، وودوا لو أنهم أعطوا القرآن من النظر والبحث والتأليف والقراءة ما لم يعطوه لغيره من العلوم؛ وذلك لما وجدوا في القرآن من الأثر والنفع والبقاء، فإن في القرآن من العلم ما ليس في غيره، ويكفي في ذلك قول الله جل وعلا: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] ، وقد طلب الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم الآيات والمعجزات فجاءهم الجواب في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51]، فالكتاب أعظم آيات الأنبياء، وأعظم حجة، وأعظم برهان، لكنه حجة وبرهان لمن تدبره وتأمله وأقبل عليه.

    فالقرآن: (يرفع الله به أقواماً ويضع به آخرين) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدل ولا أصدق من وقوع هذا الحديث في واقع الأمة، فقد رفع الله جل وعلا سلف الأمة لأخذهم القرآن، ورفع الله القرون المفضلة؛ لما كانوا عليه من الإقبال على هذا القرآن: قراءةً وعلماً وعملاً وتعليماً ودعوةً وغير ذلك من أوجه الانتفاع بالقرآن الحكيم.

    نجاة الأمة من واقعها المؤلم إنما يكون بالرجوع إلى القرآن

    أيها الإخوة! إننا في هذه الأزمان المتأخرة التي بليت فيها الأمة بالمصائب والرزايا من عدة جهات: فيما يتعلق بعلاقتها بربها، وبعلاقتها مع الخلق، وعلاقتها مع دينها، فتحتاج الأمة إلى أن تراجع هذا الكتاب الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله) فالواجب على المسلمين أفراداً وجماعات أن يعودوا إلى هذا المعين الصافي، إلى هذا النبع الذي لا تنضب فوائده، ولا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي أسراره، فإن أسباب النجاة فيه، فينبغي لنا أن نقبل على هذا الكتاب، ففيه القصص، وفيه العبرة، وفي العظة، وفيه التثبيت، وفيه الهداية، وفيه النور، فقد قال الله جل وعلا في وصفه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ [الشورى:52] ، فهذا القرآن نور وروح، وهذه الأوصاف تبعث الحياة في الفرد، كما أنها تبعث الحياة في الجماعة، وتبعث الحياة في الأمة، فإن الأمة إذا أقبلت على الكتاب بشرت بهذين الأمرين: بالروح والنور، فالروح تحصل به الحياة، والنور يحصل به التمييز بين الحق والباطل، والخروج من هذه الظلمات التي أحلكت بالأمة، وأحاطت بها من كل جانب، ولا مخرج لها إلا بالكتاب المبين، والقرآن العظيم، قال الله جل علا: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].

    نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، فهم أهل الله؛ لإقبالهم على صفة من صفاته، وخاصته؛ لأنهم عظموا ما عظمه، وأقبلوا على كتابه.

    أسال الله جل وعلا أن يجعلنا مِمن تعلم القرآن وعلمه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755921764