قال تعالى:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].
(( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ )) المقصود بالأميين العرب.
يقول الحافظ
ابن كثير ٍ رحمه الله تعالى: وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر، كما قال تعالى:
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44] وهو ذكر لهم ولغيرهم؛ وكذلك قال تبارك وتعالى:
وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] وهذا وأمثاله لا ينافي قول الله تعالى:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وقوله تعالى:
لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، وقوله تعالى إخباراً عن القرآن الكريم
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم.
أمية النبي صلى الله عليه وسلم من معجزاته
شريعة النبي صلى الله عليه وسلم تخاطب الأميين وغيرهم
والنبي عليه الصلاة والسلام هو دعوة إبراهيم؛ لأن إبراهيم دعا بقوله:
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129] أي: من العرب الأميين، وجاء في الحديث أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (
إنا أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا) وهذا حكم على المجموع الغالب وليس حكماً على الجميع؛ لأنه كان يوجد في العرب من يكتب، فمنهم كتبة الوحي
عمر و
علي و
معاوية وغيرهم رضي الله تعالى عنهم.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب ولا نحسب) فيه إشارة إلى أن هذه الشريعة تخاطب الناس بما هو معروف ومعهود عند الأميين؛ لأن هذه الشريعة لم تأت لأجل طبقة معينة من الناس.
فمثلاً: هناك قسم كبير من العبادات تعتمد على مراعاة أحوال السماء والكواكب والقمر والشمس إلى غير ذلك، كالصلاة والصيام، فيحتاج ضبط مواقيت العبادات إلى مراعاة هذه الأهلة والشمس ونحوها..
فيرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن هذه الأمة مخاطبة بما هو في معهود الأميين، الذين لا يتقنون علوم الفلك والرياضيات وعلوم الحساب ونحوها، وبالتالي فإن معرفة الشهر أمر سهل، فأشار بيده وقال: الشهر هكذا وهكذا) أي: أن الشهر ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون.
أما التوصل إلى ذلك عن طريق الحساب فهذا ليس مما هو معهود عند الأميين، فالشريعة كما تخاطب عالم الفلك والذي حضَّر الدكتوراه تخاطب البدوي الذي يعيش في الصحراء، فهذا يستطيع تحديد وقت الصلاة، وهذا أيضاً يستطيع تحديدها في غاية السهولة، وكذلك بداية الشهور والأهلة إلى آخره.
فقوله: (إنا أمه أمية) ليس معناه الفخر بالأمية، وإنما هو وصف للواقع، ولسهولة الشريعة وأنها لا تخاطب طائفة خاصة من العلماء.
والدليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحارب الأمية، أنه كان يجعل فكاك الأسير أن يتولى تعليم القراءة والكتابة لواحد من أبناء المسلمين، فالحث على العلم بكل وسائل العلم المختلفة النافعة المفيدة أمر معروف، لكن علينا أن نبذل فيه وقتاً وجهداً أكثر من هذا، فإن الإسلام هو دين العلم لا شك في ذلك، لأن العلم دائماً منحاز إلى الإسلام، ومؤيد لدين الإسلام.
قوله: (( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ )) أي: من أنفسهم أمياً مثلهم.
أمية النبي وهو معلم البشرية
(( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ )) أي: مع كونه أمياً مثلهم لم تعهد منه قراءة ولا تعلَّم إلا أنه يتلو عليهم آيات الله تبارك وتعالى.
وتلاوته الآيات لم تكن عن طريق المدارسة، وإنما كانت الآيات تلقى في قلبه عليه الصلاة والسلام ويضمن الله له حفظها كما قال تعالى:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:16-18] أي: ما عليك إلا أن تستمع
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:19] فضمن الله له أنه يحفظ القرآن ولا ينسى منه شيئاً صلى الله عليه وآله وسلم.
(( وَيُزَكِّيهِمْ )) أي: من خبائث العقائد والأخلاق.
(( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )) هو أمي ومع ذلك فهو الذي يعلمهم، وهذا مما يدلنا على أن الأمي قد يكون عالماً، بل هو أعلم البشر على الإطلاق صلى الله عليه وسلم.
(( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ )) أي: القرآن.
(( وَالْحِكْمَةَ )) أي: السنة.
نقول: إنه متى جاءت الحكمة مقترنة بالكتاب في سياق الامتنان على الأمة المحمدية، فالحكمة هي السنة لا شك في ذلك، وهذا اتفاق من السلف.
(( وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ))، أي أنهم من قبل إرساله صلى الله عليه وسلم كانوا في جور عن الحق وانحراف عن سبيل الرشد، وهو لبيان شدة افتقارهم وحاجتهم إلى بعثة هذا النبي، وإرساله صلى الله عليه وسلم منة من الله عليهم؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور.
قال
ابن كثير رحمه الله تعالى: فبعثه الله سبحانه وتعالى -وله الحمد والمنة- على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه.
وذلك أن العرب كانوا قديماً متمسكين بدين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فبدلوا وغيروا، واستبدلوا بالتوحيد شركاً وباليقين شكاً، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى، حاكم وفاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب، في الأصول والفروع، وجمع الله تعالى له ولله الحمد والمنة جميع المحاسن فيمن كان قبله.
كما قال
البوصيري:
وغاية القول فيه إنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم
صلى الله عليه وآله وسلم
وليس على الله بمستبعد أن يجمع العالم في واحد
فالرسول عليه الصلاة والسلام جمع الله له جميع المحاسن التي كانت فيمن كان قبله من الأنبياء، فإذا كان في بعض الأنبياء تميز بقوة البدن فهو أقوى بدناً، وإن تميز بعضهم بالجمال فهو أجمل، وإن تميز بعضهم بالفصاحة فهو أفصح، وهكذا.
ثم يقول
ابن كثير : وأعطاه ما لم يعط أحداً من الأولين، ولا يعطيه أحداً من الآخرين، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين.
إنما جعلت بعثته صلى الله عليه وسلم في الأميين من العرب؛ لما لهذه الأمة من خصائص فطرية أيضاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (
فأنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم) فالعرب الأميون كانوا أحد الناس أذهاناً، وأقواهم جمالاً، وأصفاهم فطرة، وأفصحهم بياناً، لم تفسد فطرتهم بغواشي المتحضرين، ولا بأساليب وتلاعب المتمدنين، ولذا انقلبوا إلى الناس بعد الإسلام بعلم عظيم، مما يدل على تمكن هذه الصفات النادرة في العرب، فبمجرد أن اصطفاهم الله سبحانه وتعالى بنعمة الإسلام استوعبوا الإسلام وارتقوا إلى أعلى الدرجات، ثم انقلبوا بعد ذلك إلى الناس بعلم عظيم، وحكمة باهرة، وسياسة عادلة، قادوا بها معظم الأمم، ودوخوا بها أعظم الممالك.
فإيثار البعثة في العرب وإظهارها فيهم لا ينافي عموم الرسالة؛ لأنها أولاً ظهرت فيهم، ثم بعد ذلك انتشرت في العالمين، كما قال الله سبحانه وتعالى:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جميعا)[الأعراف:158]، وقال تعالى:
لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] أي: لأنذركم به أيها العرب، وكل من بلغه القرآن والإسلام فهو مسئول عنه، وقد أنذره النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال تعالى:
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجمعة:3].
قوله: (وآخرين) معطوف على الأميين، أي: هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم وبعثه في آخرين من غير الأميين الذين كانوا موجودين في زمن بعثته عليه الصلاة والسلام، ومن يأتي بعدهم.
فهذه إشارة إلى عموم رسالته، وأنها تشمل الذين سوف يدخلون في الإسلام فيما بعد، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله تعالى عنهم ممن يدخل في الإسلام إلى يوم القيامة كما فسره
مجاهد وغيره واختاره شيخ المفسرين
ابن جرير رحمه الله تعالى.
فإذاً: هذه بشارة بانتشار الدين في الآفاق كلها، وأن الإسلام سوف يعم البشرية فيما بعد.
قال
الرازي : فالمراد بالأميين: في قوله (هو الذي بعث في الأميين) العرب، والمراد بالآخرين في قوله: ( وآخرين منهم) سواهم من الأمم.
وجعلهم منهم فيه إشارة إلى رابطة العقيدة، وأنها تجعل المسلم أولى الناس بأخيه المسلم، وأن رابطة الدين تكون فوق رابطة الجنس والنسب، فالمسلمون كلهم أمة واحدة وإن اختلفت أجناسهم، كما قال تعالى:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71].
هناك إعراب آخر لقوله تعالى: (وآخرين) فإنه يجوز أن يكون معطوفاً على الأميين كما مر معنا، والقول الآخر: أن يكون معطوفاً على الضمير (هم)، في قوله: ( يعلمهم ويزكيهم) بمعنى: يعلمهم ويعلم الآخرين من المؤمنين؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخرِ الزمان كان كله مسنداً إلى أوله، فكأنه هو الذي تولى كل ذلك، فهو علم الصحابة، والصحابة علموا التابعين، ثم التابعون علموا الأمم، وهكذا صار العلم ينتقل من جيل إلى جيل، لكن هذا العلم إذا تناسق في سلسلة متصلة من أهله وطلابه إلى آخر الزمان، فهو في الحقيقة مسند إلى أوله، فمن الذي علم العلماء في زمننا وقبل زمننا وبعد زمننا إلى أن تقوم الساعة؟ إنه النبي عليه الصلاة والسلام، فيصدق عليه أيضاً أنه الذي يزكيهم كما علمهم.
أيضاً هناك إشارة إلى نفس المعنى في قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يقاتلون فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54] فقوله تعالى: (( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ )) يساوي قوله:
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة:3].
القومية والقطرية وأثرهما على المسلمين
قال بعض المحققين: في الآية معجزة من معجزات النبوة، وذلك بالإخبار عن غيب وقع في أمم من غير العرب، وذلك أن تلك الأمم التي أسلمت صارت من العرب؛ لأن بلادهم صارت بلاد العرب، ولغتهم صارت لغة العرب، وكذلك دينهم وعاداتهم، حتى أصبحوا من العرب جنساً وديناً ولغة، وحتى صار لفظ العرب يطلق على كل المسلمين من جميع الأجناس؛ لأنهم أمة واحدة، يقول تعالى:
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون:52].
وهذا كلام طيب وجميل، لكننا ابتلينا فيما بعد بالدعوة للقومية العربية في القرن الأخير، وكان مؤسسو فكرة القومية العربية هم النصارى، وأرادوا بها أن يجمعوا هذه البلاد العربية على رباط آخر غير رابطة الإسلام وهو العروبة، حتى وصل الأمر إلى أقصى درجات الغلو عند الملاحدة الذين ينتمون إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو حزب مشرك كافر بالله وبرسوله وبالأديان، وهذا الحزب يريد أن يقتلع الإسلام ويستبدله بالعروبة.
فهم لا يتذكرون الإسلام، ولكن عندهم تعصب للغة العربية، وهذا واضح بالذات في العراق وفي سوريا، ولذلك فإن مستوى اللغة العربية عند السوريين والعراقيين قوي جداً، لكن يحكمهم حزب البعث الذي لا دين له، والعروبة عندهم نوع من التراث، فهم يشيدون بأمجاد العرب وأنهم أمة عظيمة حتى بدون الإسلام، والإسلام عندهم أحد معالم الطريق، لكنه ليس هو المحور الرئيسي، فالكلام على حزب البعث الكافر الملحد يطول، ولا نريد أن نخرج الآن عن التفسير.
وقد صار يقصد بالعروبة إشغال الناس برابطة غير رابطة الإسلام،ثم فصل البلاد العربية عن البلاد الإسلامية، فكأن العروبة تضم اليهودي والنصراني وأي ملة أخرى، أما العالم الإسلامي فهو العالم الأوسع، فوضعوا هذه الحواجز بين العرب وبين المسلمين، ولعلكم تلاحظون تأثير هذا التقسيم عند وقوف المسلمين في أي قضية ضد أعدائهم، فتجدون ضعف رد الفعل العربي ورد فعل ما ينسبونه للإسلام، وهذا التفكيك له آثاره المدمرة.
وكان بعض هؤلاء إذا أذن المؤذن للصلاة يقفون صفاً يشوشون على الأذان ويقولون:
انتقل عني فهذي قيمي أنا ماركسي لينيني دولي
وأيضاً كانوا يقولون:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني.
ونحن الآن نعاني مما هو أسوأ من العروبة وهو القطرية، فقد كان بين العروبة والإسلام حاجز واحد فقط وهو القومية، لكن حصلت الفرقة أعظم بسبب الدعوات القطرية، فتجد كل قطر يدعو إلى الأمن القومي الخاص به، وكل بلدة لها علمها، ولها نشيدها، فالمصريون يفخرون بالفراعنة، واللبنانيون بالفينيقيين، والعراقيون بالآشوريين، وكل بلد تدندن حول قوميتها الوطنية الخاصة بها.
فهذا من التفكيك، فمع بغضنا للقومية العربية، لكن نرى أنها بلاء أخف من بلاء القطرية، لأن القطرية حصل بها ضعف أكثر للمسلمين، وبعد عن الرابطة الإسلامية.
لقد كان المسلمون قديماً إذا دخلوا بلداً صبغوها بالهوية الإسلامية، وكانت أهم هذه الملامح اصطباغهم باللغة العربية، وهذه من نعمة الله علينا.
هناك ارتباط وثيق جداً بين الإسلام واللغة العربية، وكل من أراد أن يحارب الإسلام لا بد أن يحارب اللغة العربية.
السؤال المحير هو: الدولة العثمانية التركية التي حكمت العالم الإسلامي عدة قرون، كيف لم تصطبغ باللغة العربية، ولم يحصل فيها تعريب للحروف التركية قبل
أتاتورك؟
ربما لأن الدولة العثمانية ما أعطيت فرصة لتستريح أبداً، الدولة العثمانية كانت في حال جهاد دائم لا ينقطع، وكان هناك حوالي مائة مشروع لتفتيتها والقضاء عليها، فربما كان هذا السبب في أنهم ما التفتوا لعملية التعريب، وللأسف هذه مأساة، ولذلك انتهت العربية بمجرد إلغاء الحروف العربية واستبدالها باللاتينية على يد
أتاتورك، حتى وجد من لم يستطع أن يقرأ في المصحف، ولم يستطع التعامل مع مراد الفقه والشريعة.
معنى حديث: (لو كان الإيمان في الثريا..)
قال تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5].
قوله:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا أي: أن اليهود لم يعملوا ولم ينقادوا للبشارة ببعثة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فنعى عليهم مخالفتهم لموجب علمهم، فإن علمهم بالتوراة يوجب عليهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، إلا أنهم مع علمهم بذلك جحدوا وحسدوا، وبغوا وعاندوا، وأبوا الانقياد لنبوته عليه الصلاة والسلام.
كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا جملة (يحمل أسفاراً) في محل نصب حال.
أي: كحال الحمار الذي يحمل أسفاراً، والأسفار جمع سفر، وهو الكتاب الكبير؛ لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ.
قال
الزمخشري : شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به، ولم يؤمنوا به عليه الصلاة والسلام، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً، أي: كتباً كباراً من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب.
أي: أن الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زنبيل! ولا يفقه شيئاً مما يحمله، وهكذا اليهود مثل الحمار، لكونهم لم ينتفعوا بالتوراة التي أرشدتهم إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
بعض الناس يشتم إنساناً بأنه حمار أو كلب أو خنزير فنقول: لا يجوز وصف الإنسان بهذه الصفات؛ لأنه كذب، فهو ليس بكلب، لأن خلقته خلقة إنسان، فلا يجوز لك أن تقول له: هو كلب أو حمار، ولأن المسلم ينبغي ألا يكون فاحشاً ولا متفحشاً في كلامه، أما استدلالهم بهذه الآية فخطأ بين؛ لأن الآية ورد فيها أداة تشبيه، فلم يقل الله سبحانه وتعالى لليهود: أنتم حمير، وإنما قال:
كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5] تشبيه صورة بصورة، وقال تعالى:
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] فهنا تشبيه وليس وصفاً له بأنه كلب.
فمثل هذا لا يستعمل حتى مع اليهود أنفسهم أو النصارى.
فكيف يجوز أو يسوغ للإنسان أن يصف واحداً من العلماء أو الدعاة بهذه الصفات؟! لقد وجدنا بعض من ينسبون إلى العلم يذم بعض العلماء المخالفين له في المنهج، وقد يكون هذا العالم المنتَقَد عنده أخطاء فادحة ومشهور بالتسيب في فتاواه الفقهية، لكن الواجب نصيحته بالحسنى وبالأدلة الشرعية، والرد عليه واجب، ولا نقول: إنه يجامل ويغض الطرف عن أخطائه، لكن أن يقوم أحد العلماء ويؤلف كتاباً باسم (إسكات الكلب العاوي فلان ابن فلان) فالله المستعان، إذا كان الله عز وجل لم يقل لليهود: أنتم حمير، وإنما قال: (( كَمَثَلِ الْحِمَارِ )) وقال: في الأعراف: (( كَمَثَلِ الْكَلْبِ )) ولم يصفه مباشرة بهذا الوصف، فكيف يجوز لمن يدعي أنه ينسب إلى العلم أن يفعل هذا بحق عالم من علماء المسلمين، وإن أخطأ أخطاء فادحة في اختياراته الفقهية.
ثم يقول
الزمخشري : وكل من علم ولم يعمل بعلمه، فهذا مثله وبئس المثل!
بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى: (حملوا التوراة) أي: كلفوا علمها والعمل بها.
(ثم لم يحملوها) أي: ثم لم يعملوا بها، فكأنهم لم يحملوها في الحقيقة لفقد العمل.
يقول تعالى:
وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ [الأنعام:91] أي: علمتم فلم تعملوا بما علمتم به.
وفي شأن يعقوب عليه السلام قال:
وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف:68] أي: لذو عمل لما علمناه.
قال
الجرجاني في قوله تعالى: (( حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ )): هو من الحمالة بمعنى الكفالة، أي: ضمنوا أحكام التوراة.
يقول
ابن القيم في إعلام الموقعين: قاس من حمّله سبحانه وتعالى كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه، ثم خالف ذلك ولم يحمله، فهو كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره، فهذا المثل وإن كان قد ضُرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به، ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته، يقول الشاعر:
زوامل للأشعار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر
قال
يحيى بن اليمان : يكتب أحدهم الحديث ولا يتفهم ولا يتدبر، فإذا سئل أحدهم عن مسألة جلس كأنه مكاتب.
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بآيات ربهم تبارك وتعالى.
وقيل في تفسيرها: والله لا يهدي من سبق في علمه أنه يكون كافراً.
يقول الشيخ
عطية سالم رحمه الله تعالى: والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن أكثر المفسرين يجعله -يعني: التشبيه في هذه الآية- من قبيل التشبيه المفرد، وأن وجه الشبه فيه مفرد، وهو عدم الانتفاع بالمحمول، كالبيت الذي فيه:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
ثم يقول: والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه من قبيل التشبيه التمثيلي؛ لأن وجه الشبه مركب من مجموع كون المحمول كتباً نافعة.
إذاً: الفرق بين التشبيه في البيت الشعري وبين التشبيه في الآية هو أن العير في الصحراء القاحلة يقتلها الظمأ، مع أنها حاملة فوق ظهرها ماء.
فإذا شربت من هذا الماء فإنها تنتفع، لكن الحمار لا يمكن أن يقرأ ما في الأسفار، فضلاً عن أن ينتفع به؟! علينا أن نستبعد أن يكون التشبيه الذي في الآية كالذي في هذا البيت.
يقول: أولاً: والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه من قبيل التشبيه التمثيلي؛ لأن وجه الشبه مركب من مجموع كون المحمول كتباً نافعة.
ثانياً: كون الحامل لها حماراً لا علاقة له بها، بخلاف العيس؛ لأن العيس يمكن أن تنتفع بالماء لو حصلت عليه، والحمار لا ينتفع بالأسفار ولو نشرت بين عينيه.
وفيها إشارة إلى أن من موجبات نقل النبوة عن بني إسرائيل بالكلية أنهم وصلوا إلى حد الإياس من انتفاعهم بتمام التدبر والعمل، حتى صاروا مثل الحمار يحمل أسفاراً، لا أمل في أن يفقهوا عن الله، أو أن يحملوا أمانة الله، وأن يبلغوا دين الله وأن يعملوا به، فمن ثم نقلها الله سبحانه وتعالى إلى قوم هم أحق بها، وأحق بالقيام بها وهم العرب من ذرية إسماعيل عليه السلام.