بمناسبة وجود الشيخ سلمان العودة في هذه المدينة أردنا أن نجمع الشباب من أجل أن نستفيد من علمه في بعض الأمور التي نحن بحاجة إليها، وكنا عادة نقرأ في مثل هذا اليوم في كتاب جامع الترمذي وفي زاد المعاد لـابن القيم، وكنا نتمنى أن يحضر الشيخ درسنا وأن يعلق على بعض الأمور، ولكن لما كانت الحاجة إلى غير هذا أمَسّ، طلبنا من الشيخ أن يتحدث في بعض الأمور التي تهم طالب العلم، في طلب العلم وما المقصود من طلب العلم وما الغاية وما الثمرة؟
فمثلاً: في كفارة الظهار صيام اليوم الواحد مقابل لإطعام مسكين واحد؛ لأنها إطعام ستين مسكيناً أو صيام شهرين متتابعين -أي: ستين يوماً- لكن في كفارة اليمين مثلاً تجد أن من خصالها إطعام عشرة مساكين، كما في الآية، وفي آخرها: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [البقرة:196] فكان صيام اليوم يقابل إطعام ثلاثة مساكين وثلث، وفي كفارة من حلق رأسه في الحج وهو محرم كما في حديث كعب بن عجرة: {أنه أمره صلى الله عليه وسلم بإطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام} فكان صيام اليوم مقابلاً لإطعام مسكينين، فعلم بذلك من هذا المثال أن هذه الأمور لا تخضع للقياس، وإنما تدرك بالوحي والشرع.
إنما حفظه بأن سخر من علماء هذه الأمة ورجالها من يجتهدون، ويبذلون ثمرة أوقاتهم وخلاصة أعمارهم في تتبع العلم وحفظه واستظهاره ونشره بالكلام والتصنيف والدعوة وغير ذلك.
بل إن الواحد من الصحابة كان يسمع بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان، فيذهب حتى يحصل عليه.
فيقول: نعم، فقال: ما الذي جاء بك يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
لو أرسلت إليّ فأتيتك! فيقول ابن عباس: كلا! العلم أحق أن يؤتى إليه، حديث بلغني عنك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أسمعه، فيسمع منه الحديث.
إن الإمام البخاري رحمه الله قضى عمره كله في هذا السبيل، شغل وقته وذهنه فيه.
حتى إنك إذا جئت إلى أحدهم في مجال العلوم الشرعية والتحصيل وجدته يملك حافظة فذة، فإذا أتيته في أمور الدنيا وجدت كأنه لا يفقه شيئاً.
البخاري رحمه الله لما صنف كتاب التاريخ الكبير في هذا الكتاب، الذي هو تراجم الآلاف من أسماء الرجال، تجده مع ذلك يقول: قَلَّ اسم في التاريخ الكبير إلا وله عندي قصة، لكني تركتها خشية الإطالة! وهذا يدل على سعة علمه بالرجال والحديث وغيره.
وفي مقابل ذلك يقول رحمه الله: إن بعض قريباته كن يبعثن إليه بـبخارى بالسلام، فأراد يوماً ليكتب رسالة ليقرئهن السلام، فعزبت عنه أسماؤهن حتى لا يذكر منها شيئاً، لأنه قد استفرغ جهده وهمه في الحديث النبوي، ولذلك لم يعبأ بما سوى ذلك، وصار عنده عدم اكتراث لها، فغفل عنها وصار ينساها بسهولة، فيما يتعلق بالأمور الدنيوية التي لا يحتاج إليها في أمور العلم.
وبذلك علم كيف حفظ الله دينه بواسطة من سخر من العلماء والرجال الأفذاذ من يتوفرون على حفظ السنة.
لا يمكن أن تحل لأنه ليس عندهم شيء يرجعون إليه ويقبلون به جميعاً، لكن المسلمين إذا اختلفوا فعندهم قاعدة لحل هذا الخلاف، قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].
والرد إلى الله هو الرد إلى القرآن الكريم لأنه كلام الله، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى حديثه بعد وفاته، ولذلك صارت سنته محفوظة، ويرجع إليها عند التنازع، وعندئذٍ يحل بها الإشكال.
فقال له ابن عباس رضي الله عنه: إن القرآن أنـزل علينا ونحن نعلم فيم أنـزل، وسيأتي بعدنا أقوام لا يعلمون فيم أنـزل، فيختلفون فيه، فإذا اختلفوا وتنازعوا اقتتلوا.
لذلك لو أقصيت السنة -مثلاً- وصار المدار على القرآن؛ فإن القرآن كما قال علي رضي الله عنه: حمال وجوه، دلالاته متنوعة، وكثير من آياته ظنية الدلالة، وليست قطعية الدلالة، ولذلك يفتح لهم الباب على مصراعيه ليقولوا في الدين ما شاءوا.
ألسنا جميعاً نعلم أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن يُسرى عليه في آخر الزمان في ليلة حتى لا يبقى في الأرض منه آية، وإذا أسري على القرآن فمعناه أن السنة قد ضاعت قبل ذلك بكثير، ولم يسرى على القرآن في ليلة حتى لا يبقى منه آية؟
لأنه تعطل العمل به، ولم يعمل به الناس، فلم يقيموا حياتهم الفردية والاجتماعية على منهاج القرآن الكريم، فلذلك أذن الله برفعه.
كما يأذن سبحانه بخراب الكعبة حيث يسلط عليها ذا السويقتين من الحبشة، فيقلعها بمسحاته حجراً حجراً -كما في الصحيحين- لأنه لم يعد هناك من يحج أو يعتمر أو يصلي إلى هذه الكعبة، وكما يأذن الله عز وجل بقبض أرواح الطائفة المنصورة الذين أقامهم لحفظ الدين وحمايته ودعوة الناس إليه، يأذن بقبض أرواحهم فيبعث ريحاً طيبة فتقبض أرواحهم؛ لأنه لم يعد هناك من يطيعهم ويتقبل ما عندهم من العلم والخير والصلاح، فرحمةً بهم يأذن الله بقبض أرواحهم قبل قيام الساعة.
وهذا موجود في جيل الصحابة رضي الله عنهم، قارن بين عمر قبل إسلامه وبعد إسلامه، عمر كان قبل إسلامه الرجل الغليظ الجافي القاسي، وله في ذلك قصص وآثار معروفة، وبعد إسلامه كان يسمع الآية من القرآن تقرأ، فيبكي حتى يجلس في بيته أياماً يعاد من جراء تأثره بهذه الآية.
1- متعلم مستفيد:
قال صلى الله عليه وسلم: {فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير}.
هذا هو الصنف الأول من الناس يقابل هذا الصنف من الأرض، طائفة من الناس طيبة قبلت الهدى والشرع وتعلمت، وليس فقط علماً باللسان يتحدث به في المجالس، ويتخاصم فيه في المناسبات، ويظهر فيه كل إنسان ما لديه من المعرفة، كما يقع أحياناً لنا، بل كثيراً ما يقع في هذا العصر من هذا! تجد طالب العلم أحياناً همه أن يحصل مسائل معينة، يجادل ويخاصم فيها، وكل ما حصله من العلم هو ما يقع فيه جدل وخصومة في عشر أو عشرين مسألة من المسائل الفرعية في الصلاة وغيرها، فإذا أتيت إلى أمهات المسائل وإلى أصول العلم وجدت أنه لا يملك منها شيئاً.
إنما هي طائفة طيبة قبلت هذا الماء، فأنبتت الكلأ والعشب، وظهر أثر التأثر بالقرآن والسنة على أقوالها وأفعالها وسلوكها ومواقفها كلها، ولا شك أن هذه نفع الله بها نفعاً عظيماً، لأن غاية ما يتصور من أرض نـزل عليها المطر أن تنبت الكلأ والعشب الكثير.
2- متعلم مفيد غير مستفيد:
{وأصاب طائفة أخرى أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا} هذا القسم الثاني، هناك أرض صلبة إذا نـزل عليها المطر، فإنها لا تتشربه بل تمسكه، فتصبح مثل الإناء، لا تشرب الماء فتنبت الكلأ مثل الطائفة الأولى، وإنما تمسك الماء حتى يأتي الناس، فيأخذوا من هذا الماء فيشربوا، وهذا يشبه الإنسان الذي حصل على علم من علم الدين، لكنه لم يتأثر بهذا العلم، ولم ينتفع به في قلبه وفي سلوكه، إنما يحمل هذا العلم لينتفع به الناس، ونسأل الله أن نكون من الأولين، ونفترض أن هذا الصنف الثاني لا بد أن يكون عندهم شيء من التأثر، فعلى الأقل أصل الإسلام والإيمان عندهم، وإلا لم يكن علمهم هذا شيئاً، ولم يؤخذ منهم هذا العلم الذي عندهم لو لم يكونوا مسلمين، فهم تأثروا لكن تأثراً قليلاً قياساً على العلم الذي عندهم، فإذا أتيت إلى العلم الموجود عند الواحد منهم لقلت: هذا يفترض أن يكون إماماً في العمل، وفي الدعوة، وفي الإصلاح، ولكن واقعه على خلاف هذا، نسأل الله العافية.
فهم لم يعملوا بهذا العلم الذي علموه، فينتفع الناس بعلمهم، وربما يدخل بعض الناس الجنة بسبب ما علموهم، وهؤلاء الله أعلم ماذا يكون مصيرهم، وفي صحيح البخاري من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! أي: فكيف دخلت النار- فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه
فربما كان ممن أمرهم ونهاهم من أطاعوه، فدخلوا الجنة، وهو يدور بأقتابه كما يدور الحمار برحاه في نار جهنم، نسأل الله العافية والسلامة.
فهذا لم يزده ما عنده من المعرفة والعلم إلا بعداً عن الله عز وجل، هذه الطائفة الثانية من يحفظ العلم على الناس، لكنه لا يعمل به، فهو مثل الأرض الصلبة التي أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، لكن هي ما انتفعت، فهي كالسراج أو كالشمعة تحرق نفسها لتضيء للناس.
3- معرض جاهل:
والطائفة الثالثة: {إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً}. أرض تشرب الماء ولا تنبت، فهذا مثال لمن لم يتعلم علماً شرعياً ولم يعمل به، فخسر الاثنتين، وهذه شر الطوائف.
فعلم بذلك أن المقصود من الوحي والعلم الشرعي أن يظهر أثره على حامله قولاً وعلماً وسلوكاً، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الذين يخرجون في آخر الزمان، الذين هم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، قال: {يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} وقوله: لا يجاوز حناجرهم: إما أن يكون المعنى أنه لا يرفع لهم؛ أو أنهم لا يستفيدون منه.
وفي مقابل ذلك تجد طائفة من الناس قد تشتغل بأمر الدعوة إلى الله وتوجيه الناس دون علم، فتبلِّغ في الحقيقة آراءها وأهواءها، ولا تبلغ ما أنـزل الله على رسوله، فلا بد من الاعتدال والتسديد والمقاربة في هذا الباب وفي غيره.
وكلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي |
وهذا والله هو الواقع، فإن الإنسان كلما توسع في العلوم، أدرك شدة جهله، لأنه عرف مقدار العلوم الكثيرة التي لا يعلمها، وربما لا يعرف من بعض العلوم إلا أسمائها أو رءوس المسائل فيها، فأدرك حينئذ أنه جاهل، لكن بعض العامة أحياناًَ -فضلاً عن بعض طلبة العلم المبتدئين- قد يقول الواحد منهم: نحن كل شيء نعرفه، ما يخفى علينا شيء، لكن عسى الله أن يهدينا! لماذا يظنون أنهم يعرفون كل شيء وأنهم لا يخفى عليهم شيء؟!
لشدة جهلهم، فإذا عرف الواحد منهم مسائل كثيرة ظن أنه يعرف، فالعلم الشرعي بحر ليس له ساحل، بل هو بحار.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد في الصحيح:{ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من صبر}.
اصبر على طلب العلم، وإلا فنحن نجد في كل مكان أنه حين يبدأ درس -مثلاً- قد يحضر هذا الدرس -ربما- مئات من الناس، لكن هؤلاء لماذا حضروا؟
هل حضروا فعلاً وهم يعرفون لماذا جاءوا؟
أم أنه يريدون أن يستطلعوا الأمر أول مرة فقط، ثم ينصرفوا بعد ذلك إلى شغلهم؟
فبعد فترة تجد أنه يصفو من هذا الجم الغفير أعداد قليلة، وهذا يكفي؛ لأنه ليس مطلوباً أن يكون الناس كلهم علماء ومتخصصين في علوم الشريعة وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] يكفي أن يوجد طائفة من الناس في كل بلد تتفرغ لطلب العلم الشرعي وتحصيله؛ لتكون مرجعاً يرجع الناس إليها في العلم والفتيا والحلال والحرام، المهم وجود الصبر والدأب والاستمرار حتى يحصل الإنسان على ما يريد أو على بعض ما يريد.
جعلني الله وإياكم ممن عَلِمَ وعمل وعلَّم، فذلك يدعى في ملكوت السموات كبيراً، كما قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه وأرضاه.
وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجواب: الهمة مطلوبة في كل أمر يعمله الإنسان، وما لم يكن عند الإنسان همة، فإنه لا يستطيع أن يصل إلى ما يريد، ولذلك لو نظرت إلى أي أمر من الأمور العادية لوجدت أن تحصيل الإنسان مربوط بعلو همته، فالذي يكون عنده قناعة بأي أمر من الأمور لا يواصل؛ لأنه إذا حصل على شيء ولو يسيراً اكتفى به.
خذ على سبيل المثال الأمور الدنيوية كالتجارة؛ لو أن هناك إنساناً يقول: أنا قنوع ولا أريد أموالا كثيرة، ويكفيني ما يعيلني وأولادي، لفتح محلاً متواضعاً يتناسب مع هذه الهمة الموجودة عنده، كذلك العلم الشرعي -وهو لا شك من المنافسات الشرعية التي يتنافس فيها أرباب الهمم العالية- قد تجد إنساناً يقول: أنا ليس لي طموح أن أحصل على علم كثير يستفيد منه الناس ويحتاجون إليه.
الله المستعان! ويأتي بعبارات تدل على خمول همته وخمودها، لكن يكفيني أن يكون عندي بصيص على الأقل لنفسي، فمثل هذا -بطبيعة الحال- لا يمكن أن يواصل الطلب، لأنه متى حصل على العلم الذي يخصه من علم فرض العين الذي يتعلق به من حيث الصلاة والطهارة والمعاشرة وما أشبه ذلك اكتفى به، وكلما علت همة الإنسان، كان لديه إمكانية أكثر في التحصيل.
والله تعالى قسم الهمم بين الناس، فقد تجد من الناس من تكون همته أن يصلح أهل البلد، ويوصل الخير إليهم جميعاً، وقد تجد آخر همته فوق ذلك قد يطمح أن يصلح أهل دولةٍ بأكملها، وربما تجد ثالثاً همته أن يصلح أحوال المسلمين بكاملهم، وليس بالضروري أن يحصل الإنسان على الهمة التي يتطلع إليها، ولكن بقدر همته يحصِّل، ولذلك كان يقال:
وكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا |
فكلما علت همة الإنسان كان أدعى وأكثر لتحصيله، ولعلكم تعرفون كلمة الإمام الشافعي رحمه الله التي قالها في مجال طالب العلم والإصرار عليه، يقول:
سأطلب علماً أو أموتَ ببلدة يقل بها سفح الدموع على قبري |
أي أنه: سوف يصر على طلب العلم حتى يتغرب في بلاد لا يُعرف فيها بحثاً عن الحديث والسنة،
فإن نلت علماً عشت في الناس سيداً وإن مت قال الناس بالغ في العذر |
إذا ما مضى يومٌ ولم أستفد يداً ولم أكتسب علماً فما ذاك من عمري |
وعلو الهمة في حياة السلف أمر عجيب، والكلام فيه يطول، لكن لا بد من وجود الهمة عند طالب العلم، وبقدر همم الناس يحصلون من العلوم بإذن الله تعالى.
الجواب: القرآن هو أساس العلم وأصله، كما قال الله عز وجل: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] فوصف الذين حفظوا القرآن وكان القرآن في صدورهم أنهم من الذين أوتوا العلم، ولذلك فإن العمل على حفظ القرآن من الأشياء التي ينبغي أن يأخذ طالب العلم بها نفسه، نحن لا نقول هذا شرط لتحصيل العلم، فليس هناك ما يدل على هذا، بل إننا نعلم من حياة السلف أن منهم من كان لديه علم يشار إليه بالبنان، ولم يكن حافظاً للقرآن كله، لكن من أراد أن يحفظ العلم، فعليه أن يبدأ بحفظ القرآن الكريم، ولا تعارض بين حفظ القرآن وبين طلب العلوم الأخرى كالحديث والفقه والأصول وغيرها، بل على الإنسان أن يجعل له وقتاً يحفظ فيه القرآن، كأن يحفظ في اليوم وجهاً أو وجهين أو ثلاثة، بحسب ما يتيسر له، المهم أن يلتزم بمقدار من حفظ القرآن الكريم لا يتخلف عنه أبداً، ويجعل له وقتاً لحفظ السنة وطلب العلم؛ بحيث أنه بعد ثلاث سنوات أو أربع سنوات، يجد نفسه قد حفظ كتاب الله، وحصل جزءاً طيباً من العلوم.
أما من يقول: أريد أن أتوفر على حفظ القرآن فقط دون غيره فهذا يختلف، بعض الناس قد يكون عنده جودة وسرعة في الحفظ، حتى أن منهم من حفظ القرآن في شهر، ومنهم من حفظ القرآن في شهرين، فهذا لا بأس أن يتفرغ شهراً أو شهرين ليحفظ القرآن كاملاً، لكن غالب الناس لا يستطيع حفظ القرآن إلا على الأقل في حولين كاملين، فمثل هذا من العسير أن يقال له: تفرغ حولين كاملين لحفظ القرآن، اللهم إلا أن يكون الإنسان لا يستطيع إلا ذلك، أو مشغول في أمور أخرى، وكل حالة تقدر بقدرها، لكن ينبغي أن يكون حفظ القرآن هو الأمر الأول في أساسيات طالب العلم.
فبعض الناس يحجم عن طلب العلم بحجة أنه لا يستطيع تبليغ العلم في هذا الزمان، وما كل أمر يريد أن يقوله يستطيع أن يقوله؟
فما رأيكم؟
الجواب: أما أن طلب العلم عبادة، فلا شك أنه إذا كان لوجه الله تعالى فهو من أعظم القربات، ولذلك صرح بعض أهل العلم كـالشافعي والإمام مالك وغيرهما بأن طلب العلم يقدم على النوافل الأخرى، وهذا ظاهر لأسباب كثيرة:-
منها أن العبادات تفتقر إلى العلم، والعلم لا يفتقر إلى نوافل العبادات، فالإنسان لو تعبد على غير علم قد يعبد الله على جهل وضلال، فالعبادة تفتقر إلى العلم في تصحيحها، والعلم لا يفتقر إلى العبادة.
ومن جوانب فضل العلم على العبادة أن العلم نفعه متعدٍ، والعبادة نفعها لازم، فالعالم ينفع الله به الناس كلهم، والعابد ينفع نفسه.
ومنها: أن العلم يكون به حفظ الشريعة، وليس كذلك العبادة، فإن العُبَّاد قد ينشغلون عن طلب العلم وتحصيله، ويضيع عليهم الكثير من أمور الدين.
ومنها: أن العلماء هم ورثة الأنبياء.. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن العلماء ورثة الأنبياء} وليس كذلك العُبَّاد، فلم يرد في شأن العُبَّاد مثلما ورد في شأن العلماء أنهم ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
ومنها أن العلماء هم الذين أمر الله تبارك وتعالى بطاعتهم، ولم يأمر بطاعة العُبَّاد كما في قوله عز وجل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] وكما في قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]فأولي الأمر -كما قال المفسرون- هم العلماء والأمراء، فطاعة العلماء فيما يبلغونه من دين الله وشرعه واجبة بخلاف العباد.. إلى غير ذلك من الأسباب التي يعلم بها أن الاشتغال بالعلم من أعظم القربات وأجل الطاعات، لأن فيه حفظ الدين كما ذكرت.
أما كون الإنسان أحياناً لا يستطيع أن يقول كل ما في نفسه، فنحن نسأل: لماذا؟
لغلبة الشر وكثرة الأشرار، فلو أن المسلمين انتدب منهم من يحرصون على تعلم العلم وتعليمه ونشره لتغير الحال، وأصبح الخير هو الغالب، وأمور المجتمعات -أيها الإخوة- مرتبطة بعضها ببعض، فكثيراً ما تجد بعض الناس يكثر من اللوم على القائمين على أحوال المسلمين، من السلاطين وغيرهم وما وقعوا فيه، وينسى لوم الناس أنفسهم، والواجب لوم الجميع؛ لأن الأمور هذه مرتبط بعضها ببعض، والله عز وجل يقول في كتابه: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129] فإن ما سلط على الناس يكون سبباً في عدم إمكانية أن يقول الإنسان كل ما عنده، وينشر علمه في كثير من البلاد، بسبب سوء أحوال الناس وانحرافهم، فعوقبوا بشيء من ذلك.
فإذا عملنا على إصلاح أنفسنا ونشر العلم؛ فإننا بذلك نجد كثرة العلماء والمتعلمين وكثرة الفرص التي يستطيع الإنسان بها أن ينشر علمه، وفي كثير من الأحيان قد تجد هناك مسئولاً فيه خير وصلاح، يبحث عن إنسان صالح ليعتمد عليه في من حوله، فلا يجد، لغلبة الشر -كما ذكرت- وكثرة الأشرار وتنفذهم، فهذا الذي ترك طلب العلم بحجة أنه لا يستطيع أن ينشر علمه، فماذا عمل بعد ذلك؟
قعد في بيته واشتغل بتجارته أو وظيفته أو دراسته، وتعطل من المصالح الشرعية جملةً، وهذا في الواقع ليس بحل.
الجواب: إذا عرفنا الهدف من تحصيل العلم وجمعه، فالعلم لا شك إذا كان علماً لا يُبدى، فهو مثل إنسان عنده كنـز من الأموال، لكنه محفوظ في خزائنه لا ينتفع الناس به، إنما يكون حساباً عليه يوم القيامة، فما هي الأشياء التي تمنع الإنسان من إبداء العلم؟
قد تكون هناك أسباب شرعية تمنعه من إبداء العلم، مثل ظنه بأن هذا الإنسان الذي سأله أو طلب منه سوف يستخدم هذا العلم في غير وجهه الشرعي، فيرى من المصلحة حجبه عنه للمصلحة الشرعية، أو يرى أن إبداء هذا العلم قد يكون ليس هذا أوانه، وله وقته المناسب، كأنواع خاصة من العلوم، وقد يكون على الإنسان خطر في نفسه أو ماله، فيجوز له أن يترك ذلك، وإن كان الأولى والأحرى به أن ينشر العلم كما قال أبو ذر رضي الله عنه: [[لو وضعتم الصمصامة على هذه -أي على رقبته- ورأيت أني أنفذ شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تقتلوني لأنقذته]].
أما ترك إظهار العلم خشية الرياء، فهو من مزالق ومداخل الشيطان على ابن آدم، في العلم وغير العلم، وكثيراً ما يوسوس للإنسان من خوف الرياء، فيدعوه إلى القعود عن الطاعة والعبادة، وكم من إنسان ترك التقدم إلى الجماعات، وترك إمامة الناس في الجمع والجماعات، وترك الدعوة إلى الله، وترك قراءة القرآن، وترك صلة الأرحام، بحجة أنه يخشى أن يكون هذا من الرياء، وليس الحل أن يترك العمل، إنما الحل أن يستمر في العمل، ويدافع الرياء.
ومبدئياً كونه ترك العمل خوف الرياء دليل على أن عنده أصل الإخلاص، وإلا فالمرائي يفرح ويفخر بأن يظهر العمل للناس ليمدحوه به، فكون الإنسان يكون عنده هاجس وهم بأنه سوف يترك العمل خوف الرياء دليل على أن عنده إخلاص، لكن قد يخطر الرياء في قلبه، وأصل النية عنده خالصة، فلا ينبغي له أن يترك العمل حينئذٍ، بل عليه أن يستمر في العمل، ويحرص على دفع الرياء ما استطاع، فإن لم يندفع الرياء، وكان الأصل الدافع للعمل خالصاً، فإن هذا لا يؤثر في أصل العمل، وإن كان قد يقلل من أجره.
الجواب: أما كيفية طلب العلم للنساء فكما في حديث رواه النسائي وغيره بسند قابل للتحسين: {أنما النساء شقائق الرجال} فما يقال في الرجل يقال في المرأة أيضاً في طلبها للعلم، والطريق واحدة، لكن ظروف المرأة العائلية قد تحول دون بعض ذلك، فيمكن للمرأة أن تعوض ما فاتها عن طريق سماع الأشرطة وقراءة الكتب وما أشبه ذلك.
ثم إنني أنصح الأخوات الحريصات على طلب العلم على التركيز على العلوم التي يحتجن إليها في أمورهن العملية والحياتية بصفة أخص، لأن طبيعة المرأة ودور المرأة في المجتمع من الزواج ثم الحمل والإنجاب والاشتغال بالولد تحول بين استمرارها على وتيرة واحدة في الطلب، فكونها تقدم الأهم هذا هو الأحزم والأولى في حقها، فتعنى -مثلاً- بمسائل الطهارة ومسائل الصلاة، والمعاشرة، وحقوق الأهل، ومعرفة أحكام بعض المنكرات الموجودة والأدلة على تحريمها، وأحكام بعض الأعمال التي يعملها الناس؛ حتى تكون آمرة ناهية، ومعرفة العقيدة، وهذا قبل ذلك كله، والدعوة إليها، معرفة الترغيب والترهيب وما ورد فيه من أحاديث؛ لأن هذه من الأشياء التي تحتاجها المرأة في مجالستها ومعاملتها مع غيرها من الناس، وتستفيد منها بشكل أكبر، فإذا بقي عندها بعد ذلك فضل وقت، فلا بأس أن تصرفه في فروع العلوم الأخرى.
أما أولياء أمور النساء، فلا شك أن ولي أمر المرأة لها عليه حقوق كثيرة، من أهمها أن يعلمها حدود ما أنـزل الله على رسوله، ومن العيب أن يكون طالب العلم أحياناً مشتغلاً بالعلم، وربما بالتعليم أيضاً، فإذا أتيت إلى أهله، وجدت عندهم جهلاً مطبقاً، وقد علمت أن بعض النساء يوجد عندهن جهلٌ غريب في أمور الدين؛ بسبب أن المرأة محصورة في بيتها لا تذهب ولا تجيء ولا تخرج، وفي نفس الوقت ولي أمرها لا يوصل إليها ما يسمعه من العلم والذكر، فلا هي سمعت بنفسها، ولا هو أوصل إليها بعض ما سمع، حتى إن من النساء من قد تجهل أصول الإسلام.
وقد علمت أن إحدى النساء وهي نشأت في بيئة طيبة جداً، ومع ذلك لم تكن تعلم أن الناس يبعثون بعد موتهم حتى تزوجت، وحدثني آخر أن زوجته لا تصلي، ولما أمرها بالصلاة وألح عليها، قالت: ما سمعنا أن الدين للمرأة! الدين للرجال، تقوله جادة ليست ساخرة، تقول الدين للرجال، وهم الذين يخاطبون وينهون ويذهبون إلى المساجد، أما المرأة فليس عليها دين، فالمرأة بأمس الحاجة إلى أن ولي أمرها إن كان عالماً أو عنده علم، يوصل إليها ما عنده من علم، وإن لم يكن كذلك يمكنها من سماع العلم والذكر والموعظة، ويذهب بها إلى الدروس والمحاضرات والمجالات التي يكون فيها خير، ويحضر لها ما تحتاجه من الكتب والأشرطة وغيرها؛ ليقوم بذلك ببعض الواجب الملقى على عاتقه تجاهها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر