أما بعد:
هذا هو الدرس الخامس والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين (12) جمادي الأولى لعام (1412هـ).
أيها الأحبة الكرام، حديثي إليكم هذه الليلة عنوانه: (لماذا نخاف من النقد)؟
لعله ليس بغريب على أسماعكم، الحديث عن التخلف المطبق في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، سواء من الناحية العلمية، أو من الناحية الدعوية، أو من الناحية الاجتماعية، أو من الناحية السياسية على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي فإننا نعلم جميعاً وهذا مما لا يحتاج إلى إعادة أو تكرار أن المسلمين يعيشون اليوم أحط عصورهم، وأردأ أيامهم، ولعله ليس من قبيل المبالغة أن نقول: إنه لم تمر بالأمة الإسلامية منذ بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقامت دولة الإسلام في المدينة، وعبر حقب التاريخ في عصوره، مثل هذه الأيام الكالحة المظلمة، التي استحكمت فيها غربة الدين، وأطبق الأعداء بفكيهم على المسلمين، فهم يعيشون في تخلف مريع لا يعلمه إلا الله.
ومع ذلك كله، ومع أن التخلف في عالم الإسلام شامل لكل مجالات الحياة دون استثناء، إلا أننا نجد من المسلمين عموماً، مقتاً وبغضاً وكراهية لأي لون من ألوان النقد، أو المراجعة أو التصحيح بل إنك تجد المسلمين اليوم أفراداً وجماعات وأمماً ودولاً، يعتبرون النقد في كثير من الأحيان جريمة، فيجرمون المنتقد ويعتبرونه -كما يعبر بعضهم- خارجاً عن القانون، أو أنه مشكك في المكتسبات التي حققتها هذه الأمة، أو هذه الفئة، أو تلك الجماعة، أو تلك الدولة، أو أنه يسعى إلى زعزعة أمن البلد والمجتمع واستقراره، أو أنه يحمل أهدافاً سياسية، وهو يعبر عنها من خلال النقد والتصحيح والمراجعة، ولذلك نجد أن الدول تصنف الذين ينتقدون أو يصححون أو يراجعون، أو- بأسلوب آخر- تصنف الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أنهم ضمن الخصوم.
وكذلك أقول: مع الأسف إن كثيراً من الجماعات الإسلامية قد تعتبر من ينتقدونها هم أعداء لها، بل ربما تعتبرهم أحياناً أعداءً للإسلام ذاته، أما الأفراد فغالبنا يعتبر من ينتقده، أو يستدرك عليه أو يصحح خطأ وقع فيه، يعتبره عدواً له، أو حاقداً عليه. هذه نقطة.
وبناءً عليه نقول: هذا الاعتراف الغامض المبهم بأنك بشر، أو لست بمعصوم، أو عرضة للخطأ، هذا الاعتراف لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا ينفعنا في قليل ولا في كثير.
قبل هذا نملك منهجاً إلهياً ربانياً، وضح لنا كيف نتعرف على الخطأ في أنفسنا وفي غيرنا، وكيف نقوم بتصحيح هذا الخطأ، سواء كان هذا خطأنا نحن أم كان خطأ الآخرين -كما سوف تأتي الإشارة إلى شيء من ذلك - والمؤسف جداً أن هذا المنهج الذي هو في أصله منهج إسلامي ينبثق من هذا القرآن الكريم، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أن الغرب أفاد من هذا المنهج على الأقل في الناحية الدنيوية، فأرسوا قواعد النقد بين الحاكم والمحكوم، ووضعوا أسسه وضوابطه، سواء في المجال الإعلامي، أم في المجال العلمي، أم في المجال السياسي أم غيرها، بحيث أصبح كل فرد منهم يعرف كيف ينتقد، وكيف يوجه، وكيف يشارك برأيه في كل قضية صغرت أم كبرت، جلت أم عظمت، فأصبح كل إنسان منهم يحس أنه يشارك مشاركة فعالة في إدارة دفة المجتمع، وفي تصحيح الأخطاء، وفي توجيه الناس، أفادوا من المنهج الإسلامي من الناحية الدنيوية، أما المسلمون، فإن كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام أقرب ما يكونون -وأقولها مهما كانت ثقيلة على لساني- أقرب ما يكونون إلى سلوك المنهج الفرعوني، الذي يقول: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] ومن الصعب جداً على كثير من الناس اليوم، ممن ينتسبون إلى هذا الدين أياً كانوا، سواء كانوا من أصحاب النفوذ والسلطان، أم كانوا من العلماء، أم كانوا من الدعاة، أم كانوا من عامة الناس، فمن أصعب الأمور على الواحد منهم أن يصغي أذنه لتقبل نقداً أو ملاحظة، فضلاً عن أن يوافق على ذلك أو يسعى إلى تصحيحه.
الموت نقاد على كفه دراهم يختار منها الثمين |
فهذا معنى للنقد: اختيار الجيد وتمييز الزيف.
المعنى الثاني: هو العيب والتجريح فأنت تقول: نقدت فلاناً بإصبعي إذا ضربته به، ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[الناس إن نقدتهم نقدوك وإن تركتهم لم يتركوك]] أي: إن عبتهم عابوك، وإن سكت عنهم عابوك أيضا- فلا سلامة منهم (سلمتُ وهل حيٌ على الناس يسلمُ)
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي الدرداء: {اللاعنون لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة} فاللعان هو الذي لا يعرف الناس إلا موضع العيب، كل ما ذكر عنده شخص عابه فإن ذكر عنده شخص بعبادة، قال: نعم عابد، ولكنه ليس بعالم، والعبادة بلا علم تضر أكثر مما تنفع، فإن ذكر عنده شخص بعلم، قال: نعم هو عالم، ولكن المشكلة في النية، إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فإن ذكر عنده شخص بجهاد قال: ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته، فإن ذكر عنده شخص بالإنفاق في سبيل الله، قال: فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً [الأنفال:36] وهكذا كلما ذكر عنده شخص بمحمدة أو مدح أو ثناء، بحث عن عيب ويلصقه به، وكأنه لا يسره إلا ذكر الناس عنده بالشر والسوء هذا الموجود على غالب الناس اليوم.
وهذا يشبه القصة التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما، في قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه وفيها عبرة، فإن أهل الكوفة شكوا سعداً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل عمر إليه فجاءه، فقال له: يا أبا إسحاق، لقد شكوك في كل شيء حتى قالوا: لا يحسن يصلي- حتى الصلاة قالوا: لا يعرف كيف يصلي- فقال سعد رضي الله عنه وأرضاه: أما والله يا أمير المؤمنين، إني لا آلو أن أصلي بهم، كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، أطيل في الأوليين، وأخف أو أحذف في الأخريين، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: هذا هو الظن بك يا أبا إسحاق -هذا ظني بك-، لكن عمر رضي الله عنه وأرضاه، لم يكتف بمجرد قناعته الشخصية بـسعد بن أبي وقاص؛ لأنه أمام شكوى من الشعب، من المواطنين، فلا بد أن يتثبت من هذه الشكوى بروح المحايدة، والعدل، والإنصاف، ويعتبر أن سعداً طرف وخصم، وأن أهل الكوفة طرف وخصم آخر، فيرسل عمر رضي الله عنه لجنة لتقصي الحقائق، وتذهب هذه اللجنة لا لتسأل أعيان البلد أو خواصهم، الذين يفترض أن الأمير قد يدنيهم إليه، وقد يكسب رضاهم بأي وسيلة وبأي ثمن! لا بل تذهب هذه اللجنة، لتقف في المساجد والأسواق، ويقولون لأهل المساجد: ماذا تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؟ فكلما ذكروه في مسجد أثنوا عليه خيراً، حتى جاءوا إلى مسجد من مساجد بني عبس، فقالوا: ما تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص؟ فسكتوا وأثنوا خيراً فقال رجل، يقال له: أسامة بن قتادة: أما إذ سألتنا فوالله إن أميرنا سعد بن أبي وقاص لا يعدل في القضية، ولا يحكم بالسوية، ولا يسير بالسرية وصفه بالجبن، والظلم، والحيف، وعدم الإنصاف والعياذ بالله، فغضب سعد بن أبي وقاص من ذلك أشد الغضب؛ لأنه يعلم أن هذا الرجل كاذب، فقال: [[اللهم إن كان هذا قام رياءً وسمعة وكذباً، فإني أسألك ثلاثاً: اللهم أطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] يقول أحد رواة الحديث: فأنا والله قد رأيتُ هذا الرجل شيخاً كبيراً قد عمي، وهو يقف في الأسواق يتعرض للجواري يغازلهن ويغمزهن، وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وهو يقول: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد، فأنت تلاحظ هاهنا، كيف أن هذا الرجل لم يعرف لـسعد بن أبي وقاص، أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بلاءه وجهاده في الإسلام، ولا أنه من أهل الجنة، ولا شيئاً من ذلك، إنما ذكر مثالبه ومعايبه التي هي -في الواقع- كذب وافتراء، وإلا فإن سعداً بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولا شك أن النقد بهذا المعنى محرم، لأنه نوع من الغيبة، والله عز وجل يقول: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات:12].
