الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.
وبعد: فهذا هو المجلس الرابع من المجالس العلمية المنعقدة في مكة المكرمة في جامع الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، وهذا هو الشهر الخامس من سنة سبع وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وكنا قد أخذنا مجالس متقدمة، ويتواصل هذا النظر والمطالعة في كتاب أبي إسحاق الشاطبي المسمى بـ"الاعتصام", وقد انتهينا من المقدمة والباب الأول والباب الثاني، وبين يدينا في هذا المجلس الباب الثالث.
وأذكر الإخوة بما سبقت الإشارة إليه، إلى أن المقصود من هذه المجالس هو أن يكون طالب العلم فقيهاً في أخذه لكلام أهل العلم، وأن يكون حسن النظر والتبصر، وأن يعرف درجات المسائل العلمية، وما يكون منها من المعاني المنضبطة، وما يكون منها من المعاني التي قد يدخلها شيء من التردد، فتكون باعتبار قائلها وجهاً من مادة الاجتهاد، وأنه قد يكون بعضه مناسباً وبعضه ليس كذلك, فليس بالضرورة أن كل ما تقرر في هذا الكتاب هو على مأخذ التسليم, وهذا لا يختص بهذا الكتاب، بل هذا هو الأصل في كلام أهل العلم, وأن كلامهم مع جلالهم وفضلهم وتوقيرهم يوزن بقواعد ودلائل الشريعة، وهذا الميزان هو معتبر بلا خلاف فيه بين المسلمين، فلا بد أن يكون مقيداً بمدارك علمية صحيحة، وإلا لا تصح دعوى الإسقاط على كلام العلماء بحجة أن هذا الكلام ليس موافقاً للدليل, وربما كان الصواب مع هذا الكلام أو مع هذا المتكلم أو الناظر أو المؤلف، ويكون من اعترض حتى ولو فرض أن اعتراضه مبني على دليل, ربما كان الدليل ليس معه، فقضية الدليل ليست من القضايا التي تقام بالدعوى, وإنما ثمة جملة من الطرق العلمية الممكنة، كما سلف الإشارة إلى شيء من ذلك، ومن أخصها أن ما ثبت فيه إجماع لأهل السنة فإن هذا يعد من المعاني العلمية التي هي على التسليم والقبول لما جاءت به النصوص الصريحة، وأن ما تحصل في هذا الباب وغيره من نظر لآحاد من العلماء هذا مادة من الاجتهاد يدخله كغيره النظر والتأمل والتردد والمراجعة إلى غير ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [ الباب الثالث في أن ذم البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها ] تكلم الشاطبي في هذا الباب على جملة من المسائل، ابتدأ هنا بما دل عليه افتتاح هذا الباب، وهي أن ذم البدع عام لا يخص بدعة أو بدعاً دون غيرها، واستدل الشاطبي لهذا المعنى الذي ذكره بجملة من الأوجه والدلائل الشرعية، سواء كانت محصلة من صريح النص، أو أنها مما يفهم من قواعد ومقاصد الشريعة، وإنما ابتدأ هذا الباب بهذا الكلام؛ لأنه قدم في الباب الثاني آثاراً ونقلاً كثيراً عن الأئمة، وقبل ذلك من القرآن والحديث في ذم الابتداع في الدين، فأراد أن يقول هنا: إن هذا الذم الذي جاءت به النصوص، ودرج عليه الأئمة لا يخص بدعاً دون غيرها، وإنما هو عام في المحدثات.
وثمة سؤال علمي: هل هذه المسألة من حيث النظر العلمي لها ما يوجبها؟ أم يقال: إن البدع تذم شرعاً، أي: ما ثبت أنه بدعة فإنه مذموم شرعاً.
ومسألة أنه عام لا يخص بدعاً دون غيرها، هذه مسألة فيها نوع من الافتراضية أكثر من كونها مسألة علمية قائمة, هل هذا المأخذ على كلام الشاطبي مناسب أو ليس مناسباً؟ وهل الأصل في ذم البدع أن هذا الذم عام، بمعنى أننا لا نحتاج أن نقول: إنه عام وليس بخاص؛ لأنه قد يقول قائل: من الذي قال: إنه خاص؟ وإذا قلت: إن المعاصي مذمومة، فتقول: جميع المعاصي مذمومة، وليس بعض المعاصي, يقول: هذا عام مسلم من حيث الأصل, كأن الذي جعل الشاطبي يقيد هذا الكلام على هذا الوجه من التعليق أنه أراد بعد ذلك أن يبين أن طائفة من الفقهاء وأهل العلم قسموا البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة، وطائفة منهم قالوا: إن البدعة تنقسم إلى الأقسام الخمسة التي تندرج تحت ما يسمى بالأحكام التكليفية الخمسة, وعلى هذا تكون البدعة خمسة أقسام: واجبة ومستحبة ومحرمة ومكروهة ومباحة, وهذه تقاسيم ذكرها بعض الفقهاء من المالكية والشافعية وغيرهم، و الشاطبي سيشير إليها في هذا الباب بعد ذلك، وإن كان لا يرتضيها, فكأنه إنما ابتدأ بهذا الكلام ليبين أن الأصل في الدلائل وقواعد الشريعة أن البدع تذم مطلقاً، فحيث كانت بدعة في المقصود الشرعي فإنها مذمومة, وإن كان هذا عند التحقيق ليس بالضرورة أن يكون متحققاً من حيث المعنى العلمي؛ لأن الذين قسموا البدع إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة كأصل العلم عندهم ما أرادوا بالبدعة الحسنة وجهاً من البدع المذمومة بالإجماع, يعني: ما قال فقيه من الفقهاء: إن تلك البدع التي ذمها السلف تنقسم إلى قسمين, تجد أن الذين يقولون: البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة، إذا قيل لهم: ما ذمه الصحابة أو ذمته النصوص أو أجمع الأئمة على ذمه، يقولون: هذا كله من البدعة السيئة, وعند من لا يرى التقسيم, وإنما يقول: البدعة هي وجه واحد كله ذم, يمثلون للبدعة الحسنة بأوجه كالمصلحة المرسلة أو ما إلى ذلك.
نعم، قد يتنازع أعيان الفقهاء على أمثلة كآحاد من الأمثلة، لكننا هنا نتكلم عن التقعيد, فمعناه أن الذين يقسمون لا يلتزمون تصحيح بدع جاءت النصوص الصريحة أو جاءت الاستفاضة في كلام الأئمة بذمها، فهذا لا يقول به أحد, وإنما أحياناً بعض الأوجه من العمل الذي هو تحت باب المصالح المرسلة أو ما إلى ذلك ربما سماه فقيه بأنه بدعة، وربما سماه فقيه آخر باسم آخر؛ لأنه يرى أنه على أصل شرعي؛ ولهذا تجد الذين يقولون: إن ثمة بدعاً حسنة وبدعاً سيئة، يقولون: البدعة الحسنة لها أصل في الشرع, ويبقى أن هذا الكلام -كما أسلفت- يدخله إجمال كثير؛ لأنه ما هو الأصل الذي يكون فاصلاً لما يسمى بهذا أو بهذا؟
على كل حال في آخر هذا الباب إن شاء الله سيتكلم المصنف عن هذا التقسيم، وسنبين أن هذا التقسيم ليس من التقاسيم العلمية الفاضلة؛ لأن الشارع قد ذم البدع ذماً عاماً, فمادام أن الشريعة جاءت صريحة بذم البدع بعمومها فلا معنى لهذا التقسيم, وعليه إشكالات من وجوه متعددة يأتي ذكرها, لكن ما نشير إليه في ابتداء الباب نقول: لعل الشاطبي رحمه الله قال في أول الكلام: إن ذم البدع عام وليس خاصاً، وأتى بعد ذلك يستدل لهذا المعنى.
وهنا سؤال علمي: ما المبرر لهذا الكلام؟ لماذا هذا الإلحاح على أن ذم البدع عام؟ وكأن ثمة خلافاً مفتوحاً بأن من أهل الاعتبار من يقول: إن ذم البدع خاص, وعند التحقيق لا أحد يقول: إن ذم البدع التي ذمتها الشريعة خاص، حتى من يقسم البدعة إلى حسنة وسيئة يجعل ما دلت الشريعة على ذمه سيئة ولا يجعله مذموماً, فإن هذا الباب هو نتيجة عامة أكثر من كونه ضرورة علمية فيما يظهر، هذا الذي أردنا أن نصل إليه, أن هذه المقدمة في الباب الثاني هي نتيجة علمية صحيحة، ولكن ليس ثمة ما يستلزمها لدرجة الإلحاح على ذكرها.
وعلى كل حال ذكر الشاطبي رحمه الله جملة من الأدلة على هذا المعنى في ذم البدعة، فقال رحمه الله: [أحدها: أنها جاءت] يعني: النصوص والآثار في ذم البدع [مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء ألبتة], هذا الوجه الأول.
[الثاني: كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي] فإنه باق على عمومه, يقول: فمادام أن القاعدة الشرعية هي ذم البدع، فالأصل بقاء القاعدة على عمومها, فنقول: إن ذم البدع ليس خاصاً ببدع دون غيرها.
[الثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها وتقبيحها...
الرابع: أن متعلق البدعة يقتضي ذلك بنفسه], أي: معناها الذي أوجد ورودها هو مضادتها للسنة, قال: [لأنه من باب مضادة الشارع], وأشار المصنف في هذه المعاني الأربعة إلى مسألة وهي التي أحب أن أعلق عليها أكثر, إذاً هذه المعاني الأربعة لا إشكال فيها، كونه يقول: إن النصوص جاءت عامة، أو يقول: إن القاعدة الشرعية هي ذم كل البدع، أو إن هذا إجماع عند الصحابة, هذا كله صحيح، لكن السؤال الوارد هنا من من القوم الذين قالوا: إن ذم البدع خاص وليس عاماً؟ هل أراد بذلك الذين قسموا البدعة من المتأخرين؟ فيقال: هذا لا بأس به إذا كان هذا هو المراد في كلامه, مع أن هذا عند التحقيق وتحرير محل النزاع لا ينضبط عليهم.
على كل حال في هذه الأوجه الأربعة نقرأ الوجه الثالث من نص كلام الشاطبي رحمه الله قال: [ الثالث ] أي: من الأوجه الدالة على أن ذم البدع عام, قال: [ الثالث: أن عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح، فهو عمدتهم الأولى، وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع، وهو المقدم في نِحَلِهم ] إلى آخر كلامه, كونه يقول: إن عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح، أي: التحسين والتقبيح العقليين, والحقيقة أنك إذا استقرأت الطوائف الكلامية فضلاً عن الاستقراء لسائر فرق المسلمين، فإنك لا تستطيع أن تقول: إن عامة المبتدعة يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين, نعم هو مذهب مشهور لكثير من النظار، وتبناها المعتزلة تبنياً صريحاً وقوياً، ولكن هذه المسألة لما دخلت نظام الجدل، ودخلت بعد ذلك في كتب أصول الفقه، وفي كتب أصول الدين، فتجد أنها في كتب أصول الدين تذكر في باب القدر، وفي كتب أصول الفقه تذكر في باب أحكام التكليف، وما يتعلق بذلك، ظهر هذا المصطلح (التحسين والتقبيح العقليين), في كتب أصول الدين الكلامية التي ذكرها المتكلمون وكتبها المتكلمون، وسموها بكتب أصول الدين، والمعتزلة وقوم من طوائف المتكلمين -وإن كانوا ليسوا هم الأغلب أو الأكثر من أهل الكلام- قد بالغوا في إثبات تحسين العقل وتقبيحه, فهم غلاة في إثبات التحسين والتقبيح العقليين, وقابلهم من عرفوا بمتكلمة أهل الإثبات وهم طوائف من المتكلمين المنتسبين للسنة والجماعة، وأخص هؤلاء أصحاب أبي الحسن الأشعري فغلب على هؤلاء المقابلة والمناقضة لمذهب المعتزلة, حتى صارت هذه المسألة تدار على قولين في كثير من هذه الكتب, ولما كان أصحاب أبي الحسن ومن عرفوا بمتكلمة الصفاتية ينتسبون للسنة والجماعة تجد أن بعض هذه الكتب تحكي عن مسألة التحسين والتقبيح العقليين أن فيها قولين: القول الأول للمعتزلة. والقول الثاني لأهل السنة, وربما عبر بهذا التعبير باعتبار أنهم ينتسبون للسنة والجماعة، فلا يخصون ذلك بوجه من أوجه المتكلمين.
إذاً: ليس عامة المبتدعة يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين، بل هذا مذهب لطائفة منهم، وأخص من نظر لذلك المعتزلة، وثمة طائفة أخرى من أهل البدع عندهم غلو في إسقاط حكم العقل, وهذا المعنى الغالي دخل على طائفة من المتكلمين المقابلين للمعتزلة، ودخل على طائفة من الصوفية, فمن أمثلة من دخل عليهم من الصوفية الهروي صاحب "منازل السائرين"، وهو فقيه فاضل من كبار فقهاء الحنابلة، ومن المنتصرين للسنة المعظمين لها، ولكنه رحمه الله عنده جمل بينة من الغلط والسقط في مسائل في القدر, ومنها أنه لما تكلم في المنازل عن العارف، والمحصل للحقيقة، والشهود في باب التصوف والولاية، جعل من مقامات العارفين العالية أنه يصل إلى درجة لا يستحسن معها حسنة ولا يستقبح سيئة، فهو من المسقطين للتحسين إسقاطاً شديداً, ولهذا يذكر ابن تيمية رحمه الله أن هذا المعنى دخل على أبي إسماعيل الأنصاري الهروي من كلام أصحاب أبي الحسن الأشعري ، هذا مع أن الهروي رحمه الله شديد الطعن والذم على هؤلاء المتكلمين، حتى إنه ربما بالغ في ذمهم، كما عبر شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" وبعض كتبه أنه من المبالغين في ذم المخالفين له من المتكلمين، فربما زاد في الحكم عليهم بما ليس هو من حقيقة مذهبهم.
فإذاً تأثر بهذه المسألة خلق من الصوفية على وجه مناقض لمذهب المعتزلة، وقوم من المتكلمين، وأخص من تقلد ذلك أصحاب أبي الحسن الأشعري من متكلمة أهل الإثبات المنتسبين للسنة والجماعة, فصار مذهب التقابل.
والحقيقة العلمية المناسبة التي دل عليها الشرع والعقل، وهي المعروفة في فقه أئمة السنة المتقدمين: أنها لا تذكر في كثير من الأحيان، بل هذا هو الغالب على الكتب الكلامية، وكثير من الكتب الأصولية؛ ولهذا يقال: إن الشاطبي رحمه الله متأثر في مسألة التحسين والتقبيح بطريقة متكلمة الأشعرية, فهو متأثر بهذا المنهج، وليس قوله هذا منضبطاً؛ لأنه لا يصح أن يسقط حكم العقل من كل جهة لدرجة أن الإنسان لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة, القول المتوسط في هذه المسألة، وهو القول المناسب للفطرة ودلائل الشريعة والعقل نفسه وهو القول الذي كان عليه أئمة السنة، وهو المعروف في فقه الصحابة رضي الله تعالى عنهم: أن العقل لا يستقل بالحكم، فالعقل لا يجوز أن يكون مصدراً للتلقي، ولا يجوز أن يكون دليلاً على التشريع من حيث هو، إنما المشرع هو الله سبحانه وتعالى، فالشرع لا يؤخذ إلا من دليل أثري من الكتاب أو السنة, وليس معنى هذا أن العقل يعطل عن سائر موارد الاستحسان والتقبيح، بل له تحسين وتقبيح، وهذا من طبيعة هذا المدرك في الإنسان وهو العقل, من طبيعته ومن ضرورته ومن معنى وجوده أنه يفرق بين الحسن وبين القبيح، فهذه أمور تكون مدركة؛ ولهذا مثلاً لما أمر الله جل وعلا الرجال في تعاملهم مع النساء أن يعاشروهن بالمعروف, فما هو المعروف الحسن وما هو الذي ليس بمعروف حتى يكون قبيحاً فينهى عنه؟ هذا يرد إلى إدراك العقل الذي هو نظر في محيط العرف، وقواعد الشريعة، وأشياء من هذا القبيل, فلابد أن يكون الأمر كذلك؛ ولهذا ألست ترى أن الشريعة أسقطت التكليف عن من ليس عاقلاً, فهذا الإشكال في كثير من النظريات الكلامية صارت على ما يسمى في التعبير البسيط بردود الأفعال, فلما غلت المعتزلة في التحسين والتقبيح، وفي إثباته، وفي تحكيم العقل جاء قوم من المتكلمين فبالغوا في الإسقاط, مع أن هؤلاء الذين بالغوا في إسقاطه يبالغون في إسقاطه في باب التشريع، وأما إذا جاءوا في باب الاستدلال على مسائل التوحيد والإلهيات تجد أنهم يستعملون دليل العقل، ولربما حكوا القانون الذي أسسه المعتزلة أنه إذا تعارض العقل والنقل فإن المقدم هو حكم العقل, فمثلاً: محمد بن عمر الرازي وهو متكلم أصولي له كتاب (المحصول في الأصول)، وهو من أكثر من كتب على الطريقة الكلامية المتأخرة كـ(المطالب العالية) تجد أنه يتكلم على التحسين والتقبيح في باب التشريع على وجه من نزعه, لكن إذا تكلم في العقل في باب الإلهيات تجد أن العقل يصل عندهم إلى درجة القانون المشهور الذي كتبه في أساس التقديس أنه إذا تعارض العقل والنقل فثمة فروض، انتهت الفروض إلى أنه يقدم العقل، وأما النقل فإنه يؤول أو يفوض.
فإذاً: ليس ثمة انتظام مطلق في مسألة إسقاط العقل, فتجد أنهم يسقطونه من جهة، ويغلون في إثباته من جهة أخرى.
والشاطبي رحمه الله هنا متأثر بهذا النفس كثيراً؛ ولهذا كلامه هنا ليس محققاً, وإنما التحسين والتقبيح فيه قول وسط بين قول المعتزلة وبين قول متأخرة المتكلمين من أصحاب أبي الحسن ، فالقول الوسط هو الذي عليه جمهور المسلمين من الفقهاء والصوفية والعباد، فضلاً عن أنه هو الإجماع الذي كان معروفاً في فقه الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ ولهذا تجد كبار فقهاء المسلمين الأوائل استعملوا القياس مع أن القياس فيه مادة من العقل، لكنهم لم يستعملوا القياس بالرأي المجرد عن اعتبار الشرع.
فإذاً: هذه أمور لا يجوز الإطلاق فيها بواحد من الوجهين.
بعد ذلك يأتي المصنف إلى مسألة تعتبر من أعقد المسائل في هذا الباب، ومن أكثرها تطلباً للضبط، وإن كان الجزم بضبطها قد يكون متعذراً, أعني: الضبط الذي هو نوع من الإملاء المختصر, بل التحقيق أن ضبط مثل هذه المسألة لا يكون إلا باستقراء موسع في فقه الشريعة وأدلتها، وهو ما يتعلق بعذر المخالف، وحكم المبتدع من جهة العذر أو عدمه، تكلم الشاطبي عن هذه المسألة، فقال: [لا يخلو المنسوب إلى البدعة أن يكون مجتهداً فيها أو مقلداً ], ثم ذكر أن المجتهد على ضربين كما عبر: المجتهد المتأهل، ومن ليس كذلك.
ثم قسم المقلد إلى جملة من الأقسام، وتلخيص هذا التقسيم في كلامه رحمه الله حيث يقول: [المنسوب إلى البدعة على أقسام: القسم الأول أن يكون مجتهداً، وهذا على ضربين: أحدهما: أن يصح كونه مجتهداً، فالابتداع منه لا يقع إلا فلتة، وبالعَرَض لا بالذات, قال: الثاني: ألا يصح كونه مجتهداً. وهذا النوع آثم في ابتداعه], ثم قال: [القسم الثاني: المقلد], وعرف المقلد بأنه [الذي لم يستنبط بنفسه، وإنما اتبع غيره من المستنبطين], ثم قال: [القسم الثالث الذي قلد غيره على البراءة الأصلية], فجعل المقلد إما أن يقلد على وفق نظر، أو يقلد على البراءة الأصلية, ثم قال: وهذا الذي قلد على البراءة الأصلية على أحوال: الحال الأولى: [أن يكون ثم من هو أولى بالتقليد منه] أي: من هذا الذي قلده، وهو الأول, والثاني [ألا يكون ثم من هو أولى منه], وهذا ربطه بحكم أهل الفترة.
هذه النظرية التي وضعها الشاطبي أحب أن أعلق عليها بالآتي: حينما يقال: المبتدع أو من فعل بدعة؛ لأن ثمة فرقاً عند التحقيق بين قولك: من فعل بدعة ومن يسمى مبتدعاً؛ فإن من فعل بدعة ليس بالضرورة أن يسمى مبتدعاً، لعل هذه البدعة زلة يسيرة عرضت في حياته، أو في حاله العام، وهو على السنة والجماعة؛ فهذا يعد من أهل السنة والجماعة ، ولا يجوز أن كل من عرضت في حقه بدعة يسمى بها مبتدعاً, فإذاً على كل حال هو تكلم عن العذر، وهذه المسألة ترد كثيراً.
ويأتي المصطلح المتداول بين كثير من طلبة العلم: العذر بالجهل, هل يعذر المبتدع بالجهل أو لا يعذر؟ متى يكون معذوراً ومتى لا يكون معذوراً؟
هنا معنى أشرت إليه سابقاً وأؤكده في هذا الموضع، دائماً إذا جاءتك هذه القضايا التي هي نوع من القضاء، ونوع من الحكم على أي مسألة، أو على أي معين، أو على أي طائفة، فلا بد أن تكون الكلمات المستعملة هنا من الكلمات المفصلة، وليست من الكلمات المجملة, أو تكون من الكلمات المعينة وليست من الكلمات المشتركة, والإشكال هنا لما تقول: العذر بالجهل, كلمة (العذر) هنا كلمة مشتركة ومجملة, قد يكون إجمالها من جهة أنها جاءت في نصوص مجملة, وقد يدخلها الإجمال من جهة استعمال المستعملين لها, مثل اللفظ الظاهر في نصوص الصفات, إذا قيل: هل ظاهر نصوص الصفات مراد أو ليس مراداً؟ لولا أن أقواماً من المتكلمين فسروا ظاهر النصوص بأنه تشبيه, لكان هذا السؤال إذا ورد بسيطاً من أحد المسلمين، يجاب عنه بجواب بسيط وهو أن ظاهر النصوص مراد, لكن لما ظهر قوم وقالوا: النصوص ظاهرها التشبيه، وظهر قوم يقولون: النصوص لها ظاهر وباطن, هل يناسب أن تجيب بالجواب البسيط، أم يكون لفظ الظاهر هنا دخله اشتراك وإجمال؟ نعم، يكون دخله إجمال ودخله اشتراك فلابد من السؤال عن المقصود به.
كذلك العذر، ما المقصود الآن بكلمة (العذر بالجهل)، أو عذر المبتدع أو عذر المخالف؟ هل نحن نتكلم عما يتعلق بعقوبته عند الله سبحانه وتعالى؟ فهذا حكمه إلى الله جل وعلا, لا يمكن لأحد أن يصل إلى كمال من علمه وتفصيله، فإن تفصيل هذا الباب لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله جل وعلا, هل المقصود الحكم الأخروي بصفة عامة دون التفاصيل المتتابعة؟ أم أن المقصود بمسألة العذر ما يتعلق بمسألة الأسماء في الدنيا؟ إذاً: نحن الآن أمام مصطلح مشهور في كتب العلماء، مسألة الأسماء والأحكام, ماذا يقصدون بالأسماء؟ فمثلاً: ابن تيمية يقول: وأهل السنة في باب الأسماء والأحكام وسط بين الخوارج والمرجئة. ويقصدون بالاسم اسم مرتكب الكبيرة في الدنيا, والحكم يقصدون به حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة, فكذلك إذا قيل: العذر, هل المقصود العذر من حيث يسمى أو لا يسمى؟ أو المقصود بالعذر ما يتعلق بحكمه الأخروي؟ ثم حكمه الأخروي هل المقصود الوصف العام أنه معرض للوعيد؟ هل المقصود الجزم بشيء من وعيده أو قطعاً في وعيده؟ إذاً: ما المقصود بالجهل هنا؟ متى تقول: إن هذا جاهل أو ليس بجاهل, كلمة الجهل في القرآن تأتي على معنى المخالفة, أليس الله جل وعلا قال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17], ما معنى بجهالة؟ قال أبو العالية : سألت أصحاب محمد عن هذه الآية، فقالوا: كل من عصى الله فهو جهل، فإذاً: أحياناً يأتي العلم الذي ينفى عن غير المسلمين يراد به العلم الذي هو علم القبول، وأحياناً يأتي بمعنى العلم الذي هو علم الإدراك، فهذا مورد العلم في القرآن؛ ولهذا تجد أن الله يقول عن اليهود: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] , هنا وصفهم بالمعرفة, وفي آيات أخرى يصفهم بالجهل، والجهل مضاد ومناقض للعلم, فما هو المثبت وما هو المنفي؟ لا تعارض بين النصوص كما هو معروف, إنما المثبت في حقهم هو علم الإدراك، والمنفي عنهم هو علم القبول, وكذلك إذا قلت: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17], المنفي هنا علم الاستجابة, وليس هو بمعنى الإدراك، وإلا العاصي يعرف أنه عاص كما هو متحقق.
فإذاً: أول قاعدة في فقه مثل هذه المسائل الكبرى أحكام المخالفين والقضاء عليهم، والعذر بالجهل وعدم العذر بالجهل, إعطاء بعض الكلمات حكماً مثل التولي والموالاة للكفار هذا كفر وهذا ليس بكفر، هذا يكون كبيرة وهذا يكون كفراً, أي: من هذه الأحكام أو قبل هذه الأحكام في النظام العلمي الصحيح أنك لا تدخل على النتائج مباشرة, هذا هو الإشكال ترى أنه مباشرة يكون الجدل على النتائج، هل هذا بدعة أو لا يكون؟ هل هو آثم أو ليس بآثم؟ هذا كفر أو ليس بكفر؟ قبل أن تدخل على النتائج لا بد أن يكون المعنى المتباين منضبطاً معيناً، معروفاً متحققاً، ما معنى العذر أصلاً، حتى يقال: يعذر بالجهل أو لا يعذر بالجهل؟ هل المقصود بالعذر أنه لا يسمى فاسقاً أو لا يسمى ضالاً؟ أو المقصود بالعذر أنه ما يقال: إنه آثم؟ أو المقصود بالعذر أنه يقول: إن أمره من جهة العود إلى الله؟ هذه درجات، وممكن يكون أكثر من ذلك، الآن نقول عن صاحب الكبيرة: فاسق آثم. لكن هل معناه أننا نجزم له بالعذاب؟ الجواب: لا، فإذاً مسألة العذر لا بد أن يبين ما المقصود بها، هل هي داخلة على باب الأسماء في الدنيا؟ أم هي داخلة على مسألة أحكام الآخرة؟ وأحكام الآخرة درجات، درجة منها جاءت الشريعة بضبطها، وتعريف العباد بها، ودرجة ثانية هي مضبوطة في حكم الله جل وعلا؛ لأنه لا يغيب عنه شيء سبحانه وتعالى، وفيها قضاء وفيها قدر سابق من الله، من هم أهل الجنة؟ ومن هم أهل النار؟ ومن الذي سيعذب، ومن الذي لا يعذب؟ هناك أمور مثل ذلك لا يعلمها أحد، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ومسألة تفاصيل المآلات هذه علم إلهي، عرفنا من المآلات بتعريف الرسل أحكاماً عامة، لكن تفاصيل المآلات هذه لا يعلمها إلا الله جل وعلا.
فإذاً: هذه المعاني العلمية التي نظمها الشاطبي لما أورد هذا السؤال، وهو سؤال يرد دائماً، وستستجيب الأذهان كثيراً في فرض هذا السؤال: متى يعذر ومتى لا يعذر؟
ولست هنا أقول: إن هذا السؤال هو غلط من حيث هو، لكن أهم من فرض السؤال أن تكون المعاني التي يفرض عليها السؤال معاني منضبطة.
والشاطبي رحمه الله جاء إلى التنبيه العلمي المألوف، فقال: إن المبتدع قد يكون مجتهداً، وقد يكون مقلداً، وقال: إن المجتهد على كذا من الأقسام، والمقلد على كذا من الأقسام. والحقيقة أنه في هذا المورد لا نستطيع أن نضع نظاماً دقيقاً يضبط به من يصح أن يسمى مجتهداً ومن لا يكون كذلك؛ لأن الأمور يدخلها كثير من التداخل في هذا الباب، ثم مال رحمه الله في كثير من نتائجه إلى عذر المجتهد في كثير من الحال أكثر من عذر المقلد، وذكر المجتهد المتأهل والمجتهد الذي ليس بمتأهل، تبقى هذه فيما أرى جملة من النظرية، ليس بالضرورة أن هذه النظرية لا تكون صحيحة من سائر أوجهها، وإنما الذي أردت أن أقوله هنا: إن طالب العلم لا يفترض أن هذه النظرية قد أعطته قاعدة منضبطة في الحكم بالعذر أو عدم العذر؛ لأن المسألة أصلاً من أساسها فيها مجموعة من الكلمات المجملة، حتى عندما تكلم رحمه الله عن المجتهد والمقلد، فكلمة الاجتهاد ما حدها؟ والاجتهاد في هذا المورد ما المقصود به؟ المجتهد في الاصطلاح الفقهي معروف، لكن الاجتهاد هنا ما المقصود به؟ متى تقول: إن هذا مجتهد أو متخرص؟
فهذه أمور تحتاج إلى كثير من الضبط؛ ولذلك يكون الأحكم في هذا الباب أن طالب العلم يُعنى بتتبع الأصول التي جاءت بها النصوص، أو جرى عليها كلام أئمة السلف رحمهم الله في هذا الباب، فيجعلها جملة من القواعد الحكمية، لكن ليس بالضرورة أنها تكون نظاماً أشبه ما يكون بالنظام الرياضي الذي يحدد أن هذا في هذه الدائرة، وهذا في هذه الدائرة، بمعنى أنك تحتاج في كثير من الأحوال إلى أن تقف، يعني: كثير من الأحكام على المخالفين التي لا تستوجب الجزم أحياناً، مثلما أشرت إليه سابقاً أن أحكام الآخرة القاعدة فيها أننا نعرف منها جملاً وقواعد صرحت بها النصوص، وأما تفاصيل العلم فهذا يرجع إلى الله جل وعلا.
أما ما يتعلق بالأسماء الدنيوية فهذه مسألة أيضاً تؤخذ عند النقل عن الأصل، فينظر في كل معين ما الأصل فيه، فلا ينقل عن هذا الأصل إلا ببينة من الشريعة؛ ولهذا من شريف فقه أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة أنه لما فعل الفسق سموه فاسقاً، لكن هل ألزموه اسم الفسق في سائر أحواله؟ لا، ما نسوا الأصل الأول الذي هو عليه، وهو أنه مؤمن وأنه مسلم، فقالوا: هو مسلم، وقالوا: هو مؤمن، ولكنه ناقص الإيمان، وقالوا: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فتجد أن المادة التي غلبت عليه من اسم الفسق هي اسم الإيمان والإسلام فهي أقوى وأغلب؛ ولهذا مرتكب الكبيرة من المسلمين، الأصل في تسميته أنه مسلم، فعندما فعل الكبائر تأخر عنه اسم الإيمان، وأحياناً يقال له: إنه فاسق بكبيرته، وأحياناً يقال له: إنه مؤمن وذلك بحسب اختلاف المقامات والأحوال، فإذاً يتبين أن من الفقه اعتبار القواعد والأصول الشرعية.
ولهذا لست أرى أنه ينبغي لطالب العلم خاصة في مبتدئ طلبه للعلم، وفي تأسيسه المسائل العلمية أن يفترض لنفسه خطة دقيقة أشبه ما تكون بالقانون الذي ينزل عليه أحكام المؤاخذة والإثم والعذر وعدم العذر بنظامه الدقيق؛ لأنه ربما دخل أصلاً على مسائل الأصل في الشرع أنه لا يدخل عليها؛ لأنها من حكم الله سبحانه وتعالى، وربما دخل على مسائل فجزم بها مع أنها تقبل الاشتراك، وربما أعطى قاعدة مطردة مع أن المسألة تختلف بسبب الاختلاف في أحوال الأعيان، مثلاً القول بخلق القرآن أنكره السلف، ولكن هل جعلوا القائلين به على درجة واحدة؟ لا، وهنا عندنا مسألة قيام الحجة مثلاً، فعندما تقول المقالة والقائل، فما هو قيام الحجة؟
إذاً الذي أراه لطالب العلم أن يعنى بضبط الأصول، يستقرئ كلام الله جل وعلا في كتابه، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام، ويستقرئ كلام المتقدمين من الأئمة، ويحاول أن يجمع فقهاً، هذا الفقه ليس بالضرورة أنه سيجيب على كل حالة معينة، وعلى كل فرضية معينة، وهذه طبيعة العلم، والعلم بذاته ليس ناقصاً، والحق أن القرآن والحديث مستوعبان لكل الأحوال التي تقع، لكن المشكلة ليست من النصوص، بل من الناظر نفسه، يعني: عندما توقف مالك أو
الشافعي
في مسائل فقهية، فهل الشريعة هي التي توقفت أو توقف الناظر فيها؟ الناظر فيها؛ ولذلك هل كل العلماء يمكن أن يتوقفوا؟ لا، إنما الذي يتوقف أعيان.إذاً: من أخص ما يوصى به طالب العلم هنا أنه يجمع فقهاً وأصولاً يستقرؤها من القرآن والحديث وما مضى عليه الأئمة، والإشكال هنا أن من مقدمات العلوم أن بعض طلبة العلم يفترض أن كل سؤال يجب أن يجاب عليه، بمعنى أن السؤال له ما يبرره، مع أن كثيراً من الأسئلة ليس لها مبرر أصلاً، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ [البقرة:189] يعني: كثير من الأسئلة تحتاج هذا النظام والحكمة القرآنية، فأحياناً بعض الناس يقول: كيف نحكم على كذا؟ وبماذا نحكم على فلان؟ وبماذا نحكم على فلان؟ فقد يكون السؤال من أصله خطأ، ما المبرر في أن تتبع زيداً وعمراً وفلاناً وفلاناً لتحكم على كل معين بحكم مآلي أو بحكم متناهي.
قد يقول قائل: هكذا فعل السلف. لا، السلف أعطوا أحكاماً عامة، لكن هل السلف رحمهم الله كالإمام أحمد وأمثاله تتبعوا أعيان المخالفين بأحكام معينة؟ لا، هم حكموا على الجهمية والقدرية والخوارج وغيرها من الطوائف، قالوا: وهذا القول كفر، وهذا كذا، وهذا ضلال.
هذا معروف ومتواتر في فقههم رحمهم الله، لكن إذا أردت سلسلة أسماء القدرية، وسلسلة أسماء أعيان الجهمية، وأعيان المعتزلة، وأعيان كذا، هل تجد أنهم خاضوا فيهم، فتجد أن للشافعي و أحمد و مالك وفلاناً وفلاناً كلاماً في زيد وفلان وفلان من الأسماء، هناك أسماء تُكلم فيها، نعم، أنا لا أقول: إنه لا يُتكلم في الأعيان، يتكلم في الأعيان لكن ليس بالضرورة أن الإنسان قد كلفه الله أن يكون قاضياً على عباده أجمعين، هذا يدخله في الإسلام، وهذا يخرجه من الإسلام، إلا من حكم القرآن فيهم من الأعيان، مثل الأمم التي فصل الله فيها، هذه لا جدل فيها أنك تقول: هم بسوادهم وبخاصتهم وبعامتهم أمم غير مسلمة أصلاً، ولا تعترف بدين الإسلام، لكن نحن نتكلم الآن عمن يشهدون الشهادتين ويدينون بأصل دين الإسلام، فينبغي لطالب العلم ألا يدخل هنا في باب الإفراط، ولا يدخل في باب التفريط؛ لأنه ربما أيضاً يبالغ في أن هذه من الاختلافات السائغة، ولا ينبغي لأحد أن يتكلم فيها، وهذا من المسائل التي يجتهد فيها. لا، أنا أقول: إن البدع أولاً ذمها الله ورسوله. ثانياً: إن البدع مشكلتها حتى بالعقل والتفكير، والبدع تقود الناس إلى الخرافات، وفرق بين من يوحد الله بعبادة شرعية، وبين من ينجرف بصورة من الخرافات والأساطير والسذاجات التي لا تناسب الذوق والفطرة والعقل فضلاً عن كونها تناسب الشرع؛ ولذلك ينبغي للمسلمين أن يعنوا بتصفية نفوسهم ومجتمعاتهم ودوائرهم العبادية والعلمية من البدع؛ لأنه كما قال الشارع عليه الصلاة والسلام: ( كل بدعة ضلالة ) والبدعة سواد، بخلاف السنة فإنها نور، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ [الأعراف:157]، فهذا مقصد لا بد أن يكون مشرقاً ومعروفاً في نفوس طلبة العلم خاصة، والمسلمون بعامة، لكن مع هذا لا يكون مبرراً أن طالب العلم يأخذ عصاً أو سيفاً على رقاب الناس، فهذا يخرجه من الإسلام، وهذا لا يخرجه، وأنك ما كلفت بهذه الدرجة من التتبع للأعيان، فما وقف عليه السلف ففيه الخير عندهم.
ولهذا فإن الله في كتابه ذكر قوماً كانوا بين ظهراني المسلمين وهم المنافقون، ومع ذلك ما عرف الصحابة رضي الله عنهم بجميع أسمائهم، ولا نزل القرآن يعرف بجميع الأسماء، ولا كان النبي يعرف بجميع الأسماء، بل جاء قول الله جل ذكره: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ [التوبة:101]، فهذه مسألة تحتاج إلى أن يكون طالب العلم متتبعاً فيها.
فإن قال قائل: ما النصوص الشرعية أو القواعد التي ذكرها الأئمة وتناسب أن يجمعها طالب العلم، وأن يتتبعها فقهاً له في هذا الباب؟
قيل: من ذلك من القرآن قول الله تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، فدل على أن كل حكم لا بد أن يكون بحق وعلم، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: هو الذي جمع النية الصالحة في هذا الحكم، مع الدليل البين. فإذا اجتمعت نية حسنة في هذا الحكم مع الدليل فإنه ينطق بالحق، أو ما إلى ذلك من المعاني الشرعية.
من القواعد في سنة النبي عليه الصلاة والسلام حديث عمرو بن العاص الذي أخرجه الشيخان: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ) هذا يعتبر من أخص قواعد الحكم، ولا يتعلق هذا الحديث بمن يبتدع، بل هذه مسألة أخرى، ولكن الكلام الآن عن أصول وجوامع من كلام الله ورسوله في باب الحكم والقضاء على المقالات والأحكام، أما ما يتعلق بهذه المادة بخصوصها فهناك أصول ذكرها الأئمة رحمهم الله، أكتفي بثلاثة منها كقواعد تذكر في هذا، وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وحكى الاتفاق عليها.
القاعدة الأولى في كلام الإمام ابن تيمية ، وهذا ذكره في جملة من كتبه يقول: (إن كل من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم فأخطأه، فإن خطأه مغفور له، وهذه من أشرف قواعد الحكمة والبصر، وذكر رحمة الله سبحانه وتعالى لعباده)، قال: (وهذا دلائله كثيرة في كتاب الله وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم).
لكن نقف مع القاعدة نفسها، يقول ابن تيمية رحمه الله: إن الذي يقع في هذا الباب إما أن يكون الناظر أو القائل بهذا القول لم يرد الحق أصلاً، فهذا لا يدخل في القاعدة وإما أن يكون قد أراد الحق، ولكن على وجه من النقص والتقصير؛ ولهذا لما تكلم عن طوائف المبتدعة من المسلمين قال رحمه الله: وأهل البدع من أهل القبلة هم في الجملة مريدون للحق، قال: وإن كانت إرادتهم يدخلها مادة من النقص؛ لأن الناظر في هذا الباب عنده نقص، ومقصوده الأساس أن يصل إلى الحق، لكن عنده مثلاً مسألة الانتصار للمذهب، ومعروف أن التعصب دخل على هذه المدارس، فزاد فيها سوءاً، فعندما تكون الإرادة متأثرة بمادة قصد التعصب لرجل معين أو الانتصار لمذهب معين، فتكون الإرادة هنا ناقصة، قال: وكذلك فيما يتعلق بباب الاجتهاد.
قال: إذاً الإرادة قد تكون موجودة محققة، وقد تكون معدومة، وقد تكون ناقصة، واجتهد في طلبه. وأيضاً الاجتهاد قد يكون كافياً، وقد يكون اجتهاداً مقصراً فيه ليس مستتماً على الوجه المطلوب شرعاً، وقد يكون اجتهاداً وقد لا يكون مريداً للاجتهاد ولا فاعلاً له أصلاً. قال: (من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام). بمعنى أنه لا يمكن لأحد أن يفترض طلب الحق والاجتهاد فيه بتحصيله من جهة غير جهة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذه القاعدة في أهل القبلة من المسلمين الذين يبتغون ديناً من جهة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي قاعدة تعد من القواعد التي لها انضباط ودلائل في الشرع بينة، وهي قاعدة مدركة التحصيل بشكل بين، كل من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم فأخطأه، فإن خطأه مغفور له. ولهذا ابن تيمية يقول: إن أكثر أهل البدع عندهم تقصير في باب الإرادة، وتقصير في باب الاجتهاد، يقول: ثم هم بعد ذلك على درجات. وهذه القاعدة لا تجد أنها تعذر بها كل من خالف، ولكن تتبين منها أن البدعة وصاحبها على جملة من الدرجات، وجملة من اختلاف الحكم.
ثم ذكر ابن تيمية قاعدة ثانية وهي: أن السلف أجمعوا على أن ثمة فرقاً بين كون المقالة كفراً، وبين كون القائل كافراً، أو بين كون المقالة تسمى بدعة، وبين كون القائل يسمى مبتدعاً بإطلاق، وما معنى بإطلاق؟ أي: ينزعوا عنه الإضافة إلى السنة، فيعد من أهل البدع ولا يعد من أهل السنة.
إذاً: ثمة فرق بين كون المقالة كفراً وبين كون القائل كافراً، معناه أن كون المقالة كفراً لا تستلزم كون القائل من أهل القبلة وكونه كافراً، فربما قال قائل من المنتسبين للملة مقالة كفرية في حكم النصوص، ولكن القائل لا يجوز أن يلتزم معه التكفير، بشكل أو بآخر على أنه لا تلازم بين المقالة وقائلها.
قد يقول قائل: إذاً ما معنى كونها كفراً؟
يقال: هي كفر في حكم الشريعة، لكن القائل الذي قالها ما أراد بها هذا الكفر، ولا بناه على وجه من الكفر بالله أو رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما تحصل له بنظره أنها وجه من الصواب، فإن قال قائل: فإذا قامت عليه الحجة؟ نقول: إذا قامت عليه الحجة وتبين له أنها كفر فقال: هو يقول بهذا؛ فهذه مسألة قيام الحجة، ولكن هذا التبين -كما نعرف- شديد، يعني: الوصول إلى الجزم به قد يتأخر في أكثر الأحوال، ولذلك لا تلازم بين كون المقالة كفراً وبين كون القائل كافراً، ومعنى هذا أن المقالة تنفك عن قائلها، ولا يلزمه -أعني: القائل- حكم المقالة، إلا إذا تبين له حكمها من الشرع فالتزمه، لكن من الذي يدري أن هذا الشيء كفر ويقول به؟! لا يستطاع هذا إلا في أحوال من المعاندة الغالية، أو من التكبر، فهذه أحوال تعرض؛ ولذلك نجد ابن تيمية رحمه الله في تطبيقه لهذه القاعدة ذكر الإجماع على أن نفي علو الله جل وعلا كفر، فهذه المقالة من حيث هي كفر، لكن القائلين الذين تأولوا مسألة العلو من طوائف المتكلمين، هم على درجات في هذا، وناظر ابن تيمية قوماً من المتكلمين كانوا يتأولون مسألة العلو، أي: لا يقررونها ويحققون إثباتها، بل يقولون: هو علو الصفة، وعلو القدر، كما هو معروف، فكان يقول لهم: أنا لو أقول بقولكم كفرت، لكنكم لستم كفاراً عندي.
إذاً هذا هو الفقه المنضبط، يعني هو يقول: المقالة كفر، ويقول: لو قال بها هو رحمه الله نفسه لكفر؛ لأنه قد تبين له أنها كفر، ولكنكم لستم كفاراً عندي؛ لأنه يرى أن لهم مادة من الحجة، والحجة في كلام الله وفي لغة العرب ما يحتج به من حق أو باطل، وهذا يسمى حجة في تسمية القرآن كما سمى الله بعض ما يستدل عليه أهل الكتاب بالحجة.
فالمقصود أن هذه الشبه تدرأ الأحكام المغلظة كالإخراج من الملة، وإن كانت لا تدرأ عنه أن يسمى مبتدعاً، فهذه مسألة دونها.
فإذاً النتيجة: أن من القواعد المنضبطة عند الأئمة أنه لا تلازم بين كون المقالة كفراً وبين كون القائل بها كافراً.
فإن قال قائل: إذا قامت عليه الحجة؟ نقول: كلمة قيام الحجة كلمة أيضاً من المسائل التي تؤخذ بالفقه، وليس لها ضابط معين، يعني: ما معنى قيام الحجة؟ الإشكال هنا أن بعض طلبة العلم يتطلب للأشياء تفسيرات محددة، ما معنى قيامها؟ بعضهم يقول مثلاً: قيام الحجة أن يسمع الدليل، ليس قيام الحجة بمجرد سماع الدليل؛ الأحوال تختلف، وقد يقول قائل: أليس الله جل وعلا ذكر كفر مشركي العرب لما سمعوا القرآن فلم يستجيبوا؟ نقول: نعم، هم يسمعون القرآن، ويعرفون حقيقة هذا الكلام، ثم يخالفون هذه الحقيقة ويعاندونها، ويكذبون بها، لكن هذا الذي تأول الصفة، أو قال بكلام ما، ليس هو على هذا الوجه من المعنى؛ ولذلك الإمام أحمد رحمه الله وهو أخص أئمة السنة فقهاً وإمامة، نجده في مناظرته في مسألة خلق القرآن كان يقول: إن هذه الكلمة من حيث هي على حكمها المعروف عند السلف، لكنه لما جاء إلى القائلين فناظر ابن أبي دؤاد قاضي المعتزلة بحضرة المعتصم الخليفة العباسي، لم يحكم على المعتصم بأنه كافر، مع أن المعتصم كان يقول بخلق القرآن، كما هو معروف في التاريخ والحقائق، بل كان يراه سلطاناً مسلماً ويصلي خلفه، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : دعا له، واستغفر له، وصلى خلفه.
فإذاً مسألة قيام الحجة من مهماتها أنه لا ينظر فيها أي أحد، وسيأتينا إن شاء الله تقرير أكثر تفصيلاً فيها.
القاعدة الثالثة: للإمام ابن تيمية رحمه الله: وهذه ذكرها في المجلد الثالث في شرحه لحديث الافتراق، وذكرها في مواضع من كلامه، يقول: أن يُعلم أن الواحد من أهل الصلاة والشعائر الظاهرة لا يكون كافراً في نفس الأمر - أي: في حكم الله جل وعلا - إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق.
وفصل هذه القاعدة وبين أنها مستقرأة ومحصلة من القرآن، وبخاصة من صدر سورة البقرة، التي ذكر الله جل وعلا فيها أصناف بني آدم من حيث الديانة، فإن منهم من يكون مؤمناً ومسلماً ظاهراً وباطناً، وهم درجات: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات، ومنهم المؤمن في ظاهره الكافر في باطنه وهو المنافق، ومنهم الكافر ظاهراً وباطناً، ولا يقع القسم الرابع إلا في أحوال عارضة، وهو حال المكره الذي قد يكون في ظاهره على الكفر، وفي باطنه مؤمناً، فهذه ليست حالة تطرد، وإنما هي حال تعرض كحال المكره مثلاً.
القاعدة الرابعة: أن يُعلم أن قيام الحجة تارة يكون علماً قطعياً، وتارة يكون وجهاً من الاجتهاد، أي إذا قيل: هذا المعين قامت عليه الحجة أو لم تقم عليه الحجة، تارة يكون العلم بقيام الحجة قطعياً، يعني لو قيل: أبو جهل قامت عليه الحجة. يقال: لا شك أن أبا جهل قامت عليه الحجة الرسالية؛ ولهذا يُعلم كفره بإجماع المسلمين، وهنا يأتي المعنى الذي يذكره بعض أهل العلم في هذا الباب، وذلك فيمن كان منتسباً للقبلة مثلاً، فجاء عالم ونظر في حال هذا المبتدع، فلربما وصل هذا العالم إلى حكم ما بالكفر، هل يلزم أن هذا الحكم الذي وصل إليه يكون من باب العلم القطعي الذي يلزم الاعتبار به والتقليد له؟ أم يكون هذا من باب الحكم الاجتهادي الذي قد يكون صواباً وقد يكون ليس كذلك؟ هو من الثاني، فالأصل في حكم الواحد من العلماء أنه من الأحكام الاجتهادية، إلا إذا أُجمع على هذا الحكم، لكن نحن نتكلم هنا في الأحكام التي لا يحصلها إلا مجتهد في الأحكام التي لا تنضبط، أما الأحكام التي تنضبط فمثل رجل سب الله جل وعلا أو سب النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا تكفيره قطعياً عند قيام الحجة عليه بين، لكن في مسائل دخلها اشتباه في تاريخ المسلمين، ودخلها اختلاط، وتأولت فيها أقوام من الطوائف، وأصبحت مادة من الإشكال، ولا تجد أن السلف والأئمة التزموا في أصحابها أحكاماً معينة باعتبار أعيانهم، فإذا نظر واحد من العلماء في معين من هؤلاء فأعطاه حكماً يختص به، فيقال: هذا الحكم أيضاً هو اجتهاد يختص بهذا العالم فقد يوافق عليه وقد يتوقف عن حكمه على أقل تقدير.
فإذاً مسألة قيام الحجة هذه فقه لا ينبغي التقدم فيها إلا على بينة.
القاعدة الخامسة: الأحكام المغلظة على المخالفين لا يصح أن ينظر فيها إلا إمام تحققت إمامته في الدين، وتحقق علمه وفقهه، يعني لا ينظر فيها ولا يجزم فيها إلا عالم فقيه، وأما الآحاد من الناس والمبتدئ في طلب العلم فإنه يكون ساكتاً ومقلداً للأكابر من الأئمة، فإنه إذا قرأ سير الأئمة وجد في كلامهم هذه الأحكام والقواعد فهو يقتدي بهم، ولا ينبغي لطالب العلم في ابتداء طلبه للعلم أن يتقحم هذا الباب، وأن يدخل في أحكام على الأعيان؛ لأن هذا الباب يقع فيه كثير من مزلة الأقدام، ويقع فيه كثير من دخول اللوازم على الإنسان، هذا هو المشكل، فقد يقول قائل في المعين قولاً ثم قولاً آخر وكذا، فإذا به ينجر مع هذه اللوازم، حتى ربما ابتلي بعضهم بمسائل من التكفير على طريقة تسلسل اللوازم عليه، فيبتدئ بهذا الذي يراه بيناً، فيورد عليه سؤالاً في الثاني فيجد أن الصورة الثانية مستلزمة للأولى فيحكم عليها، فتأتيه الصورة الثالثة، ثم يجد نفسه في الأخير في صورة ما كان يتوقع أن يصل إليها؛ لأنه أخذ هذا الباب إما بكلمة أو بقاعدة أو بضابط من الضوابط، لكن لا يوجد فقيه في كتاب الله، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر هذه اللوازم؛ ولهذا فإن طالب العلم ينبغي له ويتأكد في حقه ألا يستعجل القول في هذا الباب، وأن يكل ذلك إلى أهل العلم، وينظر في كلام الأئمة، ويكون مقتدياً ولا يتكلف الاختصاص لأحكام تتعلق بآحاد المخالفين، فإن الله جل وعلا حرم البغي، وحرم الاستطالة، وحرم العدوان، وبالمقابل ليس معنى هذا أن طالب العلم يكون بعيداً عن مفارقة الخطأ، أو مفارقة البدعة وأصحابها، فإن هذا باب قد ذمه الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، أعني: باب البدع والابتداع في الدين، فلا بد لطالب العلم أن يكون وسطاً، وأن الوسطية هي الحكمة، وأن يكون عدلاً، وأن يكون منضبطاً، وأنا أدري أن كثيراً من المسائل لا تتحرر لكثير من طلاب العلم، وهذا الأصل، بل جملة من المسائل لا تتحرر للعالم، بل العالم حقاً هو الذي عنده طرف من مسائل الشريعة عنده قدر من التأمل فيها، أما الإنسان الذي تكون كل الأحكام عنده بينة وصريحة يجزم بكل ما يقول، لا تجده يتكلم الكلام إلا ويرى أن عنده الحق قطعاً وجزماً، هذا نقص في الفقه وفي العلم، فلا شك أن العالم الفقيه يعرف درجات المسائل، وقد تنغلق عليه بعض المسائل، وتكون بعض المسائل عنده هي محل مراجعة، وما إلى ذلك، هذا من سعة الفقه وسعة العلم؛ ولهذا العلماء الأكابر كالإمام أحمد كثرت الرواية عنه في المسألة الواحدة، والشافعي رحمه الله في مصر كان له ما يسمى بالمذهب الجديد على المذهب العراقي القديم، وليس تشكيكاً في المسائل، ولا نقول: إن هؤلاء الأئمة كانوا على درجات من الشك، لا، لكن هو تردد، وتعلم في المسائل، وإعطاء المسائل قدرها من الدلائل الشرعية.. وهلم جراً.
إذاً: هذا الفصل الذي وضع الشاطبي رحمه الله فيه خطة علمية أشبه ما تكون بالقانون لمسألة المآخذة والعذر، وفيها جمل هي من جميل الفقه وشريفه، ولكن الذي قصد بالتعليق هنا: أن الالتزام بهذه الخطة على حروفها وتطبيقاتها قد لا يكون جامعاً مانعاً من جهة.
ومن جهة أخرى كثير من حروفها قد يقع عليه سؤال من جهة كونها مشتركة أو من جهة كونها مجملة، ويمكن أن الشاطبي رحمه الله حاول أن يبدد هذا الإجمال وهذا الاشتراك للتقسيم، فيقول: المجتهد على ضربين، والمقلد على كذا، وهذا ينقسم إلى ثلاثة، وهلم جراً، لكن مع هذه التقسيمات والتنوعيات التي ذكرها، فإن مادة الاشتراك لا تزال في كثير منها، بمعنى أنك إذا جئت لتطبق هذه النظرية كواقع وجدت نفسك لا تستطيع أن تنضبط على صورة واحدة، ودخلك التردد كثيراً في كثير من الصور، وبهذا فلا أفضل لطالب العلم خاصة في ابتداء طلبه للعلم أن يفترض لنفسه خطة منتظمة دقيقة رياضية في هذا الباب، وإنما يعنى بجمع قواعد الفقه والأصول التي كان عليها السالفون من أئمة السنة المهديين، ويستقرئ أولاً من كلام الله وكلام رسوله، ثم الآثار الواردة عن سلف هذه الأمة وأئمتها رضي الله تعالى عنهم.
بقي في هذا الباب جملة من المسائل نكتفي بهذا القدر.
السؤال: كثير من تعريفات الأحكام لا تؤثر على فروع ذلك الحكم؟
الجواب: ما فهمته من السؤال أن ثمة انفصالاً بين النظرية في مسائل الأصول التي كُتبت في كتب الأصوليين، وبين طريقة التطبيق على كتب الفقهاء، وجزء من هذا الانفصال لا شك أنه موجود، ولكن بعض هذا الانفصال يكون سببه ربما الناظر ليس إلا.
السؤال: هل المقصود أن المبالغة في العبادة تكون في إطار السنة؟
الجواب: لا، المبالغة بمعنى الزيادة لا تكون في إطار السنة، أحياناً من الفقهاء من يمنع المبالغة مستدلاً ببعض الآثار مثل المبالغة في المضمضة والاستنشاق أراد بها أن السنة الشرعية هي صفة تأتي بمعنى تحريك الماء في الفم على هذا القدر، فالسنة هذه.
إذاً: هذا لا يكون من هذا الإشكال.
السؤال: ألا يمكن أن يقال: إن تعريف الشاطبي هنا هو من باب الحصر العقلي لتعريف البدعة؟
الجواب: لا، هو ما كان يريد أن يتكلم عن الفرض العقلي، وإنما كان يريد أن يتكلم عن المعنى الشرعي الذي ينضبط ويطبق.
السؤال: ما قولكم في الحكم على المخالفين وتحذيرهم من السنة؟
الجواب: هذا هو الذي تكلمنا فيه الآن، وهو باب يحتاج إلى مزيد من الكلام إن شاء الله.
السؤال: هناك من يستدل في مسألة تحديد الأعيان بكتب الجرح والتعديل؟
الجواب: كتب الجرح والتعديل مساق آخر، ونحن الآن في القاعدة لا نقول: القاعدة الشرعية هي أنه لا يتكلم في الأعيان إلا ببينة وبموجب، يعني: إذا أردت أن تتكلم في معين فلا بد من المحرك الشرعي لهذا الكلام، وهي البينة، يعني لا بد أن يكون ثمة سبب شرعي يقتضي الحكم على الأعيان، فالمنافقون توجد بينة على نفاقهم، والبينة موجودة وهو نزول القرآن، لكن اقتضت الحكمة الشرعية ألا يصرح بالأعيان في كثير من مقاماتهم وأحوالهم، فإذاً لا بد لطالب العلم أن ينظر في السبب وأن ينظر في البينة، فإذا وجدت سبباً وبينة تكلم في الأعيان، أما إذا لم يوجد سبب ولا بينة، فهذا ليس الذي كان عليه الأئمة رحمهم الله.
السؤال: ما أفضل طبعة لكتاب الاعتصام؟
الجواب: هو طبع أكثر من مرة كما تعرف، لكن فيما يبدو لي أن الشيخ مشهور بن الحسن اعتنى بالطبعة الأخيرة، فلربما أنها هي الأنسب، وإن كنت لم أتتبع الطبعات من جهة التصحيحات ونحو ذلك، لكن هذه المقدمة التي وضعها واعتنى بها مقدمة اهتم فيها وبذل جهداً مشكوراً.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر