أما بعد:
فما زلنا في سلسلة آيات سورة النور نتحدث عن بعض أسرار هذه السورة العظيمة التي أعطاها الله عز وجل عناية وميزة فقال في مطلعها عز من قائل: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1].
وحديثنا عن قول الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور:55-57].
أيها الأخ الكريم! نحن نعرف يقيناً بأن الله عز وجل خالق هذه البرية وهذا العالم، وهو الذي يعلم أسراره ويعلم ما يصلح شئونه وما يفسده، ولذلك فإن خبره عز وجل صدق كما أن حكمه عدل، قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115] ثم جرت سنة الله عز وجل في هذه الحياة أن يضع لها نواميس وأنظمة، ويدور بقاء هذه البشرية ونهايتها حول أسباب البقاء وأسباب النهاية.
يقول الله عز وجل: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [الأعراف:34] وكما أن للأفراد آجالاً فإن للأمم آجالاً أيضاً، فالله عز وجل قد يبسط الدنيا لأمة وييسر لها وسائل البقاء والتطور والتقدم، ولكن الله عز وجل يطالبها بمقدار ما يعطيها من وسائل البسط والبقاء أن تستقيم على شرع الله، وأن تلتزم منهجه، ويضع للاستخلاف والبقاء أسباباً ونواميس، فإذا أخذت الأمة بهذه الأسباب فإن الله عز وجل لا يخلف وعده، ولكنها حينما تأخذ بهذه الأسباب ثم تتخلف عنها في يوم من الأيام فإن الله عز وجل لا يغيروا ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، ولذلك سوف تجد في آية الاستخلاف والتمكين والأمن والطمأنينة وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55] وهذا وعيد، والوصف بالفسق لا يعني ذلك أن الأمر يقف عند فسق ثم ينتهي الأمر، فإن لله محارم ولله عز وجل غيرة، فإذا تجرأت هذه الأمة على محارم الله فإن الله عز وجل لها بالمرصاد.
أيها الأخ الكريم! يقول تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ [النور:55]، فنجد أن هذه الآية اشترطت أربعة شروط، ثم وعد الله عز وجل هذه الأمة إذا وفت بهذه الشروط أن تتحقق لها ثلاثة أمور مهمة تسعى إليها كل الأمم، فجميع الأمم التي تخوض الحروب العالمية الدامية بما في ذلك الحربان العالميتان اللتان أفنتا عشرات الملايين من البشر، واللتان دمرتا جزءاً كبيراً من الكرة الأرضية الهدف من وراءها البحث عن الاستخلاف في الأرض، والبحث عن تمكين دين أياً كان هذا الدين، أو معتقد أياً كان هذا المعتقد، والبحث عن الأمن والطمأنينة، ولكن الذي خاض كيد الحربين العالميتين لم يستطع أن يحقق الأمن والطمأنينة لنفسه فضلاً أن يحققهما للعالم، وإن كان قد حصل على شيء من المكاسب لكنه لم يستطع بعد ذلك أن تبقى حضارته آمنة مطمئنة؛ لأن الشروط غير متوافرة، فالشروط أربعة، وهي قوله تعالى: (آمنوا منكم) وكأن الخطاب موجه بصفة خاصة للأمة الإسلامية؛ لأن الضمير يعود إلى الأمة الإسلامية، وقوله: (وعملوا الصالحات) وقوله: (يعبدونني) وقوله: (لا يشركون بي شيئاً) فهذه أربعة شروط لا بد أن يعيها هؤلاء الناس حتى يلتزموا بها التزاماً كاملاً، وحتى يقيموها في حياتهم اليومية دائماً وأبداً، لا يغفلوا عنها ساعة من الزمن، وحينئذ سوف يتحقق ذلك الوعد، وقد تحقق ذلك الوعد يوم طبقت الأمة الإسلامية هذه الشروط الأربعة في عصرها الذهبي في عهد سلفنا السلف ورعيلنا الأول.
ولذلك فإن الإيمان فطرة، وكل ما في هذا الكون يحرس هذه الفطرة، والانحراف خروج عن الفطرة، قال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] أي: ثم انحرفوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213] وهذه الفطرة هي صبغة الله عز وجل التي يقول عنها: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138] هذه الفطرة -فطرة الإيمان بوجود الخالق سبحانه وتعالى وقدرته ووحدانيته- فطرة خلقت مع الإنسان، فقد قال الله عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] بماذا؟!
قال الله تعالى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173]، وفي معنى هذا الآية الكريمة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل قد استخرج ذرية آدم من ظهره يوم خلقه كالذر، فأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأخذ سبحانه وتعالى قبضة فقال: هذه إلى النار ولا أبالي. وأخذ قبضة أخرى فقال: هذه إلى الجنة).
إذاً هي فطرة فطر عليها هذا الإنسان، ولكن هذه الفطرة -أي: فطرة الإيمان- تتعرض في كثير من الأحيان لأمور خارجية تؤثر فيها، ولعل من أبرز هذه الأمور الخارجية دعاة الضلال الذين نذروا أنفسهم لحرف أبناء الفطرة عن الفطرة، ولكن هذه الفطرة ما زالت موجودة، وأي فطرة يوجد فيها إنكار هذه الفطرة فإنما هو لأسباب ودوافع، فإذا كان فرعون يقول للملأ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] ويقول لهم: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] ويخرج على هذه الفطرة فإن نواياه السيئة تنكشف في قول الله عز وجل: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، ويزيد هذا الانكشاف وضوحاً حينما أدركه الغرق فقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90] وعلى هذه تأكدنا من أن الفطرة ما زالت موجودة، وأن هدف فرعون إنما يريد من خلال ذلك أن يستعبد هذا العالم، وهكذا كل من يريد أن يستعبد هذا العالم لا بد أن يخرج على هذه الفطرة؛ لأن هذه الفطرة لا تمكن لطاغية من الطغاة أو لجبار من الجبارين أن يسود هذا العالم إلا بمقدار ما يحول بين هؤلاء الناس وهذه الفطرة، ولذلك تجد أن الشيوعية التي كادت أن تكتسح جزءاً كبيراً من العالم مدة من الزمن كان هدفها الاستيلاء على العالم، واستعباد بني البشر، ولا يمكن لأمة أن تستعبد البشر إلا حينما تحول بينه وبين هذه الفطرة، حتى إذا يئسوا من هذا الهدف أظهرت الشيوعية إفلاسها.
فالمهم هو الشرط الأول، وهو الإيمان، وهذا الإيمان له مفهومان:
المفهوم الأول: مجرد التصديق، وهذا لا يكفي لحياة الرجل المؤمن، فإن مجرد التصديق تعتريه كثير من الأحداث والأخطار التي تهزه هزاً، ولربما يتجرد هذا الإنسان من إيمانه بسبب هزة بسيطة أو هزة عنيفة، ولذلك الله تعالى ذكر من هذا الإيمان أنواعاً:
فقال عن نوع منه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:8-9].
وذكر نوعاً آخر من هذا الإيمان الصادق في بادئ الأمر، لكنه غير ثابت ولا مستقر؛ لأنه لم يصل إلى سويداء القلوب؛ ولأن الأحداث لم تفتنه بعد، ولأنه لم يصب بهزة من الهزات، ولكنه سرعان ما يصاب بهزة يتأثر بها هذا الإيمان؛ لأنه لم يكن عن تفكير وبحث وروية، وإنما كان عن تقليد أو إرث من الآباء والأجداد أو إرث من البيئة، ولذلك الله تعالى يقول عن هذا النوع من الإيمان: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] هذا الإيمان الذي يريد صاحبه أن يأخذ ما سهل ولان ويترك ما شق وصعب، ففي أيام الرخاء يقول: إنه مؤمن. لكن حينما تغرقه الشدائد ينهار كما ينهار بيت العنكبوت، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].
وهناك إيمان كالجبال، وهناك إيمان أقوى من الجبال لا يتزحزح عن موقعه ولا يتأثر بما يحيط به.
فالإيمان الحقيقي الصادق شرط للاستخلاف، لا نريد أن يكون كإيمان أبي العلاء المعري الذي يقول: (إن كان الحق معي فأنا أكسب الموقف، وإن كان الحق مع غيري فأنا لم أخسر شيئاً) ولكننا نريد إيماناً كإيمان إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي ألقي في النار فيقول له جبريل: ألك حاجة؟! فيقول في ساعة الصفر: (أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم)، كإيمان إبراهيم الذي يقول لابنه: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] فيقول الابن الصالح المؤمن: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:102-103] وانتهى الأمر وجاء الفرج من عند الله عز وجل.
نريد إيماناً كإيمان موسى عليه الصلاة والسلام الذي يقول له بنو إسرائيل وقد استقبل البحر: يا موسى! العدو من ورائنا والبحر من أمامنا، أين المفر؟! فيقول بكل رباطة جأش: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] هذا الإيمان الذي لا يرهبه تهديد طاغية ولا ظلم طاغوت، إيمان كإيمان السحرة الذين كانوا يقولون: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء:44] فإذا بهم يرون أن عزة فرعون لا تحميهم من عذاب الله عز وجل، ويرون أن ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام ليس سحراً، ولكنها آية كبرى جاء بها من عند الله، وحينئذ يخرون لله عز وجل ساجدين، ولم يفعلوا من دينهم إلا سجدة واحدة، ثم يأتي دور تهديد الطغيان في الأرض الذي يشعر بالنشوة، فيقول لهؤلاء المؤمنين الذي رأوا الآيات بأمهات أعينهم: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه:71] فماذا قال السحرة؟ قالوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72] فأنت لك الجسد لكنك لا تستطيع أن تصل إلى الروح! ويمكن أن تعذب في الحياة الدنيا لكنك لا تستطيع أن تعذب في الحياة الآخرة، قالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72] و(ما) هنا من ألفاظ العموم، أي: كل ما تريد أن تفعله افعله في هذه الأجسام.
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:73-75] هذا الكلام يقوله سحرة جاء بهم فرعون من أقصى المدائن، وجمعهم من شتى أقطار مصر من أجل أن يقفوا أمام آية من آيات الله، وكانوا يظنون في بادئ الأمر أن فرعون صادق، وأن موسى كاذب، لكنهم حينما رأوا الآيات بأمهات أعينهم قالوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72] لكن هذا الإيمان أين يولد؟ وأين يوجد؟
في التفكير في عظمة الله عز وجل، ولذلك تجد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي يستسلم للإلقاء في نار الدنيا هروباً من نار الآخرة وهو على ثقة بأن الله عز وجل سوف يدافع عنه هو ذلك الذي يبحث عن الله، وما كان يشك في الله، وإنما كان يريد أن يعلم الناس من الذي يستحق أن يعبد، أهو الكوكب؟
لا يصلح الكوكب؛ لأنه لا يحب الآفلين، ولأن الكوكب أفل، أهو القمر؟
إن القمر لا يصلح.
أهي الشمس، وهي أكبر ما يشاهده؟ لا تصلح، ولذلك كل هذه خرج منها بنتيجة فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79].
هذا هو الإيمان الذي نطالب به أنفسنا، ونطالب به الأمة الإسلامية، والأمة بحاجة إلى هذا الإيمان أكثر من حاجتها إلى الطعام والشراب، وهي في أيامنا الحاضرة في أيام المحن والابتلاء والفتن التي هي كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا، هي بحاجة إلى هذا الإيمان أكثر من حاجتها إلى الطعام والشراب والهواء، في أيام الفتن التي يمحص فيها الإيمان، في أيام الفتن التي يبتلى الناس فيها على قدر دينهم وقربهم من الله عز وجل، فهذا الإيمان أول شرط من شروط هذه الوعود الثلاثة من عند الله عز وجل.
إذاً العبودية شرط من شروط التمكين، ولكن هذه العبودية إما أن تكون لله عز وجل وإما أن تكون لغير الله، فتكون لله سبحانه وتعالى إذا عرف الإنسان ربه حق المعرفة، وإذا أعرض عن عبوديته لله عز وجل فلا بد من أن يكون عبداً لشيء آخر.
فإما أن يكون عبداً للشيطان يتبعه ويتبع خطواته، وقد حذره الله عز وجل حيث قال: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60-61].
أو يكون عبداً للدرهم والدينار، ومعنى كونه عبداً للدرهم والدينار أن يقدم جمع المال على حب الله عز وجل والدار الآخرة، فيكسب المال من الحلال والحرام، يشترى ضميره ودينه بثمن بخس، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77] إذا عرضت عليه زينة الحياة الدنيا وسعادة الحياة الآخرة اختار زينة الحياة الدنيا على سعادة الحياة الآخرة، إذا عرضت عليه الرشوة، وإذا عرض عليه المنصب تجده عبداً لهذا الأمر وينسى عبوديته لله عز وجل، وقد يكون عبداً للمركز والوظيفة، وقد يكون عبداً للهوى، قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، وقد يكون عبداً لغير ذلك، لكنه يتحرر من كل هذه العبوديات حينما يتعلق بالعبودية لله عز وجل، وبمقدار ما يتجرد من عبودية الله يسقط في عبودية البشر، وبمقدار ما يتعلق بعبوديته لله عز وجل يبتعد عن عبودية البشر أياً كان هذا البشر، هذه العبودية التي تزيد الإنسان شرفاً وعزة وكرامة يعبر عنها الفضيل بن عياض رحمة الله عليه فيقول عن العبودية لله:
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
إذاً هذه العبودية يعبر عنها الفضيل بن عياض رحمة الله عليه بأنها علو، وبأنها مكانة عالية، حتى يقول: لقد كدت أن أطأ الثريا بأقدامي حينما أكون عبداً لك يا رب، وحينما أدخل في نبوة وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم فأكون من أمة الإجابة.
هذه العبودية قد يفقدها بعض الناس فيشعر بالذلة والمهانة، ويشعر بالضعف والهوان حتى يدخل في هذه العبودية، يروي لنا التاريخ قصة ذلك الرجل الصالح الذي كان فاسقاً لا يعرف معنى العبودية من الحرية، ومكث على هذا مدة طويلة من الزمن، حتى هداه الله فعرف معنى العبودية، فيروي المؤرخون أن بشراً المسمى بـبشر الحافي كان شاباً فاسقاً طائشاً ذا فساد عريض في الأرض، وكان من أبناء الذين امتحنهم الله عز وجل بالمال الوفير والنسب العريق، فقضى مدة طويلة من شبابه في فسق ولهو، لم يترك جانباً -كما يروي عن نفسه- من جوانب الفسق إلا وقد أخذ منه بنصيب، فأراد الله عز وجل له الهداية، فمر ذات ليلة بداره الرجل الصالح المشهور إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه، فتمزق قلب هذا الرجل الصالح حينما رأى الرقص والغناء واللهو والموسيقى وكئوس الخمور تدار في بيت بشر، فوقف عند الباب وطرقه، ففتحت له إحدى الراقصات القينات فقال: بالله أخبريني هذا بيت من؟ قالت: هذا بيت بشر. قال: أخبريني بالله أحر هو أم عبد؟ قالت: هو حر.
قال: قولي له إن كان حراً فليفعل ما يشاء. ثم انصرف، فانتبه بشر فسأل المرأة: من عند الباب؟ قالت: رجل. وذكرت صفته، قال: ماذا قال؟ قالت: سألني حر أنت أم عبد؟ فقال: ماذا قلت له؟ فقالت: قلت له: أنك حر. قال: وماذا قال؟ قالت: قال: إن كان حراً فليفعل ما يشاء. وانصرف، فمشى حافياً لأول مرة وهو من أبناء الأشراف، ولحق بـإبراهيم بن أدهم رحمة الله عليهما، فقال: قف يا رجل. ماذا تقول؟! قال: يا بشر! سألت: أحر أنت أم عبد؟ فأخبروني أنك حر، فإن كنت -يا بشر- حراً فافعل ما تشاء. قال: يا رجل! ويحك ماذا تقول -بدأ الرجل ينتبه ويعرف معنى الحرية والعبودية-؟ قال: لم أزد على ذلك أبداً، قال: ويحك ماذا تقول؟ قال: يا بشر! إن كنت حراً فافعل ما تشاء، وإن كنت عبداً فهذه ليست صفة العبيد. قال: والله إني لعبد، والله إني لعبد، والله إني لعبد. ويضرب برجله الأرض، ويعود بشر ليكسر زجاجات الخمر، ويخرج الراقصات والغانيات، ويعاهد الله عز وجل على التوبة وتحقيق معنى العبودية، ليصبح في يوم من الأيام مضرب المثل في الورع والزهد والتقوى، حتى إن ذكر بشر الحافي تغلب بعد ذلك على ذكر إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليهما أجمعين، هذه هي العبودية والرق لله عز وجل، وتلك الحرية التي ينادى بها اليوم هي التفلت من القيود التي وضعها الله عز وجل لهؤلاء البشر حتى يكونوا عباداً لله سبحانه وتعالى.
فالعبودية هي التي تكسب الإنسان شرفاً، وتزيده الدرجات العلى في الدنيا والآخرة، ورفض الشهوات والإقبال على الله عز وجل، وعدم الميل إلى زينة الحياة الدنيا ميلاً يضيع على الإنسان سعادة الحياة الآخرة الخالدة.
عدي بن حاتم
لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نزل قول الله تعالى: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ))[التوبة:31] قالعدي
: يا رسول الله! والله ما كنا نعبدهم. قال: (ثلاثة أمور كل واحد منها يترتب على الآخر.
معناه: أن تكون الخلافة بيد الصالحين، وأن تكون قيادة الأمة الإسلامية بأيدي خيارها الذين يحكمون بين الناس بالعدل، والذين لا يحكمون إلا شرع الله سبحانه وتعالى في كل أمورهم صغيرها وكبيرها، والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله ينقادون لشرع الله سبحانه وتعالى في أي حال من الأحوال، وعلى أي أحد من الناس، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن
وأبو بكر رضي الله عنه يعلم هؤلاء القادة وحكام العالم الإسلامي ما مدى مسئولية السلطة فيقول: (ألا إني وليت عليكم ولست خيراً من أحدكم، ولكني أثقلكم حملاً) هذا هو الاستخلاف في الأرض، ليس الخليفة خيراً من واحد من رعيته عند الله عز وجل، وإنما الفضل والميزان بالتقوى، لكنه حمل ثقيل، فـأبو بكر يقول: (ولكني أثقلكم حملاً) ويقول بعد ذلك: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).
ويوضح ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر يخضع لأمر الله ويقول للمسلمين أمامه: (إذا رأيتم مني اعوجاجاً فقوموني) ولا يغضب حينما قال له رجل: يا أمير المؤمنين -ويشهر سيفه في المسجد-! والله لو رأينا منك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا هذه. فيقول: (الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بسيفه لو انحرف) هذا هو الرجوع إلى الحق، وهذا هو الاستخلاف في الأرض، يحكم بين الناس بالعدل، ولذلك فمن أول السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة إمام عادل في نفسه وحكمه، وبين الرعية، وبينه وبين الرعية سواء، ولذلك فالاستخلاف في الأرض هو للصالحين من خلق الله، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].
وإذا رأيت الاستخلاف في الأرض بيد غير أصحابه الشرعيين فاعلم أن هناك عدم وفاء بشرط من الشروط السابقة، وهذا هو ما يقع في أكثر العالم الإسلامي، أنه وسد الأمر إلى غير أهله كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى (وسد) أي: أصبح أمر المسلمين كالوسادة يعتمد عليه الإنسان ويتمتع به كما يعتمد المتوسد على وسادته، حينما يعتمد عليها ويتمتع بها، وبدلاً من أن يكون مسئولية وعبئاً ثقيلاً كما يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (لست بخير من أحدكم، ولكني أثقلكم حملاً) يصبح وسادة لينة رقيقة يعتمد عليها صاحب الأمر، وهذا هو ما يحدث في أكثر بلدان العالم الإسلامي، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) .
إن الأمر إذا كان بأيدي غير صالحي البشر من خلق الله عز وجل، وكان بأيدي أناس لا يحكمون بشرع الله، ولا يعدلون في الرعية، ولا يخافون في هذه الأمة الله عز وجل يصبح الأمر خطيرا، وحينئذ فقد الاستخلاف في الأرض إذا كان بهذا الشكل في تلك المنطقة التي أصبح الأمر فيها بأيدي غير أصحابه الشرعيين.
فالاستخلاف في الأرض معناه الحكم بحكم الله عز وجل، قال تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، فإذا تم الاستخلاف في الأرض، وسارت الأمور على طبيعتها، وأصبح أمر المسلمين بأيدي أهله الشرعيين الحاكمين بشرع الله فحينئذ يتمكن الدين، بل ويطالب الذين استخلفهم الله عز وجل في الأرض أن يتخذوا من هذا الاستخلاف منطلقاً للحفاظ على هذا الدين، ولذلك قال تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:55] من الأمم الذين ساروا على شرع الله.
إنه يتمكن الدين في الأرض حينما يستخلف المؤمنون ويكون الأمر بأيدي أصحابه الشرعيين، فيبني مدينة القيروان، ويواصل البطل سيره إلى جهة الغرب ليقف على شاطئ المحيط الأطلسي، ويغرز عقبة قوائم فرسه في ماء المحيط ويقول: (والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أن وراء هذا الماء بشراً لخضته إليه على فرسي هذا) فهل يستطيع فرس عقبة بن نافع أن يخوض المحيط الأطلسي إلى بلاد أمريكا وهي لم تكتشف بعد؟! لا يستطيع، ولكنها عزة المسلم التي تشبهها عزة قتيبة بن مسلم رضي الله عنه الذي فتح بلاد ما وراء النهر، فيجلس ذات يوم مع القادة وكبار الجند في بلاد ما وراء النهر ويقول: يا قوم! أي بلد أمامي الآن؟! يقولون: هي بلاد الصين. يقول: والله الذي لا إله غيره لن أرجع إلى بلادي حتى أطأ بأقدامي أرض الصين وأضع الوسم على الصينيين وأفرض الجزية.
ويجلس قتيبة ، وتنفذ هذه الكلمات التي صدرت من قلب صادق عبر التجسس الذي يخبر ملك الصين بأن قتيبة حلف أن يطأ بأقدامه أرض الصين، فيخاف ملك الصين من قتيبة وجنده وبينه وبينهم آلاف الأميال، وليس لدى قتيبة من وسائل التدخل إلا الخيل والبغال والإبل، فيقول ملك الصين: هذه صحاف من ذهب مملوءة من تربة بلادي يطأها قتيبة وهو في مكانه ويبر بقسمه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم قتيبة بن مسلم وسم العرب كما يقول، ولا يصل إلى بلادي، وهذه الجزية سوف تصله في كل عام.
فهذه العزة هي عزة المؤمن، فحينما استخلفهم الله عز وجل في الأرض ومكنهم في الأرض تمكن الدين، وكانوا هم أنصار الدين، ولذلك فإن الاستخلاف إذا صاحبه انحرف عن الدين فإن الله عز وجل يقول بعد ذلك: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55] وقد تعمر دولة، وقد تتسع رقعتها وتتباعد حدودها لكن نهايتها مربوطة بعدم الوفاء بهذا الشرط الذي اشترطه الله عز وجل، وجعله شرطاً لهذا الوعد الحق.
إذاً ما هي ضريبة الاستخلاف في الأرض؟!
تجد هذه الضريبة في قول الله عز وجل: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41].
أما الذين لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، وهم ممكنون في الأرض فليس لهم نصيب من التمكين، وإن وجد التمكين مدة من الزمن فسوف تكون هذه بداية النهاية، ولذلك نشاهد في تاريخ الأمم عبر التاريخ الطويل أن أي أمة يمكن الله عز وجل لها في الأرض ويستخلفها وتصبح لها هيبة أنها تمتحن من عند الله عز وجل، فإن وفت بهذه الشروط وأدت ضريبة التمكين في الأرض فأقامت الصلاة، وآتت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وشجعت الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وشجعت الذين يدعون إلى الله عز وجل على بصيرة، ووضعت يدها على أيديهم، وأصبحت تفرح لفرحهم وتحزن لحزنهم وتسير في فلكهم فهي أمة سوف تطول مدتها بمقدار ما تحافظ على هذا العهد وتفي به تجاه الله عز وجل، ولكنها حينما تكون الثانية -نسأل الله العافية والسلامة- فستجدها حضارة تنهار يوماً بعد يوم، أو لربما تؤخذ فجأة وبغتة كما شاهدنا في تاريخنا القريب وفي عصرنا الحديث أمماً وجدت ثم انتهت، فأصبحت خبراً بعد عين، فماذا فعل الله عز وجل بالأندلس؟ وماذا فعل الله عز وجل بفلسطين؟ وماذا كان للبنان؟
هذه كلها دروس تصيبهم قارعة أو تحل قريباً من دارهم، والحمد لله أنها ما أصابتنا وإن حلت قريباً من دارنا، فنسأل الله عز وجل أن يجعل لنا فيها عظة وعبرة.
إذاً الاستخلاف في الأرض يطلب معه تمكين الدين، وتمكين الدين يكون من قبل الله عز وجل، لكن لا بد من أن تكون هناك جهود تبذل، ولا بد من أن تكون هناك تضحيات، ولا بد من أن تشجع الدعوة إلى الله عز وجل، ولا بد من أن يقمع الفساد في الأرض، لا بد من أن تطهر البيئة لتكون بيئة طاهرة طيبة لتربية أبناء المسلمين، لا بد من أن يشجع جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الأمة، وحينئذ يتحقق قوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41] يعني: الأمر اتركوه لله، فالله تعالى هو الذي يحفظ الأمة، وهو الذي يقضي عليها حينما ينتهي أجلها بإرادة الله سبحانه وتعالى، وهنا يقول الله تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:55] فكيف استخلف الذين من قبلنا؟! يقول الله تعالى عن قصة استخلاف الذين من قبلنا: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فالإمامة لم يصل إليها من قبلنا إلا بالصبر واليقين، ولا تصل إليها هذه الأمة إلا بالصبر واليقين، ولا يستقر الاستخلاف في الأرض ولا يتمكن الدين في هذه الأرض إلا إذا صبر الناس وأيقنوا بوعد الله عز وجل وساروا على المنهج الصحيح.
وكما روى خباب بن الأرت رضي الله عنه يقول: (جئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم قاعداً وقال: لقد كان يؤتى بالرجل فيمن كان قبلكم فيحفر له في الأرض، ثم يوضع المنشار على مفرق رأسه، فيقسم إلى قسمين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دين الله، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون) هذا الوعد تحقق، فسار الراكب لا من صنعاء إلى حضرموت فحسب، وإنما سار الراكب من بلاد الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً إلى جبال البرانس شمالاً لا تستوقفه دائرة جوازات تقول له: من أنت؟ وإذا قيل له: من أنت؟ يقول: أنا مسلم. ولا تستوقفه مراكز تبحث عن شخصيته؛ لأن شخصيته أنه المسلم الذي لا يستطيع أحد أن يقف في طريقه، ليست هناك حواجز ولا حدود صنعها البشر كما يوجد في أيامنا الحاضرة، ولكن كما قال الله عز وجل: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92] سار الراكب عبر هذا الخط الطويل لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه؛ لأنه تحققت الشروط التي التزم بها المسلمين أمام الله عز وجل، إيمان، وعمل صالح، وعبودية لله عز وجل، وتوحيد لله سبحانه وتعالى، فلم يصرف نوع من هذه العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، فتحقق الوعد، واستقرت الأمور، وقامت الخلافة في الأرض، وتمكن الدين في نفوس الناس، فأصبح أحدهم يسابق الشمس على مطالعها ينشر الإسلام، ولذلك ثبت في حجة الوداع أن من حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عددهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً من المسلمين، فأين قبور هؤلاء الذين يزيدون على مائة ألف من المسلمين؟ لم نجد في الجزيرة العربية إلا قبوراً معدودة بالأصابع، تلك قبورهم في أنحاء العالم ينشرون الإسلام، أخرجهم الله عز وجل لإنقاذ هذا العالم من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل، وانتشروا في الأرض يبشرون بدين الله، وينشرون دين الله عز وجل في الأرض، كان أحدهم يتمنى الشهادة أكثر مما يتمنى متاع الحياة الدنيا الناس في أيامنا الحاضرة، وكان أحدهم يرمي تمرات كانت في قرن معه وهو يأكل منها في غزوة بدر ويقول: (والله إنها لحياة طويلة لو عشت حتى آكل هذه التمرات).
من هنا استقرت الأمور، ومكن الله عز وجل هذا الدين في قلوب أولئك القوم، ثم مكن الله عز وجل لهذا الدين في هذه الأرض فشمل أكثر المعمورة، وبالرغم مما يلاقيه العالم الإسلامي اليوم من طغيان وإبادة نجد أن العالم الإسلامي -والحمد لله- ما زال بخير، وفي مقدار ما يوجد من تبشير وتنصير وتهويد هذه الأرض نجد -والحمد لله- أن الإسلام يسابق الشمس على مطالعها، في منطقة واحدة لم يصل إليها داعية من الرعيل الأول ولا جيش من جيوش المسلمين يعيش الآن أكثر من مائتي مليون مسلم في جزر الملايو، وفي البلاد التي استهدفت الآن ما زال الإسلام فيها عزيزاً والحمد لله.
أقول: إن الإسلام ما زال -والحمد لله- في خير، وبمقدار ما يتعرض الكفر لهذا الدين فإن هذا الدين لا يزيد إلا نمواً في الأرض وظهوراً؛ لأن الله تعالى يقول: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33].
دولة استعمرها الكافرون أكثر من مائة وثلاثين سنة تطالب بالإسلام بطريقة جماعية وبالإجماع، وترفض أي نظام يخالف الإسلام، والحروب الصليبية انتهت بعد سنين طويلة فخرجت والأمة الإسلامية أقوى منها من ذي قبل، حتى لقد قال المؤرخون: إن قرية في الشام اسمها (معرة النعمان) أباد منها الصليبيون مائة ألف مسلم، وبالرغم من ذلك ما ارتد واحد من المسلمين عن دينه.
وهكذا فإننا نجد أن الأمة الإسلامية بمقدار ما تصيبها الأحداث لا تتأثر.
والتتار أفسدوا خلال الديار مدة من الزمن، ثم نجد أن الأمة الإسلامية لم تتأثر بالغزو التتري.
وأفغانستان أكبر درس وأقرب دليل إلى حياة كل واحد منا، تلك القلة من البشر من خلق الله المؤمنين قاوموا تلك الدولة المتغطرسة، ويعتبر وجودهم في معارك بسيطة سبباً من أسباب سقوط الشيوعية.
إذاً هذا الدين إذا مكن الله عز وجل له في الأرض لا أحد يستطيع أن يحاربه؛ لأن الله تعالى يقول: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ [الأنبياء:18] ويقول عن الباطل: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17] فهذه شروط الاستخلاف في الأرض والتمكين وشروط الأمن والطمأنينة، ومن بحث عن الأمن في غير هذه المواقف عليه أن يصحح رؤيته، وأن يراجع حسابه، فالأمن لا يكون إلا للمؤمنين، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
إننا ننصح أي أمة مكن الله لها في الأرض واستخلف قادتها في هذه الأرض وأعطاهم الأمن والطمأنينة والاستقرار في هذه الأرض ننصحهم أن يحافظوا على هذه المبادئ، وعلى هذه الأسس، فهناك فرق بعيد بين دولة تقوم على انقلابات عسكرية، وعلى فسق وضياع وإراقة دماء، وبين دولة تقوم على دعوة صالحة صحيحة قيمة، هناك فرق بعيد بين الدولتين، فإن الثانية لا تبقى ولا يكون لها الدوام والاستمرار والاستقرار إلا بمقدار ما تحافظ عليه من أمر الله عز وجل، ولا يجوز للثانية أن تنخدع بالأولى التي لا تقوم إلا على الدماء والفوضى والحروب والثورات الداخلية، أما التي تقوم على منهج صحيح، وعلى دولة صحيحة فإنها تطالب أن تحافظ على هذا المنهج، فإنه هو أصلها وقاعدتها ولا تقوم إلا به.
أسأل الله سبحانه وتعالى في ختام هذا الحديث أن يوفق قادة هذا البلد الذين استخلفهم الله عز وجل في هذه الأرض الطيبة، والذين مكن لهم في الأرض، والذين أعطاهم الله عز وجل من الأمن ما لم يعطه الأمم التي تصنع وسائل الدمار ووسائل الاكتشاف، حتى أصبح الرجل في بلادنا يسير بكل أمواله عبر الصحاري الواسعة -صحراء الجزيرة العربية شرقاً وغرباً- لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه.
أسأل الله تعالى الذي منّ عليهم بهذا الأمن والاستقرار أن يوفقهم للاستقامة على دين الله، وأن يجعلهم من الذين قال فيهم: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الاستقامة، فإن الأثر يقول: (كيفما تكونوا يول عليكم) بل إن الله عز وجل يقول: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، أقول قولي هذا وأستغفر الله لنا جميعاً، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: هذا هو الشيء الذي تحدثنا عنه، فالتمكين في الأرض لا يكون إلا بشروطه، ولعل من أبرز هذه الشروط الصبر والتحمل، فإن الله تعالى يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [السجدة:24] أئمة قيادة الحياة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فإن الصبر في هذا السبيل أمر مطلوب لا تقوم الأمور إلا به، ولا تستقر الأحوال إلا بالصبر والتحمل، ولذلك فإن المرسلين عليهم الصلاة والسلام الذين أظهر الله تعالى دعوتهم وأظهر دينهم، وأظهر دولهم أيضاً قام جهدهم على الصبر والتحمل، وقد وضع الله تعالى في طريق ذلك كثيراً من العقبات من أجل أن يعرف الناس أن طريق الجنة ليس بالشيء السهل، وإنما هو محفوف بالمكاره والمخاطر، ولذلك تجد في طريق الجنة قول الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] فمن أراد هذه السعادة في الدنيا والسعادة الخالدة في الآخرة فعليه أن يأخذ بهذه الأسباب، والشاعر يقول:
ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر
إذاً لابد في طريق التمكين في الأرض من أمور، لا بد في طريق الأمن والاستقرار من أمور خطيرة، ولا بد أن يكون أيضاً في طريق الاستخلاف والحصول على السلطة ووصول السلطة بأيدي المؤمنين من أمور، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها دائماً وأبداً في أيدي المؤمنين الصالحين.
الجواب: إذا كانت هذه المحبة لهذا المخلوق تساوي محبة الله أو تزيد فهذا هو الشرك الأكبر، قال تعالى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] فهؤلاء هم المشركون، ثم يقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] يحبون الله أكثر من حب هؤلاء لمعبودهم.
وشرك الخوف من اعتقد أن فلاناً من الناس يستطيع أن ينفع أو يضر من دون الله، فهذا هو الشرك الأكبر، أما أن أخاف من فلان كما أخاف من الأسد، أو أخاف من هذا الطاغية أو من هذا الجبار، أو أخاف من هذا الظالم فهذا خوف فطري لا يؤاخذ عليه الإنسان، لكن هذا الخوف لا يجوز أن يغير شيئاً من أمور دين هذا الإنسان بحيث يتنازل عن دينه مقابل هذا الخوف، وإنما يجب عليه أن يكون خوف الله وخشية الله عز وجل هي المسيطرة على قلبه، وأن يكون خوف هذا الإنسان الفطري لا يصل إلى درجة الخوف من الله عز وجل، ولو وجد عنده شيء من الخوف فإنه يعتبر أنه لا يصيبه هذا الإنسان الذي يخيفه إلا بإرادة الله عز وجل وقضائه وقدره، أما لو قال: إني أخاف من فلان كخوفي من الله أو أشد. أو يرى أن فلاناً المخيف المرهب الطاغوت الجبار العنيد يستطيع أن يفعل به شيئاً من دون الله فهذا هو الخوف الذي يخرج من الملة.
الجواب: نصر الله عز وجل بإظهار الذين ينصرونه بالتمكين لهم في الأرض، وبالدفاع عنهم، وبظهور دينهم حتى ولو لقوا في سبيل دعوتهم ونصرتهم لدين الله عز وجل الأذى الشديد، لكن العاقبة لهم، كما قال الله عز وجل: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] فقد يظهر في بادئ الأمر أن الكفة راجحة في أيدي أعدائهم كما يوجد في كثير من الأحيان، وقد يبتلي الله عز وجل هؤلاء الذين ينصرون دينه، فيظهر أن الأمر لحساب غيرهم، وقد تطول مدة الفتنة، وهذه حكمة الله عز وجل، حتى يمتحن هؤلاء الناس ويمحصهم، ولربما يتخذ منهم شهداء، أي: أناس يستشهدون في هذا السبيل، كل ذلك يحصل في طريق نصرة دين الله، فإن وعد الله لا يتخلف، فسينصرهم الله، ولربما ينصرهم الله في ظهور مذهبهم ومنهجهم ومبدئهم الذي دافعوا عنه، ويعتبر نصراً ولو قتل الإنسان الذي دافع عن دين الله؛ لأنه ليس معنى النصر السلامة، وإنما النصر الحصول على الهدف الذي يسعى إليه هذا الإنسان، ولربما يكون من أهدافه الشهادة مع النصر لدين الله عز وجل، وهؤلاء هم الذين يقدمون أنفسهم قرباناً لدين الله سبحانه وتعالى.
إذاً لا يتصور أحد من الناس أن النصر معناه فقط السلامة من العدو، أو السلامة من المعتدي، وإنما يحصل القتل والسجن والأذى في ذات الله عز وجل، لكن يظهر هذا المبدأ الذي دافع عنه هذا الإنسان، ويكون ذلك من أرقى أنواع الصبر، ولذلك الله تعالى يقول عن المرسلين: كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الأنعام:34] ومع ذلك نصرهم الله عز وجل، ولربما تأخر النصر كثيراً، قال تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ [يوسف:110] والله تعالى ذكر الابتلاء في طريق النصر وفي طريق الجنة، قال تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:1-2]، وهذا استفهام إنكاري من الله عز وجل.
الجواب: معوقات الوعد الحق أن يتأخر النصر، ويتأخر هذا الوعد امتحاناً وابتلاء من الله عز وجل، ولربما لا يتأخر، لكن النفوس لا تفي بشروط هذا الوعد، أو لربما يطول عليها المدى ويطول عليها الأمد فتقسو القلوب وترجع من منتصف الطريق، وهذا أخطر ما يصيب الإنسان، كما ذكره الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [العنكبوت:10] ويسير في هذا الطريق يريد أن يحقق هذه الشروط ليحصل على هذا الوعد فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ [العنكبوت:10] أي: في دين الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] يقول: أنا هربت من عذاب الآخرة، فكيف أقع الآن في عذاب الدنيا؟! إذاً أتحمل عذاب الآخرة لأنه ليس أمامي الآن، وأهرب من عذاب الدنيا.
تقول النفس الضعيفة للإنسان في بعض الأحيان هذا الأمر، فيرجع من منتصف الطريق، وهذا هو قوله تعالى: فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ [العنكبوت:10] أي: أذى الناس في الدنيا كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] أي: في الآخرة. وهذا من أكبر المعوقات التي تحول بين الأمة وبين تحقيقها بالوعد من عند الله سبحانه وتعالى.
الجواب: توشك السفينة أن تغرق، ولكن -والحمد لله- ما زال في هذا العالم خير وفي هذه الأمة وفي بلدنا بصفة خاصة خير كثير، وما دام هذا الخير موجوداً فلعل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ هذه السفينة، وكم يدفع الله عز وجل من الأذى والبلاء والمصائب والبلايا بسبب الصالحين، شيوخ ركع، وأطفال رضع، وعباد وأتقياء وشباب -والحمد لله- سلكوا الطريق عن بصيرة واقتناع، لذلك نقول: اطمئن يا أخي؛ فإن السفينة لن تغرق -بإذن الله- ما دام هؤلاء الصالحون موجودين، وأرى كثيراً من السفهاء وهم يخرقون السفينة، لكني أرى أكثر منهم -والحمد لله- الآن قد انتبهوا، فهم الذين سوف يحافظون على هذه السفينة بإذن الله سبحانه وتعالى.
وعلى كلٍ فالسفينة على خطر لولا أن الله سبحانه وتعالى أعطى هذه الأمة وعداً على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يهلك هذه الأمة بسنة بعامة، ولكنه لم يعط سبحانه وتعالى رسوله وعداً بالنسبة لأمته أن لا يجعل بأسهم بينهم كما جاء ذلك في الحديث الصحيح، وهذا هو أخوف ما نخافه الآن، أن يتساهل المسئولون عن هذا الأمر، وأن تحترق قلوب هؤلاء الشباب الذين يرون المنكرات، ولربما يحصل أن أكثرهم يندفع، ونرجو أن لا يكون هناك اندفاع فيؤدي ذلك إلى وجود أفكار وحزبيات وجماعات تكفير وهجرة كما يوجد في البلاد المجاورة، ونسأل الله أن يحفظ بلادنا هذه من كل مكروه، وأرجو من الإخوة الشباب أن يضبطوا أنفسهم، وأن يتقوا الله عز وجل في أمن هذا البلد وطمأنينته، وأن يناصحوا المسئولين، وأن يراسلوهم بين فترة وأخرى، وأن يقولوا لهم: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29] هذا كلام لا بد من أن يقال، ويجب على القادة أن يقبلوا هذه النصيحة، ولا يكونوا من الذين قال الله عز وجل فيهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:206] وإنما عليهم أن يرعووا ويرجعوا إلى الحق، ولكن علينا أن نقدم هذه النصيحة بحكمة وبسر، وبأمانة وإخلاص، وبمحبة للقادة ومحبة الخير لهذه الأمة، أما أولئك فعليهم أن يتقبلوا وأن يحبوا الناصحين، وأن يعتبروا من يقول لهم: اتقوا الله أنه هو المحب لهم والمخلص، بخلاف من يقول لهم: أنتم أكمل الناس.
الجواب: أولاً: تأكد -يا أخي- أن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الحياة الدنيا، قال تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [البقرة:36]، وسيبقى أهل الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله. فالصراع بين الحق والباطل قديم قدم الحياة، وباقٍ حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولربما يزيد في فترات ضعف المسلمين أو سكوت الدعاة أو إسكاتهم -نسأل الله العافية والسلامة-، ولربما يزيد في منطقة دون منطقة، وهذا ما يحدث في بلادنا التي هي من المعاقل التي تطبق شرع الله، فليس فيها كنيسة ولا معبد لليهود ولا للنصارى، نسأل الله أن تبقى على ذلك، وهي البلاد التي لم تدنسها أقدام الاستعمار في يوم من الأيام، وهي البلاد التي يستقبلها المسلمون كل يوم خمس مرات في صلاتهم، وهي البلاد التي يحجون إليها ويعتمرون، فهي قمة هذا العالم، فلا تستغرب حينما توجه إليها الضربات واللكمات العنيفة أكثر من غيرها، لأنهم أولاً انتهوا من البلاد الأخرى.
ثانياً: هذه البلاد إيقاعها في حبائل الشيطان يعتبر إيقاعاً للعالم كله؛ لأنها هي قبلة المسلمين، يأتي الحجاج والمعتمرون والزوار لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذون دينهم من بيئة هذه البلاد، ويأتي المتعاقدون والطلبة والدارسون والمدرسون ليأخذوا معتقداتهم من هذا البلد، يأتون هادمين فيرجعون موحدين، هذا هو الذي يحدث.
إذاً ما هو الطريق؟
الطريق هو أن يقضى على هذا المعقل في نظر أعداء الإسلام، ولكن ما هو السبيل؟
السبيل أنهم يأتون عبر مخططات مرة، وعن طريق المرأة مرة أخرى، فهم لا يقولون: نريد أن نهدم الإسلام في هذه البلاد. لا يستطيعون ذلك، لكن يأتون مرة عن طريق المرأة، ومرة عن طريق التخلف والرجعية، ومرة عن طريق التقدم والرقي .. إلى غير ذلك، ولربما يجدون آذاناً صاغية في كثير من الأحيان بالنسبة للنساء حينما يقال: التخلف والرجعية. أو في نظر بعض أصحاب المسئوليات الذين يخافون من عقدة التخلف فيقولون: لماذا نعيش في التخلف؟ نحن نريد نفعل كذا وكذا حتى لا يقال: إننا متخلفون.
إن هذا هو ما يحدث في أكثر أوضاعنا، نركب الطائرة في خطوطنا فكنا نظن أننا سوف نجد حياة كحياة الصحابة في الطائرة، فإذا المضيفات في طائراتنا يلبسن لباساً لا يوجد في كل البلاد الإسلامية، حتى البلاد العلمانية التي يحكمها العلمانيون خطوطها الجوية خير من الخطوط الجوية السعودية في اللباس، وعندما نركب الطائرة إن كنا نريد ثياب إحرام إذا نسينا لا نجد، وإذا بهم يبيعون دخاناً وأطياباً! بينما الذي يأتي إلى هذه البلاد لا يريد الدخان فهو آت من بلاد فساد وإنما يريد أن يلبس ملابس الإحرام، يريد أن يذكر الله، يريد أن يرى الخير من أول ما يضع أقدامه على هذه الطائرة التي تحمل علم لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتقدم على بلد يحكم شرع الله، وبلد المقدسات.
والمصيبة أن بعض المسئولين يخافون من عقدة التخلف، فيقولون: نتسامح في مثل هذه المسائل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي المسئولين، ومهما يكن ففي بلادنا خير لا يوجد في بلد آخر -والحمد لله- سواء أكان على مستوى المسئولين أو على مستوى الشعوب، لكن نريد أن تكون الأمور أفضل من ذلك بكثير، والله المستعان.
الجواب: نقول لهؤلاء العلمانيين الذين يريدون أن يطبقوا شرع الله في بعض الأمور ويتركوا بعضها الآخر: يقول تعالى: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء:150-151]، والله تعالى يقول: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] ويقول: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] فإذا كانوا يعتقدون أن دين الإسلام منهج عبادة، وأنه ليس منهج حياة متكاملة فنقول: الإسلام الذي عاش فيه العالم أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وأصلح تلك الأمة هو الذي يصلح هذه الأمة، فنحن نعتبر أن هذا الكتاب ما فرط في شيء، قال تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].
وهؤلاء العلمانيون الذين يعيشون معنا ويقولون: إن الإسلام لا يصلح كنظام للحياة، وإنما يصلح منهج عبادة. ولربما نجدهم في بعض الأحيان يظهرون مظهر العُبَّاد في أمور العبادة نقول لهم: كذبتم، فإن الإسلام منهج حياة متكاملة، بل أنتم لا تريدون أن يكون للإسلام منهج عبادة، فأنتم تحاربون الإسلام حتى لا يكون أيضاً منهج عبادة، ولذلك هم يريدون أن لا يكون الدين كله لله، ونحن نطلب أن يكون الدين كله لله، بدون أن يكون هناك استثناء (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) كما يقولون هم.
الجواب: هنا يُعرف الله عز وجل، يعرف المؤمنون ربهم عندما يتحزب أعداء الإسلام ضد الإسلام، وعندما ينتشر الفساد في الأرض تكون العودة إلى دين الله عز وجل الحق، ولذلك الله تعالى يقول عن هذا الموقف: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22] فبمقدار ما ترى هؤلاء الناس يتخلفون عن دين الله يزيد يقينك بالله عز وجل، وتزيد ثقتك بهذا الدين، ويزيد تمسكك، ولذلك فإن المسلم مطالب بأن يثبت على هذا الطريق مهما تغير الناس.
الجواب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شخصية كل واحد من المسلمين حسب موقعه في هذه الحياة، وعلى قدر استطاعته، فإن (مَن) من ألفاظ العموم في قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) ولربما تكون هناك هيئة رسمية وحسبة مسئولة عن جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن هذه الجماعة تتحمل مسئولية بطريقة رسمية وبطريقة شخصية، أما أنت أيها الأخ المسلم فإنك تتحملها وتتحمل هذه المسئولية بطريقة أمر من أوامر الله عز وجل، قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] والله تعالى يقول: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] فإذا كنت تريد أن تكون من المفلحين فما عليك إلا أن تكون من هذه الأمة، سواء أكنت تعمل على المستوى الرسمي أو على المستوى الخاص، من منطلق واجبك الذي فرضه الله عز وجل عليك.
الجواب: أفضل طريق إلى الجنة هو طريق الدعوة إلى الله عز وجل، ولذلك الله تعالى يقول: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] ولذلك فإني أدعو إخوتي طلبة العلم وأقول: اتقوا الله، فإن الله سبحانه وتعالى قد وضع الأمانة في عنق كل واحد من المسلمين، قال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [الحج:78] وختمت الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ليتحملها كل واحد من أمته، ولقد علمت أن في المناطق الجنوبية أموراً تشبه أمور الجاهلية بسبب عدم وجود طلبة علم، ولربما كان هناك طلبة علم هربوا من هذه القرى، فأنا أدعو الإخوة إلى أن ينفروا إلى الدعوة إلى الله عز وجل خفافاً وثقالاً، وأن لا يتركوا جانباً من جوانب الدعوة إلا ويسلكوه، وقد يسرت الطرق والحمد لله، والأمر ميسر، ودولتنا -إن شاء الله- تشجع جانب الدعوة، والأمر أصبح أمراً إلزامياً؛ لأن هؤلاء الذين ربما يموتون على غير الفطرة وعلى غير الدين الصحيح، أو عندهم شيء من التغيير والتبديل أو من الإثم سوف يوقفوننا بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، ويقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير.
قد وضع الله عز وجل الأمانة والمسئولية في عنق كل واحد من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فعلينا أن ننظم أنفسنا للدعوة في تلك المناطق، وأن نرتب جماعات يذهبون إلى دعوة تلك الأمم في القرى الشرقية، والغربية، والجنوبية، والشمالية، وفي القرى الوسطى أيضاً.
أسأل الله أن يتقبل منا صالح الأعمال وأن يجعلنا من عباده وأولياءه المقربين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر