إسلام ويب

شرح الفتوى الحموية [6]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ظهرت بدعة الجهمية في أواخر المائة الثانية، وذلك لما ترجمت كتب فلاسفة اليونان، ثم انتشرت في المائة الثالثة على يدي بشر المريسي وعنه أخذها الناس، وقد تصدى لها السلف وحذروا منها ومن أهلها، لكن جاء من تأثر بالفلاسفة وعاد ليحيي ما كان عند المريسي من الشبهات، وقد فضحهم شيخ الإسلام ورد على أباطيلهم.

    1.   

    مذهب النفاة في الصفات

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين؛ أما بعد:

    قال شيخ الإسلام رحمه الله: [ ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة.

    وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران، وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضاً -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره لما ناظر السمنية- بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات؛ فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين، والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين وإما من المشركين ].

    في هذا المقطع يبين الشيخ رحمه الله مذهب النفاة أي: نفاة الصفات فقال: (ومذهب النفاة من هؤلاء) أي: المتكلمين، (في الرب سبحانه وتعالى: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة).

    فالصفات السلبية: هي التي تصدر بالنفي، فيقولون: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، ولا حي ولا قيوم وما إلى ذلك، وهذه الصفات نفوها عن الله عز وجل؛ لما اعتقدوه من أن إثبات الصفـات يقتضي التمثيل والتشبيه عندهم.

    والصفات الإضافية: هي الصفات التي لا يعقل معناها إلا بغيرها فلا تفهم إلا بواسطة، وقيل: إن الصفات الإضافية هي كل صفة فعلية يكون الفعل فيها متعدياً إلى مفعول. فقالوا: لا نفهم صفة السمع إلا بأثرها وهو أنه يسمع، ولا البصر إلا بأنه يبصر.

    قوله: (أو مركبة) أي: من الصفات السلبية والإضافية، وهذا أيضاً جمع بين النفي والإثبات.

    أقسام نفاة الصفات

    وهؤلاء النفاة لصفات الله عز وجل ينقسمون في الجملة إلى أربع طوائف:

    الطائفة الأولى: الذين أثبتوا الأسماء وبعض الصفات ونفوا حقائق أكثرها، وهؤلاء هم الأشاعرة والماتريدية والذين يسميهم بعض أهل العلم: مثبتة الصفات.

    والطائفة الثانية: هم من يثبت الأسماء دون الصفات، فيقولون: عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وهؤلاء هم المعتزلة.

    والطائفة الثالثة: هم الذين يصفون الله عز وجل بالنفي المجرد عن الإثبات ويقولون: إن الله هو الموجود المطلق بشرط الإطلاق أي: لا يوصف بصفة وإنما يوصف بالنفي، فلا موجود، ولا حي، ولا خارج العالم ولا داخل العالم، وهؤلاء هم الجهمية.

    والطائفة الرابعة: هم غلاة الجهمية الذين سلكوا مسلك الجمع بين النفي والإثبات في وصف الله عز وجل، فيقولون: موجود ولا موجود.

    هذا مجمل أقوال هؤلاء في باب الأسماء والصفات، وهؤلاء المتكلمون عملوا على تقسيم الصفات إلى أقسام كثيرة، فيقسمون الصفات إلى صفات سلبية، وصفات ثبوتية، وإلى صفات معنوية، وصفات ذاتية، وصفات اختيارية، وتقسيماتهم كثيرة جداً لمن طالع كتبهم, وهذا خلافُ منهج السلف رحمهم الله، فإن السلف لم يسلكوا هذا المسلك في صفات الله عز وجل، إذ إن طريقتهم في باب الأسماء والصفات واحدة لا يختلف، لكن هؤلاء لما فرقوا بين الصفات فأثبتوا بعضها ونفوا بعضها وأولوا بعضها، احتاجوا إلى هذه التقسيمات؛ ليبرروا تصرفاتهم وتحريفهم في باب الأسماء والصفات.

    أسانيد الجهم في الصفات

    ثم قال الشيخ رحمه الله : (وهم الذين بُعث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم إليهم) يعني: الصابئة, فمذهب النفاة مأخوذ عن هؤلاء الصابئة (فيكون الجعد قد أخذها)، يعني: قد أخذ مذهبه في باب الأسماء والصفات وما يجب لله عز وجل في ذلك (عن الصابئة والفلاسفة) (وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته) يعني: كمالها وتقعيدها وتنظيرها (وأخذها الجهم أيضاً -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره- لما ناظر السمنية: بعض فلاسفة الهند) وهي فرقة في الهند تعتقد ما ذكره الشيخ (وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات)، فما لا تدركه الحواس لا يثبتونه، فهم على هذا ينكرون جميع الغيبيات، ومن عقائدهم: تناسخ الأرواح وإنكار الصانع وما إلى ذلك من العقائد المنحرفة.

    (فهذه أسانيد جهم !) يعني: هذه أسانيده في العلم وما ذهب إليه من نفي صفات الله عز وجل، ومخالفة السلف فيما ذهبوا إليه، قال: (ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين!).

    ثم قال: (والفلاسفة الضالون هم إما من الصابئين وإما من المشركين)، وبهذا يتبين ضلال طريق هؤلاء، وأنهم قد أخطئوا سبيل الرشاد.

    تاريخ ظهور بدعة الجهمية في الأسماء والصفات

    قال رحمه الله: [ ثم لما عربت الكتب الرومية في حدود المائة الثانية زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداءً من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم.

    ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبى يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم في هؤلاء كثير في ذمهم وتضليلهم.

    وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس)، ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني وأبي الحسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم، هي بعينها التأويلات الذي ذكرها بشر المريسي في كتابه، وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضاً.

    ولهم كلام حسن في أشياء، وإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي ، ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري, صنف كتاباً سماه: (نقض عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد)، حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته، ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي، علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفهم ].

    بعد أن قرر الشيخ رحمه الله فيما سبق أصل مقالة التعطيل للصفات، وأنها مأخوذة عن اليهود والمشركين وضلال الصابئين والفلاسفة، وبين مذهب الصابئين في باب أسماء الله عز وجل وصفاته، وبين صلة أئمة الضلال والانحراف في باب أسماء الله عز وجل بهذه الفرق والطوائف الضالة.

    فانتقل إلى بيان التسلسل التاريخي لهؤلاء فقال: (ثم لما عربت الكتب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء) فاجتمع شر إلى شر، الشر الأول: وهو التلقي عن هؤلاء قبل أن تعرب الكتب، والشر الثاني: هو تعريب كتب اليونان والروم فيما يتعلق بالعلوم الإلهية، فزاد البلاء (مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء)، يعني ما كان في قلوبهم من الشبه والريب التي جاءت هذه الكتب فقعدتها وقررتها ونظرتها؛ فكانت هذه الكتب بمثابة التقرير والتقعيد والتنظير لتلك الشبه التي قرت في قلوبهم وتلقوها عن الضلال من الصابئين واليهود والمشركين والفلاسفة وغيرهم.

    قال: (ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة)، وهي مقالة التعطيل ومقالة الجهل والنفي والتحريف في باب أسماء الله عز وجل وصفاته، (التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية) نسبة إلى الجهم بن صفوان (بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته) ممن سار على طريقته وسلك منهجه في باب تعطيل الله جل وعلا عن أسمائه وصفاته.

    1.   

    ذم السلف لبدعة الجهمية وتأثر المتأخرين بها

    قال: (وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبي يوسف -صاحب أبي حنيفة - والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم كثير في ذمهم وتضليلهم): فالأئمة تصدوا لهم في أوان بزوغهم وفي أوائل ظهورهم؛ وذكر ذلك ليبين أن السلف رحمهم الله قد حذروا الأمة وبينوا لها ضلال هذه الطريقة، وأنها لا توصل في باب معرفة الله عز وجل إلا إلى الحيرة والاضطراب والضلال.

    ثم قال: (وهذه التأويلات الموجودة اليوم في أيدي الناس):

    تكلم الشيخ رحمه الله عن التأويلات الموجودة في زمانه فقال: (مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات)، وهذا كتاب مطبوع بأسماء كثيرة من أشهرها: مشكل الحديث وبيانه, ذكر فيه أحاديث صحاحاً وضعافاً وأولها على طريقته فيما يتعلق بأسماء الله عز وجل وصفاته، (وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس) )، وهذا الكتاب كتاب له شأن كبير عند المتكلمين، قرر فيه الفخر الرازي فيه ضلالات كثيرة وانحرافات عديدة مخالفة لطريقة السلف، فرد عليه شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب جليل عظيم النفع اسمه (نقض التأسيس)، وهو كتاب مخطوط ويعمل على تحقيقه الآن، ويوجد كثير منها، أي من هذه التأويلات التي في أيدي الناس في ذلك الوقت وإلى وقتنا هذا.

    بيان الصلة بين المريسي وبين الخلف وتأثرهم بشبهاته

    قوله: (ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل: أبي على الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني وأبي الحسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل الحنبلي ) وهؤلاء كلهم ضلال في باب أسماء الله عز وجل وصفاته، فـالجبائي والهمداني والبصري معتزلة بل هم من أئمة المعتزلة، وابن عقيل تمذهب بمذهب الأشعري إلا أنه مال في كثير من أقواله إلى المعتزلة كحال أكثر الأشاعرة، فإن متأخري الأشاعرة سلكوا في كثير مما يتعلق بأسماء الله عز وجل وصفاته مذهب المعتزلة (وأبي حامد الغزالي وغيرهم) فهو ممن عرف عنه التأويل.

    (والتأويلات المذكورة في كتب هؤلاء هي بعينها تأويلات بشر المريسي)، فهي مأخوذة عنه متلقاة منه، وهو قد أخذها من كتب اليونان وورثها عن الأئمة الضلال كـجهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيرهم.

    قال: (وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء) ما يفهم منه (رد التأويل) أو بعض التأويلات التي نقلت عن المتقدمين، (ولهم كلام حسن في أشياء)؛ وهذا من الإنصاف والعدل، فهؤلاء لهم حسنات في بعض الجوانب إلا أن ما أتوا به من الشر وما قرروه كثير.

    قال: (فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي )؛ ليبين الصلة بين ما انتشر في أيدي الناس من الضلال في باب أسماء الله وصفاته، وبين الضلال الذي كان في عهد السلف الذي أتى به الجعد والجهم ومن سار على طريقهم وسلك مسلكهم.

    رد عثمان بن سعيد على المريسي

    قوله: (ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمن البخاري صنف كتاباً سماه: (نقض عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله من التوحيد) )، وهذا الكتاب مشهور معروف مطبوع فيه خير كثير، رد فيه على شبهات المريسي، وبه يتبين أن أكثر التأويلات التي شاعت في كتب المتأخرين من المتكلمين متلقاة عنه مأخوذة منه. قال: (حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها) أي: أحكم وأرسخ في هذه الشبه، وهذه التأويلات وهذه الضلالات، (وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم) يعني: هذه التأويلات (من جهته، ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي: علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفهم.

    [ثم إذا رأى الأئمة -أئمة الهدى- قد أجمعوا عل ذم المريسية، وهي الطريقة التي سلكها بشر ومن بعده- وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسي : تبين الهدى لمن يريد الله هدايته ولا حول ولا قوة إلا بالله، والفتوى -يعني: هذه الفتوى التي يكتبها الشيخ- لا تحتمل البسط في هذا الباب]، يعني في باب تقرير شبه هؤلاء وتأويلاتهم وبيانهم والرد عليهم، [وإنما أشير إشارات إلي مبادئ الأمور].

    وقد أحسن رحمه الله في بيان أصل هذه المقالة وكيف استقرت وانتشرت بين المسلمين، وهذا كلام نفيس قد لا تجده في غير هذا الموضع، فهو تتبع تاريخي دقيق لبدعة التعطيل في باب أسماء الله عز وجل وصفاته [وإنما أشير إشارة إلى مبادئ الأمور، والعاقل يبصر فينظر].

    الكتب التي تنقل كلام السلف وعقيدتهم

    ثم قال رحمه الله تعالى: [ وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكر هاهنا إلا قليلاً منه: مثل كتاب السنن للالكائي ، والإبانة لـابن بطة ، والسنة لأبي ذر الهروي والأصول لـأبي عمرو الطلمنكي ، وكلام أبي عمر بن عبد البر ، والأسماء والصفات للبيهقي.

    وقبل ذلك السنة للطبراني ، ولـأبي الشيخ الأصبهاني ، ولـأبي عبد الله بن مندة ، ولـأبي أحمد العسال الأصبهانيين، وقبل ذلك السنة للخلال ، والتوحيد لـابن خزيمة ، وكلام أبي العباس بن سريج ، والرد على الجهمية لجماعة، وقبل ذلك السنة لـعبد الله بن أحمد ، والسنة لـأبي بكر بن الأثرم ، والسنة لـحنبل ، وللمروزي ، ولـأبي داود السجستاني ، ولـابن أبي شيبة ، والسنة لـأبي بكر بن أبي عاصم ، وكتاب الرد على الجهمية لـعبد الله بن محمد الجعفي شيخ البخاري ، وكتاب خلق أفعال العباد لـأبي عبد الله البخاري.

    وكتاب الرد على الجهمية لـعثمان بن سعيد الدارمي وكلام عبد العزيز المكي صاحب الحيدة في الرد على الجهمية، وكلام نعيم بن حماد الخزاعي ، وكلام الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيي بن سعيد ويحيي بن يحي النيسابوري وأمثالهم.

    وقبل ذلك لـعبد الله بن المبارك وأمثاله، وأشياء كثيرة. وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره.

    وأنا أعلم أن المتكلمين النفاة لهم شبهات موجودة ولكن لا يمكن ذكرها في الفتوى , فمن نظر فيها وأراد إبانة ما ذكروه من الشبه فإنه يسير، وإذا كان أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل والتأويل- مأخوذاً عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود، فكيف تطيب نفس المؤمن -بل نفس عاقل- أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم أو الضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين؟! ].

    في هذا المقطع قال الشيخ رحمه الله: (وكلام السلف في هذا الباب) أي: في باب الأسماء والصفات (موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكر هاهنا إلا قليلاً منها) وذكر جملة من الكتب، وأكثر هذه الكتب -ولله الحمد- مطبوع موجود بين أيدي الناس ليقف من خلالها المؤمن على صحة طريقتهم وسلام منهجهم ومخالفته لمنهج هؤلاء المتكلمين.

    الإشارة إلى صحة مذهب السلف بالأدلة السمعية والعقلية

    وبعد أن ذكر رحمه الله كلام السلف قال: (وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره) في تقرير صحة ما ذهبوا إليه وفي تقرير بطلان طريق النفاة، فاجتمع للشيخ من الأدلة: السمع، وإجماع السلف، والأدلة العقلية.

    ثم قال: (وأنا أعلم) وهذا فيه تنبيه أن هذه الأدلة التي ذكرها من السمع، ومن كلام السلف، ومن الأدلة العقلية، لا تسلم عند هؤلاء؛ لبعض الشبهات التي يوردونها على هذه الأدلة, قال: (وأنا أعلم أن المتكلمين النفاة لهم شبهات موجودة) يعني: قائمة يثيرونها ويرددونها (ولكن لا يمكن ذكرها في الفتوى)؛ لأن الفتوى صغيرة, وليس المقصود بسط كلام هؤلاء وتقريره؛ لأن الشيخ قد قام بذلك في كثير من مؤلفاته، (فمن نظر فيها) يعني: في هذه الشبهات (وأراد إبانة ما ذكروه من الشبه فإنه يسير).

    وقد بسط رحمه الله هو وغيره من الأئمة هذه الشبه والرد عليها وتفنيدها، وكان له في هذا رحمه الله قصب السبق.

    والواجب على المؤمن أن يبعد عن شبه هؤلاء، ولكن إن طرأت عليه وألجئ إلى النظر فيها، فلا بأس أن ينظر فيها وأن يفندها، وإلا فالأصل أن يقي المؤمن نفسه هذه الشبه وألا ينظر إليها إلا إذا دعت الحاجة, كأن يكون في مقام مناظرة أو في مقام بيان ضلال هؤلاء وشبههم، وإلا فالأصل الابتعاد عن الشبه؛ لأن الشبه خطافة والقلوب ضعيفة، لاسيما إذا لم ترسخ قدم المرء في العلم بما كان عليه السلف من إثبات ما يجب لله عز وجل من الصفات والأسماء، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وبعد هذا العرض لطريقة هؤلاء أتى بالخلاصة والعلة في سياق هذا التسلسل التاريخي وبيان أصل هذه المقالة فقال: (فإذا كان أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل والتأويل- مأخوذاً عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود، فكيف تطيب نفس مؤمن -بل نفس عاقل- أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم أو الضالين؟!)، المغضوب عليهم: الذين علموا ولم يعملوا. والضالون: الذين عملوا بلا علم واعتقدوا بلا بينة ولا هدى، وقد أمرنا أن نستعيذ بالله من طريق هؤلاء، (ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟!) وهو الصراط المستقيم المسئول في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] وهذا الصراط لا يقوم إلا على العلم الصحيح والعمل الصالح، فهذا هو صراط الذين أنعم الله عليهم.

    وبهذا يكون الشيخ رحمه الله قد فرغ من المقدمة، التي قرر فيها صحة ما ذهب إليه السلف وبطلان ما سلكه الخلف في باب أسماء الله عز وجل وصفاته، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756026047