إسلام ويب

شرح مقدمة زاد المستقنعللشيخ : خالد بن علي المشيقح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن العلم من أعظم القرب إلى الله تعالى، والعلماء هم ورثة الأنبياء، وقد وضع هؤلاء العلماء زبدة علمهم في مؤلفات نقلوها إلى تلاميذهم، وطالب العلم ينبغي له أن يقتنص كنوز سلفه وينهل من علمهم حتى يفهم كلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، هذا وإنه في كل مذهب

    1.   

    مدخل لدراسة زاد المستقنع

    فضل العلم ومجالسه

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وبعد:

    لا شك أيها الأحبة! أن من أعظم المنن على المسلم أن يهدي قلبه لمثل هذه المجالس -مجالس العلم- التي تحيا بها القلوب، ويقوى بها الإيمان، وتنشرح بها الصدور، ويكون المسلم على بينة من أمره، ويعبد ربه على بصيرة.

    والعلم وفضله تعلماً وتعليماً تواترت به النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وآثار السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن سخر بدنه في تعلم العلم وتعليمه.

    وكما أسلفت أيها الأحبة! العلم فضله عظيم وأجره كبير، ولا يخفى على الجميع ما ورد من فضل العلم تعلماً وتعليماً.

    قال ابن المبارك رحمه الله تعالى: لا أعلم مرتبة بعد مرتبة النبوة أفضل من مرتبة تعلم العلم وتعليمه.

    وابن قدامة رحمه الله تعالى في أول كتابه المغني ذكر أن الأمم السالفة قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانت تسوسهم الأنبياء، إذا هلك نبي خلفه نبي آخر، أما هذه الأمة فليس لها إلا نبي واحد، فلما توفي نبينا عليه الصلاة والسلام خلفه العلماء، فالعلماء في هذه الأمة بمنزلة الأنبياء في الأمم السابقة، ولا شك أن هذا فضل عظيم وأجر كبير، والآثار في ذلك كثيرة جداً، ومن نعم الله عز وجل علينا أن من علينا بمثل هذه المجالس.

    فائدة دراسة مؤلفات المتون

    كنا في الدورة السابقة انتهينا من شرح زاد المستقنع، وكانت النية أن نبدأ في دليل الطالب، ولكن عند رغبة كثير من الإخوة الطلبة الذين ألحوا بأن يكون الشرح للزاد انتقلنا إلى الزاد، والأمر في ذلك سهل؛ لأن المقصود هو أن يربي الطالب نفسه على متن من المتون، سواءً كان زاد المستقنع أو كان دليل الطالب أو كان عمدة الطالب، أو كان أخصر المختصرات، أو في مذهب الحنابلة، أو في مذهب الشافعية، أو الحنفية، أو المالكية.

    والمقصود أن يربي نفسه على متن من المتون؛ لأن هذه المتون ليست من باب المقاصد وإنما هي من باب الوسائل، يعني هي وسيلة لفهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء العلماء رحمهم الله بذلوا جهدهم في استنباط هذه الأحكام الشرعية من النصوص وسطروها في هذه المؤلفات، فنحن نقرأ هذه الاستنباطات، ونزنها بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    فالمقصود هنا هو الوصول إلى مراد الله، وهذه من باب الوسائل، وأما التطبيق والعمل فلا شك أن المسلم متعبد بما قاله الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فنحن نقرأ في مثل هذه المتون لكي نفهم ما جاء في القرآن والسنة؛ لأن العلماء رحمهم الله تعالى اختصروا علينا الطريق، فبدلاً من أن نذهب إلى القرآن والسنة ونستنبط الأحكام، ونستنبط أحكام الطهارة وأحكام الصلاة وما يتعلق بالعقيدة، وما يجب على المسلم.. إلى آخره، هذه سطرها العلماء رحمهم الله تعالى وكفونا المئونة، فجزاهم الله عنا خير الجزاء، فيبقى أن ننتقي من أقوالهم ما كان موافقاً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    طريقة منهجية متن الزاد

    وكتاب الزاد له طبعات، وأخيراً طبع طبعتين كلاهما جيدة، إذا أخذت بإحدى الطبعتين فهذا جيد، وإن أخذت شرحاً للزاد يكون معك فهذا أيضاً جيد، ونحن إن شاء الله خلال الشرح سنحاول أن نختصر؛ لأن كتاب الزاد كتاب كبير، ويمر بسائر أبواب الفقه، ويحتوي على ثلاثة آلاف مسألة بالمنطوق وستة آلاف مسألة بالمفهوم، يعني كل مسألة سنقف عندها، ونذكر دليلها، وربما نشير إلى كلام العلماء رحمهم الله تعالى وإلى خلافهم وإلى شيء من أدلتهم، لكن نسدد ونقارب -بإذن الله عز وجل- وسنحاول أن نشرح عبارة المؤلف رحمه الله بحيث يتعرف الطالب على ألفاظ العلماء ولغتهم ومصطلحاتهم حسب ما يمر معنا من مصطلحات، ونجتهد في تسهيل عبارة المؤلف وذكر الراجح مع الدليل حسب ما جاء من الأدلة.

    1.   

    مقدمة زاد المستقنع

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد وعلى آله وأصحابه ومن تعبد:

    أما بعد:

    فهذا مختصر في الفقه من مقنع الإمام الموفق أبي محمد على قول واحد وهو الراجح في مذهب أحمد , وربما حذفت منه مسائل نادرة الوقوع وزدت ما على مثله يعتمد، إذ الهمم قد قصرت, والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت، ومع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل].

    هذا الكتاب زاد المستقنع لمؤلفه موسى بن أحمد بن موسى الحجاوي ، المتوفى سنة تسعمائة وثمان وستين للهجرة، وهو كما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى مختصر من كتاب المقنع لـأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المتوفى سنة عشرين وستمائة للهجرة، وهذا المتن اشتهر عند المتأخرين من الحنابلة، وعكفوا على قراءته وتدريسه للطلبة وحفظه، كما أنه اشتهر عدة متون عند متأخري الحنابلة، لكن من أشهر هذه المتون متن الزاد، وكذلك أيضاً متن دليل الطالب، هذان المتنان اشتهرا عند متأخري الحنابلة رحمهم الله.

    فالزاد مختصر من كتاب المقنع لـابن قدامة رحمه الله، والدليل مختصر من كتاب المنتهى، والفرق بين هذين المتنين أن متن الزاد أكثر مسائل من متن الدليل، وأما متن الدليل فهو أكثر تحريراً من متن الزاد، ولهذا في كثير من المسائل خالف صاحب الزاد المشهور من المذهب عند المتأخرين.

    وعلى كل حال كما ذكرنا فهذه المتون من باب الوسائل وليست من باب المقاصد، والمقصود أن يتربى الطالب على هذا المتن ويعرف لغة العلماء رحمهم الله تعالى، ويكون سبباً من أسباب تفقهه ومعرفته بمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.

    معنى البسملة

    والمؤلف رحمه الله تعالى افتتح كتابه بالبسملة: (بسم الله الرحمن الرحيم)، اقتداءً بكتاب الله عز وجل، فإن كتاب الله مبدوء بالبسملة، واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يبدأ كتبه بالبسملة.

    وشرح البسملة على سبيل اختصار الباء: حرف جر، واسم: اسم مجرور، والجار والمجرور لهما متعلق وهذا المتعلق يقدره العلماء رحمهم الله بفعل مؤخر مناسب للمقام، فإذا أردت أن تقرأ تقول: باسم الله، والتقدير: باسم الله أقرأ، وإذا أردت أن تكتب تقول: باسم الله، والتقدير: باسم الله أكتب، وإنما قدر العلماء رحمهم الله هذا المتعلق فعلاً؛ لأن الأصل في العمل هو الأفعال، وقدروه مؤخراً تبركاً بالبداءة باسم الله عز وجل، وقدروه مناسباً للمقام؛ لأنه دل على المراد، فإذا قلت باسم الله أي: باسم الله أقرأ، فهذا أدل على المراد من قولك: باسم الله، أي: أبتدئ، وإذا أردت أن تذبح تقول: باسم الله أذبح، هذا أدل على المراد من قولك: باسم الله، أي: أبتدئ.

    والله أصلها الإله حذفت منها الهمزة وأدغمت اللام باللام فقيل: الله، والله هو أعرف المعارف، وهو علم على الباري سبحانه وتعالى، ويقال بأنه اسم الله الأعظم، وكما ذكرنا هو أعرف المعارف ولهذا بقية أسماء الله عز وجل تضاف إليه، ولا يضاف إلى شيء من أسماء الله، فنقول الرحمن من أسماء الله، لكن لا تقول الله من أسماء الرحمن، فالله أصله الإله حذفت الهمزة وأدغمت اللام في اللام فقيل الله، ومعناه: ذو الألوهية والربوبية على خلقه أجمعين.

    الرحمن: اسم من أسماء الله الخاصة به، والرحمن ذو الرحمة الواسعة، وهو من أسماء الله الخاصة به، والرحيم أيضاً اسم من أسماء الله؛ لكنه ليس من الأسماء الخاصة، فالرحيم معناه: ذو الرحمة الواصلة، بمعنى الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده.

    معنى الحمدلة

    قال رحمه الله تعالى: (الحمد لله).

    أيضاً ابتدأ متنه بالحمدلة اقتداءً بكتاب الله عز وجل، فإن كتاب الله مبدوء بالحمدلة، واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ خطبه الراتبة والعارضة بالحمدلة، ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ابتدأ خطبة من خطبه بغير الحمدلة، سواءً كانت راتبة كخطبة الجمعة والعيدين، أو كانت عارضة كالخطب التي يخطبها النبي صلى الله عليه وسلم لسبب يطرأ.

    وقوله: (الحمد لله) اختلف العلماء رحمهم الله في تفسير الحمدلة، فقيل بأنها الثناء بالصفات الحسنة، والأفعال الجميلة، وقيل بأنها فعل ينبئ عن تعظيم المنعم.

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الحمد: هو وصف المحمود بصفات الكمال محبة وتعظيماً، وفي الحديث: ( أن الله عز وجل يحب الحمد )، يعني يحب أن تصفه بصفات الكمال، فإذا قلت: الحمد لله فأنت تقول: يا الله! أنا أصفك بصفات الكمال حباً لك وتعظيماً لك.

    والفرق بين الحمد والمدح -مع أنهما يشتركان في الحروف- أن الحمد لا يكون حمداً إلا مع المحبة والتعظيم، بخلاف المدح فقد تمدح شخصاً وأنت لا تحبه، وقد تمدحه أيضاً وأنت لا تعظمه.

    وقوله: (الحمد لله) الألف واللام للاستغراق، أي: جميع المحامد، يعني: الحمد على وجه الإطلاق هذا خاص بالله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحمد على جميع أسمائه، ويحمد على جميع صفاته، ويحمد على جميع أفعاله، أما المخلوق فقد يحمد على هذا الفعل ولا يحمد على الفعل الآخر، وقد يحمد على هذه الصفة ولا يحمد على الصفة الأخرى.

    وقوله: (لله) اللام للاختصاص، أي: أن الله سبحانه وتعالى مختص بالمحامد المطلقة.

    قال رحمه الله: (حمداً لا ينفد).

    حمداً: مفعول مطلق لبيان نوع الحمد.

    قال رحمه الله: (أفضل ما ينبغي أن يحمد).

    المؤلف رحمه الله وصف هذا الحمد بوصفين: الأول: أنه لا ينفد، أي: لا ينتهي، والثاني: أنه أفضل ما ينبغي أن يحمد به الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى إنما يحمد بصفات الكمال ونعوت الجلال.

    1.   

    معنى الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

    قال رحمه الله: (وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد).

    صلاة الله على عبده اختلف فيها العلماء رحمهم الله، وأطال ابن القيم رحمه الله تعالى في ذكر هذا الخلاف، في كتابه جلاء الأفهام، وقيل بأن صلاة الله على عبده هي رحمته، وقيل بأنها مغفرته، وقيل بأنها ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى كما ذكره البخاري عن أبي العالية ، فإذا قلت: اللهم صل على محمد، كأنك تقول: يا الله! اثنِ على عبدك محمد في الملأ الأعلى عند الملائكة المقربين، وهذا هو الأقرب، فصلاة الله على عبده: هي ثناؤه عليه في الملأ الأعلى عند الملائكة المقربين.

    قوله: (وسلم).

    السلام: اسم من أسماء الله عز وجل، كما في قوله تعالى: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ [الحشر:23]، ويطلق أيضاً على معانٍ: منها التحية، والأمان، والعهد، ونحو ذلك.

    والمراد هنا: الدعاء بالسلامة، فإذا سلمت على شخص فالمقصود أنك تدعو له بالسلامة، إذا قلت: اللهم صل وسلم، يعني: تدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة، وإذا اجتمع الصلاة مع السلام ففي الصلاة: نيل المطلوب وهو الرحمة من الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا أثنى على عبده فهو سيرحمه ويثيبه، ففي الصلاة نيل المطلوب، وفي السلام: النجاة من المرهوب؛ لأنك تدعو له بالسلامة؛ ولهذا الكافر لا يبدأ بالسلام: ( لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام )؛ لأن السلام دعاء بالسلامة.

    فأنت إذا قلت: اللهم صل وسلم، فأنت تدعو للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالسلامة، والدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة إما في حياته بأن يسلمه الله ويحفظه من أعدائه، وإما بعد مماته بأن يسلم الله سنته وشرعه من تحريف المبطلين وتأويل الغالين، وكذلك أيضاً يسلمه الله عز وجل في عرصات القيامة، فإن الرسل يجثون على ركبهم يقولون: اللهم سلم سلم.

    قوله رحمه الله: (على أفضل المصطفين).

    المصطفون: جمع مصطفى، وهو المختار من الصفوة, ولا شك أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم مصطفى، يعني: خيار اصطفاه الله عز وجل واختاره، فهو أفضل المصطفين، وأفضل الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومحمد: اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وسمي بذلك لكثرة محامده عليه الصلاة والسلام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم له محامد كثيرة في الدنيا وفي الآخرة، يحمده عليها الخلق، وله أسماء سبق أن عددناها في شرح منظومة الشيخ محمد رحمه الله.

    معنى الآل

    قال رحمه الله: (وعلى آله).

    من هم آل النبي صلى الله عليه وسلم؟

    هذا موضع خلاف، وأطال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه جلاء الإفهام في ذكر خلاف أهل العلم في آل النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل بأن آله هم أتباعه على دينه، يعني سائر أتباعه على دينه هم آل النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل بأن آله: هم أقاربه المؤمنون به.

    والأقرب في هذه المسألة -والله أعلم- أن هذا يختلف باختلاف السياق، فإن ذكر الأتباع فالمقصود بالآل هم أقاربه المؤمنون به، وإن لم يذكر الأتباع فالمقصود بالآل هم أتباعه على دينه.

    تعريف الصحابي

    قال رحمه الله: (وأصحابه).

    الأصحاب: جمع صاحب، وهو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، وهذا الاجتماع سواءً كان قليلاً أو كثيراً، وهذا من خصائص صحبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون صاحباً إلا إذا طالت المصاحبة، فأنت إذا اجتمعت مع شخص فمجرد اجتماعك معه لا يجعله صاحباً لك إلا إذا طالت الصحبة بينكما؛ لكن بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم فبمجرد أن يجتمع معه -ولو لحظة- فإنه يكون صاحباً للنبي عليه الصلاة والسلام.

    قال رحمه الله: (ومن تعبد).

    يعني بعد أن ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، ذكر أيضاً من تعبد فشمل بالصلاة والسلام سائر المسلمين، فالمؤلف رحمه الله ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وأصحابه، وسائر المسلمين؛ لأن كل مسلم هو متعبد لله عز وجل.

    معنى أما بعد

    قال: (أما بعد).

    أما: أداة تفصيل أو حرف تفصيل ضمنت معنى الشرط, والمعنى: مهما يكن من شيء, وبعد: ظرف زمان مبني على الضم.

    و(أما بعد) هذه تكلم عليها العلماء رحمهم الله في مباحث كثيرة:

    من هذه المباحث:

    أول من تكلم بها: قيل بأن أول من تكلم بها هو داود عليه الصلاة والسلام، وقيل يعقوب عليه الصلاة والسلام، وقيل يعرب بن قحطان ، وقيل كعب بن لؤي .. إلى آخره.

    وأيضاً فائدة الإتيان بها: هذا الحرف يؤتى به في الخطب والمقدمات، قال بعض العلماء: الفائدة من ذلك هو الانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، وقيل بأن الفائدة هو الانتقال من المقدمة إلى صلب الموضوع.

    1.   

    تعريف الفقه

    قال رحمه الله: (فهذا مختصر في الفقه).

    أي: موجز، والمختصر: هو ما قل لفظه وكثر معناه، قال: (فهذا مختصر في الفقه)، الفقه في اللغة: الفهم، وقيل: الفهم الدقيق.

    وأما في الاصطلاح فهو: معرفة أحكام الله الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية، فقولنا: معرفة لكي يشمل العلم والظن؛ لأن من الأحكام ما طريقه العلم، ومن الأحكام ما طريقه الظن، ما طريقه العلم مثل: وجوب الصلوات وما طريقه الظن مثل: شرعية القنوت في الوتر.. إلى آخره.

    والأحكام: جمع حكم, وهو إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، والأحكام قد يقسمها العلماء رحمهم الله إلى ثلاثة أقسام: أحكام شرعية، وأحكام عقلية، وأحكام عادية، والمراد بذلك الأحكام الشرعية، فقولنا الشرعية، يخرج الأحكام العقلية، مثل واحد مع واحد يساوي اثنين، وأن الكل أكبر من الجزء.. إلى آخره، ويخرج أيضاً الأحكام العادية: أن الخبز مشبع، وأن الماء مروٍ.. إلى آخره.

    فقولنا: الشرعية يخرج الأحكام العقلية العادية.

    والحكم الشرعي: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو وضعاً.

    والأصوليون يقسمون الأحكام إلى قسمين: أحكام تكليفية، وأحكام وضعية، والأحكام التكليفية هي الأحكام الخمسة: الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة، والأحكام الوضعية كالشرط والسبب والعلة والمانع، والصحة والفساد.. إلى آخره.

    وقولنا الشرعية العملية يخرج العقدية، فمعرفة أحكام العقيدة ليس من الفقه اصطلاحاً، نعم هو من الفقه على وجه العموم؛ لأن الفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعني معرفة أحكام الله حتى في العقيدة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، فهذا يشمل معرفة أحكام العقائد، ومعرفة أحكام العمليات، فالفقه في الدين شامل.

    فنفهم أن الفقه فقهان: فقه عام، وهذا يشمل الفقه في أمور العقيدة، وكذلك أمور العمليات، وفقه خاص وهو معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية.

    وقولنا: الأدلة التفصيلية هذا يخرج أصول الفقه، فالأصوليون في أصول الفقه لا يبحثون الأحكام من جهة أدلتها التفصيلية، يعني: لا يقول لك مثلاً بأن الوتر سنة ودليله كذا، وأن صلاة الضحى سنة ودليلها كذا، لا, الذي يبحث الأدلة التفصيلية هم الفقهاء، لكن بالنسبة للأصوليين فيبحثون الأدلة الإجمالية، الكتاب كيف يستدل بالكتاب، ودلالة الألفاظ: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين؟ وما هي الأدلة التي تثبت الأحكام بها والتي تكون حجة؟ وما هي الأدلة التي ليست بحجة؟ فهم يبحثون الأحكام ليس بأدلتها التفصيلية وإنما بأدلتها الإجمالية، فمثلاً: هل الاستحسان حجة أو ليس حجة؟ والاستصحاب وقول الصحابي هل تثبت به الأحكام أو لا؟ وكيف نستدل بهذه الأحكام؟ إذاً: هذا تعريف الفقه: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية.

    وقيل بأن الفقه هو: معرفة الأحكام الشرعية بالاستدلال بالفعل أو بالقوة القريبة، وما معنى بالفعل أو بالقوة القريبة؟ بالفعل كأن يقول لك: هذا حلال والدليل كذا، هذا واجب والدليل كذا، يعني: يستحضر الحكم الشرعي ويستحضر دليله، فهذا بالفعل معرفة الأحكام الشرعية بالاستدلال عليها, وكأن يقول لك: صلاة الجماعة واجبة والدليل كذا وكذا، صلاة الضحى سنة كل يوم والدليل كذا وكذا، هذا بالفعل.

    أو بالقوة القريبة بحيث تكون عنده الآلة التي يتمكن من خلالها معرفة هذا الحكم، بحيث يستطيع أن يبحث، وهذا من فوائد دراسة العلم على المتون؛ لأن طالب العلم إذا درس متناً في الفقه، ومتناً في العقيدة، ومتناً في المصطلح، ونحو ذلك.. إلى آخره، يكون قد ألم بجملة المسائل، فهو يعرف أين يبحث العلماء رحمهم الله تعالى هذه المسألة، فمثلاً: إذا أراد أن يتكلم عن الحديث الصحيح، وما شروط الحديث الصحيح... إلى آخره، يستطيع أن يرجع إلى مظانه من كتب أهل العلم، وقد لا يستحضر الآن بعض الشروط لكنه إذا كان مستحضراً يصير فقيهاً بالفعل، وإذا كان غير مستحضر وتمكن يصير فقيهاً بالقوة القريبة.

    فمن المهم جداً أن يعرف طالب العلم أين يبحث العلماء رحمهم الله مواضع المسائل، وأين أفردت بالتأليف، فمثلاً: لو أردت أن تعرف أين يبحث العلماء رحمهم الله أحكام السلام، ويتكلمون عن أحكام السلام؟ هل تبحث في كتاب البيوع؟ لا، ليس في كتاب البيوع، وإنما في كتاب الجنائز، لما تكلموا عن السلام على الميت، استطردوا في السلام على الحي وأحكام السلام.

    وأين يبحثون المحرم وأحكام المحرم؟ في كتاب الحج.

    وأحكام النظر أين يبحثونه؟ أحكام النظر يبحثونه في النكاح، فعندما تكلموا عن نظر المخطوبة، استطردوا إلى النظر إلى المحارم، والنظر إلى الجارية دون تسع سنوات، وفوق تسع سنوات، ونظر الزوج إلى زوجته، والزوجة إلى زوجها، والنظر إلى الإماء، والنظر إلى المرأة الكبيرة القاعدة.. إلى آخره.

    أين يبحثون أحكام التحلي؟ يبحثونه في أحكام الزكاة، لما ذكروا ما يتعلق بوجوب الزكاة بالحلي استطردوا فيما يتعلق بأحكام التحلي ونحو ذلك.

    فهذا معنى كلام العلماء رحمهم الله بالقوة القريبة؛ أن يكون عنده استحضار للمسائل والأدلة، وأن يكون عنده الآلة التي يتمكن بها من معرفة الحكم الشرعي ومعرفة دليله.

    1.   

    أصل متن زاد المستقنع

    قال رحمه الله تعالى: (من مقنع الإمام الموفق أبي محمد).

    يعني هذا المتن مختصر، وانظر أدب العلماء رحمهم الله في مقدماتهم وانظر هذا المسلك التربوي، عندما يكتب يبدأ بالبسملة، ثم بالحمدلة، وكذلك أيضاً في بيان موضوع الكتاب بعد أن ذكر البسملة وذكر الحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر موضوع الكتاب وأن هذا الكتاب في الفقه، وأنه مختصر من مقنع ابن قدامة رحمه الله تعالى.

    وكما ذكرت أن الحنابلة رحمهم الله كان عندهم متون -كما عند كل مذهب متون- وأول المتون في مذهب الحنابلة هو متن الخرقي رحمه الله تعالى، وبعد متن الخرقي كتبت عدة متون، من هذه المتون متن المقنع لـابن قدامة رحمه الله تعالى، فلما كتب ابن قدامة رحمه الله المقنع عكف عليه الحنابلة بالتدريس والإفتاء والقضاء.. إلى آخره، وألفوا عليه مؤلفات كثيرة، ومن أعظم المؤلفات التي ألفت عليه الشرح الكبير لـابن أبي عمر ، ابن أخ الموفق ابن قدامة صاحب المغني، فجاء ابن أبي عمر وشرح كتاب المقنع لكنه استمد كثيراً من الشرح من كتاب المغني، ولهذا يقولون: شرح كتابه بكتابه، يعني: شرح كتاب المقنع لـابن قدامة .

    من كتاب المغني لـابن قدامة ، ومتن المقنع له شروح كثيرة؛ لكن أعلاها وأكثرها ذكراً للخلاف هو شرح ابن أبي عمر رحمه الله الشرح الكبير، ومنها أيضاً المبدع، وشرح ابن البناء ، وغير ذلك.

    ومن أهم الكتب التي كتبت على كتاب المقنع كتاب الإنصاف لـلمرداوي رحمه الله تعالى حيث عمد إلى كتاب المقنع وذكر ما يتعلق بتحرير المذهب وتصحيح المذهب من الأوجه والروايات مما ذكره ابن قدامة رحمه الله، وكذلك أيضاً ما أطلقه من الأوجه والروايات, فهو بحق يعتبر تحريراً لمذهب الحنابلة رحمهم الله تعالى، ومن جاء بعد المرداوي فهو عالة على كتاب الإنصاف، وجمع فيه كثيراً من روايات الإمام أحمد رحمه الله تعالى وكلام الأصحاب، والأوجه لكبار الأصحاب، واستقى كتاب الإنصاف من قرابة مائة وخمسين كتاباً، فهو كتاب كبير جداً يحتاج إليه كل طالب علم.

    ومن الكتب كتاب المطلع في شرح ألفاظه.

    إذاً: الزاد مختصر من كتاب المقنع، وبعد المقنع جاء ابن النجار رحمه الله وألف كتاب: منتهى الإرادات، ثم بعد ذلك حصل هذان الكتابان المختصران؛ المختصر الأول: مختصر زاد المستقنع على كتاب المقنع، والمختصر الثاني: مختصر دليل الطالب على كتاب منتهى الإرادات.

    قال: (من مقنع الإمام الموفق أبي محمد ).

    ابن قدامة رحمه الله تعالى يكنى بـأبي محمد ، واسمه عبد الله بن أحمد بن قدامة المتوفى سنة ستمائة وعشرين للهجرة، وابن قدامة رحمه الله يعتبر من شيوخ ومحرري مذهب الحنابلة، وله اختيارات استقل بها رحمه الله تعالى، ومن أعظم كتبه كتاب المغني، وهو شرح لمختصر الخرقي رحمه الله، وله كتب أخرى مثل كتاب الهادي وكتاب المقنع، وكذلك أيضاً الكافي، وكتاب التوابين، وأيضاً له في أصول الفقه روضة الناظر، وله كتب كثيرة رحمه الله تعالى.

    1.   

    طريقة المؤلف في متن الزاد

    قال: (على قول واحد).

    المؤلف رحمه الله تعالى لما بين موضوع الكتاب، وأن هذا الكتاب مختصر في الفقه من مقنع ابن قدامة رحمه الله تعالى، بيّن طريقة الاختصار، وأن هذا الاختصار إنما هو على قول واحد, وهو الراجح في مذهب الإمام أحمد، فما تجده في الزاد فهو الراجح في مذهب الإمام أحمد على ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.

    لكن كما ذكرنا أن المؤلف رحمه الله تعالى خالف المذهب في كثير من المسائل فيما يقرب من مائة وخمسين مسألة خالف فيها الماتن صاحب الزاد، وخالف فيها المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وأثناء الشرح إن شاء الله سنشير إلى شيء من هذه المسائل.

    فقال بأن طريقة الاختصار على قول واحد وهو الراجح في مذهب أحمد ؛ لأن كتاب المقنع اشتمل على كثير من الروايات والأوجه للأصحاب رحمهم الله تعالى، فأجمله على قول واحد فقط.

    قال رحمه الله: (وربما حذفت منه مسائل نادرة الوقوع).

    هذا الأمر الثاني: يقول حذفت منه مسائل، والمسائل: جمع مسألة، وهي ما يبرهن له بالعلم.

    قال رحمه الله: (وزدت على ما مثله يعتمد).

    يعني طريقة الاختصار هذه اشتملت على ثلاثة أمور: أنه على قول واحد هو الراجح في مذهب أحمد ، وأنه حذف مسائل نادرة الوقوع، وأنه زاد بعض المسائل.

    1.   

    سبب تأليف الزاد

    قال رحمه الله: (إذ الهمم قد قصرت, والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت).

    هذا السبب الذي دعاه للاختصار، فالمؤلف ذكر موضوع الكتاب، وذكر طريقة الكتاب، ثم بعد ذلك ذكر السبب، وهذا أيضاً تجده في مؤلفات العلماء، حيث يقول أحدهم: سألني بعض الإخوة، أو مثلاً: رأيت كذا، أو بدا لي كذا لوجود ما يحتاج إلى إيضاح.. يذكرون سبب التأليف.

    والهمم: جمع همة، يقال: هممت بالشيء إذا أردته, والأسباب: جمع سبب، وهو ما يتوصل به إلى إدراك المقصود.

    (المثبطة) يعني: الشاغلة (عن نيل المراد) يعني: إدراك المقصود (قد كثرت) يعني: سبب الاختصار أن همم طلبة العلم قد قصرت، والأسباب المثبطة عن نيل المراد أيضاً كثرت.

    ثم بعد ذلك أثنى رحمه الله تعالى على مختصره فقال: (ومع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل, ولا حول ولا قوة إلا بالله) فمع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل، وهذا صحيح كما ذكرنا أنه اشتمل على ستة آلاف مسألة بالمنطوق والمفهوم، والعلماء يقولون: متن زاد وبلوغ كافيان في نبوغ، وكانوا إلى مدة قريبة إذا أتقن أحدهم الزاد مع البلوغ عين للقضاء، ولا شك أن هذا منصب كبير، نعم كما ذكر الشيخ المؤلف رحمه الله: أنه (مع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل).

    (ولا حول ولا قوة إلا بالله).

    يعني: لا تحول من حال إلى حال إلا بالله سبحانه وتعالى، ولا قوة على ذلك إلا بالله عز وجل، وهو حسبنا: أي: معتمدنا, ونعم الوكيل: أي كافينا سبحانه وتعالى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756189063