وفي صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ فقال: {ذكرك أخاك بما يكره. قال: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته}.
وقد ذكر القرطبي رحمه الله، إجماع العلماء على أن الغيبة من كبائر الذنوب، فهي إما أن تكون غيبة بهذا الاعتبار، وذلك كالذين يبحثون عن عيوب الناس ومثالبهم، ويفترض أن هذه العيوب والمثالب موجودة فيهم، فيتكلمون بهم في المجالس ويغتابونهم، ويقعون في أعراضهم، ويبتغون للبرآءِ العيب، فهي غيبة حينئذٍ فإن كانوا أبرياء مما وصفوهم به فهو بهتان وظلم، والله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الظالمين، يقول عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: {يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا} لا يظلم بعضكم بعضاً، وليس دافع هؤلاء بكل حال الإصلاح، لا. ولا تصحيح الأخطاء وإنما دافعهم الحسد والبغي والحقد والظلم، وما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى له العقوبة في الدنيا -مع ما يدخره لصاحبه في الدار الآخرة- من البغي وقطيعة الرحم، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صحيح أن هناك حالات قد يجوز للإنسان فيها أن يغتاب، والقاعدة العامة والضابط العام في مثل هذه الحالات، هي ما إذا كانت مصلحة الغيبة أعظم من مفسدتها، راجحة على مفسدتها، وذلك لأن الغيبة مفسدة ظاهرة في إيذاء الإنسان الذي اغتبته، إيذاءه وظلمه، والحط من قدره فهذه، مفسدة ظاهرة، ولذلك حرم الله تعالى الغيبة.
لكن إذا كان في الغيبة مصلحة أعظم من ذلك، فحينئذٍ تجوز الغيبة، وقد ذكر العلماء ست حالات، بل ذكر بعضهم تسع حالات، قالوا: إنه يجوز فيها أن ينال من الشخص بعينه وبذاته؛ لأن مصلحة الغيبة حينئذٍ راجحة ظاهرة، وذلك كالتحذير من الفساق والتحذير من المنافقين، والتحذير من أهل البدع وغير ذلك.
مما يدخل في باب النقد من الناحية الشرعية، أمور:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم عن أبي هريرة في حق المسلم على المسلم، قال: {وإذا استنصحك فانصحه} وفي الحديث الثالث، وهو صحيح أيضا: {إن الله يرضى لكم ثلاثاً... وذكر منها: أن تناصحوا من ولاه الله أمركم} والحديث المشهور حديث تميم بن أوس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الدين النصيحة -ثلاثاً- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم} بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال، في الحديث الذي رواه أبو داود بسند حسن، كما يقول الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، يقول: {المؤمن مرآة أخيه المؤمن} فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه المؤمن بالمرآة، إذا وقف أمامها الإنسان رأى صورته الحقيقية، بما فيها من حسنات وما فيها من عيوب؟! فإننا نعرف أن المرآة تعكس صورة الشخص بحسنها وقبيحها، وحلوها ومرها، وجيدها ورديئها؛ وذلك لأن الإنسان ربما لا يستطيع أن يعرف نفسه، ولا يرى نفسه جيداً، إلا من خلال رؤيته لنفسه في أخيه المسلم الذي هو مرآة له.
فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآةِ< |
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا يعتبرون أن أحداً يُقصر في ذلك، لا أميراً ولا مأموراً، ولا كبيراً ولا صغيراً، ولا يجاملون فيها أحداً قط، وما قصص الصحابة رضي الله عنهم من ذلك بأمر قليل، فإنهم قد انتقدوا على بعضهم بعضاً أموراً كثيرة، كما انتقد علي رضي الله عنه على عثمان أنه نهى عن المتعة في الحج، ولما سمع أنه ينهى عنها، أهلَّ بها علي بأعلى صوته: لبيك عمرةً متمتعاً بها إلى الحجِ، ولم يقُل: هذا أجامله، أو أستحي منه أو أقره؛ لأنه لا يرى أن في هذا حطاً من قدره؛ لأن فيه إحياءً لسنةٍ من سنن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك لما رأى ابن عباسٍ معاويةَ يستلم أركان البيت كلها، ويقول: ليس شيء من البيت مهجوراً انتقده ابن عباس علانيه، وهو كان له مكانة عالية وأمير، وقال له ابن عباس: [[لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يستلم إلا الركنين]].
ولم ير معاويةَ أن في هذا حطاً من قدره ولا بخساً لمكانته، كما لم ير ابن عباس أن مكانة معاويةَ تمنع من أن يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، ويُقال له: هذا هو الطريق فالزمه.
موقف السلف من محاسبة أنفسهم:
إذاً الفرد والجماعة والدولة والأمة، كلها تراقب نفسها، ولذلك قال عمر رضي الله عنه -كما في سنن الترمذي- قال: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً عند الله عز وجل، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتهيئوا للعرض الأكبر يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]]] والحديث أيضاً رواه ابن أبي الدنيا في كتابه محاسبة النفس والإزراء عليها.
كذلك حنظلة بن الربيع الأسيدي كما في صحيح مسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو حزين يبكي، وقال: يا أبا بكر نافق حنظلة -أنا منافق-. قال: وما ذاك؟ قال: أكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال، فإذا ذهبنا منه عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات، ونسينا كثيراً.
إذاً: هو انتقد نفسه وحاسبها، حتى اتهم نفسه بالنفاق، وقال أبو بكر: والله إن كلنا كذلك، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {لو تكونون على كل حال كما تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا
إذن الإنسان أول ما ينتقد ينتقد نفسه، وكذلك الفئة والجماعة، والطائفة والأمة والدولة، تنتقد نفسها قبل أن تترك فرصة لينتقدها الآخرون، أو تترك فرصة لاستفحال الأخطاء والأمراض والآفات والمنكرات، بحيث يصعب بعد ذلك تصحيحها أو استدراكها. ورضي الله عن سلف هذه الأمة الكرام، كيف كانوا في صدق عبوديتهم لله عز وجل، وخالص إيمانهم وحرارة تقواهم وصفاء قلوبهم، ومع ذلك كله لم يكن هناك أحدٌ أكثر منهم محاسبةً لأنفسهم، وإننا نجد اليوم من الناس من يكون والغاً في المعاصي والفسوق، ومع ذلك لو أُنكر عليه أو صُحح، لقال: أنا.
أما هم فمع صيام النهار، وقيام الليل، وصدق التعبد، وحرارة التقوى، مع ذلك، اسمع ماذا يقول مطرف بن عبد الله رضي الله عنه وهو من عباد السلف وزهادهم في يوم عرفة، يقول: [[اللهم لا ترد هذا الجمع كله من أجلي]]- رأى الحجاج وما هم فيه من البكاء والابتهال، فأنحى على نفسه، وخشي أن يُرد الحجاج بسببه هو- فقال: [[اللهم لا ترد هذا الجمع كله من أجلي]] ومثله بكر بن عبد الله المزني، يقول: [[لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أن الله غفر لهم لولا أني كنت فيهم]].
يونس بن عبيد رحمه الله، يقول: [[والله إني لأعد مائة خصلةٍ من خصال الخير ما أعلم في نفسي واحدةً منها]] فليس عندهم كبرياء، ولا غطرسة، ولا غرور، وما فيهم أحد يقول: أنا أنا.
يقول ابن أبي مليكة: [[لقد أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما فيهم واحد إلا يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وإسرافيل]].
هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم التابعون لهم بإحسان.
هذا محمد بن واسع يقول - وقد مدحه الناس وأثنوا عليه وهو مريض- قال: [[وما يغني عني ما يقوله الناس، إذا أُخذ بيدي ورجلي وذهب بي إلى النار]].
إذاً مدح الناس وثناؤهم والضجيج الإعلامي، حول فلان من العلماء أو فلان من المسئولين، أو مدح الناس لفلان؛ لأنه مشهور أو معروف، هذا لا يغني عنه شيئاً إذا كان ما بينه وبين الله غير مستقيم، وإذا كان ما بينه وبين الله حسن فلا يضره أن يكون الناس بخلاف ذلك.
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب |
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب |
فوائد محاسبة النفس سراً وعلانية:
وقد يحاسب الإنسان نفسه سراً بينه وبين نفسه، فيعاتبها ويوبخها، وهذا لا شك أنه أبعد عن الرياء، وهو يدعو الإنسان إلى أن يتواضع ويعترف بالخطأ، ويراجع نفسه أولاً بأول، وقد يحاسبها علانية وعلى ملأ من الناس، وعلى مرأى ومسمع منهم، وهذا له إيجابية ومنافع كثيرة، منها:
الفائدة الأولى: أنه يعترف بهذا الخطأ لئلا يُتابع عليه، وذلك إذا كان خطأ مشهوراً معروفاً متداولاً عند الناس، فيعلن أنه رجع عنه أو تاب منه؛ لئلا يتابعه الناس عليه، كأن يكون صاحب بدعة تاب منها، فيقول للناس: من كان يعرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فلان بن فلان، كنت أقول كذا وكذا والآن تبت منه مثل ما قاله أبو الحسن الأشعري في خطبته المعروفة.
الفائدة الثانية: والاعتراف علانية أيضاً من فوائده: أنه يعود الآخرين على ذلك. فإن الناس يحن بعضهم إلى بعض، ويقلد بعضهم بعضاً، فإذا كان العالم أو الحاكم أو الداعية، عود الناس أنه يعترف بالخطأ علانية وأمامهم، يقول: قلت كذا وهذا خطأ، وفعلت كذا وهذا خطأ وأنا أتوب، فإن الناس حينئذٍ يتعودون على أن يعترفوا هم أيضاً بأخطائهم، ويرجعوا عنها، ويحاولوا تصحيحها أولاً بأول.
الفائدة الثالثة: من الاعتراف العلني: أنه يقطع الطريق على خصومك؛ لأنهم قد يأخذوا هذه الأخطاء ويشنعون بها عليك، فإذا اعترفت بها علانية قطعت الطريق عليهم.
الفائدة الرابعة: أنه يضع الإنسان في مكانه الطبيعي، فلا يكون هناك تعصب لفلان من الناس، فإننا نجد -مثلاً- من الطلاب من يتعصب لعالم من العلماء، لماذا؟ لأنه لا يعرف إلا الصواب من أقواله. لكن لو أن هذا العالم قال: أنا أخطأت في كذا وكذا. عرف الناس حينئذٍ أنه ينبغي ألا يتعصبوا، وأن يأخذوا أقواله باعتدال ودراسة ومقارنة ولا يغلوا فيه أو يفرطوا.
وكذلك الحال بالنسبة لغيره، مثلاً: المتنفذ أو المسئول، إذا كان يعترف بخطئه ويتراجع عنه، فإنه بذلك يشجع الناس على أن يوافوه ويواصلوه بالخطأ ويناصحوه، كلما رأوا عليه شيئاً يحتاج إلى مناصحة.
إنه يدري أن ثمة اعترافاً في الدار الآخرة بالأخطاء كلها، فالمنافقون والمشركون والكفار كلهم يعترفون بأخطائهم يوم القيامة اضطراراً يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ النور:24] وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ [فصلت:22] فهو اعتراف مفضوح لابد لهم منه، ولذلك يقول الأشهاد يوم القيامة: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ هود:18] فيعترفون بالخطأ، بل يُفضحون بالخطأ فضحاً على رءوس الأشهاد، بعدما كانوا ينكرونه، ويقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] ويقولون -كما قال الله عز وجل-: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ المجادلة:18] فيُفضحون على رءوس الأشهاد يوم القيامة، أما المؤمن فلأنه كان يعترف بخطئه في الدنيا، ويرجع عنه قريباً ويحب أن يبين له، فإن الله تعالى يستره في الدار الآخرة، ولهذا يُقرر الله تعالى -كما في حديث النجوى من حديث ابن عمر، وهو في الصحيح- {يقرر الله تعالى عبده المؤمن بذنوبه فيدنيه، ويقول: عملت كذا في يوم كذا وكذا وعملت كذا في يوم كذا وكذا، فيقول الله عز وجل: يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه}.
إذاً: ما دام أن الخطأ لابد منه عندي وعندك، وعند كل إنسان من البشر، فقبول النقد هو من الكمال البشري. ونحن نعرف -مثلاً- أن النوم هو كمال، ولو أن إنساناً لا ينام؛ لكان هذا عيباً يعالج منه. وكذلك الأكل والشرب هو كمال للإنسان، ولو فقد الإنسان الشهية؛ لكان هذا أيضاً يعاب به، ويعالج منه ويؤدي به إلى الموت. ومثله البكاء من خشية الله تعالى كمال، بل حتى البكاء المعتدل في حال المصيبة هو من الكمال البشري. ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام لما مات ابنه دمعت عينه من دون رفع صوتٍ أو شق جيب أو غير ذلك -مجرد دمعة عين- ولما قالوا له قال: {هذه رحمة يضعها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} فهذا القدر ليس نقصاً، بل هو من كمال الإنسان؛ لأن الإنسان بشر فكماله في وجود هذه الأشياء فيه. وإذا كان النقص مركباً فيه وهو جزء من طبيعته، فمن الكمال أن يعرف هذا النقص ويعمل على تلافيه.
وأضرب لكم -مثلاً-: عندك شخصان كلاهما ناقص؛ لأن كلاً منهما إنسان، معناه: أن النقص موجود في الشخص الأول، وموجود في الشخص الثاني لابد، فالشخص الأول مُصر لا يعترف بالنقص، بل يجحده وينكره، أو يعرفه ولكنه لا يعترف به أمام الناس، ولا حتى أمام نفسه، فهو يغالط نفسه ودائماً يدَّعي أنه كامل، وطالما سمعنا أناساً يصفون أنفسهم بالكمال، يقول: ماذا عليهم من الملاحظات أنا كامل.
زار أحدهم مريضاً مسجى على سريره في المستشفى، فقالوا له: طهور إن شاء الله يا فلان، فقال: طهور! وهل أنا أذنبت حتى تقولوا طهور. فهذا الشخص عنده نقص من جهتين:
الجهة الأولى: النقص الفطري الموجود فيه.
والجهة الثانية: إصراره على الخطأ وعدم اعترافه به.
وأما الشخص الآخر فعنده النقص الفطري الذي هو موجود في البشر كلهم، ولكنه يعرف هذا النقص ويعترف به ويسعى إلى معالجته، ويقول: ليتني أتخلص منه عسى الله أن يعينني، فهذا لاشك أنه أكمل وأعظم.
إذاً الشخص الثاني نقصه واحد، وهو النقص الأصلي الفطري، وله في مقابل هذا النقص كمال، وهو الشجاعة والقدرة على الاعتراف، وكذلك العلم بهذا النقص والعمل على إزالته.
ربما تجد كثيراً من الناس - مثلاً - يخافون من النقد، لأنهم يعتبرون النقد نوعاً من التنقص والبحث عن العيوب، وأنه لا يصدر إلا من إنسان مبغض أو حاسد أو حاقد، وهذا المفهوم يجب تغييره، وأن يفهم الناس أن الذي ينتقدك هو من يحبك "صديقك من صدقك لا من صدَّقك".
ومنهم من يخاف من النقد -مثلاً- لأنه -كما يقال-: (بنيانه على شفا جرف هار) فبناؤه من زجاج، وهو يخاف من النقد البناء تجنباً للفضيحة، وستراً على الهفوات والجرائم التي ارتكبها، سواء كان في ذاته وفي جرائمه، أو على استغلاله لموقعه ومنصبه، أو في موقف من المواقف، أو في هزائم جر الأمة إليها، أو نكبات ورط الأمة فيها، أو أمور أو فضائح أخلاقية، أو مالية، أو اقتصادية، أو عسكرية، أو سياسية أو غير ذلك، فتجد أنه يتستر على هذه الأمور؛ لأنه يعرف أن بناءه من زجاج، وأنه عرضة للفضيحة في أي وقت وفي أي حال، ولذلك يعتبر النقد قضاءً على مصالحه، وأنه إن كان حاكماً اعتبر النقد تشكيكاً للشعوب في جدارته وصلاحيته، وإن كان عالماً اعتبر النقد تشكيكاً للطلاب في علمه وفضله، وإن كان داعيةً اعتبر النقد تشكيكاً للأتباع والمريدين في جدارته وصلاحيته، وهكذا.
وإليك المثال: آدم وحواء عليهما السلام وقعا في الخطأ، وأكلا من هذه الشجرة وهذا خطأ، لكن بعد الخطأ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الأعراف:23] ولذلك استحقا الرحمة فرحمهما الله عز وجل وجعل مآلهما إلى الجنة.
وكما أن لآدم ذرية، فلإبليس أيضاً أتباع وذرية، فمن الناس من يفعل الخطأ فيندم ويستغفر، ويقول: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16] {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} ومنهم من يفعل الخطأ، ثم يستمرئه ويستحسنه ويعجبه، بل يتحول والعياذ بالله إلى إنسان يبحث عن مخرج أو تصحيح يفلسف هذا الخطأ، حتى يصبح هذا الخطأ صواباً، حتى إن بعض دول العالم اليوم أصبحت تبحث بحثاً جاداً -كما يقولون- عن إعادة تعريف الجريمة، فوجدوا -مثلاً- أن الجرائم كثرت واشتهرت، فقالوا: إذاً لابد أن نعيد النظر.
في تعريف ما هي الجرائم؟ نبحث -مثلاً- عن الزنى، هل هو جريمة؟ اللواط، هل هو جريمة؟ السرقة وهكذا؛ بل إنهم يبحثون الآن عن الاغتصاب - ويقصدون بالاغتصاب: الاعتداء على عرض امرأة بغير رضاها وكل هذه الأشياء، أصبحوا في دول الكفر الآن، يبحثون عن تعريف جديد للجريمة؛ لإخراج هذه الأشياء من كونها جرائم؛ لأن السجون عندهم امتلأت، ولم يعد في إمكانهم أكثر من ذلك كما قال عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124] ومن المسلمين اليوم من يذهب ليلوي أعناق النصوص، أو يبحث عن فُتيا، أو رأي شاذ، أو قولٍ مُخرَّج لأحد الأئمة يدعم فيه خطأً وقع فيه، وما أجمل أن يقول الإنسان: أنا أخطأت، وأسأل الله أن يغفر لي ويتوب علي، وأن يعينني على الخروج من هذا الخطأ، ما أجمله وما أدله على كمال هذا الإنسان، وشجاعته ورجولته، لكن كون الإنسان يقع في الخطأ، ثم يأتي ليقول: لماذا أنتم تقولون كذا هذا خطأ؟ أنا لا أرى فيه شيئاً؛ لأن فلاناً في القرن السابع قال كذا، وفلاناً في القرن العاشر قال كذا، والعالم المعاصر قال كذا وكذا، فيبحثون عن الخطأ ليحولوه إلى صواب.
أما محمد صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب القدح المعلى في ذلك، وكيف لا! وقد خاطبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، يأمره بالاستغفار ويأمره بالتقوى، يقول الله عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] ويقول: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3] إِنَّا أَنـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً [النساء:105-107] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ [التحريم:1] مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال:67].
وهكذا عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره بالاستغفار، وأمره بالتقوى، ونهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين، ولهذا كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أمر عجيب من تواضعه، وقبوله للرأي الآخر، وإعراضه عن الجاهلين، وتحمله، ورجوعه إلى ما يرى أنه صواب إذا قاله أحد، من ذلك أن بعض الناس شككوا في قسمة النبي صلى الله عليه وسلم للمال -وهذا موجود في كل زمان- شككوا في قسمة المال، وأنها قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} والثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقبض على هذا الرجل الذي قال تلك الكلمة، وشكك في القيادة العليا -قيادة النبي صلى الله عليه وسلم-، لم يأمر بالقبض عليه قط، ولا أودعه في السجن، ولا فتح محاضر التحقيق معه، ولا حكم عليه بسجن مؤبد ولا بغير مؤبد، ولا شهَّر به، ولا فضحه أبداً، وإنما تركه حراً طليقاً لم يتعرض له بشيء سوى أنه صلى الله عليه وسلم قال: {رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} وهو صلى الله عليه وسلم رسول الله، الصادق المصدوق المبرأ المنـزه.
وآخرون أيضاً شككوا وطعنوا فيما يتعلق بموضوع الولاة، واختيار العمال والأمراء، الذين كان يختارهم النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المغازي والبعوث والجيوش.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أسامة بن زيد في أحد البعوث -وذلك في آخر عمره قبل أن يموت صلى الله عليه وسلم بزمن يسير- فبعث بعثاً وأمرَّ عليهم أسامة بن زيد، فقام بعض الصحابة الفضلاء، ومنهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي وغيره، وشككوا في هذا الرجل لأنه مولى، وقالوا: كيف يتولى علينا مولى، ونحن من قريش وفيهم، وفيهم...؟! إلى آخره.
قال الراوي: خطب النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الناس وقال: {إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل -يعني
هذا المنهج التربوي النبوي العظيم، ظل هو السنة المتبعة للمسلمين قروناً طويلة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، سواءً كان من الخلفاء والحكام، أم من العلماء والدعاة، أم من عامة الناس.
الشاهد أن أبا بكر رضي الله عنه، كان سريعاً إلى الرجوع إلى الحق والاعتراف به. وقصته مع ولده أيضاً وهي في صحيح البخاري قصة طويلة، لا أطيل بذكرها وسرعان ما كان يعود إلى الحق، ويعتذر من الخطأ ممِن أخطأ عليه رضي الله عنه إن سراً فسراً وإن علانية فعلانية، ولا يزيد في هذا غضاضة ولا حرجاً.
أما عمر رضي الله عنه فكما كان شديداً في الحق كان شديداً على نفسه، ولذلك أعلنها صيحة مدوية [[رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا]] فاعتبر أجمل ما تهدي إليه، أن تهدي إليه عيباً، ولم يشترط عليك عمر أن تسر أو تعلن، وأي طريقة وأي كلام وأي أسلوب، المهم أنك تهدي له عيباً بأي شكل، وكان رضي الله عنه يتقبل النصيحة حتى وهو على المنبر، فربما صعد وقال [[أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا. فقام رجل من الرعية من عامة الناس، وقال: لا سمع ولا طاعة. فقال: لِمَ رحمك الله؟ قال: لأنك أعطيتنا ثوباً ثوباً. ولبست ثوبين. فقال: قم يا
ومرة أخرى يقول: [[لو رأيتم فيّ اعوجاجاً. يقول له رجل: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا]] فخذ هذه القصة ولا تظل تنظر فيها وتحللها، وتقول: هل المعنى أنهم سوف يخرجون عليه؟ لا. لا أبداً.
وإنما أنبه على هذا؛ لأن بعض الإخوة يستدرك إيراد مثل هذه القصص دون بيان، وإن كان المعنى فيها واضحاً لا لبس فيه.
ومع ذلك كان عمر رضي الله عنه يراجع نفسه دائما وأبداً، حتى يتعود على قبول ما يلاحظه الناس عليه، فمرة من المرات كان عمر في بستان فنظر إلى نفسه وقال: بخ بخ عمر بن الخطاب أمير المؤمنين!! - كأنه يقول: انتبه لا تعجبك بنفسك، أو تغتر أو تتعاظم، أو تصيبك عظمة السلطان والرياسة، فتجحد الحق أو ترده- [[
ولو ذهبت أذكر لكم مواقف من نصيحة العلماء بعضهم لبعض، أو للمسلمين من العامة، أو للحكام سراً وعلانية، سواءً من خلال المخاطبة، أو الخطبة، أو الكتاب؛ لطال بي المقام، وأحيلكم على كتاب واحد فقط، وهو كتاب: الإسلام بين العلماء والحكام للشيخ عبد العزيز البدري، ففيه من ذلك شيء كثير. أما اليوم فنقول -وبكل أسف-: إن عيوب الأمة الإسلامية اليوم، ليست محصورة في طبقة معينة، لا نخدع أنفسنا، ليس العيب اليوم في الحاكم، وليس العيب في العالِم، أو في الداعية، لا. العيب اليوم موجود في الجميع بدون استثناء، من القمة إلى الهرم عند الجميع، فداء التسلط والدكتاتورية -كما أسلفت- وكتم الأنفاس وسلب الحريات، ليس موجوداً في الحاكم فقط، وهو موجود في الحاكم، ولكنه أيضاً، موجود عند كثير من العلماء والدعاة والمجتهدين، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فتجد أن المعلم - مثلاً - يستثقل أن يصحح الطالب له خطأً، وقد يضطرب إذا صحح الطالب له خطأً في مجلس من مجالس درسه. وتجد الداعية يستغرب ويستثقل أن يصحح أحد الأتباع عليه شيئاً وقع فيه، ولا يعطيه من الحرية إلا هامشاً صغيراً جداً، هو نفسه الهامش الذي تعطيه الحكومات لبعض الشعوب.
فمثلاً قد يُسمح في بعض البلاد للإنسان بأن ينتقد عمل البلدية، فيقول: الشارع الفلاني مائل والشارع الفلاني معتدل والشارع الفلاني نظيف والشارع الفلاني غير نظيف - مثلاً - والبيت الفلاني يحتاج إلى هدم، والبيت الفلاني لا يحتاج، والمكان الفلاني وقع في خطأ، وما أشبه ذلك- من الهامش الصغير الذي قد يرضي بعض السذج والبسطاء والمغفلين. وكذلك قد يعطي الداعية أو العالم أحياناً، من حوله هامشاً صغيراً من الحرية يخدعهم به عن ضرورة النقد البناء العميق الصحيح، وضرورة المراجعة.
يا أخي! كل الدنيا هكذا، هل كتب على المسلمين فقط أن يظلوا في مثل هذه الأمور، ليس لديهم قدرة على تصحيح أخطائهم، ولا على اكتشافها؟! هل كتب علينا أن نظل نواجه هذه الأخطاء، وهي تتراكم وتزداد يوماً بعد يوم؟! ونحن إن نصحنا رأينا أن هذا فيه ما فيه، وتجد أن الواحد منا لا يفعل شيئاً، لكنه لو سمع إنساناً ينصح لقال: يا أخي، لماذا لم تفعل كذا؟ لماذا لم تأت النصيحة بالطريقة الفلانية؟
يا أخي! افعل أنت ما تقتنع أنه صحيح؛ لأن المسئولية مسئولية الجميع، وليست مسئولية فرد معين أو فئة معينة، وكأن الكثيرين ظنوا أن الدين لم يأت بهذه الأمور، أو أنهم غير مكلفين، أو غير محاسبين على مثل هذه الأشياء، وكأنهم نسوا أن الصحابة رضي الله عنهم كان بعضهم يستدرك على بعض، وبعضهم يصحح لبعض، علانيةً إذا كان الأمر يقتضي الإعلان، وسراً إذا كان الأمر يقتضي الإسرار.
لاشك أن النقد يحتاج أحياناً إلى سرية فإذا كان الإنسان مستتر بذنب فلا تفضحه على الملأ، بل بينك وبينه، لكن إذا كان الخطأ معلناً على رءوس الأشهاد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جيء بإنسان ميت، فأثنى الناس عليه شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجبت وجبت، وسمعه الصحابة فقالوا: وما وجبت؟ فقال: وجبت له النار، أنتم شهود الله في أرضه} لم يمنعه عليه الصلاة والسلام، ما دام أن الأمر مشهور تداوله الناس وتناقلوه فيما بينهم، والمجتمع كله يتحدث عن هذه الأخطاء، فلا تقل: لا تتكلم فيها ولا تشهرها ولا تنشرها. هي معروفة أصلاً وكل الناس يعرفونها.
خذ -مثلاً- أجهزة الإعلام التلفاز، قلما بيت إلا وفيه تلفاز، يقف أمام هذا الجهاز الكبير والصغير، والرجل والمرأة على حد سواء، ابتليت به كثير من البيوت مع الأسف الشديد، حتى إنك قد تدخل بيوت أناس صالحين، بل ربما يكون ممن يشار إليهم بالبنان، وفيها هذا البلاء، ومع ذلك لو أن إنساناً قام في خطبة أو مناسبة أو في محاضرة، وتكلم عن برنامج يذاع في التلفاز وانتقده، لقال بعض الحضور: يا أخي، ليس من الضرورة نشر هذا الكلام، ليس فيه مصلحة، يا سبحان الله! أين نحن؟! في أي عالم نعيش؟!! أليس هذا البرنامج الذي ينتقده فلان عُرض على ملايين المشاهدين، أقول: ملايين في حين أن الذين سمعوا هذه الخطبة ألوف أو مئات أحياناً، فلماذا نعتبر أن هذا الخطأ الذي شاهده ملايين، أو سمعه ملايين أو علم به ملايين، نعتبر أن الحديث عنه مع عشرات أو مئات أو ألوف، أنه نوع من التشهير؟! أو أنه غير مناسب؟! السبب في ذلك أن الأمة لم تتعود على النقد الصحيح، ولذلك صارت تعتبر أن النقد -كما قلت سابقاً- نوع من الاستفزاز، أو من التشهير، أو من إثارة الفتنة في بعض الأحيان وهذه كلها مفاهيم خاطئة.
وقبل قليل ذكرت لك أن الصحابة يصحح بعضهم لبعض علانية، دون حساسية ولا حرج، ومن بعدهم كلهم كانوا كذلك، وإذا كان الخطأ ظاهراً مشهوراً، فلا معنى لإنكاره سراً، فإن الناس يقولون: أين العلماء؟! أين الدعاة؟! أين الخطباء؟! أين المصلحون؟! والأخطاء تقع صباح مساء، وهم ساكتون عنها لا يحركون ساكناً، وما يدري الناس أنك قلت لفلان أو علان، أو كتبت أو رفعت سماعة الهاتف، وخاصةً إذا تكررت هذه الأمور، ولم تزل تفعل الطريقة التي تعجبك، لكن إذا ظل الأمر موجوداً، على أقل تقدير حتى يعذرك الناس، ويعرفوا أنك بذلت ما تستطيع، وأعذرت إلى الله، وحتى تحذر الناس من هذا الأمر وتبين لهم خطورته وعواقبه.
والنقد أيضاً أيها الإخوة مشاركة حقيقية منك أنت في عملية الإصلاح، بحيث يصبح كل فرد في المجتمع له دوره وله مجاله، ولا يغدو الناس مجرد قطعان تساق إلى حتفها، وهي لا تشعر ولا تعي.
إن النقد احتفاظ بإنسانية الإنسان، حيث يُقال له: يا فلان، تأمل وانظر واعمل وأعمل عقلك، وراجع ما تعرفه أنت من نصوص الشرع، ونصوص الكتاب والسنة، وإذا وجدت أمراً لا يليق من الناحية الشرعية، أو العقلية، أو من ناحية المصلحة، فإياك أن تسكت على هذا الخطأ، وعليك أن تُبلغ، ولتعلم أنك إن سكت على هذا الخطأ، فأنت شريك في الإثم. أو بمعنىً آخر: أنت شريك في جريمة السكوت على هذا الخطأ، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
لقد صنع الإسلام رجالاً كان أقلهم يرى أنه قوي في تغيير المنكر وإنكاره، وفي إقرار الحق والأمر به. وأضرب لكم مثلاً متناقضاً يدلكم على الفرق البعيد بيننا الآن، وبين الأجيال الأولى: بلال بن رباح رضي الله عنه كان عبداً أسود حبشياً في مكة، ليس له قيمة، يباع بالدرهم والدينار، فلما أسلم نُفخت فيه روح العزة والكرامة، والقوة والرجولة، فشعر أنه هو شخصياً ممن يقومون بتثبيت دعائم الإسلام، والدعوة إليه، والصبر والمقاومة، ولذلك كان يُعذب بـمكة، ويوضع في حرِّ الرمضاء، وهو يقول: [[أحد أحد، أحد أحد]] حتى في بعض كتب السيرة، أنه كان يقول: [[والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم من هذه لقلتها]] فوقف في وجه الطواغيت والظالمين والمتسلطين، والذين يفتتنون الناس عن دينهم، وصبر حتى فرج الله تعالى عنه، ولم يقل: أنا عبد مسكين، كيف أقف أمام أبي جهل وأبي لهب وعتبة وشيبة وفلان وفلان، من عليا القوم وزعمائهم ورؤسائهم. وقف بصبره وإيمانه، وأن قلبه لا سبيل لهم إليه، فكان يقول: أحد أحد، حتى مر به ورقة بن نوفل، وكان يقول: "نعم يا بلال أحد أحد، والله لئن قتلتموه لأتخذن قبره حناناً" كما جاء في بعض الروايات إن صحت. هذا بلال نموذج للمسلم الأول.
لكن خذ نموذجاً للمسلم المعاصر، هل تدري أن الاستعمار كان يستخدم المسلمين في احتلال بلاد المسلمين، فـفرنسا -مثلاً- كانت تستخدم المسلمين في سوريا وفي الجزائر في مقاومة المسلمين، وضرب المسلمين، وفي تدعيم مكانتها في تلك البلاد مع الأسف الشديد، بل إنك تجد أن التعذيب والاضطهاد، والقتل، والابتزاز، وألوان وصنوف الأذى، التي لقيها الدعاة والعلماء والمجاهدون في العديد من بلاد الإسلام، أنها ما كانت تتم على أيدي يهود ولا نصارى، إنما كانت تتم على أيدي أناس يحملون أسماء محمد وأحمد وعلي وصالح، وفلان وفلان من الأسماء الإسلامية، وقد تجد أحياناً من بينهم من يكون مصلياً، أو صائماً، أو غير ذلك، وليس بغريب أن الأداة التي يستخدمها الطغاة في كل زمان ومكان، في ملاحقة المسلمين والدعاة وطلبة العلم، ومحاربتهم، وكتم أنفاسهم، والتجسس عليهم، وإيذائهم في أنفسهم وفي بيوتهم وفي أرزاقهم، وفي وظائفهم، وفي أعمالهم، ومتابعة ماذا يقولون، وماذا يفعلون، وبمن يجتمعون، وكيف يجتمعون، ومتى يفترقون.... إلخ.
إن هؤلاء أناس قد يكونون من رواد المساجد أحياناً، وقد يكونون من المصلين، أو ممن يحضرون الحلقات العلمية والدروس لهذا الغرض أو ذاك، ورُبما ترامى إلى مسامع بعضكم تلك القصيدة الشهيرة، قصيدة الشاعر: هاشم الرفاعي، التي كان يتحدث فيها عن صورة السجن والسجان، وما هي صفته، فكان يقول:
والصمت يقطعه رنين سلاسلٍ عبثت بهن أصابع السجان |
ما بين آونة تمر وأختها يرنو إلي بمقلتي شيطان |
من كوة بالباب يرقب صيده ويعود في أمن إلى الدوران |
أنا لا أحس بأي حقد نحوه ماذا جنى فتمسه أضغاني |
ويخاطب أباه فيقول:
هو طيب الأخلاق مثلك يا أبي لم يبد في ظمأ إلى العدوان |
فلربما وهو المروِّع سحنة لو كان مثلي شاعراً لرثاني |
أو عاد من يدري إلى أولاده يوماً تذكر صورتي فبكاني |
لكنه إن نام عني لحظةً ذاق العيالُ مرارة الحرمان |
إذاً هو من المرتزقة هذا المسلم المعاصر، فقد معنى انتماءه للإسلام، معنى إحساسه بالولاء للمسلمين، معنى حبه لله وللرسول وللمؤمنين، فصار مستعداً أن يذبح دينه على عتبة المصالح الدنيوية، أو الوظيفة، أو المال، أو الدنيا، أو على عتبة المرتبات والبدلات والإكراميات وغير ذلك، وقد يؤذي المسلمين أو يعذبهم، بل قد يصل الحال إلى قتلهم -كما قلت لكم- من أجل هذه المصالح الدنيوية، وكم هو مؤسف أن يلتقي المسلم مع أخيه المسلم في ميدان القتال، من أجل هذه الدنيا الفانية التي لا تستحق شيئاً، وربما قتل كل منهما على يدي الآخر.
إذاً تأتي أهمية النقد من جهة أنه يُعيد للإنسان اعتباره، يعيد للإنسان إشعاره بأنه مسلم مكلف، مطالب بأن يقوم بعملية التصحيح، والمشاركة في الإصلاح، والمصارحة والنقد والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال موقعه، بالأسلوب الذي يعجبه والطريقة التي تناسبه. لكن لا يجوز أبداً أن يتخلى، ويقول المسئول غيري. وما أصيب المسلمون بما أصيبوا به، إلا يوم تخلوا وصاروا على مثل الحالة التي وصفت لكم.
وبناءً على هذا فمن الصعب أن يصحح الإنسان لنفسه، لكن الآخرين قد يملكون التصحيح، وقد يكون لديهم وجهات نظر تستحق التقدير وتستحق الاحترام.
إذاً الإسلام نهى عن المبالغة في المديح والإطراء؛ لأن الإطراء لا يزيد الإنسان إلا إصراراً على ما هو عليه. وقد يمدح الإنسان بقدر، تشجيعاً له على صواب صدر منه، واعترافاً بفضل له، لكن لا ينبغي أن يكون هذا دأباً وديدناً كما هو الواقع اليوم في عالم الإسلام، فقد أصبح المديح فناً يُمارس، وأصبحت له أجهزته المتخصصة، التي لا هم لها إلا إزجاء المديح بالحق وبالباطل، ومهما كان الشخص الممدوح، فإنها لابد أن تمدحه بكل شيء، حتى لو أخطأ حولت الخطأ إلى صواب، وبالتالي مدحته بهذا الإنجاز العظيم الذي فعله.
مديح الأشخاص:
والمديح أنواع منها: مديح الشخص لفلان العالم، أو المسئول، أو الحاكم، أو الأمير، أو الداعية، أو التاجر...إلخ مديح هذا الشخص، سواء كان بشكل أو بحسن الخلق أو بالفصاحة أو بالكرم، أو بغير شيء. وقد حفظ لنا التاريخ صوراً سيئة كالحة، عن هؤلاء المنافقين الذين لا همّ لهم إلا إزجاء المديح ولعل أسماعكم قد كرهت واستثقلت تلك الأبيات التي قالها ابن هاني، يمدح أحد الأمراء العبيديين، يقول له:
ما شئت لاما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار |
وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار |
إلى هذا الحد بلغ الذوبان في شخصية الحاكم، أنه أعطاه صفة الألوهية وصفة النبوة، وأعطى أتباعه صفات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الصنف من الناس من المرتزقة - لا كثرهم الله - هم موجودون في كل زمان ومكان، ليست القضية أو المشكلة أن يقوم شاعر نبطي - مثلاً - فيمدح؛ لأن هذا شأنه وهذا عمله، وليست القضية أو المشكلة أن يقوم صحفي مرتزق فيمدح؛ لأن هذا عمله وهذه وظيفته، لكن المشكلة أن يقع هذا من عالم، أو من رجل من رجال الفكر أو الأدب، الذين يُشار إليهم بالبنان، وتُعقد عليهم الخناصر، ويعتبرون نموذجاً حياً لما يجب أن تكون عليه الأمة، فإذا به يقع في زلات عظيمة، قد كثرت اليوم حتى لم يستطع أحد يحصيها. ولعلكم أيضاً ربما سمعتم ذلك الإنسان، الذي يقول لأحد الطواغيت الهالكين لما انتقل من موقف من المواقف، قال: لو كان لي من الأمر شيء، لجعلت فلاناً في موقع الذي لا يُسأل عما يفعل. فأغرى هذا الإنسان المتعالم أو المنسوب إلى العلم، أغرى ذلك الحاكم بمزيد من الطغيان والإصرار، والغطرسة والكبرياء والجبروت، فكان يتكلم ويخطب ويقول: لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد.
مديح المكاسب والمنجزات:
وهناك مدح المنجزات والأعمال والانتصارات والمكاسب، سواء كانت مكاسب وهمية، بل هي خسائر حولناها إلى مكاسب، وظللنا نتغنى بها زماناً طويلاً، ونضخمها وننفخ فيها نفخاً مستمراً حتى لا ينساها الناس، ونحييها ونجعل لها المناسبات، ونجعل لها الأعياد التي يبتهج فيها الناس، وقد يوضع في بعض الدول العيد إجازة بمناسبة أو بأخرى، وندندن حولها في الإعلام وفي غيره، وكأننا بذلك نعوض عن العجز الموجود عندنا، العجز عن تحصيل مكاسب جديدة، أو نتستر على ألوان من الفشل القائم الدائم، الذي نحاول أن نصرف وجوه الناس عنه بالكلام عن مكاسب مضت وانتهت، قد تكون مكاسب حقيقية أحياناً، وقد تكون مكاسب وهمية في كثير من الأحيان.
ولعله من الأمثلة التي تعرفونها، أن الإعلام -هذا النوع من المكاسب- قد يتكلم عن دولة -مثلاً- فيتكلم عن العراق، وكيف أن العراق كان يتكلم عما يسميه أم المعارك، فلما فشل في تلك المعارك وانهزم، وصارت الأمور التي صارت وعرف الناس كلهم، صار يتكلم عن مكاسب أخرى، فيقول: إن مجرد صمود الحزب أمام هذا الطوفان الهائل يعتبر مكسباً، ليغري الناس بذلك، أو يعمل مباراة رياضية يسميها أم المباريات أو أم المعارك، وينتصر فيها العراق، أو يحاول أن ينتصر ليغري الشعب بهذه الألاعيب عن الهزائم الحقيقية التي مُني بها.
وهذا الأمر ليس محصوراً في بلد معين، بل إننا نقول: إن كل أمة الإسلام الآن تعيش ألواناً من الهزائم، التي تحاول أن تتستر عليها بالمديح وضروب الثناء، وتذكر بعض المكاسب السابقة وإطرائها، وإقامة المناسبات والأعياد والاحتفالات لها.
المديح لنشاط من الأنشطة:
وقد يكون المدح أحياناً ليس مدحاً لشخص، ولا لمكاسب أو منجزات، بل قد يكون مدحاً لعمل، كنشاط دعوي -مثلاً-، أو نشاط جهادي قام في بلد من البلاد، أو نشاط علمي، بحيث تسري روح التزكية والثناء والإطراء، وتختفي روح النقد والتصحيح، ولا يملك الناس القدرة على اكتشاف الخطأ، وهذا -كما قلت قبل قليل- داء موجود في كل المسلمين، لا أعني في أفرادهم بالضرورة، كلا، فإن من المسلمين من لا يكون كذلك، لكنني أعني أنه موجود على كافة المستويات، فأنت حين تنتقل إلى عالم الدعوة، وعالم الجهاد، وعالم العلم، تجد هذا الداء موجوداً، تجد أن روح التزكية تسري، روح النقد ضعيفة، فالذي يمدح ويثني ويطري هذا محبوب، أما الذي ينتقد فإنه يعتبر مشاغباً وحوله علامات استفهام، وقد لا يكون مرغوباً فيه، لقد سرت عدوى التسلط والطغيان والاستبداد على الجميع، ولفَّتهم في عباءتها الرهيبة.
فمن أساليب الهروب من الخطأ:
فمثلاً على مستوى الأمة يقولون: الأخطاء الموجودة الآن في الأمة، هي من صنع الجيل السابق ومن آثار الجيل السابق، وسوف يقوم بحلها الجيل اللاحق، أو أنك تحيل الخطأ على العدو، أو على المستعمر، أو على الصهيونية، أو على الحكام، فكثير من الناس يكتفي أن يقول: الحكام هم المسئولون. وكأنه خرج من الدائرة بهذا الأسلوب.
بعض الناس يقول: لماذا ينتقدني فلان؟ لو سمع نقداً مجملاً، لكنه ظن أنه مقصود؛ لأنه يسمع بحساسية. أولاً ما الذي جعلك تظن أن فلاناً يقصدك؟ إلا وجود الخطأ عندك. إذاً تنبه لهذا الخطأ، الأمر الثاني: أنه كان يجب أن تقول لو لم ينتقدك لماذا لم ينتقدني؟ لأنه كرامة أن يهدي إليك أخوك المسلم عيباً، سواء أهداه بطريقة صحيحة أم غير صحيحة، فالمسلمون نصحة والمنافقون غَشَشَه.
أما نقد الآخرين أي: أن يكون النقد من جهة أخرى، سواء كان النقد سراً أم علانية. ويجب على الجميع تهيئة الفرص للنقد، وإتاحة السبل، وإقامة الجسور، وتأمين الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ليتمكنوا من النقد؛ لأن النقد شيء كبير جداً، في مصلحة الأمة والفرد والجماعة والدولة بكل حال، ولذلك ينبغي أن يحرص الجميع على تهيئة الفرص للنقد حتى لا يغيب النقد، أو يستحي منه الآخرون، أو يخافوا، أو يترددوا، أو يتراجعوا عنه، أو ينتقد إنسان فيسكت الباقون؛ لأن الكثير قد يعتبرون أن هذا تشهير، أو أنه لا يجوز، فيتوقفون عنه، فينبغي أن تتاح الفرصة للنقد البناء الصحيح الهادف، بالوسيلة الصحيحة أيضاً، وبالأسلوب المناسب، وبعيداً عن أساليب الجرح أو الشتم أو التنقص، أو سوء الظن أو غير ذلك.
ولو فرض أنه وجد أسلوب غير مناسب، فهذا لا يمنع أبداً من قبول النصيحة، فليس الجميع قادرين على إتقان قواعد النقد وأساليبه وطرائقه، وإذا كنا نعرف أن المسلم للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، فنحن نعرف أن اليد قد تكون فيها أحياناً نوع من الخشونة، فلا يمنع أن تغسلك اليد الأخرى وفيها نوع من الخشونة، وكذلك أخوك المسلم ينتقدك أو يصحح خطأ، ولو بشيء من الخشونة، فلا ينبغي أن تتردد في قبول هذا النقد.
إذاً النقد الذاتي، أهميته أولاً: أنه دلالة على الشجاعة، وقدرة الإنسان على التصحيح.
ثانياً: أن الإنسان في بعض الأحيان أقدر على ملاحظة نفسه، وربما أمور لا يستطيع الآخرون أن يدركوها أنت تدركها، وعلى سبيل المثال مقاصدك الداخلية، ونياتك ومراميك وخلجاتك وأهدافك، وأسرارك وخواطرك، هذه لا يدركها الآخرون، ومعنى ذلك أن في النفس جوانباً ربما لا يملك الناس أن ينتقدونك فيها، ولكنك أنت تملك أن تكتشفها بنفسك وتصححها. كما أن نقد الإنسان لذاته، أو نقد الأمة أو الجماعة أو الدولة لذاتها، يوجه طاقة الإنسان وجهة سليمة، بحيث يشغله عيبه عن عيوب الناس {وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس} أما أن يكون الإنسان يبغي للبرآء العيب، ويشتغل بعيب الناس وينسى عيبه، فهذا -لا شك- دليل على مرض مستتر موجود في ذاته.
فقد يتكلمون كثيراً عن الجوانب الشخصية في حياة البعض، أو يتعرضون لأمور خاصة مما لا يتعلق بحياة الأمة، ولا يؤثر في مصالحها وليسو أشخاصاً مشاهير، بل هم أشخاص مغمورون، أو في جانب معين.
وليس غريباً مع ذلك أننا نجد اليوم بعض الصحف تضع حلقات بعنوان " فضائح "، وهذه الفضائح تتعرض لحياة أشخاص بأسمائهم، وقد يكونون موجودين يعيشون على ظهر الأرض، فتنشر خزيهم وغسيلهم -كما يقال-، وربما يكون في ذلك أحياناً، إغراء للآخرين بالوقوع في مثل هذه الفضائح من حيث يشعرون، أو لا يشعرون. فباسم الإثارة الصحفية أحياناً يتم كشف بعض الجوانب الشخصية من حياة الناس، التي لا تستفيد الأمة من ظهورها، وأحياناً يتم كشفها باسم التجسس والمخابرة التي حرمها الإسلام كما قال الله عز وجل: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: {ولا تجسسوا} وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن تتبع الإنسان لعورة أخيه المسلم، {ومن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في قعر بيته}.
وكم رأينا ممن همه حفظ الزلات على بعض الشخصيات المرموقة، بواسطة أجهزة ووسائل، ثم نشرها وإشاعتها عند الحاجة؛ لغرض أو لآخر، بل رأينا أجهزة متخصصة في صناعة الأكاذيب وتلفيق التهم، وأحياناً دبلجة الصور والأصوات؛ لتشويه صورة عالم أو داعية، أو زعيم أو خصم، أياً كان، وهذا معروف في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضها. وهذا بلا شك ما لا يبيحه الإسلام بحال.
وهذا مسلك في غاية الخطورة أين العدل؟! العدل يتطلب أنه حتى خصمك وعدوك، ينبغي أن تعترف له بالحق الذي عندك، وحتى أقرب الناس إليك ينبغي أن تعترف بالخطأ الموجود لديه، وهذا هو المنهج العلمي الموضوعي الشرعي، الذي يحفظ للإنسان كرامته ومكانته وعقله، ويجعله يثق بهذه الأجهزة الإعلامية التي من المفروض أن يكون همها وهدفها هو بناء الإنسان، بناء عقله، تكوين شخصيته، بناء الإنسان المعتدل المستقيم المنضبط، لكن -مع الأسف- لم تفلح إلا في صناعة الإنسان المزدوج المتناقض، الذي ينتقل من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ومن أقصى الشمال إلى أقصى اليمين.
قد أصبح عندنا في كثير من الأحيان أن الناس أحد صنفين: إما عميل، فهذا نكيل له المدح بلا حساب، وإما رافض للعمالة، فهذا يُذم أيضاً بلا حساب، أما أن عندنا إنسان صديق أو متعاطف، أو حتى إنسان محايد، فهذه كأنه لا وجود لها في حياة كثير منا اليوم، فضلاً عن أن يوجد عدو تداريه، أو تقلل من عداوته بقدر ما تستطيع، فضلاً عن أن نتخذ مبدأ الإنصاف، وهو مبدأ شرعي يغير النظر إلى المصالح الذاتية، أو المصالح الشخصية.
هناك حالات يجوز فيها تناول الأوضاع الشخصية، كما أشرت إلى شيء من ذلك قبل قليل، وجاء سؤال عن هذا الموضوع فأقول منها: -فمثلاً-:شخص مجاهر بالفسق والمعصية، ويسعى إلى إفساد المجتمع، مثل العلمانيين، والمنافقين، والحداثيين، واليساريين، وبعض الصحفيين -أقول بعض الصحفيين- الذين لهم توجهات غير محمودة، وبعض الناس ذوي النفوذ الذين ثبت تواطؤهم، واشتراكهم في بعض المؤسسات، وبعض الأجهزة، وبعض المعاهد التي تحارب الله ورسوله، وتقوم بمهمة الضرار في هذا المجتمع، أو في ذاك، فهؤلاء ينبغي فضحهم ولو بصورة شخصية، والكلام عنهم بأعيانهم حتى يحذرهم الناس ويتجنبوهم، وقد جاء في ذلك أدلة سبق أن ذكرت شيئاً منها.
كذلك قد يوجد شخص يُخشى أن يغتر الناس به؛ لأنه يتظاهر بالخير والصلاح، وله أهداف ومآرب أخرى، مثل المبتدع الذي يتستر ببدعته يخدع بها العامة، وقد يوري ببعض العبادات، وبعض المواعظ، وبعض الأمور، فهذا لابد من ذكره.
أيضاً هناك شخص لا ينظر إليه باعتباره فلان، أو ابن فلان، بل ينظر إليه بالاعتبار العام، أي أنه صار -هذا الشخص- ملكاً للأمة، وللتاريخ، صاحب نفوذ، وصاحب شخصية علمية، واجتماعية، وتاريخية، فقراراته وآراؤه ومواقفه وشخصيته، أصبحت منطبعة على الأمة كلها، وذات تأثير قريب وبعيد في الحاضر والمستقبل، فهؤلاء لم يعودوا أشخاصاً لأنفسهم، بل عادوا ملوكاً للأمة وللتاريخ، فلابد من تناول هؤلاء الأشخاص. وما زال العلماء يكتبون عن تراجم هؤلاء، بل عن غيرهم، يكتبون عن تراجمهم ويتحدثون عنهم، وقد يذكرون الحجاج بن يوسف -مثلاً- فيذكرون ما فعله من الجرائم والمنكرات والمظالم، وربما تكلموا فيه، وربما دعوا عليه، وربما سبوه. وقد يذكرون رجلاً بعكس ذلك، كما يتكلمون عن الرجال الفضلاء الكبراء الأجلاء العادلين، كـعمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز أو غيرهم، كذلك الأشخاص الذي يجاهرون بجرائمهم -لعلي أشرت إلى شيء من ذلك -مثلاً- ماذا عساك أن تتستر على أديب كبير، شعره يبين عنه، ويتكلم عن كل صور الفجور والفساد والانحلال، فماذا عساك أن تتستر على مثل هذا الإنسان أو غيره ممن يجاهرون بمعاصيهم، بل ينشرون ألوان فسقهم وخزيهم على الأمة.
والحمد لله رب العالمين.
الجواب: صحيح للنقد شروط، وسوف تكون شروط النقد وضوابطه -بإذن الله تعالى- موضوعاً لأحد الدروس، بعنوان ضوابط النقد وشروطه، ولذلك لا داعي لأن أذكر منها شيئا الآن.
الجواب: كلا؛ لأن النقد يعني تصحيح الخطأ، فإذا وجه الشخص إليك نقداً؛ لأنك تخالف عادة موجودة في مجتمعه هو، هنا لا يعتبر هذا خطأ؛ فقد يكون هو المخطئ. لكن لو كان النقد الذي وجهه إليك صحيحاً، بالمقاييس الشرعية الصحيحة، فإنه ينبغي عليك أن تقبل النقد، مهما كان الشخص المنتقد، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
الجواب: هي المتعة وهي التمتع، تسمى هذا وتسمى ذاك، لكن المقصود متعة الحج أي لبيك عمرة متمتعاً بها- تسمى المتعة وتسمى التمتع، وهذا معروف في كتب أهل العلم، بل معروف في الحديث.
الجواب: هذا داءٌ -أيها الأحبة- والذي هذا شأنه لا يفلح أبداً إلا أن يتوب فعلى الإنسان أن ينظر دائماً إلى الجوانب المشرقة في حياة الناس وفي شخصياتهم، ينظر إلى الحسنات، لا يكون تركيزه على الجوانب السيئة، وجوانب النقص، كلما ذكر شخص بخير ضاق صدره، فبحث عن عيب، وعن ذنب، ومثلبة، هذا غير صحيح ينبغي أن تنظر بتوازن واعتدال، وتغلب جانب الخير وحسن الظن بالناس، وكلما ذكر شخص تثني عليه بالجوانب الإيجابية الموجودة فيه. وهذا لا يمنع من النقد بشروطه وضوابطه الصحيحة، كما أسلفت.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر