-
تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا ...)
قال سبحانه وتعالى:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].
هذه الآية لها اسم معين، فهي تسمى: بكاة العابدين؛ لأن كل إنسان له جرح معين وإذا صادف آية معينة من القرآن الكريم سواء إشارة أو نعتاً لهذا الجرح؛ فإنها تثير شجوه وبكاءه، وخوفه من الله سبحانه وتعالى.
فكل إنسان قد يتأثر ببعض الآيات؛ لأنها تمس هذا الأمر أكثر من غيره مما يهمه.
هذه الآية: (( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ))، أشفق منها السلف، حتى كان منهم من يصلي بها الليل كله لا يتجاوزها، وسبب ذلك أنها آية محكمة، لم يدخلها نسخ.
عن
أبي الضحاك عن
مسروق قال: قال رجل من أهل مكة: هذا مقام
تميم الداري -يعني: أشار إلى مكان معين-، لقد رأيته ذات ليلة قام حتى قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي، وهي قوله تعالى: (( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )).
وقال
بشير : بِتُّ عند
الربيع بن خثيم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعدها لبكاء شديد.
(لم يعدها) يعني: لم يتجاوزها إلى ما بعدها.
وقال
إبراهيم بن الأشعث : كثيراً ما رأيت
الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها، ثم يقول: ليت شعري من أي الفريقين أنت؟
وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين؛ لأنها محكمة.
قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) أي: اكتسبوا سيئات الأعمال.
(أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) أي: فالأصل عدم التساوي، ومن زعم أن المؤمنين والكفار والذين اجترحوا السيئات سوف يتساوون، فـ(ساء ما يحكمون) أي: ساء ما يزعمونه من عدم التفاوت بين هذا الفريق وذاك.
قال
الزمخشري : والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً، وأن يستووا مماتاً.
لا يمكن أن يستوي المحسنون في الحال ولا في المآل، في الحال يعني: في الحياة، ولا في المآل يعني: بعد الممات؛ لافتراق أحوالهم أحياء حيث اعتاد هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على ركوب المعاصي، ومماتاً حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه، وأولئك على اليأس من رحمة الله، والوصول إلى هول ما أعد لهم.
وحيث عاش هؤلاء على الهدى والعلم بالله، وسنن الرشاد وطمأنينة القلب، وأولئك على الضلال والجهل والعيث بالفساد، واضطراب القلب، وضيق الصدر؛ لعدم معرفة المخرج المشار إليه بآية:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
ولئلا يظن الكافر أنه لا يبرز بكفره، قال سبحانه وتعالى مباشرة بعد قوله: (( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )) * (( وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )).
(وخلق الله السماوات والأرض بالحق) أي: بالحكمة والصواب.
قال
ابن جرير : أي: بالعدل والحق، لا كما حسب هؤلاء الجاهلون بالله من التسوية بين الأبرار والفجار.
(وخلق الله السماوات والأرض بالحق) بالحكمة وبالصواب وبالعدل؛ ليعدل بين الناس، ولم يخلقها لما يظن هؤلاء الجاهلون من التسوية بين الأبرار والفجار؛ لأن هذه التسوية خلاف العدل والإنصاف والحكمة.
(ولتجزى) معطوف على (بالحق) ؛ لأن فيه معنى التعليل للحق، يعني: للعدل بين الفريقين، أو معطوف على معلل محذوف تقديره: خلق الله السموات والأرض ليدل بها على قدرته.
(وهم لا يظلمون) أي: في جزاء أعمالهم.
-
تفسير قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ...)
قال تبارك وتعالى:
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23].
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، أي: من ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى، فكأنه يعبده، فجعله إلهاً، وهذا تشبيه بليغ أو استعارة.
والهوى إله يعبد من دون الله، فكلمة (إله) تطلق على الإله الحق، وعلى الإله الباطل، وتطلق أيضاً بمعنى معبود، وهناك من يعبد الآلهة الباطلة؛ ولذلك قلنا في معنى لا إله إلا الله: لا إله حق إلا الله، وليس معناها لا إله موجود إلا الله؛ لأنه من حيث الواقع فالمعبودون من دون الله كثيرون؛ فالشيطان إله يعبد من دون الله، كما قال تبارك وتعالى:
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60]، فهناك من إلهه الشيطان، والهوى إله كما في هذه الآية وفي آية الفرقان:
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43]، والمال إله يعبد من دون الله كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (
تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، والشهوات إله تعبد من دون الله، وهكذا كل ما عبد من دون الله فهو إله، لكنها كلها آلهة باطلة، ولا يستحق أن يعبد إلا الله عز وجل وحده لا شريك له.
يقول
القاشاني : الإله المعبود، ولما أطاعوا الهوى فقد عبدوه وجعلوه إلهاً، إذ كل ما يعبده الإنسان بمحبته وطاعته فهو إلهه، ولو كان حجراً.
(وأضله الله على علم)، يعني: أضله الله على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية.
أو: (أضله الله على علم) أي: عالم بحاله من زوال استعداده، وانقلاب وجهه إلى الجهة السفلية، أو: مع كون ذلك العابد للهوى عالماً يعلم ما يجب عليه فعله في الدين، على تقدير أن يكون (على علم) حال من الضمير المفعول في (أضله الله)، فإما أن يكون حال، أي: أضله الله على علم منه مسبق فيه أنه لن يهتدي أو: أنها حال من الضمير الهاء، وأضله مفعول فهو يعلم ما يجب عليه من أمر الدين، وحينئذ يكون إضلاله؛ لمخالفته علمه، لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى، أو: على علم منه غير نافع، لكونه من باب الفضول، ليس فيه إلى الحق سلوك ووصول، يعني: له علم لا قيمة له.
(وختم على سمعه وقلبه) أي: بالطرد عن باب الهدى، والإبعاد عن محل سماع كلام الحق وفهمه بمكان الرين وغلظ الحجاب، فلا يعقل منه شيئاً.
(وجعل على بصره غشاوة)، أي: عن رؤية حجج الله وآياته.
وكما تلاحظون فإنه جعل الختم على السمع والقلب، أما البصر فقال: (وجعل على بصره غشاوة)، وهذا دليل لمن رأى الوقف في أول سورة البقرة في قوله تبارك وتعالى:
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7]، فهنا تقف، ثم تواصل:
وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7]، فهذه الآية دليل لمن رأى الوقف على قوله تبارك وتعالى: (وعلى سمعهم).
(فمن يهديه من بعد الله) أي: فمن يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه، وهذا يرجحهإعراب (على علم) أنها حال من الله سبحانه وتعالى.
(فأضله الله على علم)، يعني: بعلم الله السابق أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آياته.
(فمن يهديه من بعد الله) أي: من يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه.
تفسير القرطبي لقوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)
-
تفسير قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا ...)
قال الله تبارك وتعالى:
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24].
قوله سبحانه وتعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) أي: ما الحياة، أو الحال غير حياتنا هذه التي نحن فيها.
(نموت) أي: بالموت البدني الطبيعي.
(ونحيا) أي: الحياة الجثمانية الحسية، لا موت ولا حياة غيرهما.
(وما يهلكنا إلا الدهر) أي: مر الليالي والأيام وطول العمر.
(وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) أي: وما يقولون ذلك عن علم، ولكن عن ظن وتخمين.
وفي تفسير قوله: (نموت ونحيا) أقوال:
منها: في الآية تقديم وتأخير، فيكون الأصل: (نحيا) حياة ثم نموت بعدها، فقدم (نموت) وأخر (نحيا)، وهذا نوع من أنواع علوم القرآن (المقدم والمؤخر).
قول آخر: (نموت ونحيا) يعني: يحيا البعض ويموت البعض.
قول ثالث: (نموت ونحيا) على الترتيب كما هي بدون تقديم وتأخير، لكن المقصود: أن هذا كلام من يقول بتناسخ الأرواح، بعدما يموت الإنسان فإن روحه تخرج ثم تحل في جسد آخر.
يقول
القاسمي رحمه الله تعالى: وفي قوله: (ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون)، إشارة إلى نسبة الحوادث إلى الدهر، أو إلى إنكار البعث، أو إلى كليهما، (وما لهم بذلك من علم).
قال
الزمخشري : كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس، وينكرون ملك الموت، وقبضه الأرواح بأمر الله، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (
لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر) أي: فإن الله هو الآتي بالحوادث وليس الدهر. انتهى كلام
الزمخشري .
وقال
الخطابي : معناه: أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر، فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها.
والدهر ظرف زمان، والفاعل الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، فإنما الدهر زمان جعل ظرفاً لمواقع الأمور، وكانت عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر، فقالوا: بؤساً للدهر أو سباً للدهر.
قال
ابن كثير : وقد غلط
ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذاً من هذا الحديث. يعني: لا يصح أبداً أن يقال: إن من الأسماء الحسنى الدهر، اعتماداً على هذا الحديث: (أنا الدهر)؛ لأن معناه: أنا خالق الدهر، وأنا مصرف الأحداث ومدبر الوقائع.
وفي هذه الآيات رد على الدهرية وهم المعطلة، لأن متمسكهم ظن وتخييل، لم يشم رائحة اليقين، وما هذا سبيله فالقبول في وجهه مسدود:
إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [يونس:36].
قال
الشهرستاني في معطلة العرب: فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني. يعني: الطبيعة هي التي تحيي الناس، وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد:
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24].
(نموت ونحيا) إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي، وقصر الحياة والموت على تركبها وتحللها، فالجامع هو الطبع، والمهلك هو الدهر.
فاستدل الله عليهم بضرورات فكرية وآيات فطرية في كثير من الآيات، فقال تعالى:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأعراف:184]، يأمرهم بالتفكر، وقال:
أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]،
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ [النحل:48]، وقال:
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:9]، وقال عز وجل:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [النساء:1].
فأثبت في الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق، فإنه قادر على الكمال إبداء وإعادة. انتهى كلام
الشهرستاني .
يقول
القاسمي رحمه الله: ولي في الرد على الدهريين -وهم الماديون والطبيعيون- كتاب (دلائل التوحيد) فليرجع إليه المريد؛ فليس وراءه بحمده تعالى من مزيد.
تفسير القرطبي لقوله تعالى: (وقالوا ماهي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ...)
قال العلامة
القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) قال الله تعالى: (
يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)، هذا نص
البخاري ولفظه، وقد أخرجه
مسلم أيضاً و
أبو داود.
وفي الموطأ عن
أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر! فإن الله هو الدهر)، وسواء كان الدهر أو أي وقت آخر للزمان من الليالي والأيام، فهذا مما لا يجوز أن يسب، بل لبيان شرف الزمان أقسم الله به وبأجزائه وأبعاضه، فأقسم به في قوله:
وَالْعَصْرِ *
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2]، (والعصر) على أحد التفسيرات يعني: الوقت والزمان، فالله لا يقسم إلا بالآيات العظام والأمور الشريفة، فحينما أقسم بالدهر؛ أقسم ليبين لنا أن الدهر لا ذنب له إنما هو ظرف، وإنما الشؤم يكون من عمل الإنسان ومن كسبه، وليس للدهر في ذلك ذنب، كما يقول الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا
وقد تساهل الناس في هذا خاصة في الأناشيد والأغاني والأمثال الشعبية ونحو هذه الأشياء، ففي كثير منها سب الدهر أو وصف اليوم أنه يوم أسود أو يوم كذا، ومن العجب أن يقع ذلك أحياناً في القنوت من بعض الأئمة! فقد اخترعوا دعاء: (وأرنا فيهم يوماً أسوداً)، ولا يمكن أن يكون هذا مأثوراً عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن فيه سب الدهر، وفيه أمر آخر وهو قولهم: (أسوداً) وهو على وزن أفعل، ممنوع من الصرف، ولا يمكن أن تكون أسوداً، والصواب لغة أسود، فلذلك الإنسان إذا لم يكن متمكناً من اللغة، ولا يحسن اختيار الألفاظ في الدعاء فعليه أن يدعو الله سبحانه وتعالى بالأدعية المأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام جمع ما لم يوجد في غيره من الفصاحة؛ فهو في قمة الفصاحة على الإطلاق عليه الصلاة والسلام، وهو أبلغ العرب وأنصحهم للأمة، وهو أعرف الناس بالله، وأخشاهم لله عز وجل، وأعلمهم بلغة العرب، فمن ثم دائماً الإنسان يحاول أن يقتصر على الدعاء المأثور الذي يعلمه من أجل السلامة من مثل هذه الاختراعات.
كان بعض المكروبين يتبجح ويقول في بعض أشعاره:
أقول دهر أحمق الخطا يعني: يخبر أنه أحمق الخطا والعياذ بالله ... إلى غير ذلك من الأشعار، ولا يليق أن نذكرها كلها.
على أي حال نعود للحديث: (لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر! فإن الله هو الدهر) استدل بهذا الحديث من قال: إن الدهر من أسماء الله، وقال من لم يجعله من العلماء اسماً: إنما خرج رداً على العرب في جاهليتها، فإنهم كانوا يعتقدون أن الدهر هو الفاعل كما أخبر الله عنهم في هذه الآية، فكانوا إذا أصابهم ضر أو ضيم أو مكروه نسبوا ذلك إلى الدهر، فقيل لهم على ذلك: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) أي: إن الله هو الفعال لهذه الأمور التي تضيفونها إلى الدهر؛ فيرجع السب إليه سبحانه، فنهوا عن ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم: (
قال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابن آدم)، ولقد أحسن
أبو علي الثقفي حين قال:
يا عائب الدهر إذا نابه لا تلم الدهر على غدره
الدهر مأمور له آمر وأنت للدهر إلى أمره
كم كافر أمواله جمة تزداد أضعافاً على كفره
ومؤمن ليس له درهم يزداد إيماناً على فقره
فمن الناس من يقول: الدر غدار، والزمن غدار، وهذا سب للدهر.
وروي أن
سالم بن عبد الله بن عمر كان كثيراً ما يذكر الدهر فزجره أبوه وقال: إياك يا بني وذكر الدهر! وأنشد :
فما الدهر بالجاني لشيء لحينه ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا
ولكن متى ما يبعث الله باعثاً على معشر يجعل مياسيرهم عسرا
يقول
القرطبي رحمه الله تعالى: وكان المشركون أصنافاً: منهم هؤلاء -أي: هؤلاء الذين يقولون: (نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر)-، ومنهم: من كان يثبت الصانع وينكر البعث.
وهل مذهب الدهريين يدل على أنهم ينكرون وجود الله لا يستلزم أنهم ينكرون الله عز وجل، وإلا فمشركو العرب كانوا يقرون بوجود الله، وكانوا يوحدون توحيد الربوبية ومع ذلك كانوا ينكرون البعث، فلا تلازم بين إنكار البعث والنشور وبين إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، فلينتبه لهذا.
قال: ومن أصناف المشركين من كان يثبت الصانع وينكر البعث، ومنهم من كان يشك في البعث ولا يقطع بإنكاره.
وحدث في الإسلام أقوام ليس يمكنهم إنكار البعث خوفاً من المسلمين، فيتأولون ويرون القيامة موت البدن، ويرون الثواب والعقاب خيالات تقع للأرواح بزعمهم، فشر هؤلاء أضر من شر جميع الكفار؛ لأن هؤلاء يلبسون على الناس الحق، ويغتر بتلبيسهم الجاهل، وأما المشرك المجاهر بشركه فيحذره المسلم.
وقيل: نموت وتحيا آثارنا؛ فهذه حياة الذكر.
وقيل: أشاروا إلى التناسخ، أي: يموت الرجل فتجعل روحه في موات فتحيا به.
-
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم ...)
قال الله تبارك وتعالى:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجاثية:25].
قال الله تبارك وتعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)؛ لأن الله باعث خلقه يوم القيامة.
(ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين)، أي: انشروهم أحياء حتى نصدق ببعثنا أحياء بعد مماتنا، يعني: أرونا دليلاً عملياً، يا ألله هات آباءنا وأحيهم الآن حتى نصدق أن هناك بعثاً ونشوراً!
وقوله: (ما كان حجتهم إلا أن قالوا)، كيف يطلق على ذلك حجة؟
إما حقيقة بناء على زعمهم، يعني: ما كان حجتهم في زعمهم، وهم الذين وصفوها بأنها حجة، لكن هذه لا تصلح أن تكون حجة؛ فإنهم ساقوا هذا الكلام مساق الحجة، أو إن الحجة مجاز، وقالها الله تهكماً بهم كما في قوله تعالى:
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، وكذلك هنا: (( مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ ))، استهزاء بما يسمونه حجة، كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، بمعنى: أنه لا حجة لهم ألبتة، وفيه مبالغة لتنزيل التضاد منزلة التجانس، حيث سمي ما هو ضد الحجة -وهو الجحد- باسم الحجة، فهذه من المبالغة؛ لأنه نزل الضد منزلة المتجانس.
قال
القرطبي رحمه الله تعالى: قال
الزمخشري : فإن قلت: لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟
قلت: لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته، وساقوه مساقها؛ فسميت حجة على سبيل التهكم، أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة.
أو لأنه من باب أسلوب قول الشاعر:
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
يقول: إذا تلاقوا في الحرب جعلوا بدلاً من تحية بعضهم بعضاً الضرب الوجيع، فهل الضرب تحية؟ ليس تحية، بل هذا تهكم بأن التحية التي حيوا بها خصومهم الضرب الوجيع بالسيوف والقتل.
فكذلك قوله هنا: (ما كان حجتهم) من نفس هذا الأسلوب.
فالمقصود: أنه ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، والمراد نفي أن تكون لهم حجة ألبتة.
فإن قلت: كيف وقع قوله:
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ [الجاثية:26] جواب قوله تعالى: (ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين)؟
يقول
القرطبي : قلت: لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل، وحسبوا أن ما قالوه قول مسكت ألزموا ما هم مقرون به، من أن الله عز وجل هو الذي يحييهم ثم يميتهم، فهم يقرون بأن الله يحييهم؛ لأنهم يقرون بتوحيد الربوبية، فألزموا بما هم مؤمنون به على ما هم مكذبون به، فهم يقرون أن الله هو الذي يحييهم ثم يميتهم.
قال
القرطبي : ضم إلى ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به، إن أنصفوا وأصغوا إلى داعي الحق. قال تعالى: (قل الله يحييكم) ثم قال: (ثم يميتكم ثم يجمعكم) ضم إلى هذا العبرة في القدرة، فما دمتم آمنتم بقدرة الله على خلقكم وعلى إماتتكم، فيلزم على ذلك الإيمان بقدرة الله التي لا يحدها شيء، وقدرته العامة الكاملة على كل شيء، ومنه: خلقكم بعد البعث، فهذا هو أسلوب الإلزام بما يجب أن يقروا به لو أنصفوا.
قال
القرطبي : وهو جمعهم يوم القيامة ومن كان قادراً على ذلك كان قادراً على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه.
قوله: (قل الله يحييكم) الاستدلال هنا بعموم قدرة الله، وأنتم تقرون بهذه القدرة، وينبغي بناء على ذلك أن تؤمنوا أيضاً بأنه يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، فإذا كان قادراً على هذا فهو أولى أن يكون قادراً على أن يحيي آباءكم، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يجيبهم إلى ما اقترحوه من الآيات، ولماذا لا يجيبهم الله عز وجل إلى ما اقترحوه من الآيات؟
قل لهم في جواب قولهم: (وما يهلكنا إلا الدهر): (الله يحييكم ثم يميتكم) لا الدهر، لما عرف بالوجوب رجوع العالم إلى واجب الوجود ومسبب الأسباب، ومصدر الكائنات، أو قل لهم في جواب إنكارهم البعث: من قدر على الإبداء يقدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما مر مراراً.
وقوله تعالى:
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الجاثية:27] أي: فلا مالك غيره، ولا معبود سواه.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [الجاثية:27] أي: الذين أتوا بالباطل في أقوالهم وأفعالهم، وهم عبدة غيره تبارك وتعالى.
-
تفسير قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية ...)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28].
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [الجاثية:28] (جاثية) أي: جالسة على الركب، غير مطمئنة.
يقول
القاسمي : (وترى كل أمة جاثية) أي: جالسة مستوفزة على الركب لا حراك بها، شأن الخائف المنتظر لما يكره، وذلك عند الحساب أو في الموقف الأول وقت البعث قبل الجزاء.
وقال
القرطبي رحمه الله تعالى: (وترى كل أمة جاثية) يعني: من هول ذلك اليوم، والمقصود بالأمة هنا أهل كل ملة.
وفي الجاثية تأويلات خمسة:
الأول: قال
مجاهد : (جاثية) مستوفزة.
وقال
سفيان : المستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله.
وقال
الضحاك : ذلك عند الحساب.
القول الثاني: (جاثية) مجتمعة، قاله
ابن عباس .
وقال
الفراء : المعنى: وترى أهل كل دين مجتمعين.
القول الثالث: (جاثية) متميزة، قاله
عكرمة .
الرابع: (جاثية) خاضعة بلغة قريش، قاله
المؤرج .
الخامس: (جاثية) جالسة على الركب، قاله
الحسن .
والجثو هو: البورك على الركب، جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جثواً وجثياً، وأصل الجثوة: الجماعة من كل شيء.
قال
طرفة يصف قبرين :
ترى جثوتين من تراب عليهما صفائح صم من صفيح منضد
إذاً: قوله تعالى: (( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ))، أي: باركة مستوفزة على الركب لا حراك بها، شأن الخائف المنتظر لما يكره، وذلك عند الحساب أو في الموقف الأول وقت البعث قبل الجزاء.
(كل أمة تدعى إلى كتابها) أي: اللوح الذي أثبت فيه أعمالها، ويعطى بيمينه من كان سعيداً، وبشماله من كان شقياً.
-
تفسير قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ...)
-
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل إن وعد الله حق ...)
-
تفسير قوله تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ...)
-
تفسير قوله تعالى: (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين)