الحديث رقمه (742)، والحديث كما ذكر المصنف رحمه الله رواه مسلم في صحيحه والحديث مطول, ولكن المصنف اقتصر منه على مواضع، وكان بودي أن نشرحه جميعاً, لو كان الوقت يتسع نشرح حتى ما لم يذكره المصنف من بعض الألفاظ؛ لأنه أفضل وأتم حديث ورد في حجة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد عني العلماء بهذا الحديث، حتى إن الحافظ ابن المنذر صنف فيه جزءاً خاصاً، واستخرج من الحديث نحواً من مائة وخمسين ونيف فائدة, كما ذكر ذلك النووي في شرحه على مسلم، وكذلك من المتأخرين من صنف فيه, كما صنف الشيخ الألباني رحمة الله تعالى عليه كتاباً في حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث جابر , وغيره من أهل العلم صنفوا في صفة حج النبي عليه الصلاة والسلام، فهو حديث عظيم, جليل القدر, مليء بالفوائد، ولم يسق أحد قصة حجة النبي عليه الصلاة والسلام ويضبطها كما فعل جابر رضي الله عنه وأرضاه.
قال: ( فخرجنا معه ), يعني: خرج الصحابة وخرج الناس الذين أتوا المدينة، وكان الناس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ما بين راكب وماش، وهذا دليل على تنوع الصحابة, وأن منهم من كان راكباً، ومنهم من كان ماشياً، والعلماء اختلفوا في الأفضل في الحج: الماشي أو الراكب، فمن فضل الركوب فضله لأنه حج النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان على بعيره، ومن فضل المشي فضله أيضاً للبداية بقوله: يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27]. والصواب أن الأفضل من ذلك هو الأكثر تحقيقاً للخشوع والتقوى ومعنى العبادة.
قال: ( فولدت
قال: ( واستثفري بثوب ). الاستثفار: هو التحفظ، أن تضع على فرجها ثوباً وتعصبه حتى لا ينزل الدم، فيكون ثوب تضعه أمامها وثوب تضعه خلفها وتربطه؛ وذلك من أجل ألا ينزل الدم.
( وأحرمي ). وهذا دليل على أن الحائض تحرم، والنفساء تحرم، والجنب لو أحرم فإحرامه صحيح أيضاً.
قال: ( وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ). وهو يسمى مسجد الشجرة. وهذا المسجد في الميقات، في المحرم، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم اختلف فيها، فقيل: هي صلاة الفجر، وقيل: صلاة الظهر، والأقرب أنها كانت صلاة الظهر، وهذا دليل على أنه يستحب الإحرام عقب صلاة، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، بل مذهب الكافة من أهل العلم أنه يستحب أن يحرم عقب صلاة، وجمهور الفقهاء وعامة العلماء يرون أنه إن لم يصادف وقت صلاة استحب له أن يصلي ركعتين للإحرام، ولا بأس بذلك, والأمر فيه سعة، وهو أيضاً مذهب الجمهور من أهل العلم أنه إن لم يصادف وقت صلاة صلى ركعتين للإحرام وأحرم عقبهما، وقد تكون هاتان ركعتان للوضوء، أو لتحية المسجد، أو لما شاء الله مما له سبب.
وقد خالف في ذلك بعض أهل العلم واختار ابن تيمية رحمه الله أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، ولـابن تيمية رأي آخر كمذهب الجمهور، وأنا رأيت أن معظم من كتبوا في المناسك يلحون على هذه النقطة، وكأنها من البدع أن يصلي الإنسان ركعتين، وفي الواقع أنه وإن لم تثبت في السنة بشكل صريح إلا أن لها ما يشهد لها, والجمهور على فعلها، بل هناك ما يمكن أن يستدل به, كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك, وقل: عمرة في حجة ). فقد تكون هذه صلاة الإحرام؛ ولذلك الأمر في ذلك واسع.
( وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ). المهم هو أن يحرم الإنسان عقب صلاة فريضة أو نافلة.
قال: ( ثم ركب القصواء ). والقصواء: هي اسم لناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه دليل على تسمية الحيوانات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم له خيول وأفراس وألوان من الحيوانات، وكان لها أسماء، منها قضية القصواء, وهي التي سبقت يوماً من الأيام, فشق ذلك على الناس, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه ) أو هي التي خلأت، الأصح أنها هي التي خلأت, ( فقال الناس: خلأت القصواء في الحديبية، فقال: ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به على البيداء ). والبيداء هي الشرف .. الصحراء المواجهة لهذا الميقات أو لمسجد الشجرة.
( أهل بالتوحيد ). وفي ذلك الإشارة إلى وقت إهلال النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ذكرنا أن في إهلاله ثلاثة أقوال, منهم من قال: أهل عقب صلاته، ومنهم من قال: أهل عقب استوائه على راحلته، ومنهم من قال: أهل لما علا على البيداء وعلى شرفها، ورجحنا أن ما ذكره ابن عمر وغيره أن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما استوى على راحلته.
وقوله: ( أهل بالتوحيد ). فالإهلال بالتوحيد هو قوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فهذا معناه التوحيد، الإيمان بالله سبحانه وتعالى وعبادته.
قوله: (لبيك)، أي: إقامة بعد إقامة، وليس المقصود التثنية، وإنما المقصود التكرار, كما في قوله تعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك:3-4]. فليس المقصود (كرتين) يعني: مرتين، وإنما مرة بعد مرة، المقصود التكرار وليس التثنية، فهنا: لبيك، يعني: إجابة بعد إجابة.
والعلماء أطالوا في كلمة لبيك ومعناها، والمقصود بها: الإقامة على طاعة الله، والمقصود بالتلبية: الإجابة، وكأن هذا إجابة لدعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام, وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27]. والناس كلهم يعرفون في العربية معنى لبيك، فإذا نادى أحد أحداً فكان أجمل ما يقول له: لبيك، يعني: قد أجبتك، وهذا كاف، فإن هذه اللفظة من ألفاظ الإجابة، مثل: نعم، وبلى .. ونحو ذلك، ولا يحتاج إلى أن نتعمق في معناها اللغوي, فمعناها واضح ومباشر، أنه إجابة لله بعد إجابة، أجيبك يا رب في دعائك، فيستحضر المحرم حاجاً أو معتمراً أن الأمر هنا ليس عادة, وإنما هو إجابة لدعوة الله ودعوة رسله عليهم الصلاة والسلام.
ثم قال: ( لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد ) إن بكسر الهمزة، وهذا أحسن؛ لأن معناه الاستئناف, وإثبات أن الحمد لله عز وجل بكل حال، وأن النعمة لله، وأن الملك لله، وكذلك فتح الهمزة يجوز, لبيك أن الحمد، لكن على الفتح يضعف المعنى, ويكون المعنى: ألبيك لأن، فتكون المسألة مسألة تعليل, لبيك وأجبتك لأن الحمد لك، فنقول: لبيك إن الحمد لك أقوى وأثقل.
( استلم الركن ) والمقصود بالركن هو الحجر الأسود، وهو ركن الكعبة، فالمقصود به الحجر الأسود، ويستحب استلامه باتفاق العلماء، وكذلك تقبيله باتفاقهم، أو يستلمه بشيء ويقبل ما استلمه فيه، والسجود عليه أيضاً ثابت عن ابن عباس رضي الله عنه, وسوف يأتي له حديث.
فبدأ باستلام الركن، وهذا دليل على مشروعية استلام الركن قبل بدء الطواف، وهذا الطواف الذي بدأ فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو طواف القدوم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان قارناً، أحرم بالحج والعمرة كما ذكرنا، وطواف القدوم سنة عند الجمهور، والأطوفة كم عددها؟ كم أنواع الأطوفة؟ نمر عليها بسرعة.
- هناك طواف القدوم, هذا نوع.
وطواف الإفاضة الذي يسمى طواف الحج، ويسمى طواف الإفاضة، ويسمى طواف الزيارة، ويسمى طواف الركن، ويسمى طواف الصدر أيضاً، هذا طواف الإفاضة الذي بعد الوقوف بعرفة.
وطواف الوداع، وهو عقب الانتهاء من أعمال الحج، وليس للعمرة وداع على ما هو الراجح من قول الجماهير من أهل العلم, والحديث الذي فيه ذكر الوداع للعمرة حديث شاذ لا يثبت، فالوداع إنما يكون للحج، وكثير من أهل العلم يقولون: إن الوداع هنا هو عبادة مستقلة وليس مرتبطاً بالنسك، هذه ثلاثة أطوفة.
وطواف النافلة، كون الإنسان يتنفل في الطواف، فهذا أيضاً نوع من الطواف، وهناك طواف العمرة لم يذكر, وهو ركن في العمرة، غير طواف الحج.
لم يرد حديث مرفوع في فضل الطواف بالبيت، لكن ورد عن جمع من الصحابة: (أن من طاف بالبيت أسبوعاً فهو كعدل رقبة). وهذا أثر صحيح.
قال: ( استلم الركن, فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ). وفيه استحباب الرمل في الأطوفة الثلاثة الأولى كلها من الركن إلى الركن, رمل صلى الله عليه وسلم من الركن إلى الركن، والرمل هو مشي سريع مع تقارب الخطا، وله علة حتى يثبت لأهل مكة خلاف ما زعموه من أن الصحابة قد وهنتهم الحمى، وهذا كان في عمرة القضية، وكان يمشي ما بين الركنين، ما بين الركن اليماني والحجر الأسود.
أما في حجة الوداع فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في الأشواط الثلاثة كلها، فيكون آخر الأمرين من النبي عليه الصلاة والسلام هو الرمل في الأشواط الثلاثة كلها، وبعضهم يقول: يمشي بين الركنين -بين الركن اليماني والحجر الأسود- والأمر واسع, والأول أولى وأقوى، أن يرمل في الأشواط الثلاثة كلها، ومع الرمل هناك سنة خاصة بطواف القدوم أيضاً, الرمل خاص بطواف القدوم، وهناك سنة أخرى خاصة بطواف القدوم, وهي الاضطباع، والاضطباع: أن يظهر كتفه الأيمن، يعني: يجعل الرداء تحت إبطيه هكذا، ويظهر الكتف الأيمن, ثم يجعل طرف الرداء الآخر على كتفه الأيسر، فهذا يسمى الاضطباع, وهو أيضاً من سنة طواف القدوم.
قال: ( ومشى أربعاً ). فالطواف أسبوع, يعني: سبعة أشواط، وبالاتفاق أن الطواف ينبغي أن يستوعب الكعبة وما يسمى بالحطيم, وهو الحجر الذي إلى شمال الكعبة، فهذا أيضاً ينبغي أن يكون الطواف من ورائه، ولا يجزئه أن يطوف من داخله؛ لأنه من الكعبة.
( ثم أتى صلى الله عليه وسلم مقام إبراهيم ). ومقام إبراهيم عند الجمهور هو المقام المعروف الذي فيه قدم إبراهيم.
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل
كما قال أبو طالب .
وفيه أثر القدم إلى اليوم, وهو من آيات الله سبحانه وتعالى وعلاماته.
وقال مجاهد وجمع: إن مقام إبراهيم هو الحرم كله. والأول أصح.
( فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين )؛ وذلك لقوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]. وهاتان الركعتان تسمى ركعتا الطواف، وهما سنة عند الجمهور، وهو الصحيح.
ولذلك لو تركها فقد ترك السنة ولا شيء عليه، وذهب بعضهم إلى وجوبها، والراجح هو الأول، وكما يأتي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1], وقرأ في الركعة الثانية بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. وقال بعضهم: إن هذا مدرج على جابر , وليس من حديثه، وقد ورد قراءة هاتين السورتين.
( ثم رجع إلى الركن فاستلمه ), يعني: بعد صلاة الركعتين، وهذا دليل على أن استلام الحجر الأسود سنة حتى في غير الطواف، يعني: أن يأتي الإنسان فيستلم الحجر الأسود في غير الطواف, فهذا سنة، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه.
(فلما دنا من الصفا), قيل: إن الصفا مفرد، وقيل: إنه جمع صفاة، وفي معنى الصفاء أن يتعلم الإنسان الصفاء في عبادته, وأن تثمر العبادة صفاء قلبه، وصلاح داخله وضميره.
( فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] ). فهل هذا سنة أن يقرأ الإنسان هذه الآية إذا دنا من الصفا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها؟ قال بذلك قوم.
وقال آخرون: إن ذلك على سبيل التعليم، وهو الأقرب؛ لأنه عند المروة ذكر ذلك أيضاً, وكذلك قال هنا: ( أبدأ بما بدأ الله به ). فلا نقول: إن هذا مشروع, فالأقرب أن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعليم، وذكر الآية الكريمة, إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]. وفي الآية كلام طويل, وخلاصته: أن الله تعالى بين أنها من شعائر الله، فهي إذاً من الحج ومن العمرة، وأزال ما كان يعتقده أهل الجاهلية، ولذلك قوله: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ [البقرة:158] هذا ليس لبيان الحكم, وإنما لإزالة ما كانوا يشعرون به من التحوب والتأثم لفعل أمر كانوا يفعلونه في الجاهلية حين كانت الأصنام منصوبة عند الصفا وعند المروة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( أبدأ بما بدأ الله به ). وهذا أيضاً على سبيل التعليم, وليس على سبيل أن يقولها الإنسان، وفيه مشروعية البداءة بما بدأ الله به، وتعظيم ما عظم الله، والعناية بالقرآن الكريم، وأخذ الدروس والعبر منه، وكثير منا قد يغلب جانب العناية بالسنة النبوية على العناية بالقرآن، ولهذا كم أتمنى أن تكون الدورات دائماً تعطي حظاً أكبر للتفسير ومعرفة القرآن، وحتى في التفسير لا نعتني فقط بالإعراب والأحكام المجردة، وإنما نعتني بالمعاني العظيمة التي عليها مدار ومقاصد القرآن الكريم؛ حتى نفهم عن الله تعالى رسالته.
وفي سنن النسائي قال: ( ابدءوا بما بدأ الله به ). بلفظ الفعل، وهذه رواية شاذة، والرواية الصحيحة هي ما في مسلم هاهنا.
... (ثم قال: أبدأ بما بدأ الله به، فرقي الصفا) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رقي على الصفا, ولو طاف أو سعى من دون أن يرقى أجزأه ذلك, لكنه صعد صلى الله عليه وسلم إلى أعلى الجبل, حتى رأى البيت, هذا دليل على أنه استدار عليه الصلاة والسلام واستقبل القبلة فنظر إلى البيت, واليوم ربما يصعب رؤية البيت بسبب الأعمدة والعوازل، لكن المقصود: أن يستقبل القبلة.
( فاستقبل القبلة ) يعني: وقف على الصفا -وهذه سنة-, وفيه دليل على أن البداءة بالسعي من أين تكون؟ من الصفا. من الصفا إلى المروة سعية, ومن المروة إلى الصفا سعية أخرى؛ حتى تكتمل من ذلك سبع, ولو أنه بدأ بالمروة لكان الشوط الأول لغواً لا يعتد به, ويعتد ببدايته من الصفا؛ لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك فيه استحباب الصعود على جبل الصفا, وفيه استحباب استقبال القبلة, وفيه استحباب الوقوف طويلاً, فإنه صلى الله عليه وسلم وقف ( فوحد الله وكبره ) يعني: رفع يديه, فيه استحباب رفع اليدين وهو مستقبل القبلة على الصفا, ( فوحد الله وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده) , هذا التوحيد الآن.
ثم قال: ( أنجز وعده ) بنصر المؤمنين: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55] وأي إنجاز للوعد من أن يكون هذا الشريد الطريد الذي خرج بالأمس من مكة مطلوباً وهناك مائة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً, اليوم يأتي فاتحاً ويدخل مكة من أوسع أبوابها, ويدخل الحرم من أوسع أبوابه، والناس بالعدد الغفير من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله, كان عدد الذين حضروا حجة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة وعشرة آلاف كما ذكر ذلك العلماء, ومنهم الإمام الحاكم أبو عبد الله صاحب المستدرك , وكذلك أصحاب السير, مائة وعشرة آلاف أو مائة وعشرون ألفاً هؤلاء فقط هم الذين حجوا معه عليه الصلاة والسلام.
( ونصر عبده ) والمقصود بعبده هنا: رسوله محمد عليه الصلاة والسلام.
( وهزم الأحزاب وحده ) وكثير من العلماء قالوا: المقصود بالأحزاب: هم الذين تجمعوا على المدينة يوم الأحزاب، ونزلت فيهم السورة المعروفة بهذا الاسم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9]، وهذا صحيح, ولكن الأولى أن يقال: إن المقصود بالأحزاب: كل الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, هزم الله قريش الوثنية التي كانت تحاربه, وهزم الله الوثنيين في الجزيرة الذين حاربوه, وهزم الله اليهود الذين تحالفوا عليه, فهزم جميع الأحزاب الذين وقفوا في وجه الدعوة.
( ثم دعا ما بين ذلك ثلاث مرات ) وبعض الفقهاء يقولون: الدعاء بهذا يكون مرتين؛ لأنه هلل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. ثم دعا, ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. ثم دعا, ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. ثم انصرف.
فيكون الذكر ثلاثاً, والدعاء مرتين، وهذا واسع.
أو نقول: إنه هلل ثلاثاً ودعا ثلاثاً وختم بالدعاء ثلاث مرات, وفي ذلك استحباب تكرار الدعاء ثلاثاً, وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال كلمة قالها ثلاثاً, وإذا دعا دعا ثلاثاً.
( ثم نزل إلى المروة ) هذا هو الشوط الأول ( حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى )، وهذا كان وادياً وهو اليوم معروف بما بين العلمين الأخضرين الذي يسعى فيه, ويسمى الأبطح؛ ولذلك جاء في الحديث: ( لا يقطع الأبطح إلا شداً ) يعني: سرعة.
والسعي هنا, قال: ( انصبت قدماه في بطن الوادي سعى ) هذا سعي خاص, وإلا فالعمل كله سعي, ما بين الصفا والمروة هو سعي, لكن ما بين العلمين الأخضرين وفي الأبطح هو سعي بمعنى الركض, وهو أشد من الرمل الذي يكون في الأشواط الثلاثة، الرمل في الأشواط الثلاثة مشي مع تقارب الخطا, أما هذا فهو سعي الإنسان المجهود يعني: يركض ركضاً.
( حتى إذا صعدتا ) يعني: انتهى أو خرج من الوادي ( مشى ) صلى الله عليه وسلم مشياً معتاداً ( إلى المروة ) , وما يقوله صلى الله عليه وسلم في هذا السعي، وكذلك ما يقال في الطواف لم يرد فيه تحديد, اللهم إلا أنه ورد في الطواف ما بين الركن والحجر الأسود أنه يقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] وكذلك البداءة بـ (بسم الله), هذا ثبت عن ابن عمر، والتكبير عند الحجر الأسود هذا ثبت, وكذلك الوقوف هنا على الصفا والوقوف على المروة والتهليل والدعاء, وما سوى ذلك فإنه يقرأ القرآن أو يسبح أو يذكر الله أو يستغفر, وإن تحدث مع أحد فيما لا إثم فيه، فلا حرج في ذلك, ولهذا الأمر في ذلك واسع.
( ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى, حتى إذا صعدتا مشى إلى المروة, ففعل على المروة كما فعل على الصفا ) يعني: أنه وقف واستقبل القبلة حتى رأى البيت ثم رفع يديه, وهلل الله وسبحه وحمده, ودعا واستغفر, فعل ذلك ثلاثاً حتى اكتمل له من ذلك سبعة أطوفة, سبعة أشواط في السعي.
ومن ميزة السعي: أنه ليس بعده صلاة, بخلاف الطواف.
وكذلك من ميزة السعي: أنه ليس له نفل, بخلاف الطواف، فإن الإنسان يتنفل في الطواف بالبيت, لكن لا يتنفل بالسعي إلا السعي الواجب.
ومن ميزة السعي: أنه لا يشترط له طهارة, بخلاف الطواف فإن العلماء مختلفون في اشتراط الطهارة للطواف, منهم من ذهب إلى اشتراطه، واستدلوا بحديث عائشة : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وأنه توضأ له صلى الله عليه وسلم واغتسل.
والقول الراجح: أنه ليس شرطاً, بل وليس واجباً, وهذا مذهب أبي حنيفة، ومنقول عن جماعة من السلف, ورواية في مذهب الإمام أحمد رجحها ابن تيمية رحمه الله, وابن القيم , واختارها شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين : أن الإنسان إن كان طاف على طهارة فهو أفضل, وإن كان على غير طهارة أجزأه ذلك.
وكذلك السعي, فإن السعي لا يشترط له طهارة.
قال: (فذكر الحديث) هنا المصنف رحمه الله طوى بعض الحديث واختصره.
قال: ( وفيه: فلما كان يوم التروية ) ويوم التروية قلنا: هو اليوم الثامن، وبعده التاسع وهو عرفة , وبعده العاشر وهو النحر, وبعده الحادي عشر وهو القر, وبعده الثاني عشر وهو النفر الأول، والثالث عشر هو النفر الثاني، فهذه أسماء تلك الأيام.
( وركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بها ) يعني: بخيمته بـمنى ( الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ) وصلاته صلى الله عليه وسلم بها كانت قصراً؛ لأنه مسافر, ولكن لم يجمع عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنه صلى كل صلاة في وقتها قصراً من غير جمع.
و المسافر يستحب له القصر، ويجوز له الجمع, وإن صلى كل صلاة في وقتها إذا لم يشق عليه فذلك خير له , أما غير المسافر من المكي الذي هو من أهل مكة فالأقرب عندي -والله أعلم- أنه لا يقصر في الحج وإنما يتم؛ وذلك لأنه لا يعد مسافراً, وإنما يكون القصر للمسافر, وهذا ليس بمسافر خاصة اليوم أن منى ومزدلفة وعرفة أصبحت شديدة القرب من مكة، بل البناء شبه متصل, بل هو متصل, ولذلك فإن المكي -فيما يظهر لي- لا يتمتع بالقصر, القصر ليس له علاقة بالنسك, وهذا ما عليه جماهير أهل العلم: أن القصر لا يتعلق بالنسك وإنما يتعلق بالسفر.
والقول بأن القصر هو للنسك ذهب إليه بعض المتأخرين من المالكية، ووافقهم بعض الحنابلة على ذلك, وبعضهم أخذ بظاهر النص, لكن الأقرب عندي: أن المكي لا يقصر, وإنما يتم؛ لأنه لا يعد مسافراً.
وكذلك الحال في عرفة الذي يظهر لي أن المكي لا يقصر الآن.
قال: ( ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ) يعني: مكث صلى الله عليه وسلم بـمنى، وهذا دليل على أنه لا يدفع إلى عرفة إلا بعد طلوع الشمس استحباباً, وإلا فلو أنه لم يذهب إلى منى أصلاً وذهب إلى عرفة ابتداء أجزأه ذلك, لكن هذه هي السنة.
( حتى أتى عرفة , فوجد القبة قد ضربت له بـنمرة ) وهذا دليل على أنه لا بأس أن يخدم الكبير والعظيم والإمام وصاحب المقام, وأن ذلك لا يضير في شيء, خاصة إذا كان الذين يقومون بهذا العمل لمصالح المسلمين أو للانشغال، يَشرفون بذلك ويعتبرونها فضيلة ومزية, أو كان هذا مقابل جعل أو عطاء لهم.
( فوجد القبة قد ضربت له بـنمرة ) ونمرة هي موضع معروف, وهو الذي فيه المسجد, ويسمى مسجد نمرة, وقد وسع المسجد فأصبح بعض المسجد من عرفة وبعضه خارج عرفة , والذي يظهر لي أنه يوجد داخل المسجد معالم ولوحات ومواضع تبين ما كان من عرفة وما ليس من عرفة حتى يعلم بذلك الحاج.
( فنزل بها ) النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا هو الموضع الأول؛ لأنه نزل في عرفة عليه الصلاة والسلام في ثلاثة مواضع, الأول منها: نمرة، وكأنه منزل للارتفاق, فنزل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجلس فيه حتى زالت الشمس.
قال: ( حتى إذا زاغت ) بالغين, ومعناها: زالت الشمس وهو دخول وقت الظهر ( أمر بالقصواء ) وهي ناقته عليه الصلاة والسلام ( فرحلت له ) يعني: جهزت وضع عليها رحله ( فأتى بطن الوادي ) وهذا الوادي اسمه عرنة، وهذا أيضاً ليس من عرفة.
( فأتى بطن الوادي فخطب الناس ) وهذه الخطبة ليست خطبة الجمعة، وإنما هي خطبة خاصة بـعرفة , وخطب فيها النبي صلى الله عليه وسلم, وكان غالب ما بينه هو حقوق الناس بعضهم على بعض, في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وحقوق النساء على الرجال, والرجال على النساء مما تمس الحاجة إليه, وهذا دليل على عظم شأن هذه الأمور؛ لأنها لا تجبر بالتوبة، ولا بد فيها من رعاية حقوق العباد.
(فخطب الناس) وهذه أيضاً واحدة من ثلاث خطب خطبها النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول الإمام أحمد , أما الشافعي فيقول: واحدة من أربع خطب, فخلال حجته كلها خطب ثلاث مرات أو أربعاً, وبين فيها معالم الحج ومناسكه وأحواله, وبين فيها حقوق الناس بعضهم على بعض.
وفيها أيضاً استشهد الناس وقال: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً, وأي يوم هذا .. أي شهر هذا؟ ) إلى غير ذلك.
( ثم أذن ثم أقام ) وذلك أنه صلى الظهر ( ثم أقام فصلى العصر ) وفيه دليل على الجمع بعرفة، وفيه دليل على أن الجمع يكون بأذان واحد, وهو قول الجمهور, وفيه دليل على أن الجمع يكون بإقامتين, لكل صلاة إقامة, فصلى بها الظهر قصراً, ثم أقام فصلى العصر قصراً أيضاً ( ولم يصل بينهما شيئاً ) يعني: لم يسبح بينهما شيئاً، أي: لم يتنفل, وهذا دليل على أن المسافر ليس عليه سنن راتبة, إلا راتبة الفجر, وإلا صلاة الوتر وما تيسر من قيام الليل أو صلاة الضحى.
وذلك الجمع من أجل أن يتفرغ للذكر والعبادة, فهذا هو الموضع الثاني الذي مكث فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
( ثم ركب حتى أتى الموقف ) والمقصود بالموقف: المكان بـعرفة المخصص لوقوف النبي صلى الله عليه وسلم, وهو الذي يقف فيه الأئمة والخلفاء بعد ذلك, وهذا الموقف كما بينه قال: ( فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ) والصخرات: هي حجارة موضوعة على الأرض.
( فجعل بطن الناقة إلى الصخرات, وجعل حبل المشاة ) والحبل: هو الرمل المرتفع, وجمعه على حبال ( فجعل حبل المشاة بين يديه ).
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أصبح مستقبلاً لهذه الصخرات، وهو في الوقت ذاته مستقبل للقبلة, والسنة للإنسان أن يستقبل القبلة في دعائه وذكره في عرفة أياً ما كان.
( وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً ) وليس المقصود هنا بالوقوف الوقوف على قدميه, وإنما المقصود: الوقوف بـعرفة، حتى ولو كان جالساً أو مضطجعاً أو حتى نائماً؛ فإنه يسمى واقفاً بعرفة.
( حتى غربت الشمس ) وهو يدعو عليه الصلاة والسلام, وذلك لفضل يوم عرفة وأنه أفضل الأيام، كما في الحديث: ( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة , وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) الحديث رواه أهل السنن وأحمد وفي سنده مقال يسير.
فهذا دليل على استحباب أن يقول الإنسان هذا الذكر, وأن يدعو بما أحب من خيري الدنيا والآخرة؛ لفضل هذا اليوم، وأن الله تعالى يدنو ثم يباهي بأهل الموقف الملائكة، ويقول: ما أراد هؤلاء؟!
فجلس النبي صلى الله عليه وسلم يسبح الله ويذكره ويدعو حتى غربت الشمس, وهذا دليل على وجوب الوقوف بـعرفة , وهو ركن باتفاق العلماء؛ لـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحج عرفة ) رواه أهل السنن وأحمد وسنده صحيح , فهذا أحد أركان الحج.
يكون مضى معنا ركن الإحرام, هذا ركن, وكذلك الوقوف بـعرفة فهو ركن, والطواف بالبيت وهو ركن باتفاقهم, والسعي ركن عند بعضهم، وواجب عند قوم، وسنة عند آخرين, فهي ثلاثة أقوال في السعي.
وكل قول منها له وجه وله اعتبار, وما سوى ذلك فهي واجبات أو سنن, مثل الوقوف بـعرفة , الوقوف بـمزدلفة , والمبيت بـمزدلفة , وهما شيئان: المبيت في الليل، والوقوف بعد الفجر، فهذا أيضاً معروف أحكامه، وكذلك المبيت بـمنى , وكذلك رمي الجمرات، وكذلك طواف الوداع.
قال: ( وذهبت الصفرة قليلاً ) وهذا دليل على أنه يقف بـعرفة حتى تغيب الشمس, بحيث يكون وقف قدراً من النهار وقدراً من الليل, وإلى هذا ذهب الإمام مالك حتى رأى أنه لا يجزئه إلا ذلك, ولو دفع قبل الغروب فعليه دم، والجمهور على خلاف قول مالك رحمه الله, وأكثر الفقهاء أنه لا دم عليه.
والأقرب دليلاً: أنه إن وقف ساعة من ليل أو نهار فلا شيء عليه؛ لحديث عروة بن مضرس وغيره من الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن من وقف بليل أو نهار في عرفة أجزأه ذلك, وإن جلس حتى تغيب الشمس فهذا هو الأفضل والأحوط.
قال: ( حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً ) يعني: صفرة الشمس ( حتى غاب القرص ودفع ) صلى الله عليه وآله وسلم, والمقصود بالدفع هنا: الانصراف إلى مزدلفة : ( وقد شنق للقصواء الزمام ) والزمام: هو الحبل الذي تقاد به الناقة, وقوله: شنق، يعني: شده وجذبه إليه حتى لا تسرع ( حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ) يعني: الرحل هو ما على الناقة يجلس عليه الراكب، فيكون أحياناً أمامه شيء مثل الوسادة أو المخدة الصغيرة يضع عليه رجله إذا تعب, فكان رأس الناقة يشده النبي صلى الله عليه وسلم حتى يصيب المكان الذي يضع عليه رجله, من باب المبالغة في عدم الإسراع.
( ويقول بيده اليمنى ) عليه الصلاة والسلام يشير إلى الناس، ويقول: ( أيها الناس! السكينة السكينة ) يعني: هذا من باب الحض: اسكنوا اسكنوا! فهو منصوب على الإغراء, ينادي الناس ألا يسرعوا؛ لأن الأمر هنا: ( البر ليس بالإيضاع ) وليس بالإسراع.
( كلما أتى حبلاً )، وهو الرمل المرتفع -كما ذكرت- ( أرخى لها قليلاً ) يعني: أرخى الزمام ( حتى تصعد ).
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا [العاديات:1-5] ولكن هذا قول مرجوح, والمقصود بالجمع هنا النكرة, يعني: جمع من الناس أو من المقاتلين.
فهذه هي المزدلفة، وهي بين عرفة وبين منى , ومزدلفة موضع معروف المعالم والحدود, والمبيت بها واجب عند الأكثرين على ما اقتضته السنة، فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بذلك، وترخيصه لبعض نسائه في الدفع كما هو معروف.
( فصلى بها المغرب والعشاء ) أول ما نزل, حتى قبل أن يلقي رحله, وصلى المغرب والعشاء أيضاً ( بأذان واحد وإقامتين ) جمعاً، وقصر العشاء, كما قال: ( بأذان واحد وإقامتين, ولم يسبح بينهما شيئاً ) يعني: لم يصل بينهما راتبة.
( ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى )، يعني: نام عليه الصلاة والسلام، وهل هذا يدل على أنه لم يوتر كما قال بعضهم: إنه لا وتر في ليلة المزدلفة أو لم يقم الليل؟ هذا بعيد, والأقرب: أن هذا من مناسك الحج, وأن هذا من حالات الحياة العادية غير متصل بالنسك, ولهذا لم يذكره جابر، ونقول: إن الأمر في مزدلفة واسع, إن كان متعباً أو يريد أن يرتاح من أجل أعمال يوم النحر فهذا حسن, والوتر سنة بكل حال, وفي كل يوم وفي كل ليلة! و( الوتر حق, فمن لم يوتر فليس منا )، وأما قيام الليل فالأمر فيه واسع, وقد فعلته أسماء رضي الله عنها كما في صحيح البخاري , وصلت ساعة، ثم سألت مولاها عبد الله : هل طلع الفجر؟ فقال لها: لا, ثم صلت, فهذا معروف, والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفعلونه, والأمر فيه سعة.
( ثم اضطجع حتى طلع الفجر )، يعني: بـالمزدلفة , وصلاة الفجر في المزدلفة من خصائصها: أنها تكون في أول الوقت, كما صح في البخاري وغيره عن ابن مسعود وسواه.
وأما ظن بعضهم أنها تكون قبل دخول الوقت فهذا باطل، وليس هو مقصود الصحابة رضي الله عنهم, بعضهم يصلون الفجر بـالمزدلفة قبل الوقت بساعة أو ساعتين قبل طلوع الفجر, وهذا باطل! ولا تصح الصلاة وعليه إعادتها, ينبغي تعليم من لم يعلم؛ لأن هذا من المنكرات التي ينبغي تنبيه الناس عليها, وإنما صلى الفجر لغير ميقاتها كما قال, يعني: لغير وقتها المعتاد؛ لأنه كان يؤخر الفجر بعض الشيء, أما في مزدلفة فإنه يصليها أول ما يبزغ الفجر, يصلي ركعتين سنة، ثم يصلي صلاة الفريضة.
( فصلى الفجر حين تبين له الصبح )، ولهذا قال: ( حين تبين له الصبح )؛ دفعاً لهذا الإشكال ( بأذان وإقامة ) وقال ابن حزم : إن هذه الصلاة ركن في الحج، أن يدركها مع الإمام حتى لو لم يدركها مع الإمام فسد حجه, وهذا أيضا قول ضعيف, ولا دليل عليه.
وهذا هو المشعر الحرام الذي قال الله سبحانه وتعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] وكان جبلاً, كان المشعر جبلاً تسميه قريش: قزح, ثم أزيل هذا الجبل وبني المسجد المعروف مكانه, فيستحب للإنسان أن يصلي مع الإمام إن كان قريباً منه, أو يصلي مع جماعته صلاة الفجر في أول ما يطلع الفجر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
( ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام ) وهو المكان الذي ذكرته ( فاستقبل القبلة فدعا وكبر وهلل ) دعا الله وكبره وهلله, يعني: في هذا المكان, وهذا هو الوقوف بـمزدلفة .
إذاً: هناك المبيت بـمزدلفة , وهناك الوقوف بـمزدلفة , وهذا سنة أن يفعله الحاج.
قال: ( فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ) يعني: لم يدفع صلى الله عليه وسلم بعد الفجر مباشرة, ولا أخر الدفع حتى طلعت الشمس, وكانت العرب تدفع بعد طلوع الشمس, ويقولون: "أشرق ثبير كيما نغير" وثبير: هو أعظم جبل هناك.
فلا والذي أرسى ثبيراً مكانه
فهو جبل معروف, وهو بوجه الشمس, يعني: كأنه شمال المزدلفة , فإذا أشرق مع أول ما تطلع الشمس يشرق, أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه دفع قبل أن تشرق الشمس، أو قبيل أن تشرق الشمس حين أسفر جداً.
( فدفع قبل أن تطلع الشمس ) ولم ينقل أنه لقط الحصى من المزدلفة , وهذا دليل على أن لقط الحصى للجمار ليس له حد محدود, من مزدلفة أو من الطريق أو من أي مكان لقط الحصى أجزأه.
( حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً ) وهذا فيه استحباب الإسراع في وادي محسر, ولا دليل على أن ذلك كان موضع عذاب كما أسلفت.
قال: ( ثم سلك الطريق الوسطى ) يعني: في منى , وكأن هناك ثلاث طرق سلك النبي صلى الله عليه وسلم منها الطريق الوسطى ( التي تخرج على الجمرة الكبرى ) والجمرة الكبرى ما اسمها؟ هي جمرة العقبة، وهي التي ترمى يوم النحر, ولهذا يقولون: تحية منى يوم النحر هي رمي جمرة العقبة.
( فرماها بسبع حصيات ) وكان صلى الله عليه وسلم حين رماها أنه رماها من الوادي، فجعل منى عن يمينه, والبيت عن يساره, ثم رماها بسبع حصيات, ومن أي موضع رمى جمرة العقبة أجزأه ذلك, وهذا دليل على وجوب الرمي لفعله صلى الله عليه وسلم، وقال: ( بمثل هؤلاء فارموا )، وقال: ( خذوا عني مناسككم ) وقيل: إن الرمي سنة، وقيل: يجزئ عنه التكبير, والأول أولى وأقوى.
( فرماها بسبع حصيات ) وهو دليل على الرمي, أنه لا ينبغي أن يضع الحصى وضعاً، وإنما يرميها رمياً بيده أو بأطراف أصابعه, وأيضاً دليل على أنه ينبغي أن تكون الحصيات سبعاً, وقد ورد عن السلف وعن بعض الصحابة: أنهم كانوا يقولون: [ رمينا بسبع أو بست أو بخمس ], والأولى والأحوط: أن يرمي بسبع, كما أن الطواف سبع, والسعي بين الصفا والمروة سبع أيضاً.
( فرماها بسبع حصيات, يكبر مع كل حصاة ) ولو قال: بسم الله عند بداية الرمي فإن ذلك مشروع, وأيضاً عند بداية الرمي يتوقف عن التلبية, فإن الإنسان يلبي منذ أحرم, ويلبي في دفعه إلى عرفة , ويلبي في دفعه من عرفة إلى مزدلفة , ويلبي حتى وهو مقيم على القول المختار, أنه يلبي, ويخلط التلبية بالتكبير وبالتهليل, ولهذا قال أنس رضي الله عنه وغيره من الصحابة: [ كان يهل المهل فلا ينكر عليه, ويكبر المكبر فلا ينكر عليه ]، يعني: من الناس، منهم من كان يكبر، ومنهم من كان يلبي, يخلطون هذا بذاك.
متى يقطع التلبية؟
يقطعها قبل أن يرمي جمرة العقبة على القول المختار, وبعضهم قال: يقطعها إذا انتهى من الرمي، والأول هو الأحسن, أن يقطع التلبية قبل بدء الرمي.
قال: ( يكبر مع كل حصاة منها ) يعني: يقول: الله أكبر، ثم يرمي.
( مثل حصى الخذف ) وحصى الخذف: هو الحصى الصغار, مثل طرف الإصبع أو مثل حبة البندق, أو حبة الفول, وهو حصى الخذف الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخذف، وقال: ( إنها لا تنكأ عدواً، ولا تصيب صيداً, وإنما تفقؤ العين وتكسر السن )، يعني: الحصى الصغيرة, وقال عليه الصلاة والسلام: ( بمثل هذا فارموا وإياكم والغلو ).
إذاً: بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالرمي ثم انتقل إلى النحر, وهذه هي السنة، أن يبدأ بالرمي، ثم النحر، ثم الحلق أو التقصير، ثم الطواف بالبيت, هذه أعمال يوم العيد، مرتبة: الرمي، ثم النحر, ثم الحلق، ثم الطواف. هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم, وأما من قدم أو أخر فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لا يسأل عن شيء قدم ولا أخر ذلك اليوم إلا قال: ( افعل ولا حرج, افعل ولا حرج ), كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عنده مائة ناقة, نحر طائفة منها وأعطى علياً فنحر ما غبر نحواً من بضع وستين ناقة, أهداها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين, وقال بعضهم: إن ثلاثاً وستين مناسبة لعمره عليه الصلاة والسلام, فإنه عمّر ثلاثاً وستين سنة, ويوم قبض عليه الصلاة والسلام كان عمره كذلك.
فهذه النوق بعدد سنوات عمره عليه الصلاة والسلام، كأنه أهدى عن كل سنة ناقة.
( ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت ) والمقصود بأفاض: يعني: ذهب, والإفاضة هو كما قال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] وقال: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] أي: ذهب إلى البيت وذلك لطواف الحج, وهو ركن بالاتفاق كما ذكرنا, وقلنا: إن من أسمائه أنه: طواف الحج, وطواف الركن, وطواف الزيارة, وطواف الإفاضة, وطواف الصدر.
فهذا هو الطواف الذي يكون بعد الوقوف بـعرفة اتفاقاً, لا يكون إلا بعد الوقوف بـعرفة وهو ركن من أركان الحج، يكون يوم النحر, ويبدأ وقت الطواف من منتصف ليلة مزدلفة على القول المختار, يعني: لو أنه دفع من مزدلفة فإن النبي عليه الصلاة والسلام رخص لبعض أزواجه في الدفع من مزدلفة كما رخص لـسودة وكانت امرأة ثبطة, يعني: ثقيلة, وعائشة رضي الله عنها تمنت أن تكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرخص لها.
فنقول: يبدأ وقت الطواف من منتصف الليل, وكذلك وقت الرمي للمتعجل يبدأ من منتصف الليل, فلو أنه دفع من مزدلفة مثل الصغار والنساء والضعفة والكبار ومن في حكمهم, بل في هذا الزمان بسبب الزحام كثير من الناس يشق عليه الأمر؛ فإنه متى وصل إلى الجمرة رماها, هذا هو القول الصحيح. وسوف يأتي مزيد تفصيل له، وكذلك الطواف, متى وصل إلى البيت طاف.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه طاف بعدما رمى الجمرة: ( فأفاض إلى البيت فصلى بـمكة الظهر )، وفي الرواية الأخرى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بـمنى، وهذا مختلف فيه, فقال بعضهم: إن الراجح هو ما ذكره جابر , وقال بعضهم: الراجح ما ذكره ابن عمر , وتكلف بعضهم الجمع بينهما, فقال: إنه صلى بـمكة الظهر ثم أعادها بـمنى من أجل الناس, وهذا بعيد والله أعلم.
ما شاء الله خلصنا الحديث! طبعاً بقي للحديث بقية طويلة, حديث جابر , إنما نحيلكم على الكتب التي ذكرناها, وأيضاً سوف يأتي مقاطع ذكرها المصنف رحمه الله تعالى.
قال: ( فصلى بـمكة الظهر ) رواه مسلم مطولاً.
وهو حديث جابر المشهور.
وهو حديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة, واستعاذ برحمته من النار ). وهذا الحديث يقول المصنف: رواه الشافعي بإسناد ضعيف.
وهذا من الجهل في الواقع؛ لأن العلم خير من الجهل, يعني: كون الإنسان يعرف أن هذا الحديث ضعيف هذا من العلم، وقد صنف العلماء في الأحاديث الضعاف, حتى تعرف سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يدخل فيها ما ليس منها , هذا الحديث يقول المصنف: رواه الشافعي، والشافعي رواه في مسنده في المناسك, وأيضاً رواه الدارقطني في سننه والبيهقي في سننه أيضاً, والطبراني في معجمه .
وأما سبب ضعف الحديث: فأما إسناد الشافعي نفسه رحمه الله، فإن سبب ضعفه هو شيخ الشافعي وهو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى , والشافعي أحياناً لا يسميه، بل يقول: حدثنا الثقة, وهو شيخه, معروف بأنه شيخ الشافعي , وهذا قالوا: كذاب. وقال بعضهم: تالف. وقال بعضهم: متروك. وأنا أظن أنه شديد الضعف؛ لأن الشافعي رحمه الله صاحب فراسة وعلم, وهو شيخه, فلا أظن أنه يروي ويقول: الثقة والرجل كذاب, ولكن يبدو أنه شديد الضعف جداً؛ ولذلك لا يؤخذ بروايته , ولكن للحديث طرق أخرى ليس فيها إبراهيم بن محمد مثل رواية الدارقطني والبيهقي , ولكن فيها أيضاً راو آخر اسمه: صالح بن محمد بن زائدة المدني , وقد ضعفه الأئمة ؛ ولذلك فإن هذا الحديث ضعيف، حديث خزيمة بن ثابت .
قيل: إنه شهد بدراً , وقيل: كانت أحد أول مشاهده، وهذا الذي رجحه الإمام الذهبي رحمه الله تعالى, وخزيمة بن ثابت يعرف بقصص, منها: قصة ذي الشهادتين, أنه شهد للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة الشاة التي باعها, فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين.
ومن الطريف أيضاً أن أبا بكر الصديق لما أمر زيد بن ثابت بجمع القرآن، قال: إن آية من القرآن الكريم وهي قول الله تعالى في سورة الأحزاب: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23] يقول: هذه الآية كان يحفظها ويسمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم, ولكن كان لا يثبت الآية في المصحف حتى يجدها مكتوبة.
قال: فلم أجد هذه الآية إلا عند خزيمة بن ثابت ؛ فأعطاه إياها وأراه إياها, وتذكر زيد أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين, فكأنه وجد هذه الآية عند رجلين من الصحابة رضي الله عنهم, فهذه أيضاً من خصائص خزيمة بن ثابت .
وقد كان خزيمة من أصحاب علي بن أبي طالب , ومن الجميل أنه كان معه ولا يقاتل, حتى قتل عمار بن ياسر فجرد سيفه وقاتل, وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ويح عمار
أن الشافعي يستحب ذلك الدعاء أن يختم به التلبية؛ استئناساً بحديث الباب، وحديث الباب لا يصح.
وهو حديث جابر رضي الله عنه، وهو جزء من حديثنا الطويل كما ذكرنا قبل قليل.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر, فانحروا في رحالكم, ووقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف, ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف )، والحديث يقول: رواه مسلم .
فأولاً: المصنف روى ذلك في كتاب الحج, وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وعرفة كلها موقف ).
وكذلك رواه أبو عوانة وأبو داود , أبو داود روى حديث جابر الطويل بنحو سياق مسلم , ورواه ابن ماجه في سننه , والبيهقي , وهو جزء من الحديث الطويل كما ذكرت.
ويقول أهل العلم: إن هذه الجبال ما كان مقبلاً منها على منى فهو من منى , والجهة الأخرى ليست من الحرم.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( هاهنا ) اسم ظرف مكان, يعني: (هنا), الهاء قد تكون للتنبيه, وهنا: هو ظرف للمكان الذي كان واقفاً فيه عليه الصلاة والسلام.
( وجمع كلها موقف ) جمع هي مزدلفة كما ذكرت, فهي من أسمائها: جمع , والمزدلفة والمشعر الحرام .
عرفة من الحل, ولهذا لا يجوز أن يذبح فيها هديه, وحكى بعضهم الاتفاق على هذا.
والواقع: أنه ليس هناك اتفاق, لكن عند الجماهير من أهل العلم, وإلا النووي حكى الاتفاق على أن ذلك لا يجزئ.
إذاً: ذبح الهدي أو نحره يكون في الحرم كله, إما بـمنى أو بـمكة أو حتى مزدلفة ؛ لأنها من الحرم أيضاً, وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وابن حزم وهو مذهب الجمهور.
واستدلوا بحديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر )، وكذلك اللفظ الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وكل فجاج مكة طريق ومنحر )، والمقصود فجاج مكة يعني: مكة كلها؛ لأن مكة كلها فجاج, يعني: طرق, فكأنه يقول: كل مكة وكل الحرم طريق ومنحر.
والقول الثاني: أنه لا يجوز للحاج النحر أو الذبح إلا في منى , لا يجوز للحاج أن ينحر أو يذبح إلا في منى , وهذا قول مالك رحمه الله, واستدل أيضاً بالحديث نفسه, والراجح هو قول الجمهور: أنه يجوز الذبح في الحرم كله, وكذلك النحر.
عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها, وخرج من أسفلها ) متفق عليه.
هذا ما يتعلق بتخريجه.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فـالثنية العليا هي ثنية الحجون، وتسمى كَداء، بفتح الكاف, ولذلك يقولون: افتح وادخل, افتح الكاف وادخل, كَداء, وضم الكاف كُداء واخرج!
إذاً: الدخول يكون من ثنية الحجون وهو قريب مما يسمى بـالزاهر أو آبار الزاهر، وأما الخروج من مكة فهو من أسفلها, ولهذا قالت رضي الله عنها: ( وخرج من أسفلها ) وهو يسمى عند أهل مكة بالمسفلة.
وأنتم مكاوية، أنتم أدرى، يعني نحن كبائعي التمر إلى هجر, يعني: نعلمكم ما أنتم أهله.
فالثنية السفلى أيضاً تسمى الآن المسفلة، وأحياناً يقولون لها: كُداء أو كُدي، وذلك بالضم كما ذكرت.
قال بعضهم: إن أبا سفيان كان يقول: لا أسلم حتى أرى الخيل تدخل من كَداء , فهذا الكلام لا يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من أجل قول أبي سفيان , لكن هذا يفسر سر اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المكان: أن هذا المكان كأنه وجه مكة , فالدخول فيها لا يدخل مستخفياً, وإنما دخل مكة من أوسع أبوابها, دخل مكة من الثنية العليا من أعلاها, وهذا أيضاً فيه تفاؤل بالرفعة والعلو, والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التفاؤل.
وأيضاً فيه تحديد ما جاء من أجله, فإن الذي يدخل من الثنية العليا الذي يدخل من كَداء يكون أمامه تماماً باب بني شيبة فيدخله, والباب اختفى الآن مع التوسعة, لكن الداخل من باب بني شيبة يكون داخل من الجهة الشرقية مقابل الباب, باب الكعبة, فإذا دخل يكون الحجر الأسود أمامه, وباب الكعبة أمامه, ولهذا يكون هذا وجه الكعبة, بخلاف الخروج، خرج من الجهة الأخرى التي في ظهر الكعبة, وهي التي تسمى الثنية السفلى .
فهذا هو المناسب لـ:
أولاً: الدخول المعزز المكرم، والمناسب للتفاؤل, هو المناسب للمقصد الذي جاء من أجله لدخول البيت، وأنه أول ما يأتي يستلم الحجر الأسود كما ذكرنا.
وقيل: إن دخوله ذلك؛ لأن هذا المكان أسمح لدخوله وخروجه, وقد قال بهذا بعض أهل العلم, ولذلك نقول: إن الأمر متوقف على سنية هذا الأمر, فإذا قلنا: إن هذا دخله لأنه أسمح كان ذلك مباحاً, يدخل الإنسان من أي مكان, وفي ذلك توسعة على الحاج, ولكن الأولى أن نقول: إن من جاء من طريق المدينة المنورة، فالأفضل في حقه: أن يدخل من الثنية العليا , وأما من جاء من الجهات الأخرى فلا يتكلف ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر من أحرموا من المواقيت الأخرى من يلملم أو من غيرها أن يأتوا إلى هذا المكان.
عن ابن عمر رضي الله عنه: ( أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بـذي طوى حتى يصبح ويغتسل, ويذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) والحديث متفق عليه.
والأمر في ذلك واسع.
عن ابن عباس رضي الله عنه: (أنه كان يقبل الحجر الأسود ويسجد عليه) رواه الحاكم مرفوعاً والبيهقي موقوفاً.
الحصة هذه كلمة جزائرية، يعني: دائماً ما هو بلازم حصة دراسية!
والحاكم روى هذا الحديث، وقال: حديث صحيح الإسناد على شرطهما ولم يخرجاه, والبيهقي أخرجه أيضاً في كتاب الصلاة, وقد أخرجه ابن خزيمة , والدارمي , ولا يصح الحديث مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم, كما في رواية الحاكم يعني: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل الحجر ويسجد عليه ) وإنما الصحيح أنه من فعل ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه, فهذا الصحيح, وهو ما رواه البيهقي .
إذاً: نقول: هذا الحديث صحيح موقوفاً على ابن عباس , وليس مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام, فالمرفوع منكر.
نحن الآن نتكلم عن الحجر الأسود، أما تقبيله بالاتفاق, واستلامه بالاتفاق, أما الركن اليماني فهو الركن الآخر في الجهة الأخرى من الكعبة, وقد اختلف فيه أهل العلم اختلافاً كثيراً, خلاصته: أن منهم من يرى أنه يستلمه بيده ولا يقبله, وهذا مذهب الجمهور: الشافعي ومالك وأحمد , ومنهم من يقول: لا يستلمه أصلاً, وهذا مذهب أبي حنيفة , وقد نقل عن بعضهم تقبيله أيضاً.
ولهذا أقول: أن يتعلم الإنسان هذه الأحكام ويعمل بها فهذا حسن, لكن فيما يتعلق بالإنكار على الآخرين على الإنسان أن يكون متأنياً, فإني رأيت كثيراً من الشباب يتعلم شيئاً ثم يبتلي ويمتحن به الحجاج والمعتمرين الذين عندهم أقوال أخرى وعندهم حجج, وعندهم روايات مثل من يكون يتعلق بالكعبة, لا شك أن الملتزم ما بين الركن والباب هو المشروع, والمنقول عن السلف, وقد جاء فيه حديثان عند أبي داود وكلاهما ضعيف, وبعضهم جبر الأحاديث بعضها ببعض, وبعضهم يقول: لا تصح! لكن ثابت عن السلف أنهم كانوا يلتزمون, يعني: يلصقون أجسادهم بما بين الحجر الأسود والباب ليس غيره.
ولكن لو أن أحداً تعلق بأستار الكعبة أو التزم بها فهذا فيه أقوال, وقد ذكرها ابن أبي شيبة صاحب المصنف وغيره عن بعض السلف, فيعلم الناس برفق, إذا كان هناك مجال للتعليم, أما النهر والزجر الشديد والجرجرة التي تقع من بعض الشباب أنه يتلّون الحجيج تلاً, أو يدفعونهم دفعاً, فهذا هو الذي يحتاج إلى إنكار؛ لأن الحجيج لا يعرفونك, ولا يثقون بعلمك, وقد يكونون قد قلدوا من يثقون بدينه, وهذه حجة لهم فيما بينهم وبين الله بحسب وسعهم واستطاعتهم.
فإذا استطاع الإنسان أن يعلم برفق وأدب وحكمة وعلم وصبر وكان أهلاً لذلك فحسن, أما ما يقع من بعض الشباب فهو في الحقيقة يجرح النفس, ويؤذي, أنك تقدم قدوة حسنة لهؤلاء الناس بدلاً من أن تقدم الأسلوب الخشن الذي ينفرهم منك ومما تحمل، وربما يكون سبباً في الحيلولة بينهم وبين الخير الموجود عندك.
هنا الجمع بين السنة والاتباع, وتعظيم المعالم والمشاعر الربانية, وبين الوحدانية في العبودية لله سبحانه وتعالى, لا يتحول الأمر إلى إهمال لهذه المناسك والمشاعر والمعالم الربانية بحجة التجرد, ولا يتحول إلى أن نعطيها شيئاً من العبادة كما يقع لبعض الجاهلين.
وفيه السجود على الحجر كما نقلته عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.
سبحانك اللهم وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت, نستغفرك ونتوب إليك.
بهذا نكون إن شاء الله أتينا على الخير الكثير الطيب.
غداً وبعد غد سنأخذ كتاب الحج كاملاً، لم يبق فيه إلا القليل بفضل الله تعالى وحمده, ثم بصبركم واحتمالكم ومشورتكم أيضاً.
الجواب: إذا حمله يكفي طوافه عن نفسه وعن الصبي.
الجواب: الأولى أن يذهب إلى ميقاته ويحرم منه.
الجواب: هذا لا بأس, مجيئه إلى مكة الأول من غير نية لا يجب عليه الإحرام، فإذا خرج إلى الطائف وأراد العودة مرة أخرى وجب عليه الإحرام المرة الثانية.
الجواب: نعم. عليهم ألا يكثروا الحج ما داموا أدوا الفريضة، وأن يدعوا المجال لغيرهم خاصة في هذا العام, وقد ذكرت لكم المخاطر الصحية التي تعترض الحاج.
الجواب: الطواف نفل مستحب كما ذكرت وفيه فضيلة, لكن إذا كان يؤذي الحجاج أو يضيق عليهم فعلى الإنسان أن يتبرع بهذه النية، ومن نوى فله ما نوى, ويترك المكان لمن هم أحوج إليه.
الجواب: هذا سؤال لطيف ووجيه جداً, ونقول: نعم. الأفضل له أن يسوق الهدي كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام, والسوق يكون من الحل.
الجواب: هذه المسألة فيها كلام, ولعله يأتي لها مناسبة إن شاء الله تعالى.
الجواب: الخف: هو ما نسميه نحن بالكنادر التي تغطي الرجل, أما النعل فهي ما دون ذلك.
الجواب: الآفاقي ذكرنا أنه لابد أن يحرم من الميقات, إلا أن يكون نوى الحج، وطبعاً يحرم إذا كان قد اعتمر ثم جاء فإنه يحرم يوم التروية بالحج من المكان الذي هو فيه, من منى أو غيرها.
الجواب: لا. لا يعتبرون من أهل مكة ما داموا استقدموا, فإن أحرموا بالعمرة في أشهر الحج, ثم تحللوا ثم أرادوا الحج فهنا تكون زوجتك متمتعة وعليها دم التمتع.
الجواب: نعم. أنه يستلم الحجر الأسود, ويجوز أن يسجد عليه, يعني: يضع عليه رأسه ووجهه بنية السجود.
الجواب: لا يجوز أكله.
الجواب: هذه مسألة تعتمد على قوة الحفظ وقوة المعرفة والعلم وقوة الاستنباط والجهد, فإن بعض الطلبة يقول: أنا حضرت رسالة الماجستير في أربع سنوات, ولو حسبت الوقت الذي قضاه في الرسالة تجده بضعة أشهر فقط, لكنه يكون قد توسع.
الجواب: المسألة فيها كلام طويل, والعباس رضي الله عنه ذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستقر بها, وما ذكرته هو الراجح عندي الآن, خاصة بعدما اتصل البنيان.
الجواب: نعم. كلما أتى الصفا أو المروة وقف ودعا.
الجواب: الحكمة من الاضطباع هو إظهار القوة، ويضطبع في الأشواط السبعة كلها, إلا أنه إذا أراد أن يصلي ركعتي الطواف عَدَّل حتى يغطي عاتقه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر