إسلام ويب

شرح كتاب الإيمان [4]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الأدلة التي استدل بها أهل السنة والجماعة على بطلان قول مرجئة الفقهاء في الإيمان: أن الشرائع في دين الإسلام كلما نزل شيء منها ألحق باسم الإيمان، كما أنهم يردون على قولهم بعدم زيادة الإيمان ونقصه بأن الإيمان ذكر مطلقاً ومقيداً، وذكره بهذه الصورة دليل على زيادته ونقصه؛ لأن الله أثبت أصله دون الإسلام أو العمل في مقام، وذكره على التمام والكمال في مقام آخر.

    1.   

    من الأدلة على أن الإيمان قول وعمل: أنه كلما نزلت شريعة التحقت باسم الإيمان

    قال المصنف رحمه الله: [ثم كذلك كانت شرائع الإسلام كلها، كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة به، ويشملها جميعاً اسم الإيمان فيقال لأهله: مؤمنون].

    قوله رحمه الله: (ثم كذلك كانت شرائع الإسلام كلها) هذا إلحاق بما ذكره في شـأن مسألة الزكاة، وهو لا يريد بهذا أن كل شرائع الإسلام تعطى الحكم الذي ذكره في مسألة الزكاة وقتال أبي بكر لمانعيها، وإنما مراده أن الإيمان ابتدأ بذكر الشهادتين، ثم كلما نزلت شريعة من الشرائع فإنها تكون داخلة في مسماه.

    أما أن الشريعة الواحدة إذا تركها قوم، وقاتلوا على تركها، وامتنعوا عنها يكفرون بذلك فإن هذا ليس مراداً له؛ فإن هذا أمرٌ اختص بمسألة الزكاة وأمثالها من المسائل الكبار.

    وأما ما دونها من المسائل فإن هذا الحكم لا يلزم أن يكون مطرداً فيها.

    [وهذا هو الموضع الذي غلط فيه من ذهب إلى أن الإيمان بالقول، لما سمعوا تسمية الله إياهم مؤمنين، أوجبوا لهم الإيمان كله بكماله، كما غلطوا في تأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإيمان ما هو؟ فقال: (أن تؤمن بالله..) وكذا وكذا، وحين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية فأمر بعتقها وسماها مؤمنة، وإنما هذا على ما أعلمتك من دخولهم في الإيمان، ومن قبولهم وتصديقهم بما نزل منه، وإنما كان ينزل متفرقاً كنزول القرآن].

    هذا كله تقرير لاستدلاله الأول: أنه كلما نزلت شريعة من الشرائع التحقت باسم الإيمان.

    وهو بهذه الطريقة يشير إلى أصل عند المرجئة في الجملة -من الفقهاء وغيرهم- في تقريرهم لمسألة الإيمان، وهو أنهم اعتبروا ظاهر جملة من النصوص النبوية وكذلك جملة من الآيات القرآنية التي فيها ذكر الإيمان قبل ورود العمل، فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77] فأثبت لهم الإيمان قبل ثبوت العمل، فإن المدعو إلى فعل العمل ثبت له الاسم قبل فعل العمل.

    وقد سبق تقرير استدلال السلف بهذا النوع من الآيات -وهي آيات النداء-.

    ومن هنا نقول: إن كثيراً من الآيات في باب الإيمان هي محل تردد من جهة الاستدلال بين أئمة السلف وبين المرجئة، والفقهاء هم أخص طوائف المرجئة استدلالاً بآيات القرآن، بمعنى أن مرجئة الفقهاء -كـحماد ومن وافقه من المتقدمين من الفقهاء- ما كانوا يستعملون في الاستدلال على قولهم الجمل الكلامية أو الأصول الكلامية النظرية التي أدخلها غلاة المرجئة فيما بعد، إنما كانوا يعتبرون بعض ظواهر النصوص.

    وأما الجواب عن قول المرجئة: إن الله ناداهم باسم الإيمان قبل فعلهم العمل؛ فدل على ثبوته قبل ذلك.

    فيقال: هذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، فإنه بإجماع أهل السنة وبإجماع أئمة السلف المخالفين لأئمة المرجئة من الفقهاء وغيرهم، أن الناس قبل فعلهم العمل -الذي ابتدأ ذكره بخطاب مختص- على الإيمان، وإنما الاعتبار بتحقيق هذا الأمر بعد وروده، فمن حققه فقد استكمل الإيمان وزاد إيمانه، ومن لم يحقق الأمر؛ فإن كان الأمر في الأصول فتركه فقد ترك أصل الإيمان، وإن كان من مسائل الفروع فتركه فقد نقص إيمانه.

    وعلى هذا يمكن القول من وجه آخر: إن استدلال المرجئة فرع -وقد أشار إلى هذا المصنف- عن قولهم: إن الإيمان واحد لا يزيد ولا ينقص.

    1.   

    استعمال الإيمان مطلقاً ومقيداً

    وهنا قاعدة تطرد، وبها يعرف الجواب عن آيات الإيمان وأحاديثه في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وهي: أن الإيمان يستعمل مطلقاً ويستعمل مقيداً، فإذا استعمل مطلقاً أريد به مراد، وإذا استعمل مقيداً أريد به مراد، والمرادان وإن اختلفا باعتبار السياقين إلا أن اختلافهما لا يستلزم اختلاف المراد بمسمى الإيمان في الشرع.

    والمقصود باستعماله مطلقاً هو ذكره على وجه الإطلاق، إما بذكره باسم الإيمان أو بذكره صفة للمؤمنين.

    فمن الأول: قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه وأصله في البخاري : (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد عبد القيس وهو في الصحيحين: (الإيمان: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)

    ومن الثاني: قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]

    والمراد بالإيمان في هذا الاستعمال -أي: المطلق- الدين؛ فإن اسم الإيمان في السياقات السابقة تدخل فيه الأعمال الظاهرة والباطنة.

    مثلاً: قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]هذا تحقيق للإيمان في القلب.

    وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً [الأنفال:2]

    وقوله سبحانه وتعالى: (زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً) هذا الإطلاق يشمل الظاهر والباطن.

    وقوله سبحانه وتعالى: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]هذا من مسائل القلب.

    ثم قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3]هذا من مسائل العمل.

    فهذا بيان كون الإيمان قولاً وعملاً.

    وأما الاستعمال المقيد فهو: أن يقترن بذكر اسم الإيمان اسم الإسلام أو العمل.

    فمن الأول: قول الله تعالى: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]وتفريق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بينهما.

    ومن الثاني: قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107]

    وهذا الاستعمال يراد به وجه من الاختصاص، كأن يراد به أصل الإيمان الذي هو القلب، وهو الإيمان الذي ذكر مع الإسلام في قول الله تعالى: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]فمن صريح السياق أن الإيمان أشرف من الإسلام، وإنما أريد بالإسلام هنا الظاهر من الأعمال؛ ولهذا قال: وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].

    فإذا استعمل الإيمان في الكتاب أو السنة مقيداً فإن ما قارنه أو قيده -وهو الإسلام أو العمل الصالح- يكون خارجاً عن مسماه -أي: عن مسمى الإيمان- في هذا السياق وإن كان لازماً له، وخروجه عن مسماه في هذا السياق لا يستلزم خروجه عن مسماه في سائر السياقات، والدليل على أنه لا يستلزم: أن الله أدخل الأعمال الصالحة في الإيمان في ذكر الإيمان المطلق؛ فخروجه عن مسماه في هذا السياق لا يستلزم الخروج في سائر السياقات، فضلاً عن الحقيقة الإيمانية الشرعية التي هي مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والتي هي مجموع السياقات المطلقة والمقيدة.

    وهذا الأصل من فقهه بان له تفصيل السلف في هذه المسألة، وبان له أن غلط المرجئة من عدم فقههم لهذا الأصل.

    وهذا الأصل هو الطريق المحقق في هذه المسألة، ويتفرع عنه أن الإيمان له أصل وله كمال، وأنه يزيد وينقص.

    1.   

    إذا اقترن الإيمان بالعمل فهو من باب عطف الخاص على العام

    ويوجد جواب لبعض أهل السنة، وهو لا بأس به، لكنه ليس هو الجواب الراجح، حيث يقولون: إذا اقترن الإيمان بالعمل فإن هذا من باب عطف الخاص على العام، أي: إن المراد بالإيمان في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:277] القول والعمل.

    فإذا قيل لهم: فكيف قيل: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)؟

    قالوا: هذا من باب عطف الخاص على العام كقولك: جاء الرجال وزيد.

    وهذا جواب لا بأس به، لكنه ليس هو الجواب الراجح؛ لأن المراد هنا: بيان أن الإيمان أصل، وأن له تماماً وكمالاً وهو الأعمال الصالحة، ولهذا رجح الإمام ابن تيمية رحمه الله هذا الجواب في مقام التقييد، سواء قيد بالعمل أو قيد باسم الإسلام.

    1.   

    الرد على جميع فرق المرجئة والوعيدية بأن الإيمان يستعمل مطلقاً ومقيداً

    وهذا الفقه لكون الإيمان يستعمل مطلقاً ويستعمل مقيداً يحصل به الرد على جميع طوائف المرجئة والوعيدية؛ فإن الوعيدية اعتبروا من النصوص السياق المطلق، واستدلوا به على أن الله سبحانه وتعالى لا يسمي المؤمنين إلا وقد استكملوا الأعمال الظاهرة والباطنة.

    فمن يقرأ في كتب المعتزلة يجد أنهم إذا استدلوا على قولهم يستعملون قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] إلى أمثال ذلك.

    وإذا قيل: ما وجه هذا التنوع في كتاب الله وفي كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ؟

    قيل: إنما تنوع ذكر الإيمان؛ لأن الإيمان ليس واحداً، ولهذا نقول: إنَّ ذكره مطلقاً وذكره مقيداً دليلٌ قاطع على كون الإيمان يزيد وينقص؛ لأن الله أثبت أصله دون الإسلام أو العمل في مقام، وفي مقام آخر ذكره على التمام والكمال.

    أما قول المصنف: "حين سئل عن الإيمان ما هو؟ فقال: (أن تؤمن بالله...) فهو يشير إلى حديث جبريل، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الإيمان في حديث جبريل ذكره في القلب والاعتقاد، وهو الإيمان بالله وملائكته...إلخ، فنقول: هذا السياق في ذكر الإيمان المقيد؛ لأنه قيد باسم الإسلام، ولهذا إذا ذكر الإيمان مقيداً فإنما يراد أصله.

    ومن تأمل آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي ذكرت الإيمان مقيداً إما باسم الإسلام وإما باسم العمل، يرى أن الإيمان يذكر في مورد الإيمان القلبي لا في مورد العمل، وهذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن له نقصاً وكمالاً، وهو دليل على الحقيقة التي سبق أن أشرنا إليها وهي أن أصل الإيمان في القلب، والسلف وإن قالوا: هو قول وعمل، وجعلوا العمل أصلاً في الإيمان إلا أنهم متفقون أن أصل الإيمان في القلب، وهو محل اتفاق بين السلف: أن أصل الإيمان في القلب.

    1.   

    استدلال المرجئة على مذهبهم بحديث الجارية والجواب عنه

    قال: "وحين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية"

    قوله هذا إشارة إلى حديث معاوية بن الحكم السلمي ، وهو حديث رواه مسلم في صحيحه، في قصة معروفة في مجيء معاوية بن الحكم وما تحدث به من القول في الصلاة، فلما طاب له خلق الرسول صلى الله عليه وسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائل، وكان بآخر مسائله أن قال: (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوَّانية، فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكةً. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظّم ذلك علي، قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها. قال: فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة).

    وقد استدل بهذا الحديث المرجئة فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى للحكم بإيمانها بمجرد أنها شهدت أن الله في السماء وأنه رسول الله؛ فدل ذلك على أن الإيمان هو التصديق، أو كما يقول فقهاؤهم: فدل على أن العمل لا يدخل في الإيمان.

    وقد أجيب عن هذا الحديث بجوابين:

    الجواب الأول: أن لفظ "فإنها مؤمنة" فيه إعلال، ولهذا قال الإمام أحمد في بعض جواباته: "ليس جميع الناس يقولون: إنها مؤمنة" يقصد بذلك الرواة.

    الجواب الثاني: على التسليم بصحة هذا الحرف -وهو في مسلم كما تقدم- فإنه ليس مشكلاً، بل هو على القاعدة المطردة، لكن السؤال: هل يعد هذا السياق النبوي من سياق الإيمان المطلق أو من سياق الإيمان المقيد؟

    الجواب: هذا السياق من سياق الإيمان المقيد.

    وقد يقول قائل: أين التقييد؛ فإنه لم يذكر الإسلام ولا العمل؟

    الجواب: ليس بالضرورة أن يقتصر التقييد على هذين؛ فإن التقييد إما أن يكون بالأسماء، وإما أن يكون بالأحوال.

    وفي هذا الحديث المقام ليس مقام ثناء وتزكية، بل هو مقام إجراء لحكم من الأحكام الدنيوية، وهو العتاق.

    وإذا كان الإيمان في مقام إجراء الأحكام الدنيوية، فإنه يعتبر أصله ولا يعتبر كماله، وهذا إبانة لكون الإيمان له أصل وكمال، وإبانة لكونه يزيد وينقص، فقد قال الله سبحانه وتعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]ومع ذلك اتفق الفقهاء: أن المراد بالإيمان هنا الأصل، ولهذا لو أعتق فاسقاً صح عتقه بإجماع أهل العمل.

    فقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]أي: معها أصل الإيمان.

    ويظهر هذا واضحاً عند التأمل في تدبير الشارع صلى الله عليه وسلم للسياقات، ففي حديث سعد بن أبي وقاص -وهو في الصحيحين- الذي قال فيه: (قسم النبي قسماً فقلت: يا رسول الله! أعط فلاناً فإنه مؤمن. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم. قال سعد: أقولها ثلاثاً ويرددها عليَّ ثلاثاً: أو مسلم. ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه، مخافة أن يكبه الله في النار)

    هنا السؤال: لماذا منع النبي صلى الله عليه وسلم سعداً أن يسمي الرجل مؤمناً، وقد سمى صلى الله عليه وسلم الجارية مؤمنة، مع أن الرجل الذي زكاه سعد بالقطع أنه يشهد أن الله في السماء وأن محمداً رسول الله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (وغيره أحب إلي منه) فالرجل واضح أنه من المؤمنين بدليل تزكية سعد له وبدليل إقرار النبي لجملة تزكيته، وإبانته صلى الله عليه وسلم بأن له قسطاً من محبته واختصاصه؟

    الجواب: لأن المقام يختلف، ففي حديث الجارية المقام مقام تقييد بالحال، ولهذا إذا ذكر اسم الإيمان في مقام إجراء الأحكام الدنيوية كالإرث، والعتاق، والولاية... وما إلى ذلك فإنه يعتبر أصله.

    وأما إذا اعتبر في مقام الثناء والتزكية، فإنه يعتبر بتمامه؛ ولذلك لما كان سعد رضي الله عنه يريد بقوله: (يا رسول الله! أعط فلاناً فإنه مؤمن) أنه مزكى بالإيمان المحقق، أي أنه من أهل التقوى ومن أهل التحقيق، نهاه صلى الله عليه وسلم ؛ لأن التزكية على هذا الإطلاق ليست مما قصد الشارع إلى إطلاقه.

    هذا هو وجه تعدد جوابه صلى الله عليه وسلم أو تقريره في المقامين.

    فهذا الباب لابد من فقهه حتى لا يقع اختلاط في تقرير مسألة الإيمان وما يتعلق بها من الدلائل.

    1.   

    من الأدلة على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان

    [والشاهد لما نقول، والدليل عليه كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه، فمن الكتاب قوله: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة:124] وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] في مواضع من القرآن مثل هذا].

    فهذا السياق من كتاب الله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3] يدل على أن الأعمال الظاهرة والباطنة تدخل في اسم الإيمان.

    [أفلست ترى أن الله تبارك وتعالى لم ينزل عليهم الإيمان جملة كما لم ينزل القرآن جملة؟ فهذه الحجة من الكتاب، فلو كان الإيمان مكملاً بذلك الإقرار ما كان للزيادة إذاً معنى ولا لذكرها موضع].

    أي: لو كان الإيمان هو محض التصديق الأول لما أمكن زيادته ونقصانه، فلما ذكر الله في كتابه -كثيراً- أن الإيمان يزيد، وأن المؤمنين يزدادون إيماناً دل على أن جميع الشرائع تدخل فيه.

    1.   

    المتواتر والآحاد

    [وأما الحجة من السنة والآثار المتواترة في هذا المعنى من زيادات قواعد الإيمان بعضها بعد بعض].

    مراده رحمه الله بالتواتر: هو مراد من ذكر لفظ التواتر من الأئمة كـالشافعي وأمثاله، فهم يريدون بمتواتر الآثار أو بمتواتر الحديث: ما استفاض وانضبط نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتلقاه أئمة الحديث بالقبول.. هذا هو المتواتر في مراد السلف، وهذا هو المتواتر في اقتضاء الشرع، وهذا هو المتواتر في العقل، وهو كثير في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان جملة مما يسمى متواتراً على هذا الوجه قد يكون أصله غريباً كحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات)

    وهنا مسألة لا بد من الإشارة إليها، وهي: مسألة الآحاد والمتواتر، فإن القارئ لكلام المتقدمين يجد أن منهم -كالمصنف والشافعي - مَنْ يذكرون لفظ متواتر السنة أو متواتر الأثر وما إلى ذلك، وهؤلاء مرادهم بالمتواتر ما استفاض وانضبط نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتلقاه أئمة الحديث بالقبول، وإن كان أصله قد يكون غريباً أو ما إلى ذلك.

    وعليه فجميع أحاديث أصول الدين: كنزول الله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا، وأحاديث الشفاعة، وأحاديث عذاب القبر وأمثاله.. هي عند السلف من المتواتر.

    وأما التقسيم الذي ذكر في بعض كتب المصطلح، وهو: أن السنة تنقسم إلى متواتر وآحاد. وأن المتواتر هو: ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، والآحاد: ما عدا المتواتر، فهذا التقسيم تقسيم بدعي باعتبار حده لا باعتبار لفظه، أما باعتبار لفظه فهو اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح.

    فإن من قال: السنة آحاد ومتواتر، والمتواتر: هو المستفيض، والآحاد: ما لم يستفض، أو المتواتر: هو ما أجمع على ثبوته، والآحاد: ما تردد في ثبوته عند أئمة الحديث.. فهذا التقسيم بهذا الحد لا يعارض؛ لأنه تقسيم على قدر من الاصطلاح والمعاني المناسبة.

    وأما إذا فسر المتواتر بما يوجد في بعض كتب الأصوليين، وكتب المصطلح المتأخرة، وهو: ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأن الآحاد: ما عدا المتواتر. وإذا تأمل الباحث تفصيل حدهم فإنه يجد أنهم قد اختلفوا في عدد الجماعة التي ذكروها في قولهم (ما رواه جماعة) وفي الغالب يستقرون على عشرة تقريباً، فيلزم أن الحديث لا يكون متواتراً عن رسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة عشرة، ورواه عن كل واحد من العشرة عشرة، فتكون الطبقة الثانية مائة، ورواه عن كل واحد من المائة عشرة، فتكون الطبقة الثالثة...

    فإذا فسر المتواتر بهذا فهذا حد أصله من المعتزلة، وهو من بدعهم التي أدخلوها على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقد كان الطعن في آحاد روايات الصحابة منهج متقدم بدأه الخوارج، لكن لما جاء نظّار المعتزل نظروه على هذه الطريقة، ثم دخل على كتب الأصوليين.

    فإن قال قائل: كيف دخل على كتب الأصوليين وهم يكتبون في أصول فقه الشريعة؟!

    قيل: لا عجب؛ لأن أكثر من كتب في أصول الفقه هم المتكلمون، وأصل مادة المتكلمين المعتزلة، وقدماء النظار من الجهمية والأشاعرة والماتريدية أخذوا علم الكلام عن هؤلاء؛ فإن أبا الحسن الأشعري إنما أخذ علم الكلام عن المعتزلة، فقد كان معتزلياً ما يقارب الأربعين سنة من عمره.

    إذاً لا عجب أن ترى هذا في كتب أصول الفقه كالمعتمد لـأبي حسين البصري ، فهو وإن كان حنفياً لكنه معتزلي، والبرهان لـأبي المعالي الجويني ، والمحصول لـمحمد بن عمر الرازي ، والمستصفى لـأبي حامد الغزالي ... وهؤلاء كلهم أشعرية شافعية، وهم غالون في علم الكلام، وإن كان الغزالي متصوفاً من وجه آخر، فهذا باب آخر أيضاً.

    وكذلك لا عجب أن يدخل هذا الكلام -أيضاً- على من نقل عنهم ممن يلخص كتب متكلمة أهل الأصول وإن لم يكن هو متكلماً، كـالموفق ابن قدامة رحمه الله ، فإن روضة الناظر في الجملة تلخيص من كتاب المستصفى لـأبي حامد .

    وكذلك علماء المصطلح من الحفاظ المتأخرين الذين قد ابتعد كثير منهم عن علم الكلام إلا أنهم تأثروا بأصحابه، فإنهم وإن اختلفوا عن المتكلمين إلا أنهم يشتركون معهم في النسبة والصحبة الفقهية.

    ومثال ذلك: الحافظ ابن حجر ، فهو ليس متكلماً ولا يقول بعلم الكلام، ويرى الميل إلى طرق السلف وآثارهم، لكنه شافعي متأثر بأصحابه الشافعية، الذين هم إما متكلمون أو على تأثر كبير بعلم الكلام.

    فالمقصود: أن هذا الحد بمعناه بدعة في الإسلام؛ لأن أصحابه -أعني علماء الكلام الذين اخترعوه- لم يكونوا من أهل الرواية؛ فإن علماء المعتزلة على ما فيهم من القوة في باب العقليات وأمثاله إلا أنهم لم يكونوا من علماء الرواية، فهم لم يعتبروا حقيقة هذا التقسيم، وهل هو مطابق لواقع السنة وروايتها أم لا؟

    ولما جاء من تقلد هذا التقسيم من الحفاظ -كـابن حجر وابن الصلاح مثلاً- أرادوا أن يبحثوا له عن مثال من السنة يصدق عليه بحسب أوجه الرواية والأسانيد والطرق أنه حديث متواتر، فكلما أوردوا مثالاً انقطع عليهم، حتى قال بعض الحفاظ المتأخرين العارفين بمخارج الأحاديث وطرقها: إن هذا الحد ليس له مثال. ومنهم من يقول: له مثال أو مثالان.

    فنقول: هب أن له عشرة أمثلة، فإنه يلزم من هذا أن عامة سنة النبي صلى الله عليه وسلم ليست متواترة، ونتيجة هذا أن عامة السنة تفيد الظن ولا تفيد العلم.

    وقد رتب المتكلمون على هذا أن الأحاديث الآحاد لا يعتد بها في العقائد، وحقيقة قولهم هي أن السنة لا يحتج بها في العقائد، وهذا تأخير لمقام النبوة والرسالة؛ لأنه يلزم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم ما بعث لتقرير مسائل أصول الدين.

    ولذا يجب إنكار هذا التعريف، وإن كان موجوداً في كتب ابن الصلاح وابن حجر رحمهما الله، فهؤلاء وإن كانوا أئمة حفاظ، لكن هذا التقسيم ليس من بنات فكرهم، بل هو تقسيم من النظار المتكلمين، وأصله من محدثات المعتزلة.

    أما المتواتر في كلام الأئمة: فهو ما انضبط نقله، وتلقاه أئمة الحديث -الذين لهم اعتبار في ضبط الرواية- بالقبول.

    وكثيراً ما يُرى الباحثون من أهل السنة وهم يجادلون المخالفين في مسألة الأحاديث المتواترة. فنقول: هب أننا لا نحتج بالآحاد، وهب أننا سلمنا أنه لا يحتج إلا بالمتواتر، فالسؤال لمن يقرر هذا الكلام: أين المتواتر؟ أين الأحاديث المتواترة في اليوم الآخر؟ أين الأحاديث المتواترة في عذاب القبر؟ أين الأحاديث المتواترة في صفات الله؟ أين الأحاديث المتواترة حتى في توحيد الألوهية؟

    لكن إذا اعتبر التواتر على معنى السلف؛ فإن الأحاديث في باب توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، والصفات، والقبر، والشفاعة... وأمثال ذلك تكون على هذه الطريقة جميعها متواترة.

    1.   

    من الأدلة على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان :حديث وفد عبد القيس

    [ففي حديث منها أربع، وفي آخر خمس، وفي الثالث تسع، وفي الرابع أكثر من ذلك.

    فمن الأربع، حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه: (أن وفد عبد القيس قدموا عليه فقالوا: يا رسول الله! إنا هذا الحي من ربيعة، وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر، فلسنا نخلص إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نعمل به وندعو إليه من وراءنا. فقال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان -ثم فسره لهم-: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم، وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير)

    قال أبو عبيد : حدثناه عباد بن عباد المهلبي قال: حدثنا أبو جمرة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه بذلك].

    هذا الحديث من رواية ابن عباس حديث متفق عليه، وقد أخرجه الإمام مسلم -أيضاً- في صحيحه من رواية أبي سعيد الخدري ، وتفرد به.

    وهذا الحديث يعد من أشرف الأحاديث عند أهل السنة والجماعة في تقرير مسألة الإيمان ودخول العمل فيه، فهو صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان هنا بما فسر به الإسلام في حديث جبريل عليه السلام، فإنه لما جاء وفد عبد القيس قال: (آمركم بالإيمان بالله وحدة؛ أتدرون ما الإيمان بالله وحدة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم)فلم يقل: أن تؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وإنما قال: (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان).

    وعليه فمن قال من المرجئة -وهذا يقوله حتى فقهاؤهم-: إن دخول العمل في الإيمان هو من باب المجاز؛ يلزم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر الإيمان لهم هنا؛ لأن المعاني المجازية يصح نفيها!

    وهذا غلط متين في تقرير المرجئة لمسألة العمل ودخوله في الإيمان، فإنه يلزم منه تفريغ النصوص من حقائقها الشرعية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا السياق لم يجبهم في تقرير مسألة الإيمان.

    إذاً: في ذكره صلى الله عليه وسلم لهذه الخصال في تقرير اسم الإيمان إبانة لمسألتين:

    المسألة الأولى: أن العمل داخل في مسمى الإيمان.

    المسألة الثانية: أن العمل أصل في الإيمان؛ لأن الشارع لما فسر الاسم المطلق جعل مادة تفسيره بالعمل؛ فدل على أن العمل أصل فيه، ولا سيما أن القوم إنما سألوا عن الأصل اللازم الذي تقع به النجاة.

    فإن قيل: إذا كانوا قد سألوا عن الأصل اللازم فلم لم يبين لهم صلى الله عليه وسلم المبدأ وهو تصديقات القلب؟

    قيل: لأن القوم قد عرفوا أصول التصديق، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره فقد كانوا مسلمين، ولهذا أبان لهم الأصل الظاهر وهو العمل.

    أما قوله: (آمركم بأربع) ثم أمرهم بخمس.. فهذا مما تتجوز فيه العرب، وإنما أراد أن الأربع هي أصول الإيمان، وما زاد عليها فمن الشرائع، كقوله: (وأن تؤدوا خمس ما غنمتم).

    وقوله: (وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير) هذه منسوخة على الصحيح، وهو مذهب الجمهور وأصح الروايتين عن أحمد، فقد كان هذا التحريم في أول الأمر ثم نسخ بحديث بريدة رضي الله عنه: (نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفاً لا يحل شيئاً ولا يحرمه، وكل مسكر حرام)

    1.   

    من الأدلة على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان حديث: (بني الإسلام على خمس)

    [ومن الخمس حديث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)

    قال أبو عبيد : حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي عن حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك].

    الاستدلال بهذا الحديث مما يدل على أن للمصنف إشارات فاضلة في الفقه، فإن وجه استدلاله بحديث ابن عمر في مباني الإسلام على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان -مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس) ولم يقل الإيمان؟- هو أن الإسلام إذا أطلق في كتاب الله أريد به الإيمان، ولهذا لما قال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) كان هذا اسماً للإسلام واسماً للإيمان.

    ولهذا لما ذكر الله سبحانه وتعالى الأنبياء ذكر إسلامهم، فقال تعالى عن إبراهيم: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]ومن هنا فضلت طوائف من المرجئة اسم الإسلام على الإيمان، وعللوا ذلك بأن إبراهيم عليه السلام سأل ربه الإسلام ولم يسأله تحقيق الإيمان؛ فدل على أن اسم الإسلام أشرف.

    وهذا القول مجانب للصواب؛ لأن الإسلام المطلق يراد به الدين جميعه، بدليل قوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]وقوله تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]وقوله تعالى: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128]وقد يستعمل لفظ الإسلام ويراد به الظاهر فقط من العمل، كقوله تعالى في الأعراب: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14].

    1.   

    من الأدلة على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان :حديث: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق)

    [ومن التسع: حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق -قال أبو عبيد : "صوى" هي ما غلظ وارتفع من الأرض، واحدتها "صوة"- منها: أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره).

    قال أبو عبيد : حدثنيه يحيى بن سعيد العطار عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن رجل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم].

    هذا الكلام إبانةٌ لتعدد شرائع الإيمان كما هو في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)؛ ففي هذا الحديث علق الشارع صلى الله عليه وسلم اسم الإيمان بالقول، وذلك في قوله: (فأعلاها قول لا إله إلا الله). وبعمل القلب، كما في قوله: (والحياء شعبة من الإيمان) وبالعمل الظاهر، كما في قوله: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق).

    وهذا الحديث فيه فضائل في تقرير مذهب السلف، وهو: أنه يمتنع تأويله بالمجاز؛ وذلك لأن الشارع صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) فجعل الواحدة من هذه الخصال شعبة مختصة لوحدها.

    وإذا كان الحياء شعبة من الإيمان وهو في القلب فمن باب أولى أن ما هو أجل منه من أعمال القلوب كالمحبة لله ورسوله، والخوف والرجاء... وأمثال ذلك أنها أصول في الإيمان.

    وإذا كان إماطة الأذى عن الطريق شعبة من الإيمان فمن باب أولى أن يكون ما فوقه من الواجبات -فضلاً عن المباني والأركان- من شعب الإيمان.

    1.   

    مسائل تتعلق بترك العمل

    وقد أشار المصنف في قوله: (ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره) إلى مسائل يكثر الخلاف والنظر فيها، وهي ثلاث مسائل تتعلق بترك العمل:

    المسألة الأولى: اتفق أهل السنة والجماعة وعامة المسلمين على أن ترك آحاد الأعمال -أي: الأعمال المأمور بها- لا يوجب الكفر والخروج من الإيمان.. وهذا كقاعدة كلية مطردة، ولم يعارض في ذلك إلا الغلاة كالخوارج والمعتزلة.

    المسألة الثانية: من ترك جملة العمل -أي: من ترك جميع الأعمال الظاهرة، وهو ما يسمى في التعبير المعاصر بترك جنس العمل- هل يكون مؤمناً بما في قلبه أم أنه يكون كافراً بتركه هذا الأصل وهو الأعمال الظاهرة؟

    هذه مسألة يأتي لها بحث إن شاء الله.

    المسألة الثالثة: ما يتعلق لا بترك جنس العمل ولا بترك مطلق آحاده، وإنما بالترك لأحد المباني الأربعة، والتي هي: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، مع الإقرار بوجوبها.

    1.   

    حكم ترك الصلاة

    السؤال هنا: هل يوجد إجماع للسلف على أن ترك أحد المباني الأربعة يكون كفراً وردةً وخروجاً من الإيمان.. إلى أمثال هذه العبارات؟

    أجلُّ هذه المسائل الصلاة، فهل تركها مع الإقرار بوجوبها يكون كفراً؟

    المسألة من جهة تحقق الإجماع أو عدم تحققه مسألة نزاع.

    القول بأن ترك الصلاة كفر بالإجماع

    نص إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـإسحاق بن راهويهأيوب السختياني وجماعة على أن ثمة إجماعاً عند الأئمة على أن ترك الصلاة يعتبر كفراً، قال أيوب : "ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه" . وقال إسحاق بن إبراهيم فيما رواه عنه محمد بن نصر المروزي وأبو عمر ابن عبد البر : "كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا: أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر" .

    ومن هنا ذهب جملة من أصحاب أحمد ، وبعض أهل العلم من المعاصرين إلى القول بأن ترك الصلاة كفر بالإجماع.

    وهذا القول -أي: القول بكون ترك الصلاة كفراً مجمعاً عليه بين الصحابة والأئمة من السلف- قولٌ ضعيف .

    وجود الخلاف في حكم ترك الصلاة

    الصواب: أن المسألة ليس فيها إجماع عند السلف؛ لأن هذا الإجماع الذي ذكره إسحاق بن إبراهيم يعلم بالضرورة أنه ممتنع التحقق؛ فإن من يقولون بالإجماع أو من يكفرون تارك الصلاة لم يتفقوا على أن ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها كفر وخروج من الملة ، بل عامة أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين على خلاف هذا، وهو الذي تدل عليه سائر النصوص الصريحة.

    وعلى هذا يكون كلام إسحاق فيه تعذر، إلا إذا حمل كلامه على الامتناع، ولهذا من نقلوا كلام إسحاق نقلوه على وجهين:

    الوجه الأول: منهم من يرويه عنه بالوجه السابق.

    الوجه الثاني: ومنهم من يرويه عنه بقوله: "كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا: أن تارك الصلاة عمداً من غير عذرٍ حتى يذهب وقتها كافر، إذا أبى من قضاءها، وقال: لا أصليها" .

    فإذا حمل -أي قوله: وأبى قضاءها- على الممتنع فلا شك أن من ترك صلاةً ودعي إليها وامتنع عنها إلى حد القتل فإنه يكون كافراً؛ ولهذا قال شيخ الإسلام: "من دعي إلى صلاة واحدةٍ أو أكثر فامتنع، فقيل: هذا حده القتل، فصبر على السيف، فهذا كافر باتفاق المسلمين؛ قال: لأنه يمتنع أن يكون قتل على الفسق.

    قال: وأما قول بعض أصحاب الأئمة الثلاثة أن هذا يقتل على الفسق فهذا غلط على الشريعة وعلى أئمتهم" .

    وبهذا يكون الأظهر في هذا أن هذه المسألة مسألة نزاع بين السلف، وإن كان يمكن أن يقال: إن الجمهور من السلف كانوا يذهبون إلى أن تارك الصلاة كافر . لكن الخلاف معروف ومشهور ومضاف للأكابر كـالزهري ومالك والشافعي ، فضلاً عن مرجئة الفقهاء، لكن لا يذكر مرجئة الفقهاء هنا؛ لأن الإشكال في أصلهم، وإنما نريد هنا بالسلف الذين يقولون: الإيمان قول وعمل.

    وأما قول عبد الله بن شقيق : "لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" فهو أثر محفوظ عن عبد الله بن شقيق ، لكنّ مالكاً والزهري وإن كانوا متأخرين عن عبد الله بن شقيق إلا أنهم أعلم بآثار الصحابة رضي الله عنهم وبسننهم وبهديهم من عبد الله بن شقيق ، والزهري لا شك أنه فوق عبد الله بن شقيق بمراحل في ضبط آثار الصحابة رضي الله عنهم ، حتى إنه -كما قال الإمام ابن تيمية- لم يحفظ عليه غلط.

    فالمقصود: أن الأكابر كـالزهري ومالك، وبعض أئمة المدينة، وبعض أئمة العراق ما كانوا يذهبون إلى أن تارك الصلاة كافر، وهذا يفيد أن هذه المسألة مسألة نزاع.

    تنبيه على الكلام عن حكم ترك الصلاة

    وهنا ننبه إلى أنه قد يكون لدى بعض طلبة العلم عناية بقدر الصلاة وتعظيمها؛ فيحب أن ينزع إلى أن ترك الصلاة كفر بالإجماع، وأن المسألة مغلقة، وهذا ليس بلازم؛ لأن قول إسحاق لو أخذ على ظاهره للزم عنه تكفير كثير من المسلمين، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس ولا هم بتاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام" .

    وكذلك كلام عبد الله بن شقيق يدل على أن هذا هو ظاهر مذهب الصحابة؛ لكن لا يدل على أن هذا إجماع متحقق للصحابة، وفرق بين المسألتين، فإن معنى القول بإنه إجماع متحقق معناه أنه لا يجوز الاستعلان بخلافه، ولو كان إجماعاً لما أمكن فواته على الزهري ومالك وأمثال هؤلاء، وكذلك اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله في مسألة تارك الصلاة هل يكفر أو لا يكفر، وإن كان الصحيح في مذهبه أن تارك الصلاة كافر، لكن جملة من محققي الحنابلة لا يذهبون إلى كفره، ويحققون أن هذا هو مذهب أحمد.

    فالمقصود أن هذه المسألة لها جهتان:-

    الجهة الأولى: تعظيم قدر الصلاة، وهذا لابد منه.

    الجهة الثانية: تعظيم ديانة المسلمين أيضاً، فلا ينبغي أن يفتات فيها بتسرع إلى درجة أن يقال: إن ترك الصلاة الواحدة يعد خروجاً من الملة، إلا إذا كان العالم قد بان له باجتهاد من الشريعة أن ترك صلاة واحدة يكون كفراً وخروجاً من الملة فأفتى بذلك فهذا اجتهاد قد سبق إليه أكابر من السلف والخلف، ولكن ليس من مقصود السنة والجماعة أن يقال: إن ترك الصلاة كفر بالإجماع.

    ذكر الخلاف في حكم ترك الصلاة

    فإن قال قائل: ذكر الخلاف قد يهون من شأن الصلاة عند العامة أو عند من يتساهل بها.

    قيل: هنا قاعدة، وهي: أنه عند الحديث إلى العامة والسواد من المسلمين على المنبر وفي المجالس العامة يقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)وليس من الفقه أن يقال -إذا كان القائل لا يرى كفر تارك الصلاة-: والصحيح أن هذا ليس من الكفر المطلق بل هو كفر دون كفر؛ فإن العامة والسواد من المسلمين يُحدثون بما كان الرسول يحدث به الصحابة؛ لأن حديثه صلى الله عليه وسلم لم يكن للصحابة وحدهم، بل هو حديث للأمة جميعها. لكن إذا جاء مقام التحقيق أو وجد رجل قد مات وهو يترك بعض الصلوات، وردت مسائل: هل يغسل؟ هل يصلى عليه؟ هل يرث؟ هل يورث؟ هل يدعى له بالرحمة؟ هل يعد من المسلمين؟.. فهذا مقام شديد أيضاً، وليس من السهولة أن يقال: من ترك صلاةً حتى خرج وقتها لا يصلى عليه، ولا يكفن، ولا يدفن في مقابر المسلمين... أي: يعطى جملة أحكام الكفار.

    وقد استدل الموفق ابن قدامة رحمه الله على أن ترك الصلاة ليس كفراً بالإجماع. فقال: "لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة تُرك تغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا منع ورثتُه ميراثَه، ولا منع من ميراث مورثه، ولا فرّق بين زوجين لترك صلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافراً لثبتت هذه الأحكام كلها" .

    وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذا الاستدلال من الموفق وغيره من العلماء فقال: "إن كثيراً من يظن أن من قيل: هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث ولا يورث، ولا يناكح، حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك" . فهو يقرر أن هذا الاستدلال غلط من جملة من الفقهاء من أصحاب الأئمة؛ فقد فرضوا أن من قيل عنه: إنه مرتد أنه يلزم أن تطبق أحكام الردة الظاهرة عليه، والصحيح أن هذا غير لازم.

    فإن تطبيق أحكام الردة إنما يكون بحسب قيام الحجة، وفرق بين الكفر الذي يوافي العبد به الله، وبين الكفر الظاهر الذي تقوم عليه الحجة.

    القول الراجح في حكم ترك الصلاة

    محصل مسألة ترك الصلاة أن ظاهر مذهب الصحابة أن ترك الصلاة كفر، ومن الممكن أن يقال على تقسيم الأصوليين للإجماع: إن هذا إجماع سكوتي للصحابة؛ لأن النقلة كـعبد الله بن شقيق وغيره نقلوا أن الصحابة كانوا يذهبون إلى كفر تارك الصلاة، ولم ينضبط عن صحابي واحد أنه ذهب إلى أن تارك الصلاة ليس كافراً، أو أن ترك الصلاة ليس كفراً.

    فلهذا يمكن أن يقال: إن هذا قدر من الإجماع السكوتي، ولكن الإجماع السكوتي ليس حجةً قاطعة، وجملة كثيرة من المسائل على هذا القدر ولا تكون من المسائل القاطعة.

    هذا هو أقوى ما يقال في الإجماع على مسألة تارك الصلاة، أما أنه إجماع قطعي بمنزلة الإجماع على أن أفعال العباد مخلوقة، وأن الإيمان قول وعمل وأمثال ذلك فهذا ليس بصحيح، وإذا قيل: نقله إسحاق ؛ قيل: خالف مالك. وإذا قيل: قال أيوب ؛ قيل: خالف الزهري ، والزهري أجلُّ من إسحاق وأيوب عند الأئمة ولا شك.

    وبهذا يظهر أن المسألة فيها قدر من الخلاف، وإن كان الراجح أن تارك الصلاة كافر، أما كفره فلحديث بريدة وجابر بن عبد الله ، وغيرها من الأدلة.

    مسألة حكم ترك الصلاة وعلاقتها بمذهب المرجئة

    هنا مسألة وهي: من لم يكفر تارك الصلاة، هل هذا أثر من المرجئة عليه؟

    بعض من ينتصر بقوة لهذه المسألة يقول: إن من لم يكفر تارك الصلاة فقد دخل عليه الأثر من المرجئة. والصحيح عدم ذلك، فقد كان الزهري من أشد الناس على المرجئة، إلى درجة أنه في أحاديث الوعد كقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)وغيره من الأحاديث، كان الزهري يذهب فيها إلى تأويل لم يوافقه عليه الجمهور من الأئمة.

    فقد كان يقول عن هذه الأحاديث التي علق النبي صلى الله عليه وسلم فيها دخول الجنة على كلمة الشهادتين: "إنما كان هذا في أول الإسلام، قبل نزول الفرائض والأمر والنهي" ، وهذا التأويل بعيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث بهذه الأحاديث في المدينة النبوية. ولكن الزهري أجاب بهذا الجواب من باب إغلاق الرد على المرجئة؛ لأنه كان من أفطن الناس في مسألة الإرجاء والرد على أصحابها.

    لكن ننبه إلى أن هناك فرقاً بين من لم يكفر تارك الصلاة من الأئمة لكونه لم ير كفره بالأدلة، وبين من يقول إنه ليس بكافر؛ لأن الصلاة عمل، والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان..

    ومن هنا يتبين أن هناك فرقاً بين ترك أبي حنيفة لتكفيره، وبين ترك مالك والشافعي لتكفيره، فترك مالك والشافعي اجتهاد، يقال عنه: إنه مرجوح، أما ترك أبي حنيفة لكفر تارك الصلاة فهو بدعة؛ لأنه بناه على أن الصلاة عمل، والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان.

    أي: من قال: إن ترك الصلاة ليس كفراً وكان معتبره أنها عمل والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان فهذه بدعة المرجئة، وإن كان معتبره أن الأدلة لم تظهر بذلك فهذا قولٌ مما يسوغ فيه الاجتهاد، وإن كان مرجوحاً ومخالفاً لظواهر النصوص.

    1.   

    حكم ترك الزكاة والصوم والحج

    إذا تحقق هذا في مسألة الصلاة فمسألة الصلاة والصوم والحج من باب أولى، بمعنى أنه ليس فيها إجماع.

    فالزكاة لم ينقل إمام من الأئمة الإجماع على كفر تاركها، بخلاف الممتنعة الذين قاتلهم الصديق ؛ وهم شيء آخر، فإن من تركوا الزكاة وهم أهل شوكة ومنعة وامتنعوا وقاتلوا كفار، وأهل ردة كما هو ظاهر مذهب الصحابة، وقد حكي الإجماع عليه كما سبق.

    أما إذا ترك واحد من المسلمين الزكاة، ولم يحتسب عليه، فإن هذا الترك هل يعد كفراً وخروجاً من الملة أولا هذه مسألة نزاع، ولم يقل أحد من السلف أنها إجماع كمسألة الصلاة، وقد تقدم أن الأظهر أنه ليس بكافر إذا تركها لمجرد الترك، لحديث أبي هريرة : (فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار) ولغير ذلك من الأدلة.

    ومسألة الصوم من باب أولى؛ لأنه إذا لم يكفر بترك الزكاة فمن باب أولى مسألة الصوم، وإذا كانت مسألة الزكاة مسألة خلاف فمن باب أولى أن الصوم والحج مسائل خلاف.

    وعليه فالقدر المعتدل في هذه المسائل: أن ترك الصلاة كفر، وترك الزكاة كفر إن قاتل عليها، هذا هو ظاهر الأدلة، لكنها ليست من مسائل الإجماع.

    1.   

    حكم ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج جميعاً

    وهذا الحكم السابق مقولٌ في ترك آحاد المباني الأربعة، أما من جمع ترك المباني الأربعة:- بمعنى أنه تارك للصلاة، تارك للزكاة، تارك للصوم، تارك للحج- فإن هذا لا يكون إلا عن كفر، ولهذا لا يمكن أن يقال أن مالكاً رحمه الله الذي لا يذهب إلى كفر تارك الصلاة لا يذهب إلى كفر من جمع ترك المباني الأربعة.. وإن كان هذا تخريجاً لبعض أصحاب مالك وبعض أصحاب الشافعي على مذهبهما في تارك الصلاة، ولكن هذا التخريج ليس بصحيح؛ لأنه يعلم بالشرع والعقل أن من ترك الصلاة وحدها ليس كمن تركها وجمع معها ترك الزكاة والصوم والحج، حيث أن تركها كلها أشد من ترك الصلاة فقط، وعليه فما قاله مالك وغيره في الواحد لا يلزم في المجموع، بل كما قال شيخ الإسلام : "إن من امتنع عن المباني الأربعة كلها فهذا لا يكون إلا كافراً" .

    وهنا مقامان لمن بحث هذه المسألة أشير إليهما:

    المقام الأول: مقام من يقول: إن ترك الصلاة ليس كفراً ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج، ويقول: إن من عبر من الأئمة بكلمة كفر إنما أراد الكفر الأصغر، أو الكفر العملي، أو كفراً دون كفر، حتى إن بعضهم يحكي الإجماع على أن ترك الصلاة ليس كفراً مخرجاً من الملة..

    وهذا لا شك أنه زيادة وتكلف في تقرير المسألة، فلا شك أن هناك أئمة صرحوا بأن تارك الصلاة كافر على معنى الكفر المخرج عن ملة الإسلام.

    المقام الثاني: من يقابل المقام الأول من أهل العلم، والذين يقولون: إن ترك الصلاة كفر بالإجماع، وترك الزكاة كفر بالإجماع، وترك الصوم كفر بالإجماع، وترك الحج كفر بالإجماع؛ فيجعلون التارك -أي: من عزم على تركه- لأحد المباني الأربعة مع فعل غيره كافراً بالإجماع.

    وقد قرر هذا بعض أهل العلم من الباحثين، واستدلوا عليه بآثار كقول عمر رضي الله عنه: "لا يبلغني أن أحداً وجد سعةً وزاداً فلم يحج إلا فرضت عليه الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين" . واستدلوا كذلك بظاهر قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران:97]قالوا: (ومن كفر) أي: ومن ترك.

    ومن أدلتهم أيضاً أن الصحابة أجمعوا على كفر تارك الصلاة كما نقله عبد الله بن شقيق ، وعلى كفر تارك الزكاة كما في قصة أبي بكر رضي الله عنه.

    فهذا القول إن كان يختاره ويذهب إلى أنه راجح فهذا كاختيار لا يثرب عليه؛ لأن طائفة من السلف كفروا تارك الصلاة، وطائفة من السلف كفروا تارك الزكاة، وطائفة من السلف كفروا تارك الصوم، وطائفة من السلف كفروا تارك الحج، فمن قال: إن هذا قول لطائفة من السلف فقد أصاب، وإن اختار هذا القول فقد اختار ما أداه إليه اجتهاده، وهذه المسألة مما يسوغ فيه الاجتهاد والاختلاف، وإن كان هذا القول ليس راجحاً.

    ولكن الذي يقصد إلى التنبيه إلى الغلط فيه: من يقول إن هذا إجماع.. فهذا القول حقيقةً غريب؛ لأنك لا تجد في الكتب أبداً أحداً حكى الإجماع على أن ترك الزكاة أو الصوم أو الحج كفر بإجماع الأئمة، إنما الذي نقل فيه أحرف الإجماع هو الصلاة، وأما ما دون ذلك فلا، وقد نبهت في شرح حديث الافتراق إلى أن مذهب السلف لا يجوز أن يؤخذ بالفهم، إنما مذهب السلف يعتبر بنقل الإجماع، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "ومن حصل مذهب السلف بالفهم فهذا طريقة أهل البدع ومن شاركهم فيها من أصحابنا من الفقهاء، إنما مذهب السلف هو الإجماع المتحقق أو الإجماع المستفيض بحروفه" .

    1.   

    أحاديث تدل على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان

    [فظن الجاهلون بوجوه هذه الأحاديث أنها متناقضة لاختلاف العدد منها، وهي بحمد الله ورحمته بعيدة على التناقض، وإنما وجوهها ما أعلمتك من نزول الفرائض بالإيمان متفرقاً، فكلما نزلت واحدة ألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم عددها بالإيمان، ثم كلما جدد الله له منها أخرى زادها في العدد حتى جاوز ذلك السبعين كلمة، كذلك في الحديث المثبت عنه أنه قال: (الإيمان بضعة وسبعون جزءاً، أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)

    قال أبو عبيد : حدثنا أبو أحمد الزبيري عن سفيان بن سعيد عن سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة بهذا الحديث.

    وإن كان زائداً في العدد فليس هو بخلاف ما قبله، وإنما تلك دعائم وأصول، وهذه فروعها زائدات في شعب الإيمان من غير تلك الدعائم.

    فنرى والله أعلم أن هذا القول آخر ما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان، لأن العدد إنما تناها به، وبه كملت خصاله, والمصدَق له قول الله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3].

    قال أبو عبيد : حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب : أن اليهود قالوا لـعمر بن الخطاب رحمة الله عليه: (إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فذكر هذه الآية، فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت، وأي يوم أنزلت، أنزلت بعرفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرف).

    قال سفيان : وأشك أقال يوم الجمعة أم لا.

    قال أبو عبيد : حدثنا يزيد عن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار قال: تلا ابن عباس هذه الآية، وعنده يهودي، فقال اليهودي: لو أنزلت هذه الآية فينا لاتخذنا يومها عيداً، قال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيد: يوم جمعة ويوم عرفة.

    قال أبو عبيد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: نزلت عليه وهو واقف بعرفة حين اضمحل الشرك، وهدم منار الجاهلية، ولم يطف بالبيت عريان.

    فذكر الله جل ثناؤه إكمال الدين في هذه الآية، وإنما نزلت فيما يروى قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى وثمانين ليلة.

    قال أبو عبيد كذلك: حدثنا حجاج عن ابن جريج .

    فلو كان الإيمان كاملاً بالإقرار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في أول النبوة كما يقول هؤلاء ما كان للكمال معنى، وكيف يكمل شيئاً قد استوعبه وأتى في آخره؟!

    قال أبو عبيد : فإن قال لك قائل: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون؟ قيل له: لم تسم لنا مجموعة فنسميها، غير أن العلم يحيط أنها من طاعة الله وتقواه، وإن لم تذكر لنا في حديث واحد، ولو تفقدت الآثار لوجدت متفرقة فيها، ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءاً من الإيمان؟ وكذلك قوله في حديث آخر (الحياء شعبة من الإيمان)، وفي الثالث (الغيرة من الإيمان)، وفي الرابع (البذاذة من الإيمان) وفي الخامس (حسن العهد من الإيمان).

    فكل هذا من فروع الإيمان ومنه حديث عمار : (ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الاقتار، والإنصاف من نفسك، وبذل السلام على العالم).

    ثم الأحاديث المعروفة عند ذكر كمال الإيمان حين قال: (أي الخلق أعظم إيماناً؟ فقيل: الملائكة، ثم قيل: نحن يا رسول الله، فقال: بل قوم يأتون بعدكم)فذكر صفتهم.

    ومنه أيضاً قوله: (إن أكمل -أو من أكمل- المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) وكذلك قوله: (لا يؤمن الرجل الإيمان كله حتى يدع الكذب في المزاح، والمراء وإن كان صادقاً) وقد روي مثله أو نحوه عن عمر بن الخطاب وابن عمر .

    ثم من أوضح ذلك وأبينه حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة حين قال: (فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، وبرة من إيمان، ومثقال ذرة) وإلا صولب. ومنه حديثه في الوسوسة حين سئل عنها فقال: (ذلك صريح الإيمان) وكذلك حديث علي عليه السلام: (إن الإيمان يبدأ لمظة في القلب فكلما ازداد الإيمان عظماً ازداد ذلك البياض عظماً)في أشياء من هذا النحو كثيرة يطول ذكرها تبين لك التفاضل في الإيمان بالقلوب والأعمال، وكلها يشهد أو أكثرها أن أعمال البر من الإيمان، فكيف تعاند هذه الآثار بالإبطال والتكذيب؟!].

    هذا كله تفصيل من المصنف في تقرير الدلائل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان.

    1.   

    تفاضل الإيمان بالأعمال الظاهرة والباطنة

    [ومما يصدق تفاضله بالأعمال قول الله جل ثناؤه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]إلى قوله: أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً [الأنفال:4] فلم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط، والذي يزعم أنه بالقول خاصة يجعله مؤمناً حقاً وإن لم يكن هناك عمل فهو معاند لكتاب الله والسنة].

    هذا دليل على أن الإيمان يتفاضل بالأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، أي: بأعمال القلوب وأعمال الجوارح، فإن قوله تعالى: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وقوله: (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) دليل على تفاضل الإيمان بهذا الوجه، وكذلك قوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة:55]دليل على تفاضل الإيمان بذلك، فإن إقامة الصلاة ليست على وجه واحد بين المكلفين، بل هم متفاوتون في تحقيق إقامتها.

    [ومما يبين لك تفاضله في القلب قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة:10]ألست ترى أنها هنا منزلاً دون منزل: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ [الممتحنة:10]كذلك ومثله قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]فلولا أن هناك موضع مزيد، ما كان لأمره بالإيمان معنى، ثم قال أيضاً: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3] وقال: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] وقال: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141].

    أفلست تراه تبارك وتعالى، قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل، ولم يرض بالإقرار دون العمل، حتى جعل أحدهما من الآخر؟ فأي شيء يتبع بعد كتاب الله وسنة رسوله ف ومنهاج السلف بعده الذين هم موضع القدوة والإمامة؟!

    فالأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا مما اقتصصنا في كتابنا هذا: أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها وأعلاها الشهادة باللسان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءا، فإذا نطق بها القائل، وأقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه بالاستكمال عند الله، ولا على تزكية النفوس، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى، ازداد به إيماناً].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755936574