إسلام ويب

شرح القواعد السبع من التدمرية [21]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القاعدة السابعة في إثبات الصفات والرد على نفاتها: أن كثيراً مما دل عليه السمع يعلم بالعقل، بل جميع صفات الله تعالى لا يقضي العقل بعدم إمكانها، وبهذا يعلم فساد قول المتكلمين بأن هناك تعارضاً بين العقل والنقل، وهو قول فاسد باطل، لا دليل عليه لا من النقل ولا من العقل؛ بل إن الدلائل الشرعية والعقلية البينة تدل على بطلان هذا القول، وعلى أنه لا تعارض بين العقل والنقل أبداً.

    1.   

    القاعدة السابعة: دلالة العقل على كثير مما دل عليه السمع

    قال المصنف رحمه الله: [القاعدة السابعة: أن يقال: إن كثيراً مما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضاً، والقرآن يبين ما يستدل به العقل، ويرشد إليه، وينبه عليه، كما ذكر الله ذلك في غير موضع؛ فإنه سبحانه وتعالى بين من الآيات الدالة عليه، وعلى وحدانيته، وقدرته، وعلمه، وغير ذلك، ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه، كما بين أيضاً ما دل على نبوة أنبيائه، وما دل على المعاد وإمكانه. فهذه المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أن الشارع أخبر بها، ومن جهة أنه بين الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها. والأمثال المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. وهي أيضاً عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضاً].

    هذه هي القاعدة السابعة، وقد بين فيها المصنف رحمه الله أن المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أنها خبرية، ومن جهة أنها عقلية، وكلا السياقين نطق به القرآن، ومعنى هذا الكلام: أن الشرعي -وهو ما كان من القرآن أو السنة- فإن سياقه في القرآن إما أن يكون سياقاً خبرياً محضاً مبنياً على صدق المخبر، كقول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فهذا حكم شرعي خبري مبني على صدق المخبر، وإما أن يكون حكماً شرعياً عقلياً، كقول الله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ.. [المؤمنون:91] فهذا حكم شرعي عقلي.

    أما أنه شرعي فلكونه قرآناً، وأما أنه عقلي فلكونه مخاطباً للعقول، وهو ليس فرعاً عن تصديق المخبر أو عدم تصديقه، ولذلك فإنه يلزم المخاطب عقلاً التصديق بهذا الحكم، حتى من لم يسلم بأن هذا القرآن كلام الله، أو ما إلى ذلك من أحوال المشركين.

    فساد قول المتكلمين بالتعارض بين العقل والنقل

    قال المصنف رحمه الله: [وكثير من أهل الكلام يسمي هذه (الأصول العقلية)؛ لاعتقاده أنها لا تعلم إلا بالعقل فقط، فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق، وخبر الصادق -الذي هو النبي- لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل].

    قوله: (فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق):

    هذا هو كلام المخالف، فإن هؤلاء -وهم غلاة المتكلمين- يجعلون النصوص القرآنية لم تنطق بالأحكام العقلية؛ بل السمع عندهم مجرد الإخبار المبني على صدق المخبر, وهذا عدم فقه للقرآن, فإن من قرأ القرآن بان له أن فيه حكماً عقلياً، وهي الأمثال المضروبة التي ضربها الله تعالى في كتابه، كقوله سبحانه وتعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الروم:28] وكقول الله تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] أو يأتي على سياق ليس فيه ذكر للمثل؛ كقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91] إلى غير ذلك من الآيات، فهذه الطريقة هي الطريقة التي عليها جمهور المسلمين، وفضلاء المتكلمين والنظار، خلافاً لغلاتهم الذين قالوا: إن القرآن لم يأت بالأحكام العقلية.

    ولذلك إذا بان هذا الأمر؛ بانت نتيجة مهمة في الأصول، وهي: أن الدليل النقلي في الكتاب والسنة -أي: الدليل السمعي- لا يقابله الدليل العقلي، فإن الدليل السمعي هو الدليل الشرعي، وما يقابله هو ما ليس شرعياً؛ سواء سمي بدعياً، أو قيل: هو ما لم يأت ذكره في السمع، وليس هو العقلي؛ لأنه إذا قيل: إن الدليل السمعي يقابله العقلي، فيلزم كضرورة عقلية وكبدهيات أساسية أن يكون النقل مجرداً عن الحكم العقلي.

    وهذا التناقض هو الذي وقع فيه غلاة المتكلمين، وجاء في كلامهم، حتى فرضوا ما يسمى بقانون تعارض العقل والنقل، وإن كان هذا القانون قد دخل على بعض فضلاء النظار، الذين لا يلتزمون بمثل هذه الحقائق على التحقيق.

    فيقول غلاة المتكلمين: إن التعارض إذا وقع بين السمعي والعقلي، فإما أن يعمل بهما جميعاً, وإما أن يرفعا جميعاً، والعمل بهما جميعاً ورفعهما جميعاً كلاهما ممتنع؛ لأن الجمع لهما جمع للنقيضين، والرفع لهما رفع للنقيضين.

    قالوا: فلم يبق إلا أن يقدم الدليل السمعي على الدليل العقلي، أو يقدم الدليل العقلي على الدليل السمعي، وتقديم الدليل السمعي على العقلي ممتنع؛ لأن الدليل على صدق السمع هو العقل. فإن قيل لهم: كيف ذلك؟ قالوا: إن السمع إنما جاء عن الأنبياء والرسل، والدليل على صدق الرسول هو معجزته, ومعجزته حكم عليها بكونها معجزة بحكم العقل، فإذا قدمنا الدليل السمعي على العقلي؛ لزم الشك في الدليل العقلي المصدق للمعجزات، فيلزم على هذا الإسقاط للسمع والعقل.

    وهذا كله سفسطة, وتناقض في الكلام العقلي؛ والجواب عن ذلك من وجهين:

    الوجه الأول: أن القول بأن ثمة تعارضاً بين العقل والنقل خطأ من جهة العقل نفسه؛ لأنه يلزم -كضرورة أولية- أن تكون الدلائل السمعية مجردة من العقل.

    الوجه الثاني: لو فرض أن ثمة تعارضاً بين العقلي والسمعي، فإن ما كان عقلياً امتنع أن يكون معارضاً للسمع، إلا أن يكون عقلاً فاسداً, وما كان فاسداً امتنع أن يكون معارضاً للصواب، فإن السمع كله صادق، فما كان صادقاً امتنع أن يعارضه صادق؛ لأنه يلزم أن يكون بين الصادقين تمانع، ومعلوم أن الصادقين لا يمكن أن يكونا متناقضين أبداً، فعلم بذلك أن السمع لا يعارضه بنفس الأمر إلا عقلي ليس صادقاً؛ لأن العقلي إما أن يكون صادقاً، وإما أن يكون كاذباً. فإن كان كاذباً وقد عارض سمعياً صادقاً، فإن القاعدة: أن الصادق إذا عارضه كاذب قدم الصادق.

    فإن قالوا: إن الدليل العقلي لا ينقسم إلى صادق وكاذب؛ بل إن العقل كله صادق.

    فيقال: إن العقل إما أن يكون صادقاً، وإما أن يكون كاذباً، وإما أن يكون بعضه صادقاً وبعضه كاذباً، ومنازعتهم مبنية على كل واحد من هذه الأوجه الثلاثة، فإن قالوا: إن العقل كله صادق؛ لزم من ذلك امتناع التعارض؛ لأنه يمتنع أن يتعارض الصادقان، وإن قالوا: إن العقل جميعه كاذب؛ لزم من ذلك إبطال العقل وتعظيم السمع، وإن قالوا: إن العقل منه ما هو صادق، ومنه ما هو كاذب، قيل: ما كان كاذباً من العقل فإنه يرد، وما كان صادقاً منه فإنه يمتنع أن يعارض السمع.

    وهناك أوجه كثير في مسألة درء تعارض العقل والنقل، وأن الشريعة لا يمكن أن تعارض حكماً من أحكام العقل الصحيح، وأما العقل الفاسد فإنه متسلسل عند بني آدم، وهو من الأحكام الفاسدة، وهو الظن، ولذلك فإن ما يذكره الكفار على سبيل القضاء في الحكم العقلي، سماه الله في القرآن بالظن فقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ [النجم:23] ففي باب الحكم العقلي نجد أن حجتهم حجة ظنية، وفي موارد الإرادات والأحوال والسلوكيات وما إلى ذلك نجد أن موجب القبول عندهم وعدم القبول هو هوى النفس؛ بخلاف أهل الإيمان، فإنهم في باب الإرادات والأحوال والسلوكيات لا يكون المحرك لهم هو هوى النفس، وفي باب العقليات لا يكون المحرك لهم هو الظن، وإنما العلم اليقيني.

    النبوة ثابتة بالمعجزة وبغير المعجزة

    قال المصنف رحمه الله: [ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي يتوقف إثبات النبوة عليها].

    إثبات النبوة يكون بأصل العقل، وقد تثبت النبوة بغير العقل، أي: بغير دليل معجزة، وإلا فليس هناك شك أن المجنون الذي نزع عقله من أوله إلى آخره لا يستوعب هذه المسائل على التفصيل، ولذلك فإن هرقل -كما جاء عن ابن عباس في الصحيحين وغيرهما- لما سأل أبا سفيان عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم، لم يسأله عن حدوث المعجزات الخارقة للعادة، كخروج الماء من بين أصابعه، ونحو ذلك، إنما سأله عن نسبه، وعمن يتبعه، وعن أبيه، وهل كان ملكاً؟... إلخ، وهذه ليست معجزات، إنما هي صفات، ولذلك قال هرقل: (إن يكن ما تقول به حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم...) إلخ.

    إذاً: النبوة تثبت بالمعجزة، وتثبت بغيرها، والمقصود بالمعجزة هنا: الآية الخارقة للعادة.

    قال المصنف رحمه الله: [فطائفة تزعم أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول، وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك، ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل. وطائفة تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول، وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه، وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام].

    قوله: (وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه)، أي: بإثبات حدوث العالم، وأن إثبات حدوث العالم لا يكون إلا بإثبات كونه جسماً، ومن هنا قالوا: إن الصفات تنفى؛ لأنها تستلزم التجسيم.

    قال رحمه الله: [وحدوثها يعلم إما بحدوث الصفات، وإما بحدوث الأفعال القائمة بها، فيجعلون نفي أفعال الرب ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها.].

    فمن قال: إن حدوثها يعلم بحدوث الصفات، فهذا طريق لقوم من أهل الكلام، ومن قال: إن حدوثها يعلم بحدوث الأفعال القائمة بها، فهذا طريق آخر، ولذلك فإن المعتزلة نفت سائر الصفات؛ لأنه لو ثبتت صفة عندهم تقوم بذات الرب؛ لبطل الدليل المصحح عندهم لحدوث العالم، وكذلك متكلمة الصفاتية نفوا ما يتعلق بالصفات الفعلية التي يسمونها: حلول الحوادث؛ لأنهم لو أثبتوها لبطل عندهم الدليل المصحح لحدوث العالم، والدليل المصحح لحدوث العالم هو الدليل المصحح لوجود الصانع.

    قال رحمه الله: [ثم هؤلاء لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم؛ لظنهم أن العقل عارض السمع -وهو أصله- فيجب تقديمه عليه، والسمع إما أن يؤول، وإما أن يفوض].

    قوله: (وهو أصله) أي: أن أصل الدليل السمعي عندهم هو العقل؛ وذلك لأنهم يقولون: إن دليل ثبوت السمع هو النبوة، والنبوة دليلها المعجزة. وهذا غلط من وجهين:

    الوجه الأول: أن النبوة تثبت بغير المعجزة.

    الوجه الثاني: أنه لو سلم جدلاً أن الدليل العقلي هو الذي صدق المعجزة، ودليل المعجزة بصدقه صدقت النبوة، فإن هذا دليل معين من أدلة العقل، ومعلوم أن الدليل المعين لا يلزم أن يكون حكمه مطرداً في سائر الأدلة، وإلا لزم من ذلك التصديق بكل ما يقال أنه عقلي، وهذا معلوم الامتناع بين العقلاء، فإن عقول بني آدم بينها قدر من الاختلاف والتضاد والتناقض في أحكامها العقلية.

    إذاً: عندما يقولون: لو قدمنا السمعي للزم من ذلك الطعن في أصل ثبوت السمعي، يقال: هذا ليس بلازم؛ لأنه يمكن أن نقدم السمعي على العقلي الذي عارضه. أما الدليل العقلي الذي قالوا: به ثبتت النبوة، فهل عارض السمع أو أثبته؟ فإن قالوا: إن به ثبت السمع، فمعناه: أنه عارضه أو صدقه، فإذا كان صدقه فهذا لا جدال فيه، ولا يرد في مسألة تعارض العقل والنقل، إنما الكلام هو في العقلي المعارض، وهذا العقلي ليس هو الذي أثبت السمع، مع أن هذا الكلام -كما سبق- ليس محكماً من أصله.

    قال المصنف رحمه الله: [وهم أيضاً عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم، لما تقدم. وهؤلاء يضلون من وجوه: منها: ظنهم أن السمع بطـريق الخـبر تارة، وليس الأمر كذلك؛ بل القرآن يبين من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النقل، فتكون هذه المطالب شرعية عقلية].

    قوله: (منها: ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة)، كلمة (تارة) ليست صحيحة؛ بل هي غلط في السياق، وقد أشار المحقق إلى ذلك؛ لأن مقصود المصنف هو ظنهم أن السمع بطريق الخبر المجرد، أي: أن السمع هو الخبر المجرد، أما إذا قيل: إن السمع هو الخبر المبني على صدق المخبر تارة، فيلزم أن يكون ظنهم صحيحاً؛ لأن السمع هو خبر المخبر المبني على صدق هذا المخبر تارة، كقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فهذا حكمه -كما سبق- ليس من ابتداع العقل.

    إذاً: إما أن يكون السياق هو: (ظنهم أن السمع بطريق الخبر المجرد)، وهنا يكون الكلام صحيحاً، وإما أن يكون السياق: (ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة)، وهذا الكلام خطأ؛ لأنهم لو ظنوه تارةً لكان ظنهم صحيحاً، وإنما غلطهم أنهم ظنوه مطرداً.

    وقد يقال: إن السمع طريق الخبر المجرد، أي: المجرد عن الحكم العقلي، المبني على الإطلاق، بمعنى أنه في سائر موارده يكون كذلك، هذا هو وجه الغلط، وأما أن في القرآن ما هو سمعي محض، أي: ليس مبنياً على أوائل الحكم العقلي المحصل له قبل ورود السمع فيه، فهذا لا جدال في عدم وجوده في القرآن.

    قال رحمه الله: [ومنها: ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التي سلكوها، وهم مخطئون قطعاً في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه، فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة، كما قد بسط في غير هذا الموضع].

    إن خطأهم ليس في هذه الطريق وحدها؛ بل إن جمهور ما يذكرون من الطرق المحصلة للنبوة هي تحصيل للنبوة من وجه، فيكون غلطهم من وجهين:

    الوجه الأول: أنهم قصروا طريق تحصيل النبوة على هذا الطريق.

    الوجه الثاني: أنهم ربما استعملوا طرقاً قاصرة في إثبات النبوة، مع أن ثمة طرقاً أصدق منها وأحكم في نفس الأمر.

    قال رحمه الله: [ومنها: ظنهم أن الطريق التي سلكوها صحيحة، وقد تكون باطلة].

    وإن كان جمهور ما يذكرونه في إثبات النبوة صحيحاً، ومنه ما قد يكون باطلاً، وإنما يؤخذ عليهم أنهم قصروا الطريق عليه، واستعملوه هو وفي الباب ما هو أولى منه.

    قال رحمه الله: [ومنها: ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل، ويكونون غالطين في ذلك، فإنه إذا وزن بالميزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة من المجهولات لا من المعقولات، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع].

    لأن المعارض للسمعي إما أن يكون سمعياً، وإما أن يكون عقلياً، وإما أن يكون لا سمعياً ولا عقلياً، فأما إن كان سمعياً فهذا ممتنع؛ لأنه يلزم فيه التعارض بين السمعيين، وهذا ممتنع، وأما إن كان عقلياً، فإنه يعود القول فيه إلى ما سبقت الإشارة إليه من الأوجه, وأما إن فرض أنه لا سمعي ولا عقلي، فيقال: ليس في الأمر ما يكون كذلك؛ بل الحكم إما أن يكون سمعياً، وإما أن يكون عقلياً.

    من صفات الله تعالى ما يعلم بالعقل

    قال المصنف رحمه الله: [والمقصود هنا أن من صفات الله تعالى ما قد يعلم بالعقل، كما يعلم أنه عالم، وأنه قادر، وأنه حي، كما أرشد إلى ذلك قوله: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:14] وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات على أنه يعلم بالعقل -عند المحققين- أنه حي عليم قدير مريد، وكذلك السمع والبصر والكلام يثبت بالعقل عند المحققين منهم؛ بل وكذلك الحب والرضا والغضب يمكن إثباته بالعقل، وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل، كما أثبتته بذلك الأئمة، مثل أحمد بن حنبل وغيره، ومثل عبد العزيز المكي ، وعبد الله بن سعيد بن كلاب ].

    كل هؤلاء أثبتوا الدليل العقلي على علو الله سبحانه وتعالى، ومن هؤلاء من هو من النظار؛ كـابن كلاب ، ومنهم من هو من أهل الحديث؛ كالإمام أحمد .

    وإنما ذكر المصنف الإمام أحمد وابن كلاب ؛ ليعلم بذلك أن العلم بالدلائل العقلية معروف ليس عند أهل السنة وحدهم؛ بل حتى عند الفضلاء من المتكلمين ومقتصدة النظار؛ فإنهم يعلمون ويفصلون الدلائل العقلية، وحتى المعتزلة، فإنهم -وإن عبروا بما عبروا به- يمتنع عليهم تجريد المسائل المقولة في صفات الله وفي ربوبيته وكماله عن الأحكام العقلية، فإنه إذا تعذر العقل في هذا المقام؛ امتنع التقرير لمسألة وجود الرب سبحانه وتعالى في طريقتهم، فإن طريقتهم في إثبات وجوده طريقة عقلية، وما كان طريقاً عقلياً في إثبات وجوده لزم أن يكون طريقاً مطرداً في تحقيق وجوده، ولا شك أن تحقيق وجوده سبحانه وتعالى لا يكون إلا بإثبات صفات الكمال اللائقة به.

    إثبات الرؤية بالعقل

    قال المصنف رحمه الله: [بل وكذلك إمكان الرؤية بالعقل، لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته، ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه تمكن رؤيته، وهذه الطريق أصح من تلك. وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين، بتقسيم دائر بين النفي والإثبات، كما يقال: إن الرؤية لا تتوقف إلا على أمور وجودية، فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية يكون الموجود الواجب القديم أحق به من الممكن المحدث. والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع].

    أشار المصنف إلى مثلين من الطرق العقلية لإثبات الرؤية، فإنها قد ثبتت بالسمع، كما هو في الدلائل، وتثبت أيضاً بالعقل، فإنه يقال: إن العقل يقضي أن كل موجود يمكن رؤيته، وهذه الطريقة فيها بعض التأخر عن الطريقة الفاضلة، وهي أن يقال: إن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته، ورؤيته لا تستلزم نقصاً؛ لأن النقص إنما يكون في إدراكه، أي: إذا دخله الرؤية والإدراك لزم أن يكون ناقصاً ممكناً؛ وذلك كالمخلوقات كلها، فإنها إما أن تدرك، وإما أن تكون قابلة للإدراك؛ بخلاف الباري سبحانه فإنه يرى ولا يدرك، ولهذا كان قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] مصدقاً لقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] وموافقاً له.

    من الطرق العقلية في إثبات الصفات: أنه لو لم يوصف الله تعالى بأحد المتقابلين للزم وصفه بالآخر

    قال المصنف رحمه الله: [والمقصود هنا: أن من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظار السنة في هذا الباب: أنه لو لم يكن موصوفاً بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى، فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت، ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز، ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبكم].

    لقد سبقت الإشارة إلى هذا سابقاً، وهو أن من الطرق العقلية التي يسلكها الأئمة: أنه لو لم يوصف بأحد المتقابلين للزم أن يوصف بالآخر، فإذا ما علم أنه منزه عن الجهل بالاتفاق؛ لزم أن يكون موصوفاً بالعلم، ولما علم بالاتفاق أنه منزه عن العمى؛ لزم أن يكون موصوفاً بالبصر.. وهكذا في سائر الصفات.

    فيكون ذلك من طرق إثبات الصفات بالعقل: أن العلم بتنزيهه عن أحد المتقابلين -وهو النقص- علم ضروري، فإذا عرف أنه منزه عن هذا النقص بالضرورة الشرعية والفطرية والعقلية؛ لزم أن يكون المقابل ثابتاً؛ لأن نفي المتقابلين يكون ممتنعاً.

    قال رحمه الله: [وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلاً فيه، فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى، وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات، فتنزيه الخالق عنها أولى].

    قوله: (وتلك صفة نقص) أي: دخوله في العالم، فلما علم أنه منزه عن هذا النقص بالضرورة وبالاتفاق؛ علم أنه مباينٌ للعالم، وإذا كان مبايناً للعالم، فإما أن يكون العالم هو العالي، وإما أن يكون العالم هو السافل، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون محايداً أو أسفل من مخلوقاته؛ فلزم أن يكون الحكم العقلي يقضي بأن الله فوق خلقه، كما نطق به القرآن في قوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] وقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] إذاً: فما ذكره الله تعالى في كتابه موافق من كل وجه لحكم العقل.

    كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به

    قال المصنف رحمه الله: [وهذه الطريق غير قولنا: إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق فالخالق أولى، فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها].

    هذه طريقة عقلية ثانية في إثبات الصفات، وهي: أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به، وهي محصلة من قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] وربما سماها بعض نظار السنة: قياس الأولى، وقد سبق أن هذه التسمية ليست محمودة، إلا في مقام المناظرة عند الحاجة إليها، أما من حيث الابتداء فلا ينبغي أن تسمى بذلك؛ بل تسمى بما سمى الله سبحانه وتعالى هذا الأمر به وهو: المثل الأعلى.

    وهذه القاعدة فيها إشارة من الفقه، وهي أنه إذا قيل: إن كل كمال ثبت للمخلوق، فالمقصود هنا: الكمال المطلق، وإن كان المخلوق لا يتحقق فيه ما هو من الكمال المطلق، فإن النقص في هذا الكمال المطلق إنما دخل من حيث الإضافة، بمعنى: أنه لا يرد على هذا أن يقول قائل: إن وجود الولد كمال في المخلوق، والرجل الذي له ولد أكمل من العقيم عند الناس. فلا يرد هذا الأمر؛ لأن هذا نقص؛ وذلك لأن صفة الولد فرع عن الحاجة، وكذلك الأكل والشرب، فإن عدمه يكون عن علة، فهي إذاً صفة نقص، وإنما المقصود: الكمال المطلق؛ كالكلام، والسمع، والبصر.

    فإن قال قائل: فهل في المخلوق كمال مطلق؟ قيل: المقصود هو ليس ما في المخلوق، وإنما المقصود الصفة إذا كانت مجردة، فإن الكلام إذا ذكر مطلقاً مجرداً فهو كمال مطلق، بخلاف الولد، فإنه إذا ذكر مجرداً فإنه يكون نقصاً؛ بل الولد لا يمكن أن يكون إلا أمراً إضافياً، فإذا قيل: الابن؛ لزم من وجوده وجود الأب.

    إذاً: لا ينبغي دخول هذا الإشكال على هذه القاعدة، وهي أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به.

    قال رحمه الله: [وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة باعتراض مشهور لبسوا به على الناس، حتى صار كثير من أهل الإثبات يظن صحته ويضعف الإثبات به، مثل ما فعل من فعل ذلك من النظار حتى الآمدي وأمثاله، مع أنه أصل قول القرامطة الباطنية وأمثالهم من الجهمية].

    الآمدي هو من متكلمة أصحاب الأشعري ، وهو من كبار متأخريهم، وقوله: (وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة) مقصوده: الطريقة الأولى، وهي مسألة التقابل.

    قال رحمه الله: [فقالوا: القول بأنه لو لم يكن متصفاً بهذه الصفات، كالسمع والبصر والكلام، مع كونه حياً لكان متصفاً بما يقابلها، فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة المتقابلين وبيان أقسامهما. فنقول: أما المتقابلان فما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة، وهو إما أن لا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، أو يصح ذلك في أحد الطرفين].

    قوله: (في الصدق ولا في الكذب): المقصود بالصدق: الإثبات، وبالكذب: النفي، أو يقال: الصدق هو الإيجاب, والكذب هو السلب, فكل هذه مترادفة.

    قال رحمه الله: [فالأول: هما المتقابلان بالسلب والإيجاب، وهو تقابل التناقض، والتناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا في الكذب لذاتيهما، كقولنا: زيد حيوان، زيد ليس بحيوان، ومن خاصيته استحالة اجتماع طرفيه في الصدق والكذب، وأنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر؛ من جهة واحدة ولا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب، إذ كون الموجود واجباً بنفسه بنفسه وممكناً بنفسه لا يجتمعان ولا يرتفعان].

    مقصوده: أنه يمتنع ارتفاعهما ويمتنع اجتماعهما، فإنه إذا قيل: إن زيداً ليس بحيوان؛ لزم أن يكون ليس بحيوان.

    وقوله: (وأنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة...):

    أي: أنه لا بد من ثبوت أحدهما، فأما أن يرفعا جميعاً فهو ممتنع، فإذا قيل: إن زيداً معدوم؛ لزم أن لا يكون موجوداً، وإذا قيل: زيدٌ حيوان؛ لزم أن يكون حيواناً، فإنه إذا ذكر الإثبات امتنع النفي، وإذا ذكر النفي امتنع الإثبات.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756326739