أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات من سورة سبأ المباركة الميمونة ثم نتدارسها، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:10-14].
قال تعالى وقوله الحق: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ:10]، وداود هو أحد رسل وأنبياء بني إسرائيل، فيخبر تعالى أنه قد أعطاه فضلاً عظيماً، وأول هذا الفضل أنه نبأه وأرسله وملكه وسوده وأصبح حاكماً وسائداً، ومن ذلك الفضل أنه إذا ركب سفينته أو دابته أو فرسه وسبح الله عز وجل وتغنى بذلك فإن الجبال والطير تردد معه، وقد كان لداود صوت حسن، بل مزمار، ولفظ المزمار لغة تعني: الصوت الحسن، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي موسى الأشعري: ( لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود )، بمعنى: صوتاً حسناً، والصوت الحسن مستحب وخاصة عند تلاوة القرآن وعند الأذان.
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ:10]، ومن ذلك: يَا جِبَالُ [سبأ:10]، أي: قلنا: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ:10]، أي: رددي معه التسبيح، وَالطَّيْرَ [سبأ:10]، كذلك، وهذا هو أول الإفضال والإنعام.
وقد علمنا أن لقمان الحكيم -وهو عبد صالح- مر بداود وهو يصنع الدروع فأراد أن يسأله: لم هذا؟ فغلبته الحكمة وأبى أن يسأل واستحى، فلما فرغ داود لبسه وقاسه بجسده وقال: نعم اللبوس أنت!
ثم قال تعالى: إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سبأ:11]، فأجزيكم على عملكم، وأثيبكم على الصالحات التي عملتموها، ومن شكر شكر الله له وزاده.
وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [سبأ:12]، أي: هؤلاء الجن والعفاريت الذين يستخدمهم سليمان كالبهائم كما شاء، من يزغ منهم ويميل عن أمر الله ولا يطيع سليمان، نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [سبأ:12]، سواء كان عذاب يوم القيامة في جهنم، أو ملك في يده سوط من نار يضرب من تمرد منهم وعصى.
وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ [سبأ:13]، والجابية هي التي حول البئر، والتي يصب فيها الماء ويسقى بها الزرع، كَالْجَوَابِ [سبأ:13]، أي: قصعة كالجابية، والقدر كالسفينة الراسية، فلا إله إلا الله! إن هذا إفضال الله وإنعامه على عبده سليمان عليه السلام.
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ:14]، من القائل؟ إنه الله ربنا وولينا، فـ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ [سبأ:14]، ويقال: إن دابة الأرض الآن يأتي لها الشياطين بالماء والطين، ولا تعيش إلا على الماء والطين، وذلك لأنها هي التي أسقطت العصا، تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا [سبأ:14]، أكلتها وسقط، خَرَّ [سبأ:14]، ساقطاً على الأرض، تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ [سبأ:14]، واتضح لها، أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ [سبأ:14]، كما يدعيه أصهارهم ومشايخهم، مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14]، إذ في الجن مشايخ يدعون الغيب، وهناك آخرون لا يدعون الغيب كبني آدم، وبالتالي اتضح لهم هذا.
قال: [ ثانياً: فضيلة صنع السلاح وآلات الحرب لغرض الجهاد في سبيل الله ]، فضيلة صنع السلاح من أجل الجهاد في سبيل الله، فهذا داود كان يصنع الدروع، فدلت الآية على فضيلة صنع السلاح من أجل الجهاد في سبيل الله.
قال: [ ثالثاً: مركبة سليمان سبقت صنع الطائرات الحالية بآلاف السنين ]، إذ قال تعالى في سفينة أو مركبة سليمان عليه السلام: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12].
قال: [ رابعاً: شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما خطأه الدليل، كتحريم الصور والتماثيل علينا ولم تحرم عندهم ]، ولابد من وقفة هنا، فأقول: قد ذكر تعالى أن الجن كانوا يصنعون لداود وسليمان تماثيل من الحديد ومن العاج ومن الخشب، إذ كان هذا مباحاً في شريعة داود وسليمان عليهما السلام، وذلك لحكم عالية أرادها الله تعالى، فقد كانوا ينتفعون بها، فلما جاء الإسلام نسخ هذا ولم يجزه أبداً، وبالتالي فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يصنع صوراً أو تمثالاً أو يشتريه أو يعطاه ويجعله في بيته أو في مسجده أو في بستانه، والتمثال كالصورة، أي: لا يحل لمؤمن اقتناؤه ولا كسبه ولا صنعه ولا شراؤه ولا بيعه، وحسبنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون ).
فلهذا نصنع أو نرسم البناء والبساتين والجبال والدور وغير ذلك، أما شخصاً أو إنساناً أو حيواناً فلا يصح أبداً حتى ولو كان نملة فضلاً عن الجمل والبعير، وقد يقول قائل: ها هو الله قد أذن لنبيه سليمان في هذا؟ قلنا: هذا شرع من قبلنا، وقد أذن الله في ذلك لحكمة عرفها الله تعالى، فلما رأى تعالى أن هذه الصور لا تنفع هذه الأمة نهى عنها حتى لا تكفر وتعبد غير الله، وقد حرمها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ في النهر: [ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين ولم يستثن، فقال: ( إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم ) ]، فمن يستطيع أن يحيي ميتاً؟! قال: [ وفي البخاري: ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون )، وحديث الموطأ: ( إلا ما كان رقماً في الثوب )، فهو وإن خص جميع الصور، فإن حديث عائشة رضي الله عنها دل على كراهيته، إذ قال لها عليه السلام: ( أخرجيه عني )، فهتكته، والرخصة في لعب البنات لما في الصحيح على شرط ألا تكون كأشباه التماثيل ]، فذهب مالك إلى جواز ذلك مع الكراهة، وذلك إذا كان هناك في الثوب شيء، لكن الكراهة دائمة وباقية، ثم إنه قد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لـعائشة وهي طفلة في السابعة من عمرها أن تلعب مع البنات، وذلك بأن يوجدن صوراً صغيرة من اللعب لعلهن يتدربن على تربية الأولاد إذا كبرن، فعفا الشارع الكريم عن البنات اللواتي يلعبن بهذه التماثيل التي هي من خشب أو عود وعليها غشاء أو غطاء.
قال: [ خامساً: وجوب الشكر على النعم، وأهم ما يكون به الشكر الصلاة والإكثار منها ]، فما إن نزل قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13]، إلا وقال سليمان: اكفوني النهار وأنا أكفيكم الليل، فلم تر مسجداً من مساجدهم فارغاً في أية ساعة من راكع أو ساجد.
قال: [ سادساً: تقرير أن علم الغيب لله وحده ]، علم الغيب لله وحده، لا للإنس ولا للجن ولا للملك ولا للنبي ولا لأحد، فعلم الغيب قد استأثر الله تعالى به، ومن علمه الله فقد علِم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر