-
تفسير قوله تعالى: ( والطور وكتاب مسطور في رق منشور )
يقول الله سبحانه وتعالى:
وَالطُّورِ *
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ *
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ *
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ *
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ *
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:1-6].
قوله: ((وَالطُّورِ)) قيل: إن المقصود به: طور سينين، وطور سينين أقسم الله عز وجل به في سورة أخرى من القرآن الكريم. فقوله: ((وَالطُّورِ)) أي: وطور سينين. وهو جبل بمدين سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تبارك وتعالى.
وكتب التفسير تذكر أن هذا الجبل جبل بمدين، وقيل: إن اسمه الزَّبير، قال
الجوهري : والزَّبير: الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقيل: الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور.
وأما مدين فهي مدينة قوم شعيب، وهي تجاه تبوك على بحر القُلزم، يعني: على البحر الأحمر، وبتعبير أدق على خليج العقبة، وبين تبوك ومدين ست مراحل، وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب.
فعلى هذا فالظاهر أن الجبل هو جبل طور سينين أو جبل الطور الذي في مدين الذي كلم الله عليه موسى.
ويتضح من سياق هذا الكلام أن هذا الجبل يقع في الحد الشمالي الغربي من جزيرة العرب، فما أدري ما هو التحقيق في ذلك، خاصة وأنه يشيع عندنا: أن هذا الجبل في سيناء!
وحتى الآن ما وقفت على كلام قاطع يوضح هذه المسألة، هل هو الجبل الذي في سيناء أم أنه الجبل الذي في مدين؟ ولكن الظاهر أنه الذي في مدين، والله تبارك وتعالى أعلم.
كلام الشنقيطي في أول سورة الطور
يقول العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الأقسام التي أقسم الله بها في أول هذه السورة الكريمة، أقسم ببعضها بخصوصه وأقسم بجميعها في آيات عامة لها ولغيرها. أما الذي أقسم به منها إقساماً خاصاً فهو: الطور والكتاب المسطور والسقف المرفوع.
يقول
الشنقيطي : والأظهر: أن الطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى، فقد أقسم الله تعالى بالطور في قوله:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ *
وَطُورِ سِينِينَ [التين:1-2].
والأظهر أن الكتاب المسطور هو: القرآن العظيم، وقد أكثر الله من الإقسام به في كتابه، كقوله تعالى:
حم *
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:1-2]، وقوله تعالى:
يس *
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2].
وقيل: (الكتاب المسطور) هو كتاب الأعمال، يعني: الذي تسجل فيه أعمال العباد. وقيل غير ذلك.
وقوله:
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:5] هو السماء، وقد أقسم الله بها في كتابه في آيات متعددة، كقوله:
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [الذاريات:7]، وقوله:
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1]، وقوله تعالى:
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5].
و(الرَّق) في قوله:
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3] بفتح الراء: كل ما يكتب فيه من صحيفة وغيرها، وقيل: هو الجلد المرقق ليكتب فيه.
وقوله: ((مَنْشُورٍ))، يعني: مكتوب، ومنه قوله تعالى:
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا [الإسراء:13] يعني: يلقاه مبسوطاً، وقوله تعالى أيضاً:
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر:52].
وقوله:
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:4]: هو البيت المعروف في السماء، المسمى بالضراح، وقيل فيه: معمور لكثرة ما يغشاه من الملائكة المتعبدين، فقد جاء في الحديث: (
يزوره كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون إليه بعدها) يعني: أنه يطوف يومياً بالبيت المعمور في السماء سبعون ألف ملك، والذي يحج إليه مرة لا يحج إليه بعد ذلك، بمعنى: أنه يزوره في كل يوم سبعون ألف ملك جديد، ولا يعودون إلى البيت بعد ذلك، وإنما يأتي كل يوم سبعون ألف ملك لم يسبق لهم أن أتوا إلى هذا البيت المعمور في السماء من قبل.
وأما قوله:
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:6]: ففيه وجهان من التفسير للعلماء:
أحدهما: أن المسجور هو الموقد ناراً، قالوا: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى:
فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72] يعني: توقد عليهم النار، فالبحر ماء، ومع ذلك يوصف بأنه مسجور. وكنا من قبل يصعب علينا جداً تصور كيف يكون البحر مسجوراً والبحر ماء، والمسجور هو الموقد ناراً، فكيف يجتمع الماء والنار؟!
وقربت هذه الصورة إلى أذهاننا شيئاً ما حينما حصلت الكارثة منذ عدة سنوات في الصعيد، وذلك لما حصلت سيول شديدة جداً مع حصول احتراق في مستودع بترول، فكانت السيول تحمل البترول، ولأن كثافته أخف كان يرتفع إلى سطح الماء، فالكارثة كانت شديدة بسبب أن الماء كان يتحرك ويحمل فوق ظهره النار، وذلك هو الذي أشاع الدمار والحريق في كل المباني والبيوت، فهذا مما قرب إلينا شيئاً مما كنا لا نتصوره من كون البحر يحمل النار، فاجتمع الماء والنار معاً في الدنيا، فكيف لا يجتمعان حينما تنتهي هذه الحياة؟!
إذاً: التفسير الأول: أن المسجور بمعنى الموقد ناراً، أي: أن البحر نفسه يتحول إلى نار، قال العلماء: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى:
ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72].
الوجه الثاني في تفسير المسجور: أنه بمعنى المملوء، ويسمى البحر بالمسجور؛ لأنه مملوء ماءً، ومن إطلاق المسجور على المملوء قول
لبيد بن ربيعة في معلقته:
فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورةً متجاوراً قلامها
فقوله: مسجورة، أي: عين مملوءة ماءً.
وقول
النمر بن تولب العكلي :
إذا شاء طالع مسجورة ترى حولها النبع والسماسما
والسماسم شجر يتخذ منه القسي والسهام، ومثله أيضاً النبع، فقوله: إذا شاء طالع مسجورة، يعني: عيناً مملوءة ماءً.
هذان الوجهان مذكوران في معنى المسجور، وهما أيضاً مذكوران في قوله تعالى:
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، فقوله:
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6] يعني: إما أنها سجرت بامتلاءها بالماء، وإما سجرت بمعنى: أوقدت وأضرمت ناراً.
فهذه الجملة السابقة من الآيات في كل قسم من هذه الأقسام أتينا بالأدلة على أنه أقسم الله بها في موضع آخر، لكن هناك قسم عام أقسم به الله يشمل هذه الأشياء وكل ما أقسم الله به، وهو قول الله تبارك وتعالى:
فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ *
وَمَا لا تُبْصِرُونَ [الحاقة:38-39]، فالإقسام في هذه الآية عام بكل شيء.
كلام القاسمي في أول سورة الطور
يقول
القاسمي رحمه الله تعالى:
وَالطُّورِ [الطور:1] أي: وطور سينين، جبل بمدين، سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تعالى.
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2] مكتوب، والمراد به القرآن، أو ما يعم الكتب المنزلة.
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3] يعني: أن الكتاب مسطور في رق منشور.
إذاً: قوله: ((فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ)) متعلق بقوله: ((مَسْطُورٍ)) أي: وكتاب سطر في رق منشور يقرأ على الناس جهاراً، والرق: الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه.
وغلَّط الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى من قال إن الكتاب المسطور في رق منشور هو: اللوح المحفوظ، قال: لأن اللوح المحفوظ ليس برق. يعني: ليس عبارة عن جلد معد للكتابة عليه، فلا يطلق عليه وصف الرق.
أيضاً غلَّط بعض العلماء قول من قال: إن قوله تعالى: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) المقصود به التوراة؛ لأن التوراة كانت في ألواح، كما قال تعالى:
وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ [الأعراف:150]، ولم تكن في رق. فبالتالي لا يصح تفسير قوله: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) بأنه التوارة.
ومما أُيّد به التفسير الذي ذكرناه وأنه هو الراجح -وهو أن الكتاب المسطور المقصود به القرآن الكريم- الربط دائماً بين موسى عليه السلام وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وبين الأمة المحمدية وأمة بني اسرائيل، وبين التوراة وبين القرآن الكريم، وهذا كثير في القرآن الكريم، كقوله تعالى:
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30].
والكتاب الأساسي هو التوارة، أما الإنجيل فجاء مكملاً فقط للتوراة، لذلك قالت الجن كما حكى الله عنهم:
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ *
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:29-30]، فهنا حصل الربط بين القرآن وبين موسى عليه السلام.
كذلك لما اصطحبت
خديجة رضي الله تعالى عنها النبي صلى الله عليه وسلم إلى
ورقة بن نوفل ، قال له: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، فربط بين موسى وبين محمد عليه الصلاة والسلام.
كذلك قول
النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
كذلك في صدر سورة الإسراء، نلاحظ هذا الربط بين موسى وبين محمد عليهما الصلاة والسلام، وذلك في قوله تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1] إلى قوله تعالى:
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [الإسراء:2].
فيلاحظ في القرآن الكريم: التشابه الشديد بين موسى وبين محمد صلى الله عليهما وسلم، سواء في النشأة أو أطوار الرسالة، وهذا كله مصداق ما جاء من البشارة في التوراة.
وقد ذكرت الملائكة لـ
هاجر أن الله سبحانه وتعالى سوف يجعل من نسلها ولداً مباركاً، وهو إسماعيل عليه السلام، وهذه البشارة ما زالت موجودة بين أيدي اليهود والنصارى إلى اليوم، وفيها: (وأقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك) أي: مثل موسى، فهذه المثلية هي التي نشير إليها؛ لوجود صور كثيرة من التشابه بينهما، ولا يوجد هذا التشابه الكبير بين المسيح وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما دائماً التشابه يكون بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهذا كله مصداق هذه البشارة التي فيها: (أقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك). يعني: مثل موسى عليه السلام.
فمما يرجح أن الكتاب المسطور المراد به القرآن؛ هذا المبدأ الذي أشرنا إليه، وهو الربط والارتباط الوثيق بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وبين التوراة وبين القرآن، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى:
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ *
وَطُورِ سِينِينَ *
وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]، حلف الله تعالى وأقسم بالمواضع الثلاثة التي أنزل فيها الوحي على الأنبياء.
فقوله: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ))، هذا إقسام ببلاد الشام، حيث ينبت التين والزيتون.
وقوله: ((وَطُورِ سِينِينَ))، حيث كلم الله موسى عليه السلام.
وقوله:
وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3]، يعني: مكة، حيث أنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكذلك هنا قرن بين الطور الذي هو مهبط كلام الله على موسى، وبين القرآن الكريم.
معنى قوله تعالى: (والبيت المعمور)
معنى قوله تعالى: (والسقف المرفوع والبحر المسجور)
قوله تعالى:
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:5] يعني: السماء، وجعلها سقفاً لأنها للأرض كسماء البيت الذي هو سقفه، يقول تعالى:
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء:32].
وقيل: إن السقف المرفوع هو العرش، على أساس ما ثبت من كون العرش هو سقف الجنة.
وقوله:
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:6] المسجور هو المملوء، أو: المسجور هو الذي يوقد، ويصير ناراً، كقوله تعالى:
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6].
قال
ابن جرير : والأول أولى. فشيخ المفسرين رجح أن المقصود بالبحر المسجور: المملوء. يعني: أن معناه البحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض؛ لأن الأغلب أن من معاني السجر الإيقاد أو الامتلاء.
والبحر غير موقد اليوم، وثبتت له الصفة الثانية وهي الامتلاء؛ لأنه كل وقت ممتلئ، وهذه الأقسام كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقسم من مخلوقاته إلا بما كان عظيماً. وفيه إشارة إلى دلائل وحدانيته وقدرته عز وجل.
-
تفسير قوله تعالى: ( إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع )
-
تفسير قوله تعالى: ( يوم تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً )
-
تفسير قوله تعالى: ( فويل يومئذٍ للمكذبين ... )
-
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً)
-
تفسير قوله تعالى: ( إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ... )
-
تفسير قوله تعالى: ( كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة ... )
-
تفسير قوله تعالى: ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ... )
قال تبارك وتعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
قوله: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ )) يعني: أنهم آمنوا، ثم إن ذريتهم من بعدهم اقتفت آثارهم في الإيمان والعمل الصالح.
وقوله: (( أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ )) يعني: في الجنات والنعيم.
والخطاب لما كان مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم واثقون بوعد الله، تمت لهم البشارة بالموعود به بأنه سوف ينال ذريتهم أيضاً، ولكن هذا بشرط أن يتبعوا آباءهم بإحسان، فإذا جاءت الذرية واتبعت الآباء بإحسان، فيكافئ الله سبحانه وتعالى هؤلاء الآباء بأن يضم إليهم ذريتهم في الجنات والنعيم، هذا هو المراد من الآية، و
القاسمي رحمه الله تعالى يرجح هذا التفسير.
فقوله: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ )) يعني: بشرط أن تتبعهم (( بِإِيمَانٍ )) والجزاء هو: (( أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )).
فشرط استحقاق أن يلحق بالآباء الأبناء والذرية أن يتبعوا آباءهم بإحسان على نفس الطريقة، هذا هو المراد من الآية، وأما من قال في معناها: إن المؤمن ترفع له ذريته، فيلحقون به، وإن كانوا دونه في العمل، فلا تقتضيه الآية تصريحاً ولا تلويحاً، وهذا شائع في كتب التفسير، حيث يذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية: إن الذرية تلحق بالآباء ولو كانت الذرية دون الآباء في العمل، فإن من النعيم الذي ينعم الله به على الآباء أن يرفع الذرية وإن كانوا دون آبائهم في العمل إلى مقامهم؛ لأنهم يقولون: إنما كنا نعمل لأولادنا، يعني: نعمل العمل الصالح حتى تكون عاقبته في أولادنا، ويوردون في ذلك كثيراً من الآثار، وهذا المعنى إذا صح في الحديث فعلى العين والرأس، أما إن لم يصح في الحديث فلا يصح أن نفسر به هذه الآية؛ لأن الآية لا تدل على هذا المعنى الذي يذكرونه، وإنما تدل على ما ذكره
القاسمي هنا: أن ذلك إنما هو بشرط أن يتبع الأبناء آباءهم بإحسان، ويتبعوهم بإحسان.
فأما قول من قال: إن المؤمن ترفع له ذريته، فيلحقون به، وإن كانوا دونه في العمل! فلا تقتضيه الآية تصريحاً ولا تلويحاً.
وقوله: (( وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ )) يعني: وما نقصناهم من ثواب عملهم شيئاً.
وقوله: (( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ )) أي: بما عمل من خير أو شر مرتهن به، لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه، و(كل) تفيد العموم، فكل إنسان حبيس أو رهين بما عمل من خير أو شر، ولا يؤاخذ إلا بعمله، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه، وهذا مبدأ المسئولية الفردية، وهو من أحد الخصائص الواضحة جداً في دين الإسلام، كما قال عز وجل:
وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا *
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا *
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:13-15].
وقول الله تبارك وتعالى هنا: (( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ )) يؤكد هذا المعنى، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره.
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (وما ألتناهم من عملهم من شيء)
-
تفسير قوله تعالى: ( وأمددناهم بفاكهة ولهم مما يشتهون يتنازعون فيها كأساً ... )
قال تعالى:
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الطور:22] قوله: ((وأمددناهم)) في هذا أن المدد مستمر، يعني: زدناهم وقتاً بعد وقت، فهو مدد متجدد ومستمر.
قوله تعالى:
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا [الطور:23] يعني: يتعاطون فيها كأس الشراب ويتجاذبونها، ويتناول بعضهم من بعض كأساً، والمقصود بالكأس ما فيه من خمر الجنة، وخمر الجنة يشربها من امتنع من خمر الدنيا، وخمر الدنيا بالعكس تماماً في كل صفاتها بالنسبة لخمر الجنة، فخمر الجنة قال الله عز وجل فيها:
وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15] وخمر الجنة لا تذهب العقل، وليست خبيثة في الرائحة كخمر الدنيا، وهي طاهرة وليست نجسة كخمر الدنيا، وهكذا كل صفات خمر الدنيا تنافي الصفات الثابتة لخمر الجنة، فمن شرب الخمر ولبس الحرير في الدنيا، فإنه يحرم من ذلك في الآخرة، ولا يشرب من خمر الجنة، ومن امتنع من خمر الدنيا ابتغاء رضوان الله فإنه يكافئ بأن يشربها في الجنة.
قوله: (( يَتَنَازَعُونَ فِيهَا ))، كأن المؤمنين ومن ألحق بهم من ذريتهم، أو أهل الإيمان مع بعضهم البعض يتعاطون في الجنة كأس الشراب ويتجاذبونها ويتناول بعضهم من بعض.
وقوله: (( كَأْسًا )) المقصود بالكأس: الخمر؛ لأن الإناء الفارغ لا يطلق عليه كأس في لغة العرب، فلا تكاد العرب تستعمل كلمة كأس إلا فيما هو مملوء، فكأس هنا المقصود به كأس خمر.
والتنازع لغة: يطلق على كل تعاط وتناول، فكل قوم يعطي بعضهم بعضاً شيئاً ويناوله أياه، فهم يتنازعونه كتنازع كئوس الشراب والكلام، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه في الشراب قول
الأخطل :
وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
قوله: (وشارب مربح) المربح هو: الذي ينحر لضيفانه الربح وهي الفصلان.
وقوله: (بالكأس نادمني لا بالحصور) يعني: ليس بخيلاً ضيقاً كالحصير.
وقوله: (ولا فيها بسوار) السوار هو: المعربد الوثاب، يعني: أنهم يعيبونه بأنه إذا شرب ترك بقية في قعر الإناء.
وقوله: (نازعته طيب الراح الشمول وقد) نازعته يعني: ناولته، وهذا هو الشاهد، فالمناولة يطلق عليها المنازعة، ونحن دائماً نظن أن المنازعة هي العراك على شيء معين، ولكن المنازعة قد تطلق على المناولة بين القوم، فهذه تسمى منازعة، وهذا هو الشاهد من البيت.
وقوله: (طيب الراح الشمول) يقصد بذلك الخمر.
وقوله: (وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري)
يعني: صاح الدجاج وقت السحر، والمقصود بالدجاج هنا الديكة، لكن إذا قيل: هذه دجاجة، فالمقصود الأنثى.
وقوله: (وحانت وقعة الساري) أي: وقعة الإبل إذا بركت، والساري: هو السائر بالليل.
إذاً: قوله: (نازعته طيب الراح الشمول) يعني: ناولته كئوس الخمر وناولنيها، فإذا كان كل واحد يناول الآخر، فهذا يطلق عليه منازعة.
ومنه المنازعة في الكلام، وذلك بأن يتكلم رجل والآخر يرد عليه، ومنه قول
امرئ القيس :
ولما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
والكأس تطلق على إناء الخمر، ولا تكاد العرب تطلق الكأس إلا على الإناء المملوء، وهي مؤنثة، فلا يقال: هذا كأس، ولكن يقال: هذه كأس.
وقوله تعالى:
لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ [الطور:23]، نلاحظ في القرآن الكريم أنه حيثما ذكر خمر الجنة تجدها دائماً توصف بصفات تتناقض تماماً مع خمر الدنيا، وليس بينهما تشابه إلا في الاسم فقط، وأما الحقيقة فيا بعد ما بينهما!
فخمر الجنة التي يتعاطها المؤمنون فيها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا، فخمر الآخرة لا لغو فيها، واللغو هو: كل كلام ساقط لا خير فيه، فخمر الآخرة لا تحمل شاربيها على الكلام الخبيث والهذيان؛ لأنها لا تؤثر في عقولهم، بخلاف خمر الدنيا، فإنهم إن شربوها سكروا وطاشت عقولهم، فتكلموا بالكلام الخبيث والهذيان، وكل ذلك من اللغو.
والتأثيم هو: ما ينسب به فاعله إلى الإثم، فخمر الآخرة لا يأثم شاربها بشربها؛ لأنها مباحة له، فيتنعم بلذتها، كما قال الله تعالى:
وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15]، ولا تحمل شاربها على أن يفعل إثماً، بخلاف خمر الدنيا، فشاربها يأثم بشربها، ويحمله السكر على الوقوع في المحرمات كالقتل والزنا والقذف.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من مخالفة خمر الآخرة لخمر الدنيا، جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى:
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ *
بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ *
لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات:45-47].
فقوله: (( لا فِيهَا غَوْلٌ )) يعني: ليس فيها غول يغتال العقول فيذهبها كخمر الدنيا.
وقوله: (( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ )) يعني: لا يسكرون.
وكقوله تعالى:
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ *
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ *
لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:17-19].
وقوله: (( لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا )) يعني: لا يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها.
فخلاصة الكلام: أننا ننتبه لهذا دائماً في القرآن، وهو أنه متى ذكرت خمر الجنة نجدها توصف بصفات مناقضة تماماً لصفات خمر الدنيا.
ومن وصف خمر الدنيا قول الله تبارك وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، ولذلك فسر بعض العلماء الرجس بأنه النجس، وذهبوا إلى أن الخمر نجسة؛ لمفهوم قوله تعالى:
وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، فقالوا: هذا الشراب الطهور هو الخمر، فخمر الجنة طهور، والقاعدة: أن صفات خمر الجنة بالعكس من صفات خمر الدنيا، فإذا وصف الله ذلك الشراب بأنه طهور فيفهم منه أن خمر الدنيا ليست بطهور، يعني: أنها نجسة؛ ولذلك عامة أهل المذاهب يفتون في الخمر بأنها نجسة، ويعتبرون الخمر نجسة نجاسة حسية، وفي المسألة نزاع مشهور، وعلى الأقل فالأحوط للإنسان أن يجتنب استعمال الكحول، فما الذي يلجئك أن تتعاطى الكولونيا مثلاً أو العطور التي فيها الكحول، وقد وسع الله عليك بوجود الزيوت العطرية التي تغني عن هذه الخمر المختلف في نجاستها؟
فهل تريد تطييب نفسك أم توسيخها بما هو نجس في رأي المذاهب الأربعة؟!
فالاحتياط على الأقل أن الإنسان يتجنب العطور التي فيها هذه الكحول.
-
تفسير قوله تعالى: ( ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون )
-
تفسير قوله تعالى: ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ... )
-
تفسير قوله تعالى: ( فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر ... )
قال تعالى:
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ [الطور:29].
قوله: (( فَذَكِّرْ )) أي: من أرسلت إليهم وعظهم.
وقوله: (( فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ )) يعني: تتكهن فيما تدعو إليه، والتكهن هو: أن يخبر الإنسان بما في غد من غير وحي.
وقوله: (( وَلا مَجْنُونٍ )) يعني: ما لك رئي من الجن يخبر قومه كما يعتقد العرب في بعضهم، ولكنك رسول الله حقاً.
يقول
الشنقيطي : نفى الله جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاث صفات قبيحة رماه بها الكفار، وهي الكهانة والجنون والشعر، فقال:
فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ *
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:29-30].
أما دعواهم أنه كاهن أو مجنون فقد نفاهما صريحاً بحرف النفي، الذي هو (ما) في قوله: (( فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ))، وأكد النفي بالباء في قوله: (( بِكَاهِنٍ )).
وأما كونه شاعراً فقد نفاه ضمناً بـ(أم) المنقطعة في قوله: (( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ ))؛ لأنها تدل على الإضراب والإنكار المتضمن النفي؛ لأن (أم) المنقطعة تقدر ببل والهمزة، والمعنى: بل أيقولون: شاعر؟ فـ(بل): للإضراب، و(أيقولون) هذه همزة الاستفهام التي فيها معنى الإنكار.
وقد جاءت آيات بنفي هذه الصفات عنه صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى في نفي الجنون عنه في أول سورة القلم:
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:2]، وقال في التكوير:
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:22]، وكقوله في نفي الصفتين الأخيرتين -أعني: الكهانة والشعر-:
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ *
وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة:41-42].
وقوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ))، يعني: حوادث الدهر أو الموت؛ لأن المنون قد يراد به الدهر، وريبه: صروفه، وقد يراد به الموت، وريبه: نزوله.
ثم قال تعالى:
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:31] أي: حتى يأتي أمر الله فيكم، والأمر للتهكم بهم والتهديد.
فقوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ))، أي: ننتظر به حوادث الدهر حتى يحدث له منها الموت، فالمنون: الدهر، وريبه: حوادثه، التي يطرأ فيها الهلاك والتغيير، والتحقيق أن الدهر هو المراد في قول
أبي ذؤيب الهذلي :
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
لأن الضمير في قوله: (وريبه)، يدل على أن المنون هو الدهر.
ومن ذلك أيضاً قول آخر:
تربص بها ريب المنون لعلهـا تطلق يوماً أو يموت حليلها
وقال بعض العلماء: المنون في الآية: الموت.
إذاً: القول الأول: المنون في الآية هو الدهر. وريبه: هي حوادث الدهر.
القول الآخر: المنون: الموت، وإطلاق المنون على الموت معروف في كلام العرب.
ومنه قول
أبي الغول الطهوي:
هم منعوا حمى الوقبى بضرب يؤلف بين أشتات المنون
لأن الذين ماتوا عند ذلك الماء المسمى بالوقبى، جاءوا من جهات مختلفة، فجمع الموت بينهم في محل واحد، ولو ماتوا في بلادهم لكانت مناياهم في بلاد شتى، فالمنون هنا بمعنى: الموت.
والوقبى اسم مكان من بلاد بني مالك تجمعوا فيه، ثم جاءت ضربة الموت وأخذتهم كلهم ضربة واحدة، فجمعت هذه الضربة بينهم في مكان واحد، ولو كان كل واحد منهم مات في بلده، لماتوا أماكن شتى، لكن الموت هنا جمعهم.
قوله تعالى: ((قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)) يعني: حتى يأتي أمر الله فيكم، والأمر للتهكم بهم والتهديد.
وقوله: (( فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ )) يعني: فما أنت وقد أنعم الله عليك بالإسلام وبالنبوة وبالوحي: (( بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ )).
وهناك قول آخر: أن قوله: (( بِنِعْمَةِ رَبِّكَ )) هنا قسم، لكن الأظهر هو القول الأول، والله أعلم.
-
تفسير قوله تعالى: ( أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون )
قال تعالى:
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الطور:32] أي: هل هذا التناقض في كلامهم أمرتهم به أحلامهم وعقولهم أم هم قوم طاغون؟
ونلاحظ هنا: نسبة الأحلام -أي: العقول- إلى هؤلاء الكفار، وقد ورد في بعض الآثار -ومنها أحاديث مرفوعة، لكنها لا تصح- أن الكافر لا يوصف بالعقل، فلا يقال للكافر: عاقل، فهل معنى ذلك أن الكافر مجنون؟
الجواب: لا، بل الكافر ميزه الله بالعقل؛ لأن كل إنسان عاقل مميز عن البهائم والجمادات بالعقل والحياة، فالكافر أعطي العقل، لكنه استعمل العقل في غير ما خلق من أجله، استعمله في محاربة الله، وفي الصد عن سبيل الله، وفي الكيد للمسلمين، ونحو ذلك، أو في خدمة الدنيا كما يفعل الكفار الذين يتقلبون في البلاد، ويسخرون عقولهم في كل شيء إلا الشيء الذي خلقوا من أجله!
فالعقول يستعملونها في كل ضرب ونوع من أنواع خدمة الدنيا والتبتل في عبادتها وعبادة الشهوات، وهم لهم أحلام ولهم عقول، بدليل قوله تعالى هنا: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا))، لكنهم لما لم يستعملوها فيما خلقت من أجله، صح نفيها عنهم، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا يعقلون، ووصفهم بأنهم لا يسمعون، ويوضح هذا قوله تعالى:
لَهُمْ قُلُوبٌ [الأعراف:179] يعني: عقول،
لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، فصح نفي العقل عنهم؛ لأنهم وإن أوتوا عقولاً، لكنهم عطلوها عن الوظيفة التي خلقت من أجلها، وهي التدبر في آيات الله وفي الآفاق وفي أنفسهم حتى يصلوا إلى توحيد الله تبارك وتعالى، سواء في ذلك الآيات الكونية أو الآيات التنزيلية.
قيل لـ
عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟! يعني: في مثل هذه الآية: (( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا ))، فقال: تلك عقول كادها الله يعني: لم يصحبها التوفيق، فخذلت، فالله سبحانه وتعالى وهبهم العقول، لكنه حرمهم نعمة التوفيق، وهي إرادة الحق وحب الحق والانقياد له في القلب.
فالإنسان يرى الحق واضحاً ويعلم تماماً أنه حق من عند الله، لكن لا يوفقه الله للانقياد لهذا الحق، والتوفيق لا يكون إلا من عند الله عز وجل، كما قال عز وجل:
وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود:88].
فانظر إلى تعبير
عمرو بن العاص رضي الله عنه، و
عمرو بن العاص من أعقل عقلاء العرب، فيقول هذا الكلام الرائع؛ فإنه لما قيل له: ما بال قومك لم يؤمنوا، وقد وصفهم الله بالعقل؟ رد قائلاً: تلك عقول كادها الله. يعني: لم يوفقها، فإذا وكل الإنسان إلى عقله وإلى نفسه، فأول ما يجني عليه هو هذا العقل إذا حرم من توفيق الله؛ ولذلك كان من دعاء
الصديق اللهم أرني الحق حقاً، وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً، وارزقني اجتنابه.
فالخطوة الأولى: أن يرى الإنسان الشيء على حقيقته؛ لأن أكثر الناس يرون الحق باطلاً، ومنهم من يرى اتباع السنة تطرفاً، ومنهم من يرى التزام شرائع الإسلام تعصباً ورجعية وهمجية وهوس وأصولية وتطرف.. إلى آخر هذه الشتائم، هكذا زين لهم سوء أعمالهم! فرأوا الحق باطلاً، فحرموا من البداية من منبع التوفيق.
فحتى هذه المرحلة حرموا منها، ولم يوفقهم الله سبحانه وتعالى لأن يروا الحق حقاً، وإنما رأوا الحق تطرفاً وتعصباً ورجعيةً وتخلفاً وأصولية وإرهاباً.. إلى آخره.
وممكن أن الإنسان يرى الحق حقاً، لكن يستكبر عن أن يتبع هذا الحق، كحال اليهود الذين عرفوا النبي عليه الصلاة والسلام وعرفوا القرآن كما يعرفون أبناءهم. وهل يضل الرجل عن ابنه؟! الجواب: لا يضل أبداً، فكذلك كانوا يعرفون أن القرآن حق، وأن الرسول مرسل من عند الله، ومع ذلك كفروا جحوداً وحسداً واستكباراً!
فليس معنى أن الإنسان يعرف الحق يصير مؤمناً، بل لابد أن ينقاد لهذا الحق، كما هو معروف في الشروط السبعة لشهادة (لا إله إلا الله).
فالعقل الذي يضل عن توفيق الله لا يأخذ صاحبه إلا إلى الضياع والدمار.
فقوله: (( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا )) يعني: بهذا التناقض، وهل يقوله عاقل؟ أو هل يأمر به عقل؟
وقوله: (( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ )) (أم) هنا بمعنى بل، والمعنى: بل هم قوم طاغون، أي: مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق.
-
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون)