إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
وهذا هو الدرس (172) من أمالي شرح بلوغ المرام .
وهذا يوم الخميس: 29/ربيع الثاني/ 1425هـ.
هذا الدرس يأتي ضمن الدورة العلمية المكثفة التي ينظمها مكتب الدعوة ببريدة، جزى الله القائمين عليها خيراً، في جامع الراجحي ببريدة.
الحمد لله في الذين كانوا يحضرون هذه الدروس خير، إخوة أصبحوا أساتذة في الجامعة، وأناس ربما صاروا في مناطق أخرى، ولكن يظل دائماً وأبداً المهم هو الاستمرار والدأب والمواصلة، ولذلك أنا من طريقتي الحرص على الاستمرار في الأشياء؛ لأني أرى أن هذا هو الذي يعطي نتيجة.
حضرت في الرياض قبل خمس عشرة سنة درساً لأحد الأعلام المشهورين من الأدباء، وكان يريد أن يشرح صحيح البخاري فبدأ في بدء الوحي، باب بدء الوحي وبدو الوحي وما يتعلق به، وأبحاث لغوية وأسلوبية وكلام جميل وممتع، والمسجد كان مكتظاً بالحضور، أنا حضرت البداية بمناسبة كوني في الرياض، لكن ما لبث الدرس أن انقطع، ربما شهور وانقطع الدرس.
وانقطاع الدروس، وانقطاع البرامج العلمية أحياناً يكون بسبب الحضور الذين يحضرون في البداية بقصد الاستطلاع، أو ظانين أن العلم يمكن تحصيله بيسر وسهولة، فيجدون أن الأمر يتطلب نوعاً من الصبر والمجاهدة، يعني: ينسون أن الأمر يتطلب نوعاً من الصبر والمجاهدة، ولهذا ربنا سبحانه يقول: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28].
وأحياناً يكون الانقطاع من الشيخ الذي إما يبدأ بداية قوية جداً ثم لا يستطيع المواصلة، أو يكون بطبيعته ملولاً فسرعان ما يغير، ولذلك أنا لا أكتمك الحديث أنني أشعر بأن مثل هذا الدرس درس البلوغ على وجه الخصوص، وكذلك درس التفسير، يعني: درس التفسير ربما أكثر فائدة وأكثر متعة، وفي نظري أنه يخاطب شريحة أعرض من الناس، ولا يوجد الكثير من الأشياء التي يمكن أن تغني عن الدروس في هذا الباب في تفسير القرآن، لكن فيما يتعلق بالحديث هناك دروس كثيرة وكتب كثيرة وشروحات وأبحاث ومشايخ وعلماء، ولكن كان من همي في المواصلة:
أولاً: وجود كتاب في شرح بلوغ المرام يكون متكاملاً؛ لأني لا أعلم كتاباً يصلح شرحاً لهذا الكتاب، وفيه تكامل في كل المباحث والمسائل والقضايا العلمية وغيرها.
وكذلك أن الإنسان بدأ في شيء يقول: أريد أن أتمه، يكون هناك مشروع علمي، أولاً: يستفيد الإنسان منه بكثرة مراجعة المسائل والتأكد منها، وأيضاً: يفيد الآخرين بتقديم ما لديه في مثل هذه القضايا.
فأنا أشعر أن هذا الدرس يعوقني عن كثير من الأشياء، يعني: الإنسان لا يسافر، بل إنه يعتذر عن أمور أنا أقول بصراحة: أنها في ميزاني الآن أهم؛ لأن فائدتها أعم وأوسع نفعاً، ولكن الإنسان يعتذر حفاظاً على استمرارية العطاء في مثل هذا الجانب.
عندنا اليوم طبعاً ضمن الجمعة، بالأمس شرحنا الجمعة ومعنا كلمة (جمعة)، واشتقاقها، وفضائل يوم الجمعة، وخصائص يوم الجمعة، وأحكام يوم الجمعة، والوعيد الشديد على من تخلف عن الجمعة، ثم شرحنا أيضاً مسألة أخرى وهي وقت صلاة الجمعة، وذكرنا أن للعلماء في هذه المسألة قولين:
الجمهور يرون أنها بعد الزوال.
والقول الثاني: قول الحنابلة، ونسب إلى جماعة من السلف وبعض الصحابة أنها قبل، يعني: قبل الزوال أو بعده، ورجحنا القول الأول، وأشرنا إلى أنه مع الترجيح يظل القول الثاني الذي هو قول الحنابلة له حظ من النظر والاعتبار.
وبعض الإخوة سألوني: إذا رجحنا القول الأول يعني: لماذا لا يكون القول الثاني معتبراً؟
فأقول لهؤلاء الإخوة: يعني: بإمكاني الآن أن أعيد الدرس، وأرجح قول الحنابلة وأسرد من النصوص والأدلة والآثار وأقوال السلف وأقوال أهل العلم ما يجعل الإنسان يعيد النظر يقول: لا، قول الحنابلة هو الراجح! فهكذا المسائل الفرعية دائماً هذا شأنها، يعني: المسألة ليس فيها خطأ وصواب، وإنما قصارى الأمر أن فيها راجحاً ومرجوحاً، وما هو راجح عندك فهو مرجوح عند غيرك.
فينبغي أن نأخذ المسائل الفرعية بهدوء حتى حينما ترجح، يعني: أنا أقول هذا الكلام بمناسبة سؤال الأخ، وبمناسبة أني أيضاً أعدت اليوم قراءة كلام الحافظ ابن رجب الحنبلي، وهو حنبلي، ومال إلى المذهب، فكلامه في فتح الباري شرح صحيح البخاري لـابن رجب، فوجدت أن له كلاماً متيناً في هذه المسألة، فهذا يوجب للإنسان أنه وإن رجح، إلا أنه عليه أيضاً أن لا يلغي النظر إلى الأقوال الأخرى.
وهكذا أيضاً وقفنا على حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وخلصنا من حديث سلمة بن الأكوع فيما يتعلق بوقت صلاة الجمعة كما ذكرت لكم.
الحديث الأول: حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: ( ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة )، متفق عليه واللفظ لـمسلم.
وترجمة البخاري هنا واضحة؛ لأن سهلاً قال: (نقيل ونتغدى بعد الجمعة)، فهذا من الانتشار في الأرض، وهكذا أخرجه البخاري أيضاً في موضع آخر في باب الاستئذان، باب تسليم الرجال على النساء، وساقه بأطول مما هاهنا عن سهل رضي الله عنه أنه قال: ( كنا نفرح يوم الجمعة، فقيل له: لم؟ -لماذا تفرحون؟- قال: كانت لنا عجوز، -وكأن هذه العجوز من الأنصار- فكنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسلت هي إلى بضاعة، -بضم الباء، وهو حقل أو زرع أو بستان لهم- فجاءت بأصول السلق ووضعته على النار في القدر، ووضعت عليه شيئاً من الشعير ثم طبخته وصنعته لهم مرقاً فأكلوا، فسلموا على العجوز وأكلوا من هذا السلق، فلذلك يقول: كنا نفرح من هذا، ولم نكن نتغدى ولا نقيل إلا بعد الجمعة ).
وأيضاً رواه ابن ماجه في كتاب إقام الصلاة، باب ما جاء في وقت الجمعة، والدارقطني والبيهقي والطبراني وغيرهم .
أولاً: سهل بن سعد رضي الله عنه هو: أبو العباس، هذه كنيته، سهل بن سعد الساعدي، وهو من سادات الأنصار وأصغرهم سناً، فقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الخامسة عشرة من عمره، وتتعجب من روايات الصحابة رضي الله عنهم كيف كانت رجولتهم مبكرة؛ بسبب علو الهمة ونظافة المجتمع، والارتقاء بمعاني التربية عندهم، فانظر كيف كان يتحدث ويخبر عن نفسه وعن جماعته من الأنصار ومن المسلمين.
وقد توفي سهل بن سعد رضي الله عنه فيما أحسب في المدينة سنة (71)، وقيل: توفي سنة (88)، وهو من آخر الصحابة بـالمدينة موتاً، وله روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
(قالوا له: ولم؟ قال: كانت لنا عجوز)، وهذه العجوز أظنها أنصارية؛ لقوله: (كانت لنا عجوز)، وإن كان العلماء الذين صنفوا في المبهمات لم يذكروا لها اسماً، بل قال الحافظ ابن حجر في الفتح : لم أقف على اسمها.
(وكانت ترسل إلى بضاعة)، وبضاعة بضم الباء هي: بئر، والبئر غالباً ما تكون مرتبطة بمزرعة، وبضاعة مرت معنا في أول شرح البلوغ في باب المياه، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بئر بضاعة، وهي بئر كان يلقى بها النتن والحيض ولحوم الكلاب، ( فسئل عن مائها فقال صلى الله عليه وسلم: الماء طهور لا ينجسه شيء ).
قال ابن سلمة الراوي: إن بضاعة هذه نخل أو مزرعة أو حقل أو بئر بـالمدينة.
(فتأخذ من أصول السلق)، وهو من النبات المعروف عند الناس من مثل صغار القرع أو الدباء أو نحوها.
فتضعه في القدر وتضع معه شيئاً قليلاً من الشعير، فإذا صلوا الجمعة جاءوا إلى هذه العجوز فسلموا عليها؛ ولذلك بوب البخاري على هذا الحديث في الاستئذان بالسلام -سلام الرجال على النساء- فيفرحون من أجل ذلك.
قال: (وما كنا نقيل) كما قال المصنف هنا، يعني: (نقيل) من القيلولة، والقيلولة: هي الاستراحة وسط النهار، سواءً كان معها نوم -وهو الغالب- أو لم يكن، فالقيلولة هي: الراحة في وسط النهار.
(ولا نتغدى)، والغداء: هو الأكل أيضاً الذي يكون في وسط النهار.
(إلا بعد الجمعة) أي: بعد صلاة الجمعة.
سهلاً
رضي الله عنه أراد أن يقول: إنه يوم الجمعة ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة استثناءً، فكانوا يتأخرون ثم لا يمكثون في المسجد، وإنما إذا صلوا الجمعة كما أمرهم الله انتشروا في الأرض، وقالوا وتغدوا. فليس هذا دليلاً على تقديم صلاة الجمعة، والاستدلال به لا يخلو من ضعف؛ لأنه ليس صريحاً في هذه المسألة، لكن نقول: الفائدة الأولى: أنه حجة لمن قالوا بأن وقت صلاة الجمعة يكون قبل الزوال. وفي قوله: (كنا نفرح يوم الجمعة)، إشارة إلى أن فرح الفقير بالرزق أو بالعطاء أو بالخير لا ينافي الصبر والرضا، فهو من الفرح بفضل الله تعالى وخيره ورحمته. وفيه: جواز سلام الرجال على النساء كما كان الأنصار يفعلونه، حيث كانوا يأتون إلى هذه المرأة العجوز ويسلمون عليها. وفيه: استحباب الانتشار بعد الجمعة خلافاً لمن قال: إن السنة البقاء بعد صلاة الجمعة لانتظار صلاة العصر، بل في الآية الكريمة: (( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ ))[الجمعة:10]، ولذلكالبخاري
رحمه الله وضع هذا الحديث في كتاب الجمعة باب قول الله تعالى: (( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ ))[الجمعة:10]، إشارة إلى أن السنة أن الإنسان بعد صلاة الجمعة يخرج من المسجد وينتشر في الأرض ويبتغي من فضل الله. وقد كان بعض السلف إذا خرج من المسجد قال: [ اللهم إني قد سعيت إلى ذكرك كما أمرتني، ثم انتشرت كما أذنت لي، فارزقني من صالح فضلك ]، إشارة إلى قوله تعالى: (( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ))[الجمعة:9-10]. ومن فوائد الحديث أيضاً: القيلولة هنا مسكوت عنها، يعني: هي عادة، وهي عادة حسنة، وقد يقال باستحبابها؛ لأنها تعين على قيام الليل وعلى هدوء النفس وما أشبه ذلك. وأيضاً من الفوائد: إذا قلنا: قبل الزوال، هذا قول الحنابلة، يكون حكمها حكم صلاة العيد، يعني: يصليها بعد ارتفاع الشمس أو الضحى، وبعضهم يقول: في الساعة الأخيرة من الزوال، بل نقل بعض الحنابلة قولاً شاذاً: أن له أداءها بعد الفجر، وهذا من شذوذات الأقوال الفقهية التي يحمل عليها أحياناً الالتزام بقوله، وإلا ما معنى أن صلاة الجمعة تؤدى بعد صلاة الفجر، يعني: قبل طلوع الشمس؟ هذا القول في غاية النكارة والشذوذ، وإن كان قال به بعض الحنابلة، لكن أعتقد أن هذا القول ينبغي اطراحه وإهماله؛ لأنه ليس قولاً معروفاً، ولا يعرف فيما أحسب من الأئمة من قال به. ومن الفوائد: سلامهم باللسان وليس بالمصافحة، والسلام عام، باب سلام الرجال على النساء، وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عليهن، لكنه يعني: السلام الذي ليس فيه ريبة. لكن لو خشي الإنسان الفتنة من أخته ألا يجب عليه الامتناع عنها؟ بلى. لا يجوز له أن ينظر إليها إذا خشي الفتنة على نفسه، فالفتنة إذا دخلت في شيء أفسدته، لكن دعوا الأمر بالأصل العام الذي ليس فيه فتنة، وهذا هو الذي يعمل به الإنسان، يعني: لو أن الإنسان ذهب إلى مكان فيه رجال أو فيه نساء أو فيه رجال ونساء، كالمستشفى مثلاً أو أي إدارة أو جهة معينة، وألقى السلام، فهذا ليس له بأس، والسلام في الأصل ليس فيه فتنة؛ لأن ربنا سبحانه يقول: (( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ))[الأحزاب:32]، ويقول: (( وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ))[الأحزاب:32]، فهذا القول من القول المعروف وهو السلام، وإنما الفتنة تكون بالكلام الذي فيه تثن وتوسع وتكسر وإثارة وعواطف وما أشبه ذلك.والمصنف رحمه الله -الذي هو الحافظ ابن حجر كما تعرفون- قد شرح صحيح البخاري، وشرح هذا الحديث في الموضعين، ومع ذلك لم يشر في الموضع هذا إلى أن الحديث رواه البخاري، فينظر ما هو السبب في ذلك، قد يكون هذا سبق قلم، وقد يكون بسبب النساخ أو النقلة، وقد يكون غفلة، والإنسان يعرض له مثل هذا، وإلا فالمصنف شرح الحديثين كما ذكرت في صحيح البخاري، وفي الموضعين المشار إليهما: في كتاب الجمعة، وفي كتاب البيوع.
ورواه مسلم أيضاً في كتاب الجمعة، باب في قول الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة:11].
ورواه ابن خزيمة وابن حبان وابن أبي شيبة والبيهقي وأبو يعلى وغيرهم في مواضعه.
قوله رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً )، المقصود بذلك: خطبة الجمعة كما دلت عليه مجمل الروايات، وكما دل عليه أيضاً القرآن الكريم في عتاب الله تعالى للذين آمنوا.
وقوله: ( فجاءت عير من الشام )، العير: بكسر العين وسكون الياء، هي قافلة من الإبل أو غيرها، بخلاف العَير بفتح العين، فهو الحمار، وأما العِير فهي: الإبل، والمقصود هنا: القافلة.
قوله رضي الله عنه: ( فجاءت عير من الشام )، هذه العير هي عبارة عن بضائع قيل: إنها لـعبد الرحمن بن عوف، وهذا هو المشهور، وقيل: لـدحية بن خليفة الكلبي، ويحتمل أن يكون دحية بن خليفة الكلبي مباضعاً لـعبد الرحمن بن عوف، أو أن بينهما نوعاً من المضاربة، وقيل: إنها لغيرهم.
وقوله: ( فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها )، (انفتل الناس) هكذا.
وفي رواية: ( التفت الناس إليها )، وهي عند البخاري .
وفي القرآن الكريم: انفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة:11].
ومجموع الألفاظ الثلاثة يدل على أنهم خرجوا إليها، يعني: قاموا من المسجد وخرجوا إلى العير، وإلى التجارة، وليس كما ظن بعضهم في لفظ: (التفتوا إليها) ظن أنهم التفتوا إليها بأنظارهم ورمقوها بأبصارهم؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لم يكن فيه ما يعاتبون عليه كما عاتبهم الله تعالى، وإنما يفهم من مجموع الألفاظ ومن واقع الرواية أنهم انفضوا إليها وقاموا وخرجوا من المسجد.
ومتى كان انفتالهم؟
في بعض الألفاظ: أنه بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وعلى هذا يكون انفتالهم وهم يصلون، وهذا مستبعد جداً أن ينفض، حتى المنافقون ربما لا يتجرءون على أن ينفضوا وقت الصلاة فضلاً عن المؤمنين، فضلاً عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
وفي بعض الروايات كما هنا: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب)، وهذا دليل على أن انفتالهم وانفضاضهم كان أثناء الخطبة، وأنا لما قرأت هذا الحديث تذكرتكم يوم كان هناك توزيع ألبومات البلوغ، وقبل أن ينتهي الدرس انفتل الشباب إليها وتركوني قاعداً.
فالمقصود إذاً: أنهم قاموا أثناء الخطبة وتركوا الصلاة، وهذا يشكل أيضاً، ولذلك روى أبو داود في مراسيله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي آنذاك صلاة الجمعة قبل الخطبة مثل صلاة العيد، ثم بعد ذلك نزل الأمر بتأخير الصلاة إلى ما بعد الخطبة، وقد يكون -والله أعلم- هذا الحدث من أسباب الأمر بتأخير الصلاة إلى ما بعد الخطبة.
وانفتالهم عن الخطبة إلى هذه العير؛ هو بسبب شدة حاجتهم وضرورتهم وافتقارهم إلى ما تحمله الميرة من طعام وغيره.
وقوله رضي الله عنه: ( حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً )، (اثنا عشر) هنا يجوز فيها الرفع والنصب على الوجهين المعروفين عند النحاة: استثناء تام.
وهم اثنا عشر رجلاً على الرواية الصحيحة.
جاء عند الدارقطني في رواية: ( أنه لم يبق إلا أربعون رجلاً )، وهذه الرواية التي عند الدارقطني هي من رواية علي بن عاصم وهو ضعيف يخطئ، بل رماه بعضهم بالكذب كما ذكره غير واحد من أهل العلم، وضعفه آخرون جداً .
وعلي بن عاصم يروي هذا الحديث عن حصين بن عبد الرحمن، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر رضي الله عنه، وجمهور الرواة عن حصين ذكروا ما رواه الشيخان: (اثنا عشر رجلاً)، ولذلك نقول عن رواية علي بن عاصم التي ذكر فيها أربعين رجلاً: إنها منكرة، بل منكرة جداً وليست شاذة، والشاذ: يرويه ثقة ويخالف، أما إذا كان ضعيفاً ويخالف فهنا: حشف وسوء كَيلة أو سوء كِيلة، فنقول: إنه منكر، بل منكر جداً، والصحيح أن الذين بقوا اثنا عشر رجلاً.
من هؤلاء الاثنا عشر الذين بقوا؟ جاء في صحيح مسلم في بعض الروايات أن منهم جابراً رضي الله عنه راوي الحديث، وهذه فضيلة ومنقبة له رضي الله عنه، ومنهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وهذا ليس بغريب؛ لأنهما لم يفارقا النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلما على حال كان عليها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( جئت أنا و أبو بكر عمر أبو بكر عمر
ومنهم كما في رواية عند العقيلي وغيره: الخلفاء الأربعة: أيضاً عثمان وعلي مع الشيخين، وهذا أيضاً ليس بغريب؛ لأنهم الأربعة الذين أجمعت الأمة على تقديمهم وتفضيلهم.
ومنهم العشرة المبشرون بالجنة وهذا أيضاً يبدو ليس بغريب.
وذكر آخرون غير هؤلاء بلال بن رباح أيضاً، ولا مانع أن يكون الأمر تقريبياً، يعني: اثني عشر أو ثلاثة عشر رجلاً، ليس هذا بغريب؛ لأنه عد أكثر من هذا العدد بقليل.
هذا ما يتعلق بألفاظ الحديث تقريباً انتهينا منها.
من أبرز المسائل الموجودة في الحديث: مسألة العدد المشترط لخطبة وصلاة الجمعة، كم يشترط لها؟
وهذه المسألة مسألة عويصة وطويلة، والحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر فيها في الفتح ستة عشر قولاً، وقال: إنها قابلة للتفصيل إلى ما يزيد على عشرين قولاً، وذكر غيره مثل هذه الأقوال، كما ذكرها أيضاً الإمام النووي في المجموع، وذكر ابن رجب نحواً من ذلك، وهذه الأقوال أقوال كثيرة جداً لعلنا نعرض لها بسرعة من باب -كما يقال- العلم بالشيء.
فأقل ما قيل في ذلك واحد كما نقله ابن حزم والنووي وجماعة عن رجل يقال له: الفاساني، وقالوا: إنه ليس ممن يعتد به في النقل والإجماع، ولعله من المنسوبين إلى العلم والفقه، ولكن ذكر ابن رجب رواية عن أبي جحيفة الصحابي رضي الله عنه: (أنه كان يصلي الجمعة فتأخر الخطيب أو الإمام فقام أبو جحيفة وصلى ركعتين لوحده، وقال: اشهدوا أو أشهدكم أنها جمعة)، وهذا كما قال ابن رجب : إن مذهبه شاذ.
إذاً: أقل ما قيل في الجمعة أنها تنعقد بواحد، وهذا قول شاذ كما ذكرنا.
وهناك من يقول: تنعقد باثنين، يعني: الإمام وواحد آخر معه، وهذا مذهب النخعي، وابن جرير الطبري والحسن بن صالح وأبي ثور، وهو مذهب الظاهرية، واختاره الإمام الشوكاني في كتابه السيل الجرار: أن الجمعة تنعقد بواحد مع الإمام أو تنعقد باثنين مع الإمام، وهذا قول لـأبي يوسف والثوري وروي عن الإمام أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيكون مجموعهم ثلاثة، ولا أدري ما وجه الاختيار إلا أنه أقل الجمع؛ لأن الاثنين: مثنى، والواحد: مفرد، والثلاثة: جماعة، وقد حكى ابن المنذر هذا القول عن الأوزاعي وأبي ثور وغيرهما.
وهناك من قال: ثلاثة مع الإمام، وهذا لـأبي حنيفة .
وهناك من قال: سبعة.
وهناك من قال: تسعة أو تنعقد باثني عشر، أو ثلاثة عشر، يعني: اثني عشر مع الإمام، أو عشرين أو ثلاثين.
وهناك من قال: تنعقد بأربعين، وهذا هو المشهور عند الفقهاء، هو المشهور عند الحنابلة والشافعي أيضاً، فهو مذهب الشافعي وإسحاق وروي عن عمر بن عبد العزيز، وهو أيضاً رواية عن الإمام مالك، فهو تقريباً من أشهر وأكثر الأقوال.
طبعاً: القائلون بأنها تنعقد باثني عشر ما هو دليلهم؟ حديث الباب أنه: (لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً)، وكيف نجيب على استدلالهم بالحديث؟
أولاً نقول: هذا أمر اتفاقي، لا يدل على أن أقل من هذا العدد لا تنعقد به الجمعة.
وثانياً نقول: إنه قد وقعت الصلاة وخرجوا بعدها كما هو في مراسيل أبي داود.
ونقول: إنه يجوز تبعاً، يعني: يجوز استمراراً ما لا يجوز ابتداءً، وهذه من القواعد المعروفة، يعني: كونهم ابتدءوا الصلاة بخمسين ثم تسلل بعضهم هذا أمر آخر غير أن تبتدى الصلاة بالعدد نفسه.
وقد ورد أيضاً أن الأنصار لما اجتمعوا في نقيع الخضمات مع أسعد بن زرارة كان عددهم اثني عشر، وهذا عزز قول القائلين بالاثني عشر.
إذاً: القول باثني عشر من الأقوال التي هي على الأقل لها بعض الاستدلال.
ثم القول العاشر تقريباً أو ربما الحادي عشر، الذي ذكرناه الآن: أنها تنعقد بأربعين، وهذا ذكرناه عن الشافعية والحنابلة، ورواية عن مالك، وحجة هؤلاء القائلين بأنها تنعقد بأربعين رواية الدارقطني؟
وهي الرواية التي سقناها الآن: ( أنه لم يبق إلا أربعون رجلاً )، وفي الرواية الأخرى عند أبي داود، حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه، الذين صلوا مع مصعب رضي الله عنه ومع أسعد بن زرارة في المدينة على الرواية المعتبرة أنهم كانوا أربعين رجلاً.
ونحن نقول: هذه الرواية وإن كان سندها لا بأس به إلا أنها يقال فيها مثلما يقال في رواية الباب: أن هذا أمر اتفاقي، فما الذي يدرينا أنهم لو كانوا أقل من أربعين لم يكن ليقيم بهم الجمعة، وهذه كما يقول الأصوليون أحياناً: هذه واقعة عين، يعني: حادثة عينية لا تدل على أن ما دون الأربعين لا تقوم بهم الجمعة.
أيضاً: من أدلتهم على الأربعين حديث عن جابر : ( مضى في السنة أن في أربعين رجلاً فما فوقها جمعة )، وهذا لو صح لكان حجة، ولكنه في سنده ضعفاء فلا يحتج به.
ومن الأقوال: الرواية بالخمسين، وهذه رواية عن عمر بن عبد العزيز وأحمد .
ومنه قول: بالثمانين، وهذا ذكره الماوردي ونقله في فتح الباري ولم ينسبه لأحد بعينه.
ومن الأقوال: أنه عدد كثير بغير تحديد، وهذا ذكره ابن حجر ونسبه إلى مالك وكأنه رجحه أيضاً، أن الجمعة تقام بالعدد الكثير من غير تحديد؛ لأن النصوص ليس لها تحديد.
ومن الأقوال: وجدت أن القرطبي في المفهم شرح صحيح مسلم ذكر المائتين، وهذا لم أجده في الكثير من المصادر، أن الجمعة تنعقد بمائتين.
والواقع كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله لما ذكر أن البخاري لم يذكر في موضوع العدد في الجمعة شيئاً؛ قال: لأنه لا يصح شيء منه على شرطه، وهكذا الحافظ ابن رجب رحمه الله قال: في مسألة العدد في الجمعة أحاديث ليس شيء منها صحيح، فلا معنى للاشتغال بها.
طبعاً هناك أدلة وأحاديث في الأربعة وفي غيرها وهي ضعيفة جداً لا يلتفت إليها، وحتى الأحاديث في الاثني عشر وفي الأربعين وهي أصح ما ورد كما تلاحظون وليست قوية في الاستدلال، وما كان منها قوياً في الاستدلال فهو ضعيف في الإسناد كما في حديث جابر : ( مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة ).
إذاً: إما أن يكون شيء منها سنده صحيح ولكنه لا يدل على المقصود، أو يدل على المقصود ولكن لا يصح إسناده، ولذلك فإن مسألة العدد في صلاة الجمعة ليس فيها توقيف.
فنبقى فيمن قال: إن العدد اثنان؛ لأن هذا هو الأصل في الجماعة، وهذا ذكرنا أنه ترجيح الشوكاني وانتصر له في السيل الجرار .
أو ثلاثة وهذا الذي رجحه ابن تيمية رحمه الله وانتصر له.
أو نقول كما قال مالك : إنه عدد كثير من غير تحديد.
وينبغي أن نقول: إن الجمعة جمهور الفقهاء يرون أنها لا تقام إلا في مكان فيه مستوطنون وبإذن الإمام، فيكون الأمر موقوفاً على وجود الاستيطان ووجود الإذن، ولذلك نقول: إذا وجد الاستيطان بأي وجه من الوجوه ووجد معه الإذن لجهة حكومية كإدارة الأوقاف مثلاً، أو ما كان في معناها، وإذا لم يوجد جهة مسئولة فيكون أقرب من يتولى هذا المراكز الإسلامية كما في بلاد الغرب مثلاً، والتجمعات، والروابط التي تقوم بتنظيم عمل الجماعة المسلمة في تلك البلدان، فإن الجمعة حينئذٍ تقام، وإذا أقيمت الجمعة وأذن بها فلو تخلف الناس ولم يحضر منهم إلا ثلاثة مثلاً، نقول حينئذ إن الجمعة صحيحة.
وهذه المسألة سيأتي لها مزيد بحث، لكننا نشير إليها الآن إشارة:
وهي: أن من الفقهاء كالشافعية والحنابلة من يضعون لخطبة الجمعة أركاناً:
مثل: أن تشتمل الخطبة على قراءة آية من كتاب الله.
ومثل: أن تشتمل الخطبة على الحمد لله سبحانه وتعالى.
ومثل: أن تشتمل الخطبة على الصلاة والسلام على النبي عليه الصلاة السلام.
ومثل: أن تشتمل الخطبة على الموعظة والأمر بالتقوى، سواءً جاءت بلفظ التقوى أو بالمعنى.
تقريباً هذه أربعة أشياء يشترطها كثير من فقهاء الحنابلة والشافعية.
والذي نختاره كما رجحه عدد من المحققين، وهو مذهب أكثر أهل العلم، ورجحه ابن تيمية رحمه الله والشيخ عبد الرحمن السعدي وغيرهم: أن خطبة الجمعة ليس لها أركان، وإنما المطلوب أن تكون الخطبة كما ذكر ربنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، أن تكون الخطبة مما يصدق عليه أنه من ذكر الله، ولا يشترط فيها، ولكن هذه من آداب الخطبة، أن يذكر الله تعالى فيها، وأن تذكر فيها الآيات القرآنية، وأن يأمر بالتقوى، وأن يستدل بالنصوص إلى غير ذلك، وهذا سوف نذكره بعد قليل إن شاء الله في موضوع: فوائد الحديث.
جابر
رضي الله عنه: من فوائد حديثجابر
: وجوب الخطبة لصلاة الجمعة، وهذا إجماع الأئمة الأربعة، وسوف يأتي له إن شاء الله مزيد بحث؛ لقوله: (ابن عبد البر
الإجماع على ذلك لمن كان مستطيعاً وإن كان من الصحابة كـمعاوية
من خطب قاعداً، لكن هذا نقول: لعذر، إما أنه ثقل أو عجز أو مرض أو ما أشبه ذلك وإلا فإنه يخطب قائماً، ومن الدليل على أن الخطيب يكون قائماً من القرآن قوله تعالى: (( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ))[الجمعة:11]. وبالمناسبة هنا أذكر طرفة لا بأس بها، وإن كنت أكرهها، لكن بالمناسبة يعني: لما الشيخمحمد بن محمود الصواف
رحمه الله كان موجوداً هنا وهو من أهل العراق، وذكر هذا في بعض كتبه أو مجالسه، يقول: إنه كان هناك بدلبريمر
الأمريكي الموجود الآن في ذلك الوقت كان يوجد بريطاني أيام الاستعمار البريطاني للعراق اسمه:مستر كوك
، كان هو المسئول أو المندوب السامي كما يسمونه، فجاء لأحد المشايخ، أظنه الشيخعبد العزيز البدري
، أوأمجد الزهاوي
من شيوخ العراق، وقال له: إنكم تقولون: إن القرآن الكريم فيه كل شيء، وإن الله تعالى ما ترك في القرآن شيئاً، فهل ذكر الله تعالى اسمي في القرآن الكريم؟ فتلا عليه الشيخ هذه الآية: (( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا ))[الجمعة:11]. المقصود إذاً: نحن نقول من فوائد الحديث أن الخطيب يكون قائماً، ودليل ذلك من القرآن الكريم ومن الحديث حديثجابر
المتفق عليه. قوله: (عطاء
وغيره أنه يرى أن من لم يدرك الخطبة فإنه يصلي أربعاً، وهذا قول ضعيف، وما عليه الجمهور هو الصحيح، أن الإنسان لو جاء وقد فاتته الخطبة وأدرك الصلاة تكفيه ركعتان، وأما لو فاتته الصلاة مثلاً فإنه يصليها أربعاً، ولو أدرك التشهد مع الإمام كم يصلي؟ أربعاً أيضاً، وهذا سوف يأتي له مزيد تفصيل إن شاء الله تعالى. قوله: (والخطبة: المتقدمون يقسمونها إلى ثلاثة أقسام، إلى: مقدمة، وموضوع، وخاتمة.
ولكن الأقرب والأنسب أن يقال: إن موضوع الخطبة نفسه ينبغي أن يقسم إلى عدد من الفقرات -أربع أو خمس فقرات- بحيث يشعر المستمع بعد كل فقرة أنه ينتقل من موضوع إلى موضوع.
فقد يكون الموضع الأول مثلاً: يتحدث عن السياق التاريخي للموضوع، أو مقدمة شرعية، أو مقدمة وعظية.
والنقطة الثانية: تتكلم عن الموضوع وإيضاحه وكشفه.
الفقرة الثالثة: تتكلم عن حكم الموضوع وحشد الأدلة الشرعية عليه.
المقدمة الرابعة: تتكلم مثلاً عن آثار الموضوع وفوائده وإيجابياته وخيره وشره، بحسب طبيعة الموضوع.
فإن الإنسان كلما استطاع أن يقسم الموضوع إلى عدد من الأقسام كان الناس أقل مللاً؛ لأنهم ينتقلون من فقرة إلى الفقرة التي تليها.
ثم تكون الخاتمة عبارة عن تلخيص لأهم النتائج والقضايا التي يريد الإنسان أن يوصلها إلى المخاطبين.
أولاً: الاستشهاد بالنصوص من القرآن والحديث وأقوال العلماء وغيرهم.
وينبغي أن يراعى هنا الاعتدال في النقل؛ لأن المبالغة في السرد قد تؤدي إلى الإملال، وقد جرت عادة البعض أنهم يظنون أن المطلوب سرد النصوص في الخطبة، وقلت لبعض الإخوة: ربما لو أن خطيباً خطب الخطبة كلها في تفسير جزء من آية من كتاب الله لكفى، فليس بلازم أن يحشد عشرات النصوص في المسألة، إلا إن كان المقام يستدعي هذا المعنى، هذا أولاً.
ثانياً: أن العبرة بالموضوع، فإذا كان الموضوع الذي يتكلم عنه الخطيب موضوعاً بدهياً مسلماً ظاهراً فلا بأس من سرد النصوص حتى يؤكد المعنى، مثل من أراد أن يتكلم عن الصلاة، ووجوب الصلاة، وإثم تاركها، فهذا يحتاج إلى سرد مجموعة من النصوص القرآنية والنصوص النبوية، لكن حينما يكون الموضع الذي سوف يتناوله الخطيب موضعاً محتملاً ليس فيه يقين وإنما هو ظن له، فهنا قد يكون سرد بعض النصوص والمبالغة في ذلك؛ قد لا يكون هو الأفضل؛ لأن الخطيب بهذه الطريقة يصادر الرأي الآخر، وكأنه يلزم الناس بقوله مع أن قوله لا يعدو أن يكون اجتهاداً.
مثلاً: خطيب تكلم عن صلاة ركعتين لتحية المسجد في وقت النهي كمثال، وهو يرى ألا تصلى، فيسرد الأحاديث الواردة ويبالغ في ذلك، ويغفل الأحاديث الأخرى ثم يقول مثلاً: من صلى في وقت النهي فكأنه يقول: لا سمع ولا طاعة لك يا رسول الله! هل هذا صحيح؟ لا. هنا عليك أن تذكر الموضوع باتزان.
أو يتكلم أيضاً عن زكاة الحلي وأن في الحلي زكاة، ويسرد نصوصاً قرآنية لا تتعلق بزكاة الحلي وإنما تتعلق بزكاة المال، أو تتعلق بالكنز: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة:34]، ثم يقول: من لم يزك الحلي أو من لم ير زكاتها فكأنه يرد على الله!
كيف يرد على الله؟! هو يؤمن بالله مثلك، وقد يكون أصدق منك لهجة وأوسع منك علماً وأدين وأتقى، ولكنه يرى ما لا ترى، وأنت بهذا فندت أقوال أئمة كبار، دعك من شخص معين اختلفت معه، طيب ماذا تفعل بكلام الشافعي وأحمد ومالك وعائشة وجابر وفلان وفلان وفلان من الأئمة الذين لا يرون هذا الرأي؟!
فمسألة الاستدلال وسياق النصوص ينبغي أن يكون فيها نوع من الاعتدال.
وكذلك ما يتعلق بالأحاديث: فإن الإنسان يحسن أن يسوق بعض الأحاديث في الخطبة، لكن يراعي فيها أولاً الأحاديث الصحيحة، وكثير من الناس يتعلقون بالضعيف والموضوع!
وأيضاً: ألا تكون من الأحاديث الطوال، فإن كون الخطيب قد يسوق حديثاً بصفحة أو صفحتين أو ما زاد على ذلك مما يضعف من قوة الخطبة ومن استحضار الناس لمعناها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بجوامع الكلم.
كذلك مسألة يعني: أقوال الأئمة، على الإنسان أن ينتقي منها أفضلها وأحسنها دون استطراد.
ما يتعلق بالأقوال العربية والحكم والأمثال والأشعار: فلا بأس أن تشتمل الخطبة على شيء من ذلك أيضاً، لكن يراعى فيها ألا تكثر وتبالغ بحيث تكون الخطبة كأنها أمسية شعرية .
وأيضاً: يراعى أن تكون واضحة المعنى بالنسبة للمخاطبين؛ لأن الناس يغلب عليهم الجهالة والغفلة، والجمعة يحضرها العامي والعالم والطبيب والمهندس والمتخصص والأعرابي والفلاح والعامل وغيرهم، فينبغي أن يكون مستوى الخطبة راقياً بحيث يطرب له المتعلمون، وسهلاً مفهوماً بحيث يستفيد منه غير المتعلمين.
هناك صفات للخطيب في غير وقت الخطبة، مثل: كون الخطيب لديه استعداد فطري للخطابة؛ لأن من الناس من لا يكون عنده قدرة على الإلقاء، وحتى الذي ليس له قدرة لا بأس أن يتدرب على الخطابة من خلال أن يكتب، وبعض الناس يرون في ذلك عيباً، وأنا أرى أن كتابة الخطبة وإلقاءها من ورق هو احترام للمستمع في كثير من الأحيان، وهو يشجع الإنسان على التدرب على الخطابة وعلى سد هذا الثغر المهم.
كذلك قوة البيان وفصاحة اللسان، فإن الخطيب على منبر يقوم فيه مقام الوعظ والإرشاد والتوجيه، فينبغي أن يكون لديه قوة في بيانه وفصاحة لسانه، وقدرة على الإلقاء.
كذلك وجود قدر من الزاد العلمي؛ لأنه خطيب وإمام، وسوف يسأل عن كثير من الأحكام، فينبغي أن يكون لديه معرفة، وأن يتعلم ويتزود كما قال ربنا سبحانه: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، خصوصاً في الأشياء التي يكثر السؤال عنها.
كذلك قوة شخصية الخطيب: بحيث إن الخطيب يتعرض لمواقف أحياناً، ربما وهو يخطب قد يقوم أحد في المسجد ويعترض أو يحتج عليه، إما أن يكون شخصاً سمع ما لا يرضيه، أو يكون الخطيب أطال الخطبة أحياناً، وأنا أذكر أني سمعت شريطاً لأحد الشيوخ في الشام -الشيخ سعيد حوى رحمة الله عليه- سمعته في شريط خطب وأطال الخطبة الأولى جداً، وكلام ربما فيه كثير من الاستطراد اللغوي وليس فيه وقفات، مثلما قلنا في الموضوع تنتقل من نقطة إلى نقطة ومن فقرة إلى فقرة، لا. وإنما فيه نوع من الاستطراد والكلام الإنشائي، ففي آخر الخطبة يبدو أن أحد الحضور نفد صبره ووصل الأمر عنده إلى منتهاه، فأسمعه في الشريط قال: يا شيخ! أطلت علينا، يعني: ارحمنا، أو كلاماً نحو هذا، فجزى الله الشيخ رحمه الله خيراً -وهذا كما قلنا قوة الشخصية- قال: أقول هذا القول، واستغفر الله لي ولكم، ثم قعد، ثم قام إلى الخطبة الثانية فحمد الله وأثنى عليه ودعا واستغفر قدر ثلاث دقائق ثم أنهى الخطبة، ثم جاء للصلاة فقرأ في الركعة الأولى -أظن- إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، وقرأ في الركعة الثانية: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وأنهى الصلاة، بينما لو كان إنساناً ليس قوياً، ليس واثقاً من نفسه، يشعر بالارتباك إذا أحد اعترض عليه، فربما يحاول أن يحطمه مثل أن يقول له: لا تتكلم والإمام يخطب، أو ما أشبه ذلك، أو اجلس، أو ما دخلك، أو لماذا كل الناس صامتون إلا أنت؟ بعضهم يأتي بها أيضاً، يأتون بطرف في هذا المجال.
فالمقصود: أن الإنسان عندما يكون قوي الشخصية يستطيع أن يتلافى الكثير من المواقف.
كذلك مسألة حسن الأخلاق: لأن خطبة الجمعة هي لقاء الأسبوع، ويفترض -وهذا من أسرار وبدائع التنظيم الرباني- أن المجتمع المسلم كله حتى في الزمن الأول وفي زمن الحداثة والعولمة الآن تجد التنظيم الدقيق في الإسلام، الصلوات الخمس تجمع أهل الحي، صلاة الجمعة على نطاق أوسع، العيد تجمع أهل البلد بأكملهم، الحج يجمع الناس كلهم أيضاً يعني: فيه نوع من الروابط الشرعية التي تجمع وتحشد الناس، فيفترض أن القائمين على هذه الأشياء لهم مزيد مزية، ليس مجرد موظف يصلي بالناس أو يخطب بهم، وإنما هو إنسان أشبه بالقدوة والإمام لهم.
إضافة إلى الإخلاص، وأن يريد وجه الله سبحانه وتعالى فيما يصنع، هذه الصفات طبعاً قبل الخطبة.
والإلقاء فن يدرس اليوم، يعني: يتعلم الإنسان كيف يلقي، مثلاً من حسن الإلقاء أن يكون الإنسان عنده وقفات في الإلقاء، لا يكون إلقاؤه منطلقاً بدون توقف.
من حسن الإلقاء أن يحرص الملقي على أن يخفض صوته ويرفعه بحسب المناسبة، وهذا يشد الناس؛ لأن الذي يلقي بشكل مستمر وكما يقال: رتم واحد، كأنه يهد الناس، فسرعان ما ينامون، ولذلك تلاحظ النوم في خطبة الجمعة.
وأيضاً فيما يتعلق بالإلقاء: أن يكون عنده حركة، أن تكون حركة بدنه وعينيه ويده معتدلة ومنضبطة ومتوازنة؛ لأنه مثلاً: تلاحظ أن القريب -وهذا لاحظته في عدد من المناسبات- أن القريب في المسجد تجده مشدوداً إلى الخطيب، وهكذا الذي في وجه الخطيب؛ لأن الخطيب يراه وهو يرى، ولذلك لا يخرج، بينما الناس الذي في الزوايا وعند الأبواب تجدهم يتسللون؛ بسبب أنه لا ينظر إلى الخطيب ولا ينظر إليه الخطيب ولا يلاحظه بشكل جيد، لا يكون عنده انشداد إلى الدرس، فينبغي أن يكون حركة اليدين والعينين، والبدن.
الآن أنا أكفر عن انصرافي عن الإخوة الذين في جهة اليسار، فأن تكون هذه الحركة معتدلة ومتزنة، بعض الناس لا يتحرك، تجد أنه إذا قام على المنبر وضع إحدى يديه على الأخرى، ثم بدأ يخطب هكذا، ويظن أن هذا من أدب الخطبة، وبعض الناس قد يبالغ في حركة الجسم وحركة اليدين حتى إنه يخشى أن يسقط على الجماعة، وأنا أذكر مرة كنت في مسجد جمعة وقام رجل يخطب وهو يرتجل ويضرب رجليه بقوة! كما قلت: يخشى الإنسان أن يسقط عليه.
كذلك من آداب أوقات الخطبة: الحماس والعاطفة، وقد جاء في حديث جابر وسوف يأتي: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يرفع صوته وكأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم ).
وأنا أعتقد أن هذا ليس هو الأمر الدائم، يعني: جابر رضي الله عنه يذكر حالات للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الخطبة تختلف بحسب الموضوع الذي يتكلم فيه الإنسان، يعني: لو كان الإنسان مثلاً يتكلم عن نازلة معينة، أو عن خطأ حصل، فالأمر يتوجب أن يكون في الخطبة نوع من الحرارة ونوع من العاطفة.
إنما إذا كان الموضوع تقرير موضوع سهل فلا يحتاج الأمر إلى تكلف، كذلك.
هناك اختيار الوقت والمجال المناسب للخطبة، وإذا كانت الخطبة خطبة جمعة فوقتها محدد، لكن ينبغي أن يراعي الإنسان اعتدال الوقت، بمعنى: ألا يطيل في الخطبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنة من فقهه )، يعني: دليلاً وعلامة على فقهه.
كذلك: حسن اختيار الموضوع الذي يتكلم عنه الخطيب، بحيث يكون الناس حاضرين معه، ويحسن أن يكون الموضوع مما تكثر حاجة الناس إليه أو سؤالهم عنه .
أذكر أنه أيام دخول العراق إلى الكويت قبل خمس عشرة سنة تقريباً، ذهبت في ذلك الأسبوع إلى أحد المساجد، فوجدته يخطب عن عذاب القبر، فكنت أشعر بحزن وحرج أنه يعني: هل الدين جاء من أجل أن يخبرنا عن الواقع بقضية الكلام عن عذاب القبر وعذاب الآخرة، أم الدين جاء من أجل أن يعلمنا كيف نتصرف التصرف المناسب في الدنيا، حتى ننجو من عذاب الله؟!
فبعض الناس أحياناً، مثل لو أن إنساناً يخطب في مناسبة زواج، وجاء فقرأ آيات في موضوع الطلاق، إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، هذا قرآن؛ لكن هل هذا مناسبته؟ لا.
إذاً: قد جعل الله لكل شيء قدراً.
كذلك: من محاسن الخطبة: حسن الاستفتاح، وحسن الدخول في الموضوع، فالإنسان أحياناً إذا وفق في الافتتاح الحسن ربما شد الناس كلهم، مثل: أن يستفتح بسؤال، أن يكون السؤال جيداً، ومما تكثر حاجة الناس إليه، ثم يبدأ في الإجابة على هذا السؤال.
ومثل ذلك أيضاً: روعة العرض وجمال الأسلوب، واختيار وانتقاء الكلمات الجيدة، ومثل ذلك الابتكار والتجديد، بحيث إن الخطيب أو المتحدث يفكر أثناء إعداد الخطبة وقبل إلقائها: ما هي الأشياء الجديدة والمفيدة والمثيرة، فالإثارة مطلوبة، لكن لا تعني الإثارة أن الإنسان يتعمد الإثارة بأي سبب، وإنما يبحث عن الأشياء التي تشد الناس إلى الموضوع وتكون إثارة محسوبة -كما يقال- ومعتدلة.
كذلك: حسن الأداء، الإتيان بالشواهد كما أشرت، تثبت الأفكار بضرب الأمثلة، الناس يحتاجون إلى بعض الأمثلة، سواءً كانت أمثلة واقعية أو أمثلة تاريخية أو نماذج، فكل هذه الأشياء تربط الخطبة بالواقع ولا تجعل الخطبة كأنها إبرة منومة يتلقاها الناس أثناء الخطبة.
ما يتعلق بحسن الختام فهو مهم، الاعتدال في الخطبة بين الإطالة والتقصير.
أولاً: عدم مناسبة الموضوع سواءً للناس أو للظرف أو للوقت.
التطويل الممل كما ذكرنا.
فشل المقدمة وسوء البداية أحياناً، بحيث تجعل الناس ينصرفون عن الخطبة أو يعرفون ماذا يريد أن يقول الخطيب من أول الأمر، كأن الإنسان أعطاهم النتيجة قبل المقدمات، فانصرفوا عنه، وهم أصلاً مقتنعون، مثل ما لو أتيت إلى قوم مقتنعين بشيء وأنت تريد أن تقنعهم بضده، فبدأت الخطبة بالقناعة الموجودة لديك، هنا انصرفوا عنك ولم يسمعوا إلى أدلتك، لكن لو بدأتهم خطوة خطوة، حبة حبة، ربما أوصلتهم إلى القناعة التي تريد.
كذلك الارتباك والتنقل بين الموضوعات، حدثني أحد الإخوة الخطباء -وهو خطيب مشهور وداعية معروف- يقول: إنه صعد المنبر وهو لا يدري عن ماذا سوف يتحدث، ولكن يعني: افتح فمك يرزقك الله كما يقال، وبدأ يتكلم عن غلاء المهور، ومشكلات الزواج، ثم انتقل إلى الشباب، ثم انتقل إلى الأسرة، ثم انتقل إلى مشكلات المسلمين، ثم تكلم عن يمين وعن يسار وعن قضايا، ولما انتهى من الخطبة جاءه المسئول أو صاحب التسجيلات، وقال له: كيف تريد أن نسمي هذه الخطبة؟ قال: أسميها (شعاع في الأفق)! يعني: عنوان هو الآخر، هذا العنوان ليس له معنى.
كذلك من عيوب الخطبة: التكلف، التكلف في الأسلوب، السجع الذي يستخدمه كثير من الخطباء، سواءً من خطب يقرءونها من ابن نباتة أو غيره، أو مما يكتبونه هم وهذا لا داعي له.
كذلك: كثرة الاستطراد الذي يضلل الجمهور، وربما لا يستطيعون أن يعرفوا ماذا يريد الخطيب أن يقول، وكأن بعض الخطباء يعتبر أن هذه هي الخطبة التي سوف تغير مجرى التاريخ، ولذلك لا يترك فيها شيئاً، أو كأنها هي الفرصة الوحيدة له في الوضع، ولذلك يذكر فيها كل شيء، بينما كان الأجدر به أن يجعل الخطبة في موضوع واحد، أو موضوعات متشابهة.
كذلك إنهاء الخطبة بطريقة غير جيدة.
ربما يكون من العيوب الكبيرة الموجودة اليوم: كثرة العتاب والتقريع والتوبيخ للناس، وهذا ليس بجيد؛ لأن الخطيب إذا وبخهم:
أولاً: صرف أذهانهم عنه.
وثانياً: كأنه يستثني نفسه من بينهم.
وثالثاً: الناس بأمس الحاجة إلى تأليف القلوب وتقريبها، فالخطيب جدير به ألا يكثر من العتب والتوبيخ للناس.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر