أما بعد:
أيها الأحبة الكرام! فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وشكر الله لأخي الحبيب فضيلة الدكتور عبد الله الطيار وبقية المشايخ الأكارم الذين استضافوني في هذا اللقاء الطيب, وتسببوا في هذا الاجتماع المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يكتب أجر هذا الاجتماع لي ولهم ولكم أجمعين إنه على كل شيء قدير.
إخوتي الكرام! عنوان هذه المحاضرة هو جزء من آية في كتاب الله عز وجلأَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214] والحديث حول هذا الموضوع حديث شيق من جهة، خاصة في مثل هذه الظروف الصعبة التي تعيشها الأمة؛ فإن كل مسلم يتطلع إلى نصر الله عز وجل لأوليائه وللمؤمنين العاملين المجاهدين، الذين يرفعون راية الإسلام, لا يريدون إلا وجه الله عز وجل.
كما أن الحديث عن مثل هذا الموضوع أيضاً حديث يطول؛ فإن هذه الآية تطوي في معناها الحياة الدنيا كلها, فإن مسرح الحياة وليس مسرح الأحداث أو مسرح العمليات فحسب, إن مسرح الحياة كلها هو المجال العملي لتطبيق هذا المعنى القرآني الذي أثبته الله تعالى في كتابه أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
فكل لحظة من تاريخنا، وكل ذرة من ترابنا، وكل كلمة في حياتنا تقول ما تقوله هذه الآية، وتؤكد هذا المعنى أن نصر الله تعالى قريب, ونصر الله تعالى له صور كثيرة شتى, النصر في الميدان العسكري هو أحد معانيها، وهناك ألوان وألوان من هذا الانتصار قد لا يعيها الإنسان ولا يدركها.
ولعل الآيات التي عشنا معها ونحن نؤدي هذه الفريضة العظيمة (صلاة المغرب) هي نموذج للنصر الذي يمنحه الله تعالى لأوليائه، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10], وأي نصر في الدنيا أعظم من أن يفتن الإنسان ويبتلى في دينه فيصبر صبراً تعجز عنه الجبال الراسيات! وأي صبر أعظم وأكبر من أن تأتي المرأة -وفي المرأة ما فيها من الرقة والحنان، وفيها ما فيها من العطف والحنو على أطفالها- تحمل رضيعها على كتفها فلما تقبل على النار التي أوقدها أصحاب الأخدود يحدث عندها بعض التردد فيُنطِق الله تعالى، الذي أنطق كل شيء، يُنطِق رضيعها الصغير فيقول: يا أماه اصبري فإنك على الحق! هذا هو النصر العظيم, هذا هو النصر المبين!!
إذا،ً النصر الذي وعد الله تبارك وتعالى به المؤمنين له صور شتى، وله ألوان مختلفة وفي كل لحظة في تاريخ هذه الأمة، فهي تحقق ألواناً من الانتصارات.
إخوتي الكرام! وأود أن أقف باختصار في هذه المحاضرة عند عدد من النقاط المهمة, والأفكار الأساسية:
إذاً، الحق أصل والعدل أساس تعود إليه هذه الدنيا ويوم بدأت الدنيا بدأت بالحق, وتنتهي الدنيا أيضاً إلى الحق, وبعد الدنيا يتجلى الحق في أوضح وأظهر صوره يوم ينـزل الله تعالى لفصل القضاء بين عباده، وتوضع الموازين القسط ليوم القيامة قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].
فالحق أصل عظيم بدأت منه هذه الحياة وتنتهي إليه, وكثير من الناس يترددون في قبول هذا الكلام, ويتعجبون وربما رمونا بشيء من قلة الفهم وقلة الإدراك، وقالوا: كيف تزعمون هذا الزعم وأنتم ترون أن هذه الدنيا بطولها وعرضها تسيطر عليها حضارات مادية، وأمم كافرة، وقد مد الله تعالى لهم وأعطاهم، ووسع لهم في الرزق وفتح عليهم أبواب كل شيء، ومع ذلك لا زلتم تقولون: الحق والعدل؟!!
لكن الآخرة غير محدودة، فأهل الجنة كما في قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108], وأهل النار كما قال تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107].
إذاً هي الجنة أبداً أو النار أبداً, جعل لهم الأبد ولو علم أهل النار أنهم يمكثون في النار عدد رمل عالج, أي: رمال صحراء الربع الخالي -مثلاً- لفرحوا، ولكن جعل لهم الأبد! قال سبحانه: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [النساء:169] وقال: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] وقال: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً [النبأ:23].
إذاً: هل يمكن المقارنة بين رقم محدود معروف ينتهي، وبين رقم لا يتناهى أبداً؟! إن المقارنة مستحيلة, لأنه لا يمكن المقارنة بين شيء ينتهي وشيء لا ينتهي.
فكيف يجعل الإنسان تفكيره وهمه مقصوراً على هذه الدنيا الفانية المحدودة، وينسى تلك الآباد والآماد المتطاولة التي لا تتناهى أبداً في الدار الآخرة؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع} أدخل إحدى أصابعك في البحر ثم أخرجها، فانظر ماذا أخذت أصبعك من البحر؟ هذا البلل البسيط الموجود في أصبعك هل يقاس إلى هذا البحر المتلاطم؟! أبداً! ومع ذلك فإن هذا لمجرد التقريب لذهن الإنسان, وإلا فالواقع أن الدار الآخرة لا يمكن أن تقاس أو تقرن بهذه الحياة الدنيا الفانية المحدودة في الزمان والمكان.
ولهذا يقول الله عز وجل مرشداً عباده المؤمنين لئلا يغتروا بهذه الدنيا وغلبة الباطل والكفر في وقت محدود أو زمان أو مكان محدود، يقول الله عز وجل: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197].
إذاً، المؤمن حين يغفل عن الدار الآخرة؛ يختل الميزان في عينه, وتضطرب المقاييس في نظره، لماذا؟ لأنه أصبح ينظر إلى هذه الحياة الدنيا فقط، وينسى الدار الآخرة، وهو بذلك قد أخل بقضية في غاية الخطورة, فما الفرق بينك وبين الكافر؟ الفرق: يتلخص بأنك تؤمن بموعد غيب لم تره، ألا وهو الدار الآخرة, وهو لا يؤمن, ولهذا قال موسى: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27], ومدح الله رسله وأنبياءه وأولياءه فقال: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46].
إلى أي مدى تعيش الدار الآخرة في قلبك؟ إلى أي مدى تدخل الآخرة في حساباتك بحيث تقول: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197] وأيضاً حينئذٍ يقول الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة يقولون: نعم أنتم تتسلون بهذا الكلام, حينما رأيتم أن الدنيا قد أخذها الغرب والشرق، وهيمنت عليها حضارات الكفر والإلحاد، أصبحتم تتسلون بهذا الكلام.
وأقول: كلا! مع أن هذا الكلام فيه تسلية لقلوب المؤمنين، وفيه تسرية لأرواحهم، وشد لعزائمهم وهممهم، وتثبيت لهم، ومع ذلك كله فإن هذا الكلام لا يقال لمجرد التسلية؛ بل هو حساب منطقي جيد حتى في نظر غير المؤمنين.
ألم تر أن الكفار أحياناً يرضون بذل مؤقت طمعاً في نصر كبير؟! هذا موجود, وأقرب مثال: اليهود الآن؛ حين لم ينتقموا من الصواريخ العراقية التي أرسلت إليهم لماذا؟ ليس ذلك عجزاً، وإنما لأنهم يتحملون أن يظن أحد أنهم في فترة معينة سكتوا أو صبروا على شيء لحقهم طمعاً في نصر أكبر من هذا يحققونه.
إذاً قد يؤجل الإنسان أمراً من أموره طمعاً في ما هو أكبر منه, حتى في المقاييس المادية الدنيوية البحتة, فما بالك بالمقاييس الأخروية؟ إن الأمر بالنسبة لها أوضح وأعظم.
فيقول لك: عدد الكفار إذاً أعداد هائلة وكبيرة وكثيرة وخطيرة, فكيف والمسلمون قلة، وهم أيضاً في داخلهم الدخن، وداخلهم من ينتسب إلى الإسلام وليس منه وفيهم وفيهم..! فنقول: لا يجوز هذا القياس وهذه المقارنة؛ لأنها غير عادلة ولا صحيحة.
فأنت إذا كنت تنظر في جنود الله عز وجل، فيجب ألا تستبعد من حسابك نوعاً من الجنود، وهم الملأ الأعلى (الملائكة) إن كان أنصار الباطل يشكلون في هذه الدنيا كذا ألف مليون في الدنيا، فانظر في أنصار الحق الذين يسخرهم الله تعالى لئلا ترهبك هذه الكثرة والسطوة, وأنت تعلم عدد أنصار دين الله تعالى.
انظر على سبيل المثل إلى الملائكة في السماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في مستدرك الحاكم وعند ابن جرير في التفسير، وابن المنذر، وصححه الحاكم، وذكره البيهقي في شعب الإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم: {إن البيت المعمور في السماء السابعة} كما قال الله تعالى: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:1-4], {البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون فيه إلى يوم القيامة}, فإذا كنت ممن يؤمن بما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم -وأنت كذلك بحمد الله- فعليك أن تجري عملية حسابية بالأرقام, كل يوم سبعون ألف ملك, ففي الشهر أكثر من مليونين ومائة ألف ملك هذا في الشهر الواحد, فإذا حسبت في السنة كم يدخله؟ احسب في عشر سنوات، أو مائة سنة، أو ألف سنة أو في عشرة آلاف سنة!! كم مضى من الدنيا؟ وكم بقي؟ الله أعلم..!
فلو تصورنا -مثلاً- مائة ألف سنة والله تعالى أعلم، فهذا الأمر لا يعلمه إلا الله.
أما حسابات البشر فهي حسابات مجرد تخمين وإلا فالله عز وجل أعلم, كالذين يأتون إلى صخرة أو إلى جذع شجرة، فإننا رأينا بعض جذوع الأشجار في بعض البلاد مكتوب عليها (عمر هذه الشجرة عشرة آلاف سنة) وهذه الصخرة عمرها (خمسون ألف سنة) وهذه كلها تخمينات، وإلا فالله عز وجل يقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51].
المهم: لو تصورنا الدنيا كم هي من ألف سنة, ثم تصورنا في كل يوم سبعون ألف ملك يدخلون في البيت المعمور, فكم عدد الملائكة الذين دخلوا البيت المعمور؟! وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
وفي الحديث الآخر أيضاً الذي رواه الترمذي وصححه، ورواه أيضاً ابن ماجة وأحمد حديث أبي ذر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله عز وجل أو راكع أو ساجد} والأطيط هو: أزيز وصرير الرحل من ثقل الراكب.
السماوات السبع، ولا يعلم مدى السماوات السبع إلا الله عز وجل الذي خلقهن, ومع ذلك كل موضع في السماوات فيه ملك راكعٌ أو ساجدٌ لله عز وجل، يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت, سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت.
فتصور! هؤلاء الملائكة كلهم من أنصار الحق، وكلهم من جنود الله عز وجل الذين وصف الله تعالى طائفة منهم وهم خزنة النار بقوله: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] إذاً الله تعالى أقدرهم على أن يفعلوا كل ما كلفوا به من لدنه سبحانه, قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12] هؤلاء كلهم مجندون لنصرة الحق والدفاع عنه وخذلان الباطل والزلزلة بأهله, ولهذا لما كان في الخندق، ورد الله تعالى الذين كفروا بغيضهم لم ينالوا خيراً جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد وضع سلاحه يريد أن يغتسل ويزيل عنه غبار المعركة, فقال: {أو قد وضعت السلاح؟ قال: نعم، قال جبريل: أما نحن فوالله ما وضعنا السلاح بعد. فأشار النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين؟ فأشار جبريل بيده صوب بني قريظة قال: اذهب إلى بني قريظة فإني ذاهب إليهم فمزلزل بهم}.
إذاً إذا أردت المقارنة لا تقل عدد المؤمنين كذا.. وعدد اليهود كذا.. وعدد النصارى كذا..! لا بد أن تضم إلى عدد المسلمين الصادقين نوعاً من المؤمنين وهم الملائكة.
بل ومع ذلك تذكر أن لله عز وجل مخلوقات أخرى غير الإنس وهم الجن, وفيهم المؤمنون وفيهم من يكون أحسن وأفضل وأتقى من بعض الإنس, كما ذكر الله تعالى عنهم في كتابه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً [الجن:1-2], ولما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] كانوا أحسن ردوداً من الإنس، فقالوا: [[ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ولك الحمد]].
وكذلك أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن هؤلاء الجن استمعوا القرآن فآمنوا، قال تعالى: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29] أي: يدعون إلى الله تعالى ويبشرون بالرسالة الخاتمة.
إذاً، لا يجوز أن تعقد مقارنة بين عدد المسلمين مثلاً وعدد اليهود والنصارى, وتقول: معنى ذلك أن عدد الكفار أكثر , وتنسى أن هناك جنوداً لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله عز وجل، وكل هؤلاء مجندون لنصرة الحق متى وجد البشر المكلفون الذين يقومون به حق القيام.
السابق مثلاً: هل تدري أنه بعدما أهبط آدم من الجنة إلى الدنيا كان آدم حنيفاً مسلماً موحداً؟ لا بد أنك تعلم ذلك بل كان نبياً مكلماً عليه الصلاة والسلام, ثم ظل بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى كما قال الله عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213] قال ابن عباس وغيره: [[كان بعد آدم عليه الصلاة والسلام عشرة قرون كلهم على الهدى]].
إذاً: كيف تأتينا بمائة سنة أو خمسين سنة سيطرت فيها حضارات مادية زائلة منحرفة, وتنسى عشرة قرون. أي: ألف سنة كان المهيمن فيها هو دين الله وشرع الله، والتوحيد الذي لا يشوبه شائبة شرك, هل تنسى هذا؟! لا يجوز نسيانه, وأن يستغرق الإنسان في لحظة حاضرة.
كذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كم مكثت هذه الأمة المحمدية ظافرة منصورة؟ لقد مكثت هذه الأمة أكثر من اثني عشر قرناً، وهي أمة ظافرة منتصرة بيدها تدبير كثير من أمور الأمم، حتى الكافرة, وهذا هو التاريخ الذي يتغنى به كثير من الشعراء, ويتحدثون عن تاريخ هذه الأمة، ومآثرها الخالدة الباقية, ودولها الراسخة, التي مازال التاريخ يذكرها, كما يقول أحدهم:
ملكنا هذه الدنيا قروناً وأخضعها جدود خالدونا |
وسطرنا صحائف من ضياءٍ فما نسي الزمان ولا نسينا |
حملناها سيوفاً لامعات غداة الروع تأبى أن تلينا |
إذا خرجت من الأغماد يوماً رأيت الهول والفتح المبينا |
وكنا حين يأخذنا ولي بطغيان ندوس له الجبينا |
تفيض قلوبنا بالهدي بأساً فما نغضي عن الظلم الجفونا |
وكنا حين يرمينا أناس نؤدبهم أباة قادرينا |
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا |
وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا |
إذاً: ليست سنيناً ولا عشرات أو مئات السنين! بل أكثر من ذلك, أكثر من ألف ومائتي سنة والأمة الإسلامية كانت أمة عظيمة يرهبها الشرق والغرب, ومثلما حفظ لنا التاريخ من مآثر بني أمية وبني العباس بل وبني عثمان، خاصة في عصورهم الأولى، وكيف كانوا نموذجاً للهداية الربانية, على سبيل المثال القصة المعروفة لـهارون الرشيد رحمه الله! الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً, وكان ربما قطع الليل كله تسبيحاً وقرآنا, ومع ذلك كان يحكم دولة واسعة مترامية الأرجاء, فلما مرت السحابة بـبغداد وتجاوزت بغداد ولم تمطر, كان يقول لها: [[أمطري حيث شئت، فسوف يجبى إليّ خراجك]]
أين الرشيد وقد طاف السحاب به فحين جاوز بغداداً تحداه |
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا |
عبد الرحمن الناصر والداخل في الأندلس كيف بنوا القصور العامرة التي لا تزال باقية إلى اليوم, وخلدوا الحضارة ودعوا إلى الدين, ونشروا هداية الله تعالى في أرجاء الدنيا, ولم يبقَ بينهم وبين دخول عاصمة النصارى إلا أكيال معدودة على مشارف باريس، تراجع المسلمون في معركة بلاط الشهداء المعروفة في التاريخ بمعركة "تور بواتيه" ولو انتصروا -والأمر لله من قبل ومن بعد- في تلك المعركة لدخلوا أوروبا كلها واكتسحوها ولدخلوا إلى روما أيضاً.
ولكن من حكمة الله عز وجل أن يتراجع المد الإسلامي من عند بلاط الشهداء، لأن الله تعالى قضى وقدر أن تفتح القسطنطينية في القرن التاسع قبل أن تفتح روما متى شاء الله عز وجل, كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل: {أيهما يفتح أولاً: القسطنطينية أم روما؟ فقال: مدينة هرقل تفتح أولاً} أي: القسطنطينية.
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا |
وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه؟! |
وانـزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه! |
هذي المعالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاهُ |
ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراه |
ومثله: أن المسلمين يتجمعون، حين ينـزل عيسى عليه الصلاة والسلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق, وكذلك يقودهم المهدي عليه السلام الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه في أحاديث متواترة، كما حكم على ذلك جماعة من أهل العلم بالحديث؛ أن أحاديث المهدي متواترة, وكذلك أحاديث نـزول عيسى عليه السلام فهي متواترة أيضاً بلا شك, والقرآن الكريم أشار إلى نـزوله, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} أولها محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وآخرها عيسى بن مريم والمهدي عليهما السلام.
إذاً: هذه أمة خير! أولها خير وحق وعدل, وآخرها خير وحق وعدل {يأتي خليفة يحثـي المال حثياً ولا يعده عداً، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً }.
ولا شك أن هذا الكلام يجب أن يفهم فهماً صحيحاً، أنا أذكر هذا الكلام لمجرد تذكير الناس بأنه لا يجوز أبداً أن نقارن في لحظة محدودة من الزمان والمكان، وننسى الماضي كله والمستقبل كله, هذا لا يجوز! وإلا: فالواقع أن الله عز وجل لم يتعبدنا أبداً بأن نقف في انتظار عيسى أو في انتظار المهدي أبداً فمتى جاءوا فكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو من جنودهم, وتحت رايتهم, وينصرهم بنفسه، ودمه، وماله، وأهله، وما ملك.
لكن ليس هناك مسلم على ظهر الأرض مطالب بأن يجلس واضعاً خده على يده ينتظر متى ينـزل عيسى أو متى يخرج المهدي! هذا أمر علمه عند الله عز وجل, فقد يخرج بعد مائة سنة أو ألف سنة أو أقل أو أكثر، هذا غيب! لا أحد يستطيع أن يتنبأ به أو يعرفه إلا الله عز وجل, فهو غيب عند الله وحده.
فمن الخطأ كل الخطأ أن يجلس المسلمون في انتظار هذا الأمر الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم! لا, بل يجب أن يقوم كل مسلم بدوره وواجبه، ويحرص على أن يكون ملتزماً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك, سائراً على طريقته, دون أن يكون منتظراً لفرج لا يستطيع أن يفعله بذاته اللهم إلا أن دور المسلم هو الدعاء الصادق.
فمثلاً: في هذا البرزخ المظلم منذ عشرات السنين الحركات الدعوية التي قامت في كل مكان تدعو إلى الله عز وجل, وتبصر الناس بأمر ربهم, وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام, وآتت ثماراً حسنة في كل قارة؛ بل في كل بلد إسلامي, في الدعوة إلى الله وتربية الشباب على الإسلام, وعلى الدين وعلى الهدى، وحماية الشباب من لوثات الإلحاد والمادية والتشكيك، وحمايتهم -أيضاً- من الشهوات التي حاول الغرب بحضارته المادية أن يغرقهم فيها, هذه الدعوات هي إشراقات وإضاءات.
لا يخلو الواقع من حركات جهادية، ترفع السلاح في وجه الباطل في أكثر من بلد إسلامي, ليس أفغانستان هي المثال الوحيد، وإن كانت من أبرز الأمثلة وأوضحها, وفيها حركة جهادية طالت، ونرجو أن تثمر -بإذن الله تعالى- ما يتمناه كل مسلم من نصر مبين للمجاهدين, ليست هي المثال الوحيد؛ بل هناك أمثلة كثيرة في إرتيريا وفي الفلبين وفي فلسطين وفي عدد من بقاع العالم الإسلامي؛ بل إن الحركات التي طردت المستعمر من بلاد المغرب والشام وغيرها هي حركات جهادية كان يقوم عليها علماء أفاضل كالشيخ عبد الحميد بن باديس -مثلاً- وعز الدين القسام، وأمثالهم من الأبطال العلماء المشايخ، الذين طاردوا فلول الاستعمار حتى أجلوه عن تلك الديار.
ومع ذلك، فما أسرع أن تسلل اليأس إلى كثير من القلوب والنفوس, فأحبطها وأثر فيها, فوجدنا كثيراً من المسلمين -ومع الأسف من المسلمين الذين يتحرقون لواقعهم، ويتأسفون على واقع الأمة- أصبحوا يعيشون اليأس.
واليأس له صورتان يجب أن نقرن بينهما:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي |
ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادِ |
حتى سمعت بعض اليائسين يقول: هؤلاء الناس.. وهذا الجيل، لا أمل فيه إلا بطوفان يكتسحه ثم يأتي الله تعالى بجيل من عنده, هذا كلام غير صحيح بحال من الأحوال, هذا كلام النفوس الضعيفة, وكلام القلوب التي ما أشرق عليها نور الإيمان, وما أشرق عليها نور الوعد الإلهي بنصر المؤمنين.
معي الأمة خير كثير, وفي الأمة قوة وعزة وإيمان، تحتاج -فقط- إلى أن ينفخ هذا الغبار، حتى ينصقل قلب المؤمن وتظهر الأمة على حقيقتها.
في الواقع أن هذه الأمة أمة خير أمة جهاد، أمة بركة، أمة علم وتعليم, ألم تر إلى هذه الأمة وقد أصبحت لا ترضى بالعلماء بديلاً؟! هذا لا يدل إلا على أنها أمة الدعوة والعلم والجهاد, حتى البعثي اليوم أصبح لا يقول: أنا بعثي واشتراكي, ولا يقول: حزب البعث العربي الإشتراكي, إنما أصبح يرفع راية الإسلام ويلبس لبوسه ويتكلم بقضايا الجهاد, لماذا؟ لأنه رأى أن الإسلام هو العملة الرائجة -كما يقال- وأنه لا يحرك الشارع إلا الإسلام, ورأى أن الشعارات كلها تآكلت وانتهت, فأصبح العلماني الذي كان بالأمس لا يجيد إلا فن الغناء والطرب واللهو والكلام الفارغ, أصبح يتكلم قال الله.. قال رسول الله.. رواه البخاري.. رواه مسلم.. متفق عليه.. صححه الألباني!.
وأصبح الذي كان بالأمس بعثياً يحارب الله ورسوله، أصبح لا يقول: حزب البعث العربي الإشتراكي, إنما يعلن الجهاد المقدس والحرب بين المسلمين والكفار، ومثل ذلك, فعلى ماذا يدل هذا؟! يدل على أن الجميع عرفوا أن هذه الأمة هي أمة الدعوة وأمة الجهاد, أنها أمة الإسلام بدءاً وانتهاءً، ولهذا أصبحوا يخادعونها على هذا الدين, وكل واحد منهم يرفع الإسلام، يريد أن تعطيه الأمة شهادة حسن سيرة وسلوك.
إذاً: الأمة فيها خير كثير، وعندها استعداد كبير، ووعد الله تعالى بها، ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، لا يزال قائماً أبداً, ولا ينبغي للإنسان أن يغفل أو ينخدع عن هذا الأمر, فكثيراً ما نسمع التهويل من شأن الناس, وشأن الأمة, وأن هؤلاء دهماء وما أشبه ذلك..! لا يا أخي! هؤلاء المسلمون الواحد منهم له عند الله تعالى أعظم المنـزلة؛ لأنه من أهل لا إله إلا الله, إذا كان لم يأت بما ينقضها, فهو من الموعودين بالجنة, وكلمته لها ثقل, ودعوته تفتح لها أبواب السماء, وله ثقل في الدنيا وفي الآخرة، وفي السماء والأرض.
إذاً: من الناس من آثر العزلة عن هذا الواقع, وقال: هذا واقع لا خير فيه..! مع أنه يرى بعينه ثمرة العمل, وأن الذين عملوا وجدوا واجتهدوا ودعوا، وجدوا، واستجاب الناس لهم بل حتى من الكفار، وجدنا من تقبل الدعوة إلى الله تعالى, فضلاً عن المسلمين، وما قام داعٍ إلى الله تعالى مهما كان أسلوبه غير مناسب, ومهما كان عنده من النقص ومهما كان عنده من الخطأ, ما قام داعٍ إلى الله تعالى في بلد إسلامي، ثم ظل وحده أبداً مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن الأمم السابقة فقال: {يأتي النبي ومعه الرجل والرجلان ويأتي النبي وليس معه أحد..} الحديث.
إذاً: هذه الأمة أمة مُجرَبةٌ، أنها تملك الاستعداد، وأنها تملك قلوباً حية متى سمعت المنادي الصادق, متى سمعت الحق, قالت: لبيك لبيك.. هاأنا بين يديك.
فـالله تعالى وضع في الدنيا سنناً لا بد أن تمشي وفق هذه السنن الإلهية, فالعمل لا بد أن يأخذ مجراه الطبيعي، تدرجه الطبيعي، ينتقل المسلمون تدريجياً وفق سنن مرسومةٍ وطريقة واضحة, أما تعجل الخطوات والارتباك والطيش والتعجل، فهذا لا يمكن أن ينفع إنما ينفع الأعداء فقط!
فمثلاً: كثير من المسلمين يخيل إليهم أن المسلمين يجب أن يتجاوزا كل هذه الأمور، وأنه بين يوم وليلة سوف يتحقق لهم نصر للإسلام ساحق لا يخطر في بالهم! هذا لا يكون, وإن كان الله تعالى على كل شيء قدير، لكن السنن الإلهية ماضية والتدرج قائم, ومن الممكن جداً أن ينتقل المسلمون من الوضع السيئ الذي يعيشونه اليوم إلى وضع أحسن, وأن يتيح الله لهم أمماً ودولاً من الكفار يستطيعون أن يتعاملوا معها، ويستفيد المسلمون من التناقض الموجود بينها, بمعنى: أنه لو ظهر على مسرح الأحداث بعد حين مجموعة من الأمم الكافرة كـالألمان والصين واليابان وغيرهم وأصبحوا يتنافسون على مراكز الصدارة في هذه الدنيا؛ لاستطاع المسلمون أن يستفيدوا من هذا التنافس في تحقيق نصر لهم, وبعد فترة أخرى الله أعلم بها يمكن أن يحقق المسلمون حضارة قوية وعلماً وتعليماً، ويكون لهم ريادة في هذه الحياة.
أما تصور أن الأمور تأتي ارتجالاً هكذا وبصورة عفوية وعشوائية؛ فهذا مناقض ومخالف للسنن التي ركبها الله تعالى في الكون, قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:114] يقولونه استبطاءً طال عليهم الأمر, حتى وهم الرسل الذين فقهوا سنة الله عز وجل استبطئوا النصر، وقالوا: متى نصر الله؟ فهنا يأتي نصر الله كما قال جل شأنه: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]. حتى وقال تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ [يوسف:110].
فعلى الإنسان ألا يتعجل، وأن يدرك أن العاقل ينبغي أن يعرف سنن الله تعالى في الكون، ويعمل وفق هذه السنن, حتى يصل إلى النتيجة التي يريد, فكل شيء له سبب, فما لم تفعل الأسباب، لا تطمع في حصول النتيجة، وإن كنا نعلم يقيناً أن الله تعالى قادر على كل شيء, وإذا فعلت ما تستطيع كفاك الله ما لا تستطيع, ولهذا قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] أما ما لا تستطيعون فالله تعالى يمدكم بجند من عنده، ويمددكم بروح من عنده.
ولهذا جاء في الصحيح؛ من حديث خباب رضي الله عنه قال: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة} الصحابة رضي الله عنهم ضاقوا من الإيذاء والاضطهاد، ومن التكذيب والتعذيب, وقريش مهيمنة، وليست قريشاً فقط؛ بل الدنيا كلها من وراء قريش، فارس والروم والدول الكبرى كلهم مجمعون على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم وحفنة من المؤمنين معه, فضاقت عليهم السبل، فجاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع متوسداً بردة, قالوا: {يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقعد النبي صلى الله عليه وسلم واحمرّ وجهه...}.
فلم يكن احمرار وجهه عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم طلبوا منه الدعاء فإنه كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً, فإذا طلبوا منه الدعاء أسرع إليه واستغفر لهم, كما قال الله عز وجل: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] لم يكن احمرار وجهه عليه الصلاة والسلام ولا غضبه؛ لأنهم قالوا له: ادعُ لنا, إنما لأنه أحس عليه الصلاة والسلام من قولهم: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ بأن القوم قد استبطئوا الأمر, واستثقلوه, وضاقت عليهم السبل, وضاقت صدورهم, فقال: {إن من كان قبلكم كان يؤتى بالرجل منهم فينشر بالمنشار من دون عظمه ولحمه وعصبه, ويحفر للواحد منهم في الأرض فيجعل فيها ويشق إلى نصفين ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر } إذاً الكلام الأول أثبت النبي صلى الله عليه وسلم فيه قضية السنة الإلهية.
السنن الإلهية كائنة على الجميع, فالشمس تشرق على المسلمين والكفار, وتغرب عن المسلمين والكفار، ليست بلاد المسلمين خاصة لها شمس لا تغيب عنها أبداً! السنة الإلهية ماضية على الجميع, فبين النبي صلى الله عليه وسلم السنة، ثم قال مبيناً مستقبل هذا الدين وأن النصر في النهاية للمؤمنين الصابرين: {والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون}.
وزاد في رواية: {وهو صلى الله عليه وسلم متوسد بردة وقد لقينا من المشركين شدة} إذاً: هم ضاقوا من مضايقة، وضاقوا من بلاء نـزل بهم, ضاقوا من إيذاء، ومن اضطهاد ومن تعذيب ومن تكذيب فجاءوا، وقالوا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال: على رِسلِكم.
فالمستقبل للإسلام, الإسلام منصور, أنا وأنت، والثاني والثالث، والأمم والدول، والأسماء والرايات، واللافتات تذهب وتجيء, كم مضى منذ وجد الإسلام؟ منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ كم مضى من أمة ومن اسم ومن شعار والإسلام باقٍ؟!!
والذي يريد أن يواجه الإسلام -يحارب الإسلام- هذا مسكين! فهو كصبي صغير يريد أن يواجه السيل الجارف بيده, أو كإنسان يريد أن يحجب أشعة الشمس بيده الضعيفة!
أتطفئ نور الله نفخة فاجر تعالى الذي بالكبرياء تفردا |
نور الله تعالى لا يمكن أن يطفئه أحد, قال تعالى: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
وهذا الدين هو روح هذه الأمة وهو حياتها وسر بقائها، ووجودها, وهي للإسلام مهما غضب الغاضبون, وأرغوا وزمجروا وأزبدوا..!
هذه الأمة أمة الإسلام! فالذي يريد أن يقضي على الإسلام عليه أن يقضي على هذه الأمة, وهل يستطيع أن يقضي على هذه الأمة؟! هيهات هيهات..! لا يستطيع، ونقول: محال, لماذا؟ لأن هذه الأمة موعودة بالبقاء, وليس بالبقاء فقط؛ بل موعودة بالسناء والنصر والتمكين, ولا يزال الله تعالى يغرس لهذا الدين غرساً يستعمله في طاعته, والعزة لهذا الدين، لا يترك الله عز وجل بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله تعالى الإسلام, بعز عزيز أو بذل ذليل, عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر.
إذاً: أمة الإسلام باقية، والإسلام باقٍ, والقرون التي مضت؛ مضى من هو أشد منهم قوة, وأكثر منهم بطشاً وأشد منهم بأساً وأكثر طغياناً، ومع ذلك مضوا وبقي الإسلام.
كم دفن الناس من طاغية؟! كم دفنوا من محارب لله ورسوله؟! كم دفنوا من عدو للإسلام؟! كم دفنوا من ملحد؟ من زنديق؟ من محارب فـهولاكو مضى..! وجنكيز خان مضى..! أولئك كلهم مضوا، وقرون بين ذلك كثيرة مضت وبقي الإسلام شامخاً, لأنه دين الله عز وجل؛ موصولة جذوره وضاربة في الأرض وفروعه في السماء قال الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم:24-25] هذا مثل الكلمة الطيبة، ولا إله إلا الله هي الكلمة الطيبة.
فالابتلاء وارد, قد يؤذى المؤمنون، وقد يضعفون في وقت من الأوقات، وهذه سنة الله عز وجل كما حصل وكما عرف، لكن في النهاية النصر مع الصبر, وكم من أمة عاشت ما عاشه المسلمون في هذا الوقت؟ اليهود الآن لهم تمكين في دولة إسرائيل، ولهم نفوذ في الغرب في أمريكا وغيرها وفي الشرق -أيضاً- وقد أصبح اليهود يأتون إلى إسرائيل من روسيا مئات الألوف من المهاجرين, ويتجمعون, ولا شك أنها دولة تملك من القوة ما تملك, لكن! تساءل يا أخي الكريم!كم مضى على اليهود وهم مشردون مطرودون في الدنيا؟ مضى عليهم قرون طويلة واليهود كانوا أقليات تطارد في كل بلد, ولعلكم تسمعون ما يشاع عن هتلر في ألمانيا وماذا صنع بـاليهود, وقد يكون بعض ما قيل مبالغة لكن له أصل.
اليهود عاشوا كما أخبر الله تعالى عنهم ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران:112], عاشوا قروناً طويلة في غاية الذل، ومع ذلك -الآن- أعطوا بعض التمكين المؤقت، ومثلهم الرافضة الباطنية عاشوا أزمنة طويلة وهم أقليات مضطهدة مشردة, والآن قامت لهم دول تحميهم.
هذه هي القضية الأولى التي يجب أن تكون واضحة في أذهاننا، وهي: أن من أراد أن يقارن بين الإسلام والكفر, فعليه أن يستحضر كل هذه المقارنات، حتى يعتدل الميزان في نظره.
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر |
إذاً: مسألة المداولة: أمر طبيعي وكم مضى من الأمم والدول تتغير ويخلف بعضها بعضاً، ولذلك فإن المسلمين الذين شاهدوا أفول نجم الإسلام في بلد أو في أمة؛ يتكلمون عن هذه السنن؛ لأنهم لمسوها بأيديهم مثلما حصل في الأندلس, تسمعون وتعرفون القصيدة الشهيرة في رثاء الأندلس المنسوبة لـأبي البقاء الرندي وفيها يتكلم عن سنة إلهية (سنة المداولة) وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان |
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان |
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان |
يمزق الدهر حتماً كل سابغة إذا نبت مشرفيات وفرسان |
وينتضي كل سيف للفناء ولو كان ابن ذي يزن والغمد غمدان |
حركة التاريخ -أيها الإخوة- لا تتوقف أبداً، التاريخ يمضي, وحركة التاريخ لا تتوقف, لم تتوقف هذه الحركة عند المسلمين, فالمسلمون أنفسهم لما أخلوا بالسنة الإلهية وقصروا في الواجب وأخلدوا إلى الراحة، أصابتهم وحقت عليهم السنة فتأخروا وتركوا المجال لغيرهم..لم يتوقف التاريخ من أجل المسلمين، وهم أقرب الناس إلى الدين وإلى الله عز وجل وإلى الحق؛ فضلاً عن غيرهم من الأمم الأخرى.
من يملك القوة في كثير من الأحيان يغتر بها، ويفرح بما عنده، ويظن أن حصونه تمنعه من الله عز وجل, قال تعالى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر:2] أمر ليس في حسبانه، وليس واضعاً هذا الشيء في الاعتبار، وهذا الشيء الذي غفل عنه يكون هو سر زواله وانحلاله.
يقول الله تعالى: إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا [يونس:24] هنا تحققت السنة الإلهية أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس:24].
خذ على سبيل المثال: الشيوعية، هل تدري -يا أخي الحبيب- أن الناس كانوا يقولون: الشيوعية الآن مبدأ يقوم على الإلحاد وإنكار وجود الله، ومع ذلك لها دول تحميها ودول قوية عظيمة ممكنة؟ وما علموا أن مدة هذه الدول هي عشرات السنين، أي: ما يقارب السبعين سنة أو تزيد قليلاً, ثم بعد ذلك بدأ العد التنازلي لـ الشيوعية وزوالها.
هل تعرف يا أخي الحبيب! أن الشيوعية نفسها كانت تقوم على مبدأ يسمونه "ديالكتيك" ولا أريد أن أشرحه لأنه لا يناسب شرحه في هذا المقام, لكنه مبدأ يقول: إن هناك تغيراً دائماً في الكون، وفي النهاية إذا وصلوا إلى الشيوعية يقول لك: وصلوا هنا إلى الفردوس المنتظر وبعد ذلك ينتهي.
أي: أنهم يرون أن التاريخ يمشي حتى إذا وصل إلى الشيوعية توقف, فتتولى الشيوعية إلى الأبد هذا تفسيرهم وهذا منطقهم، ومع أنه منطق أعوج، فقد اغتر به من اغتر, وإذا بالتاريخ لا يبالي بهؤلاء ولا بغيرهم، فتبدأ الشيوعية تتساقط كما تتساقط أوراق الخريف.
هل تدري يا أخي الحبيب! أن هؤلاء الذين ينادون بالسلام العالمي يعنون أن يستسلم العالم لهم!! وإلا فلماذا ميزانياتهم الضخمة في التسليح؟ ولماذا ميزانيتهم الضخمة في الدفاع؟ ولماذا هذه الجهود الجبارة في ابتكار أخطر وأحدث أنواع الأسلحة البرية والبحرية والجوية؟!!
إذا كانت المسألة مسألة سلام، فلماذا سباق التسلح؟ ولماذا هذه الجهود الهائلة عند هؤلاء الغرب والشرق المنادين بالسلام العالمي؟ هذه الجهود لأنهم يقصدون السلام أن يظلوا هم سادة العالم وألا يوجد أحد ينافسهم على السؤدد، وعلى القوامة أو الوصاية على البشرية, ولذلك هم يرفعون بيد غصن السلام أو غصن الزيتون -كما يقال- وباليد الأخرى البندقية, بل إنهم يدخرون ويمتلكون أفتك ألوان الأسلحة بما في ذلك الأسلحة التي يقولون عنها: إنها محرمة دولياً -على حد تعبيرهم- مثل الأسلحة الجرثومية والكيماوية والبيولوجية والنووية، يتكلمون عن هذه الأسلحة أنها محرمة, وأنه لماذا تمتلك الـباكستان منها مثلاً؟.
حتى أنهم منعوا المعونة عن باكستان! فخفضوها من خمسمائة مليون إلى مائتين وثمانين -تقريباً- وحتى المائتين والثمانين هذه لا تصل إليهم؛ بل تمنع حتى يثبت أن باكستان لا تحاول أن تمتلك السلاح النووي, لماذا؟ لأن المسلمين لا ينبغي أن يمتلكوه..! أما هم فيمتلكون أفتك الأسلحة.
فهل المسلمون هم الذين ضربوا اليابان في هيروشيما ونجازاكي بالقنبلة الذرية؟! ليس المسلمون؛ بل ضربها الغرب, والتاريخ يشهد بأنهم ليسوا على مستوى أن يمتلكوا هذا السلاح؛ لأنهم يستخدمونه بغير محله, أما المسلمون فلا شك أن تاريخهم في هذا الأمر لا يزال لا يقاس بغيره.
إذاً هم ينادون بهذه الشعارات البراقة السلام العالمي.. والنظام العالمي..! ويتلقفها بعض بني جلدتنا وينسون أن هذا الأمر حتى شرعاً مستحيل, فعندنا نص يقول: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140], لم يقف التاريخ عند دولة الخلفاء الراشدين، ولم يقف التاريخ عند بني أمية، ولم يقف عند بني العباس، ولا عند بني عثمان، ولا عند أحد..! فكيف يقف عند الغرب أو روسيا أو أمريكا أو فرنسا أو غيرها؟!التاريخ لن يتوقف وسنة الله جارية، يداول الأيام بين الناس, ولا يمنع ولو بعد خمسين أو أقل أو أكثر، أن الله يكتب للأمة الإسلامية نصراً وتمكيناً، وتصبح أمة ظافرة ممكنة متى قامت بالأسباب الشرعية الممكنة.
ونحن نجد أن هناك أمماً كـاليابان والصين بدأت من الصفر وهي مسبوقة واستطاعت أن تستورد التقنية والتصنيع, وأن تبتكر وأن تنافس أرقى المنتجات العالمية, بل إن اليابان غزت حتى أمريكا في كثير من صناعاتها, مع أنهم سبقوا في البداية وضربوها، ولا زالت اليابان تعيش آثار وضع سابق.
إنما هذه شعارات ترفع ولا ينخدع بها إلا السذج، أما العاقل فيقول:
اصنعوا ما أردتم من بنود وارفعوها على حراب الجنود |
واستروا من ورائها أنياب الذئب بزيوف المنى وبرق الوعود |
ثم سوقوا لنصرها زمر الأنعام من كل جاهل وحقود |
فالأباطيل للزوال وإن أمهلن والحق وحده للخلود |
إذاً: فالاغترار بالقوة هو أعدى أعداء القوة نفسها, فالمؤمنون أنفسهم عاتبهم الله بقوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25].
إرهاصات النصر وبشائره كثيرة، هذه القلوب الحية التي تؤمن بالله عز وجل وتؤمن بوعده، وتنتظر موعود الله تعالى وموعود رسوله صلى الله عليه وسلم، وتعمل على تحقيقه بقدر ما تستطيع؛ هذه القلوب هي الأرضية الخصبة الصلبة لتحقق وعد الله تعالى, وصناعة المستقبل الإسلامي.
هذه الجموع من الشباب المؤمن المتطلع إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، والذي يتحرق إلى الشهادة، فإذا ذكر الجهاد وذكرت الشهادة ارتفعت روحه, وارتفعت من فمه الدعوات الصادقة بأن يرفع الله تعالى علم الجهاد.
هذه الدعوات الصادقة أيضاً من القلوب التي ترتفع في جوف الليل, تتحرى بصدق، وكل ما تدعو به هو أن يعز الله الإسلام والمسلمين ويذل الشرك والمشركين؛ وهذا لا شك أنه مبشر بوعد الله تعالى وتحقق الإجابة بإذنه عز وجل.
وكذلك هؤلاء الجنود المرابطون في كل مكان، وأعني بذلك: أولئك المرابطين على كل ثغر.. ثغر الجهاد باللسان، بالكلمة الطيبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثغر المال والجهاد بالمال في سبيل الله عز وجل على الفقراء والمساكين والمحتاجين والضعفاء والمجاهدين في كل مكان, ثغر الجهاد العسكري والذين يحملون السلاح في سبيل الله تعالى، لا يريدون إلا نصرة دين الله وإلا حماية شريعته وإلا الحفاظ على المؤمنين وحمايتهم من عدوهم.
الذين يجاهدون في ميدان الجهاد الاقتصادي، الذين يجاهدون ويرابطون في ميدان الجهاد الإعلامي, وكل ميادين الدعوة إلى الله عز وجل, هؤلاء الذين أصبحوا لا تخطئهم عينك في كل مكان, أي إدارة تدخلها أو مؤسسة أو مدينة أو بلد لا يمكن إلا أن تجد فيها نماذج حية من المؤمنين المتدينين الصادقين, وليس تديناً عادياً؛ بل تديناً على علم وبصيرة ووعي وإخلاص, وتجد الواحد منهم داعية إلى الله عز وجل فيمن حوله, من خلال نشر الكتب والأشرطة، والكلمة الطيبة، والدعوة، وإقامة حلقات تحفيظ القرآن والدروس العلمية إلى غير ذلك من الوسائل والأسباب.
بل إن من أكبر الأدلة والإرهاصات على مستقبل الإسلام هذا الرعب العالمي والخوف العالمي الذي قذفه الله تعالى في قلوب الكافرين من الإسلام, على رغم أن المسلمين في وضع معلوم، ومع ذلك الغرب والشرق يتنادون بخطر الإسلام القادم, حتى إنهم يطلقون على العالم الإسلامي اسم (العملاق النائم) الذي يخشون ويخافون أن يستيقظ في أي لحظة فيأتي على بنيانهم من القواعد, فيخر عليهم السقف من فوقهم ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، وهذا واقع بإذن الله تعالى..كما قال جل شأنه: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ [الحاقة:51] وقال: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88].
وكذلك هذا التقدم في المواقع التي يشهدها المسلمون -بإذن الله تعالى وعونه ونصره- يوماً بعد يوم.
إذاً: العالم يشهد الآن ميلاداً قوياً -إن شاء الله- لمستقبل مشرق لهذا الدين، ويجب على المؤمنين أن ينطلقوا بالعمل الصادق، وهم مؤمنون بأن هذا الوعد الإلهي سيتحقق -بإذن الله تعالى- وإن لم نشهد هذا نحن بأعيننا، فسيشهده أولادنا أو من يأتي بعدنا, وليس لأحد منا أن يقترح على الله تعالى تحقيق الوقت الذي يتحقق به, وإن كان الإنسان كما ذكر الله تعالى: وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً [الإسراء:11].
فالعبد يتمنى أن يرى نصر الإسلام بعينه، وكلنا ذلك الرجل, ومع ذلك فقد يتحقق هذا لنا أو يتحقق لأولادنا، المهم أننا قد ضمنا وآمنا وقطعنا بمقتضى علمنا بشريعة ربنا وعلمنا بسنن الله تعالى في الحياة, ومعرفتنا بواقع البشرية اليوم -أيضاً- بأن المستقبل قادم لهذا الدين, وأن نصر الله قريب غير بعيد.
الجواب: في نظري أن مجرد المتابعة أو سماع الأخبار إذا كان في حدود الاعتدال، فهو أمر طبيعي؛ لأن المسلمين الآن جميعهم أمام قضية تتعلق بهم قبل أن تتعلق بغيرهم, فالمشكلة التي تعانى الآن ويتكلم البشر كلهم عنها ليست مشكلة في الشرق أو الغرب أو بنما أو جواتيمالا أو غيرها, إنما هذه مشكلة في عمق بلاد العالم الإسلامي, ومن حق المسلم؛ بل ينبغي عليه أن يهتم بهذه القضية بوصفها إحدى قضايا المسلمين الحساسة والكبيرة والخطيرة؛ وليس صحيحاً أن يصبح المسلم مغفلاً، في حين أنك تجد المواطن الغربي يدري من هذه الأحداث أكثر مما تدري أنت.
فالمتابعة متى كانت معقولة ومعتدلة فهي أمر طبيعي -المتابعة بحد ذاتها-؛ لكن المشكلة أن كثيراً من الناس يتابعون بدون وعي, فهو لا يميز بين الأخبار الصادقة والأخبار الكاذبة؛ بل إن بعض المسلمين صار عندهم -مع الأسف- إحساس بأن الغرب صادق, فكثير من المسلمين يتصورون -مثلاً- إذاعة لندن ومونتكارلو وصوت أمريكا هذه إذاعات موثوقة, وبعضهم يضيف إسرائيل!!
ولا شك أن هذه الإذاعات قد تأتي بقدر كبير من الحقيقة, ولكن مع ذلك من المؤكد أنه حتى الغرب والشرق الآن أصبح يصنع الأخبار بطريقة ذكية خادعة يغتر بها كثير من الناس، ولذلك عليك بالتمحيص, وألاَّ تقبل كل ما تسمع على أنه حق, وأن تضرب الكلام بعضه ببعض, فقد يكون نصف الكلام صحيحاً أو ثلثه أو ربعه أو أقل أو أكثر.
فعليك أن تكون معتدلاً فيما تسمع، ولا تغتر بمجرد أن تسمع أن هذا نشر في إذاعة لندن أو نشر في صوت أمريكا أو نشر في مونتكارلو أو غيرها.
فبعضهم إذا قلت له: هذا غير صحيح! قال: يا أخي! أنا سمعته في إذاعة لندن!! وإذا سمعته في إذاعة لندن كان ماذا؟ هؤلاء كذبة في كثير من الأحيان، لكنهم يجيدون فن الكذب والخداع والتضليل, ويسوغون الكذب بطريقة ذكية تنطلي على السذج.
فعلى الإنسان حين يتابع الأخبار أن يتابعها بعقلية المؤمن.
كذلك هناك أمر في غاية الأهمية، وإن كان يحتاج إلى جهود وإلى كلام أكثر من هذا، وهو أن يتابع الإنسان هذه الأحداث، بروح المؤمن الذي يعرف سنة الله في عباده, فلو سألت كثيراً من الناس عما يجري.. وماذا يتوقعون أن تؤول إليه الأمور.. وما هي أفضل صورة يتحقق بها نصر الإسلام؟! لوجدت أنهم يقلبون أيديهم ولا يعرفون شيئاً.
بل إن عدوهم -في كثير من الأحيان- قد التبس عليهم بصديقهم، وأصبحوا لا يميزون النافع من الضار, وهذه مشكلة، فلا بد أن يستنير الإنسان بنور الله عز وجل, ويهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون عنده معرفة بالسنن ومعرفة بأفضل وضع يمكن أن يتحقق فيه مصلحة كبيرة للإسلام والمسلمين.
ثم مع ذلك على العبد أن لا يكون اهتمامه بالقضايا المادية الدنيوية والاعتماد على القوة, يا أخي.. أين الدعاء؟! هل تتصور هذه الأمة الطويلة العريضة التي يقولون عن إحصائياتها، لو صدقت أنها ألف مليون مسلم! ألا يوجد فيها شخص واحد صادق؟ ألا يوجد فيها صاحب قلب حي؟ أليس فيها صاحب سر مع رب العالمين يرفع دعوة صادقة تفتح لها أبواب السماء؟! سبحان الله! ما أظن هكذا إلا أن الناس أصيبوا بالذل، ورموا بشيء من الوهن, وأصبح كثير منهم يائساً.
حتى يقول لي أحد الإخوان: أكثرنا من الدعاء، ومنذ سنين ونحن نقول: اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ولا نرى المسلمين يزدادون إلا ذلاً, فقلت له: ومع ذلك -يا أخي- علينا أن ندعو وندعو وندعو ونصدق مع الله تعالى, ونبكي بين يديه, ونجرد قلوبنا من كل مطامع الدنيا, حتى يعلم الله عز وجل أنه ليس في قلوبنا إلا حب الإسلام, وإلا الغيرة على الإسلام, وإلا التطلع لنصر الإسلام, ولا يهم الواحد منا بعد ذلك أن يكون هو نفسه وقوداً لهذا الأمر, وأن يكون على حسابه، وعلى حساب غيره أن يموت شهيداً في سبيل الله عز وجل مقابل أن ترتفع راية لا إله إلا الله, فأنعم وأكرم ويا حبذا..!
فمتى وجد هؤلاء وجد أصحاب القلوب الحية, المتوكلون على الله تعالى الواثقون بنصره, الذين لا يعنيهم إلا مستقبل الإسلام, فلنثق بوعد الله تعالى.
الجواب: نعم بالنسبة للذنوب والمعاصي التي تحل بنا, والتي هي سبب ما نـزل, كما يقول العباس رضي الله عنه: [[ما نـزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة]].
فلا بد للمسلمين أن يعلنوا التوبة بصدق من جميع الذنوب والمعاصي, التوبة مما ذكره الأخ من المعاصي التي لا يكاد يخلو منها بيت؛ بل قد لا يخلو منها إنسان إلا من رحم الله, فيعلن العبد توبته إلى الله عز وجل, ولا بأس بل ينبغي أن يتصور العبد: من الذي ربما يكون سبباً فيما نـزل بالمسلمين من عذاب؟ ربما السبب معصية وقعت مني!.
يا أخي! أصحاب القلوب الحية السلف الصالح كان الواحد منهم إذا رأى السماء قد احمرت، والرياح قد عصفت رجع إلى نفسه، وقال: ربما أن الله تعالى قد سخط عليّ, وربما عذب الناس كلهم بسببي.
ولعلكم تعرفون قصة عبد الرحمن الداخل لما قحط المطر، وأجدبت الأرض ولم يحصل للناس ما تمنوه وطلبوه وسألوه من الغيث, أرسل إلى القاضي يقول له: نريد أن نستسقي غداً الاثنين, فقال القاضي: مالنا ولـعبد الرحمن كل يوم يقول: نستسقي.. نستسقي..!! ثم يقول للرسول: اذهب وانظر ماذا يصنع عبد الرحمن يقول: تستسقون وهو جالس في لهوه ولعبه وفساده، هذا لا يصلح! فذهب الرسول، ولما جاء وجد أن عبد الرحمن -وهو الخليفة المظفر المنصور الكبير- وجد أنه ساجد على الأرض على التراب وهو يبكي ودموعه تتحادر وهو يقول: يارب أنا عبدك ناصيتي بيدك، هأنذا بين يديك أتراك تعذب الخلق كلهم لأجلي، فرجع الرسول إلى القاضي وقال له: رأيته على هذه الحال. فقال له: احمل الممطرة وهلمّ إلى المسجد لنصلي نستسقي، فإذا خضع جبار الأرض رحم جبار السماء.
إذاً: كل إنسان منا ينبغي أن يخطر بباله احتمال أنه قد يكون ما أصاب المسلمين بسببه هو؛ هذا أمر.
الأمر الثاني: هناك ذنوب عامة، ومعاصي أمم, هناك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وترك الجهر بكلمة الحق, وترك الأخذ على يد السفيه, هناك ترك الأخذ بالأسباب من التقدم والتصنيع وبذل الوسع, هناك الظلم الذي يخيم في كثير من البلاد، وهو من أعظم أسباب أخذ الأمم والقرى, هناك الغفلة عن الضعفاء, الذين طلب النبي صلى الله عليه وسلم العناية بهم {أبغوني ضعفاءكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم -بدعائهم واستغفارهم} وهناك.. وهنا..!
فينبغي للأمة أفراداً وأمماً ودولاً وجماعات: أن تعلن التوبة إلى الله تعالى, وإعلان التوبة لا يكون باللسان؛ بل يكون مع إعلان التوبة باللسان بداية جادة لتصحيح كل وضع لا يرضي الله عز وجل.
الجواب: في الواقع أن هذه من الفرص التي تتاح للعباد وقد لا تتاح لك في وقت آخر, فنقول: هذه المسئولية على أهل هذا البلد والبلد القريبة -بصفة خاصة- وطلبة العلم والمشايخ والقضاة وغيرهم، أن يخافوا الله عز وجل في هذه المسئولية التي قد نقول: إنها عليهم أوجب من غيرهم, فهؤلاء نـزلوا بساحتكم وقريب منكم, فأصبح حقهم عليكم بالذات أن تقوموا وأن تعملوا على بذل الذي تستطيعون لهم, وقد عهدنا من أهل هذا البلد أنهم أهل الكرم والضيافة, وليس كرم الضيافة فقط بالأكل والشرب؛ بل إن أعظم كرم الضيافة: أن تقدم لهم العلم الذي يكون هادياً لهم إلى طريق الجنة!
هذا كرم الضيافة أن تبذل من وقتك الثمين جزءاً تقتطعه، وأن تقدم لهم تعليماً كشرح آية أو حديث أو حكماً من أحكام الإسلام, فينبغي أن تكونوا كما عهد الناس عنكم في هذا, وأن ترتب هذه الأمور بشكل مستمر، وهي فرصة لا تعوض وينبغي أن يستثمرها الإخوة في هذا البلد خاصة, أو من يستطيعون أن يستدعوه ليشارك معهم في هذا المشروع الكبير.
الجواب: في الواقع!: إن الذي لا يحب نصرة الدين هذا ليس بمؤمن, ولذلك قال بعض أهل العلم عندما ذكروا الأدلة أو صفات المنافق نفاقاً اعتقادياً: أنه يفرح بانخفاض دين الرسول ويسر ويحزن لارتفاعه وانتصاره.
إذاً: قضية أصلية في الإسلام، في الإيمان، في العقيدة؛ أن تكون ممن يتمنى نصرة الدين.
أما ماذا تفعل..؟ فأنا أريد أن أقف معك عند بعض الوقفات اليسيرة, يقول الله عز وجل في ذكر يوم القيامة: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:33-37].
إذاً: يوم القيامة كل إنسان له شأن يغنيه عن غيره، يلهو الرجل عن أمه وعن أبيه وزوجته وأخيه وقريبه وعن حبيبه، له شأنه يغنيه.
وكذلك الحال في الدنيا! فكل إنسان عليه واجب لا يقوم به غيره, فالأب عليه واجب لا يقوم به الولد؛ واجب التربية والتعليم والرعاية, والولد عليه واجب لا يقوم به الأب، وهو واجب البر والصلة والإحسان, والزوج عليه واجب لا تقوم به الزوجة والعكس, والحاكم عليه واجب لا يقوم به المحكوم, والمحكوم عليه واجب لا يقوم به الحاكم, فكل إنسان عليه دور يجب أن يقوم به, هذا أولاً.
ثانياً: المسلمون الأوائل كان الواحد منهم يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وهو مستخفٍ تجرأ عليه قومه فلا يستطيع أن يصلي أحياناً إلا سراً, ومع ذلك يأتي الرجل من البادية فيجلس عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ربما ساعة أو نصف ساعة مجلساً أو مجلسين يسمع آيات معدودات قد لا تتجاوز الخمس أو العشر، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله, ويخرج من مكة مستخفياً إلى قبيلته، وهناك يتحول إلى داعية من طراز فريد, فلم يتحول من الكفر إلى الإسلام فقط، لا؛ بل تحول من كافر محارب إلى داعية مجاهد مناضل في سبيل الله تعالى.
الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه من قبيلة دوس، يأتي إلى قريش فلا يزالون به حتى وضع في أذنيه القطن, لئلا يسمع الرسول صلى الله عليه وسلم, قالوا له: هذا يفتنك عن دينك, فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله إني رجل لبيب عاقل, انتقد نفسه في هذا التصرف أتعير عقلك غيرك وتقلد في هذه القضية الخطيرة؟! لا, فأزال القطن، وقال: أسمع من محمد عليه الصلاة والسلام، فإن كان ما قال حقاً قبلت, وإن كان باطلاً رددت, وأنا رجل أعرف الشعر من غيره وأعرف الهجر والرجز والقصيد والنظم والنثر.
المهم: أنه استمع من الرسول صلى الله عليه وسلم فرأى حقاً لا يقبل الجدل في الوجه مباشرة, فآمن وأسلم ودخل الإيمان قلبه.
ماذا صنع الطفيل بن عمرو الدوسي؟! إنه ما جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ربما جلسة واحدة, فرجع إلى قومه، فأقبلت إليه زوجته، فقال: إليك عني! فلست منك ولست مني! فتقول: ولم بأبي أنت وأمي؟ قال: فرق الإسلام بيني وبينك أنا مسلم وأنت كافرة, قالت: ديني دينك! قال: إذاً اذهبي واغتسلي, فجاءه أبوه وجاءته أمه، فقال لهما مثل ما قال لزوجه، وجاءه قومه -وله عندهم مكان- فقال: اذهبوا لست منكم ولستم مني, قالوا: ولم؟ قال: أنا مسلم وأنتم كفار, قالوا: ديننا دينك , فأسلموا عن آخرهم!! فما كان هناك أحد أكثر بركة على قومه من هذا الرجل, تحول إلى داعية من طراز فريد خلال جلسة واحدة.
بل الأعجب من ذلك: الجن الذين حكى الله عنهم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف:29] فلما منعوا من استراق الوحي من السماء، قالوا: هناك أمر قد حدث، فتفرقوا في البلاد ينظرون ماذا حدث؟ جاء مجموعة أو دورية من دورياتهم جاءت ووجدت الرسول عليه الصلاة والسلام في بطن نخلة يصلي الفجر ويقرأ القرآن, قالوا: أنصتوا, فلما سمعوا القرآن وجدوا شيئاً لذيذاً فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف:29] جلسة واحدة يا أخي الكريم! فقط وسمعوا من الآيات آيات محدودة, أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر ما بين الستين إلى المائة، ولنفترض أنهم أدركوا الصلاة من أولها وسمعوا مائة آية -هذا إن كانوا سمعوا مائة آية- بعد ذلك لما قضي، قال تعالى عنهم: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29] لاحظ لم يقل: مسلمين، ولا قال: مؤمنين, أي: تحولوا من كفار إلى مسلمين بل إلى دعاة مباشرة بدون حواجز ولا واسطة وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29] (ولوا) أي: مسرعين, يركضون, وليس في قلوبهم إلا الإنذار، نسوا كل شيء، حتى الموضوع الذي جاءوا من أجله نسوه، فكل همهم الآن هو قضية الدعوة: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنـزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:30-32] إلى آخر الآيات.
فهؤلاء القوم صاروا متحمسين.. صاروا غيورين.. تشتعل في قلوبهم نار الغيرة على الدين, والغيرة على قومهم أن يموتوا على الكفر, فينادونهم بهذا الشكل.
لكن أنا وأنت كم ختمنا القرآن من مرة؟! كم سمعناه في رمضان وغير رمضان؟! كم حضرنا من مجلس؟! كم سمعنا من خطبة؟! كم قرأنا من كتاب؟! كم سمعنا من شريط؟! ومع ذلك تجد أغلب المسلمين؛ بل كثيراً حتى من رواد المساجد تجده سلبياً يقول: لا شأن لي ولا دخل لي ولا علاقة, إنما نلقي المسئولية على الآخرين, ونوزع المسئوليات, هذه مسئولية العالم وهذه مسئولية الحاكم، وهذه مسئولية قاضي البلد وهذه مسئولية فلان..!! إذاً أين أنا وأنت؟ أصرنا خارج الدائرة؟ أين قوله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:95]؟ أين قوله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37]؟!
يجب أن يكون كل واحد منا داعية وطالب علم, وألا نكتفي بإلقاء المسئولية على فلان, أو علان من الناس, وإن كان عالماً جليلاً, ولو كان في منـزلة أبي بكر رضي الله عنه -ولا يكون أحد في منـزلة أبي بكر من بعده رضي الله عنه؛ لأنه لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح بهم- ولكن مع ذلك في عهد أبي بكر ما كان واحد من الصحابة يقول: قد كفينا بـأبي بكر ولا يصنع شيئاً, بل كان كل صحابي يقوم بدوره في الدعوة وفي الجهاد وفي الأمر بالمعروف في النهي عن المنكر، وفي الإصلاح بقدر ما يستطيع، وهذا هو الأمر الذي ننتظره منك يا أخي الكريم!
أدِّ الدور الذي تستطيع في بيتك، أو في الفصل الذي تدرس أو تدرس, أو في المدرسة، أو المسجد, أو الحي أو الأسرة والعائلة, بأي وسيلة، ولا شك أن الإنسان الجاد يعرف كيف يخدم دينه، والعرب يقولون: الحاجة أم الاختراع.
الجواب: نعم هذه ظاهرة ملفتة للنظر، وقد كان الذين يؤيدون العراق قليل, لكن الآن بعدما وقعت الحرب أصبحنا نسمع -وهذا كلام الإعلام- المظاهرات في عدد من بلاد العالم الإسلامي، تؤيد العراق فما هو السبب في ذلك؟!
أعتقد أن الأسباب كثيرة:
قد يكون جهل المسلمين سبب في ذلك.
ولكن هناك سبب آخر وهو: ما ذكرته أثناء المحاضرة أن العراق أصبح يجيد فن الكذب والخداع, والكذب والخداع له أصول, فالذي يضبط أصول الكذب يستطيع أن يخدع الناس ولو لفترة من الزمان, كما يقولون في المثل: (تستطيع أن تخدع الناس كلهم جزءاً من الوقت, وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت, لكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت) فـالعراق الآن يمارس خداع بعض الناس بعض الوقت, لماذا؟ لأنه تاجر بقضية الدين رفع شعار الدين وقضية الجهاد المقدس -كما يعبرون- وما أشبه ذلك، فاغتر به كثير من الناس الذين لم يسمعوا هذا الكلام منذ زمان طويل, وهذه لعبة لا شك أنها تحتاج إلى من يجيدها, فمن أجادها استطاع أن يستفز كثيراً من المشاعر، ويلهب كثيراً من النفوس والقلوب التي طالما اشتاقت وتطلعت إلى القضاء على اليهود مثلاً وإلى نصرة الإسلام وإلى الدفاع عن حقوق المضطهدين والمشردين من الشرق والغرب كـفلسطين أو غيرهم.
فالذي يستطيع أن يستخدم هذه الأمور بطريقة ذكية فقد يضلل الناس لفترة من الزمان, أعتقد أن هذه من أهم الأسباب وقد يكون هناك أسباب أخرى.
الجواب: نعم هذه من أعظم المشكلات التي يجب أن يتكلم عنها الدعاة وطلبة العلم والخطباء، وأن يخافوا الله عز وجل, لأن قضية الولاء والبراء قضية جوهرية ولب في الإسلام, حتى إنه لم يرد من النصوص بعد الشهادتين في القرآن أكثر مما ورد في موضوع الولاء والبراء.
والقضية واضحة أن الكون منقسم إلى قسمين: "مسلمين" و"كفار", المسلمون بعضهم أولياء بعض, والكفار بعضهم أولياء بعض, قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
وحتى الكفار الكفر ملة واحدة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51] وقال: يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [الممتحنة:1] وقال: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] لا توجد حيلة يا إخوان! هذا كلام رب العالمين ولن: بنفي التأبيد, وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
إذاً أمم الكفر -بعثيّها وشيوعيّها واشتراكيّها ونصرانيّها ويهوديّها- كلهم لن يرضوا عن المسلمين، حتى يتبع المسلمون ملتهم, وهذا لن يحدث إن شاء الله تعالى, فالمسلمون يثبتهم الله بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
المهم: توضيح هذه العقيدة، ورسم معالمها من خلال القرآن الكريم، والسنة النبوية والتاريخ من أهم المهمات التي ينبغي أن تطرق في مثل هذه الظروف.
الجواب: مقصود السائل القنوت في الفريضة, قنت النبي صلى الله عليه وسلم في النوازل في الصلوات كلها ظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً وفجراً, ولا بأس أن يقنت الإنسان في النوازل التي تنـزل بالمسلمين, ولا شك أن المسلمين الآن يعيشون نوازل وليست نازلة واحدة.
فالقنوت في مثل هذه النوازل في الفريضة لا بأس به, لكن ينبه في هذا على أمور:
1- الدعاء ليس مخصوصاً في القنوت بل يدعو في كل حال, وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد, وجوف الليل الآخر من أقرب أوقات الإجابة, والدعاء الخفي من أوقات الإجابة، قال تعالى: ((إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً)) [مريم:3], فلا تنسى هذا.
2- أن الإنسان ينبغي أن يدعو بالجوامع من الدعاء, فبعض الناس يدعون ويتكلفون في الدعاء وقد يعتدي أحدهم في الدعاء ويطيل بما لا جدوى منه, وكان يمكن أن يختصر دعاءه بكلمات مختصرة يدعو للمؤمنين ويدعو على الكافرين.
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو بالجوامع من الدعاء, أي الكلمات المختصرة التي تجمع معنى عظيماً في لفظ موجز!!
3- أنه لا ينبغي المشقة على الناس؛ لأنه ما دام أنك تقنت في كل الأوقات أو أكثرها، يشق على الناس أن تقنت ربع أو ثلث ساعة, ولا ينبغي أن تبغض إلى الناس هذه العبادة؛ بل اقنت خمس دقائق أو أقل من ذلك -كما ذكرت- بجوامع من الدعاء, ولعل الله يجعل فيها البركة.
الجواب: لا شك أن الذهاب إلى أفغانستان للتدريب أمر طيب في كل وقت, وأما الذهاب للجهاد، فلا ينبغي أن يذهب الإنسان إلا بإذن والديه، فإن لم يأذنا له بذلك فلا يذهب.
الجواب: أما الدين فنعم, وأما كثرة المعاصي فيا أخي: الجهاد يذهب الله به المعاصي, {ألم تعلم بأن الشهيد يغفر له مع أول قطرة من دمه؟ إلا الدّين كما أخبرني بذلك جبريل آنفاً} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
الجواب: نصيحتي بالنسبة للأكل لا بأس أن يقلل أحدهم من الأكل, ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه, وأما النوم إن كان قد قضى وقته بقيام وذكر وقراءة قرآن؛ فحبذا، قال تعالى: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17].
أما بالنسبة للأحداث، فأقول: إننا نحن في هذه البلاد بالذات منذ زمن طويل لم نتعود على الحروب, ولذلك وقعت على كثير من النفوس وقعاً شديداً, حتى اتصلت بي إحدى النسوة في أحد البلاد تقول: بسبب صفارات الإنذار أصبحت أخاف من كل شيء, فإذا سمعت صوت الطفل وهو يبكي؛ أصابني فزع, وإن سمعت صوت السخانة فزعت! وإذا سمعت أي صوت. فزعت! بسبب شدة الخوف, وهذا باعتقادي أنه أمر طبيعي لأنه ما اعتاد الناس على ذلك، ومع الوقت يتحول الأمر إلى عادي ويتأقلمون مع هذا.
إضافة إلى هذا نقول: هذا بسبب ضعف الإيمان وشدة الخوف من غير الله تعالى.
فينبغي أن يحث الناس ويربوا على الخوف من الله والثقة بوعد الله والإيمان بالقضاء والقدر, وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
الجواب: نعم, كما ذكرت في أثناء المحاضرة وسبق أني ذكرت في مناسبات كثيرة, من أهم أسباب دفع البلاء أن نلتفت إلى المستضعفين, والمستضعفون قد يكونون بيننا، وقد يكونون شعوباً إسلامية أخرى مسها البلاء, وصاحوا ونادوا وما التفتنا إليهم! فينبغي أن نستدرك ما حدث من تقصير بدعم إخواننا المجاهدين الذين يستغيثون بنا في كل مكان:
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم أسرى وقتلى فما يهتز إنسان |
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان |
فينبغي أن ننصر إخواننا المجاهدين، ولا شك أن نصرهم بالمال خاصة في هذه الظروف من أهم أسباب دفع البلاء.
فأدعو إخواني إلى مساعدتهم بذلك دون أن نتبع ما أنفقنا مناً ولا أذى، وإنما هو مال الله استخلفكم فيه، قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7] وقال: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33].
اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك, اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعلِ بفضلك كلمة الحق والدين, اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم اخذل أعداء الدين, اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين, اللهم أنـزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين, اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك, اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك, اللهم عليك بهم, اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف, اللهم اشدد على الكافرين وطأتك, اللهم اشدد عليهم وطأتك, اللهم ارفع عنهم يدك، اللهم من أراد الإسلام أو بلاد الإسلام أو المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره, اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا حي يا قيوم يا من قال في محكم تنـزيله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:16-17]!!
اللهم اخذلهم، اللهم أنـزل عليهم بأسك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم آمنا في أوطاننا, اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضوانك يا حي يا قيوم.
اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وما فعل السفهاء منا، إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
اللهم اكتب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, اللهم استجب اللهم استجب.
اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر