إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [13]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مَنْ أكثر المجادلة في الدين أكثر الشك والتنقل؛ فيجب على المسلم أن يبتعد عن المجادلة والمخاصمة والمماراة في الدين، خاصة في ذات الله وأسمائه وصفاته، وهكذا دينه وشرعه، فإن ذلك يورد الهلاك والعطب على صاحبه، والعياذ بالله.

    1.   

    تحريم الخوض والمماراة والمجادلة في الله ودينه وكتابه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

    قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:

    [ ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله، ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، وهو كلام الله تعالى، لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين ].

    يقول رحمه الله: (ولا نخوض في الله) الخوض في أصل استعماله هو الولوج في الماء، ثم استعمل هذا اللفظ على كل دخول في الشيء على وجه باطل، فمراد المؤلف رحمه الله في قوله: (ولا نخوض في الله) أي: لا نتكلم فيما يتعلق بالله جل وعلا بالباطل وبغير الحق، وذلك إما أن يكون بسلوك طريق المتكلمين الذين سلكوا غير الصراط المستقيم فيما يتعلق بالله جل وعلا وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإما أن يكون بالإعراض عما جاء في الكتاب والسنة من وصفه، فنقبل بعضاً ونرد بعضاً، فهذا -أيضاً- من الخوض.

    ومن الخوض في الله جل وعلا والكلام الباطل فيه سبحانه وتعالى تكييف صفاته وتمثيلها، والبحث عن حقائقها وكيفياتها، فإن هذا من الخوض بالباطل؛ لأن هذا مما لا يجوز طلبه، ولا النظر إليه، ولا بحثه؛ لأن الله جل وعلا نهانا عن طلب ذلك والنظر فيه في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وهذا خبر يتضمن معنى النهي عن طلب المثل، بل قال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74]، وقال: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، وما أشبه ذلك مما يفيد النهي عن تمثيل الله عز وجل، وطلب الكيفيات لأفعاله وصفاته سبحانه وتعالى.

    كل هذا يدخل في قول المؤلف رحمه الله: (ولا نخوض في الله).

    ومن ذلك: التفكر في ذات الله، والسؤال: كيف هو؟! وما أشبه ذلك مما يوقع الإنسان في الشك والريب، ولا يصل معه إلى علم ولا يقين؛ ولذلك جاء في الأثر: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في ذات الله).

    وقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المؤمن بكف سلسلة الوساوس المتعلقة بالله جل وعلا، فأخبر أن الشيطان يأتي إلى ابن آدم فيقول: من خلق هذا؟ فيقول: الله، من خلق هذا؟ فيقول: الله، من خلق هذا؟ فيقول: الله، ولا يزال به الشيطان حتى يقول: من خلق الله؟ وعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فليستعذ بالله ولينته) فأمره بالاستعاذة؛ لأن هذا من الشيطان، والانتهاء أي: قطع النظر والخوض في هذا الأمر، فإنه مما يوقع الإنسان في المهالك ويورده المعاطب.

    فالواجب على المؤمن ألا يخوض في هذه الأمور، ويقتصر على ما جاء في الكتاب والسنة، فإن فيها الكفاية في معرفة الله جل وعلا، والعلم به سبحانه وتعالى.

    ومن رام زيادة على ما جاءت به النصوص في الكتاب والسنة فقد تكلف علم ما لم يكلف به، وزاد وغلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) ، ويدخل في هذا الخبر والدعاء الذين يتعمقون في أسماء الله وصفاته.

    ثم قال رحمه الله: (ولا نماري في دين الله) (لا نماري) أي: لا نجادل، والمقصود بالمجادلة هنا: المجادلة بالباطل، أما المجادلة التي يحق بها الحق، ويظهر بها ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح فإنها مطلوبة؛ لأن بها يُخصم الخصم، ويُكبت المعاند، فالرد على المخالفين لطريقة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات بالحجج، ومجادلتهم ومناقشتهم جرى عليه العلماء قديماً وحديثاً، وليس هذا من المراء في دين الله، فالمراء في دين الله أن يجعل الإنسان دينه عرضة للمجادلات والمناقشات، ومن أكثر المجادلة والمناقشة أكثر التنقل وضل؛ ولذلك لما قال أحدهم للإمام مالك : تعال أماريك، قال: (أنا قد عرفت ديني، فاذهب إلى شاك) أو كلمة نحوها، وهذا يدل على أن السلف رحمهم الله كانوا يوصدون الباب أمام كل هؤلاء المجادلين بالباطل، ويخوضون في دين الله بالظنون والأوهام والنوايا الفاسدة.

    ثم قال رحمه الله بعد ذلك: (ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين) هذا من التكرار الذي اتصفت به هذه العقيدة، يقول رحمه الله: (ولا نجادل في القرآن) أي: لا نخاصم في القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن المخاصمة في القرآن، ويشمل هذا المخاصمة في تأويله وتفسيره، والمخاصمة في ضرب بعض آياته ببعض، ويشمل هذا -أيضاً- المخاصمة في القراءات، ويشمل هذا -أيضاً- المخاصمة فيه بالباطل بأن يقر به الإنسان باطلاً، ويبطل به حقاً، فإن هذا من المجادلة في القرآن التي نُهى عنها، كأن يستدل بالقرآن على المعاني الباطلة التي يريد أن يقررها ويحتج لها بالقرآن، وما من شخص يحتج بالقرآن على بدعة أو ضلالة قديمة أو حديثة إلا وفيما استدل به من القرآن ما يبطل دعواه، ويرد باطله.

    إذا:ً قوله: (لا نجادل في القرآن) يشمل كل هذا، فالذين يختلفون في القراءات يدخلون في هذا، والذين يختلفون في المعاني ويتخاصمون يدخلون في هذا، والذين يضربون بعض القرآن ببعض يدخلون في هذا، والذين يخالفون ما دل عليه القرآن من أن القرآن كلام الله جل وعلا يدخلون في هذا من باب أولى، كشأن كل المخالفين لأهل السنة والجماعة في مسألة القرآن، وأنه كلام الله جل وعلا.

    القرآن كلام الله مخلوق، والرد على القائلين بخلقه

    قال المؤلف رحمه الله: (ونشهد أنه كلام رب العالمين) أي: لا نجادل مجادلة أهل الباطل بنفي أن يكون القرآن كلام الله جل وعلا، بل نثبت بأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، منه بدأ وإليه يعود كما قال أهل السنة والجماعة، فنشهد أنه كلام رب العالمين، والقرآن كلام رب العالمين لا إشكال في هذا، قال الله جل وعلا في وصف كلامه للقرآن: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6].

    فوصف القرآن بأنه كلامه سبحانه وتعالى، ومعلوم أن الكلام صفة لا تقوم إلا بموصوف، فلا يمكن أن يكون مخلوقاً كما زعمته الجهمية، والإقرار بأن القرآن كلام رب العالمين من حيث اللفظ يوافق فيه المعتزلة ويوافق فيه الأشاعرة ومثبتة الصفات، لكنهم يختلفون في تفسير هذه الإضافة، فالمعتزلة يقولون: الإضافة إضافة خلق، فمعنى كلام الله أي: كلامه المخلوق كقول صالح: نَاقَةُ اللَّهِ [الأعراف:73] فأضاف الناقة إلى الله والإضافة هنا إضافة خلق للتشريف.

    ومعلوم أن القرآن ليس كالناقة؛ لأن الناقة مخلوق مستقل، أما الكلام فلابد أن يقوم بشيء، وهذا الشيء ليس عيناً قائماً بذاته، فقولهم باطل، فهم يقولون: القرآن كلام الله، ولكنهم لا يوافقون أهل السنة والجماعة في أنه صفة من صفات الله عز وجل، بل هم يقولون: هو كلام الله، لكنه مخلوق.

    وأما الأشاعرة والماتريدية والكلَّابية فإنهم يقولون: القرآن كلام الله، لكنهم يقولون: كلام نفساني يعني: معنى بغير حرف ولا صوت، وأهل السنة والجماعة يقولون: هو كلامه جل وعلا بحرف وصوت تكلم به على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى بلا كيف ومعنى بلا كيف أي: لا نكيف، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.

    ثم قال رحمه الله: (نزل به الروح الأمين) هذا بيان أن القرآن كلام الله، وأن الروح الأمين جبريل عليه السلام تلقاه كلاماً من رب العالمين، ولم ينقله من اللوح المحفوظ كما زعمه من زعمه من المبطلين، فإن جبريل عليه السلام تلقى القرآن من الله جل وعلا، ولا يعارض هذا أن القرآن في اللوح المحفوظ، فإن أهل السنة والجماعة مجمعون على أن القرآن في اللوح المحفوظ كما قال سبحانه وتعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]

    فالقرآن في اللوح المحفوظ الذي كتب الله به كل شيء، لكن تكلم به سبحانه وتعالى وقت نزوله.

    قال رحمه الله: (نزل به الروح الأمين) وهذا مما يثبت أنه من الله جل وعلا، والروح الأمين هو: جبريل كما قال سبحانه وتعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل:102]، وكما قال سبحانه وتعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:193-194] فلا ريب أن القرآن نزل به جبريل عليه السلام، وقد تلقاه من رب العالمين كلاماً سمعه فنقله.

    يقول: (فعلَّمه) الضمير يعود إلى جبريل، علَّم جبريل (سيد المرسلين) أي: علم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشير بهذا إلى قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:5-6] وهذا الوصف لا إشكال أنه لجبريل، فإنه شديد القوى أي: شديد القوة: (ذُو مِرَّةٍ) أي: ذو هيئة حسنة، وقيل: إن الضمير في الآية يعود إلى الله، لكن الصحيح أن الضمير يعود إلى جبريل عليه السلام.

    يقول: (فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فالقرآن متلقى من جبريل عن الله عز وجل.

    معنى إضافة القرآن إلى جبريل وإلى النبي صلى الله عليه وسلم

    يقول رحمه الله: (وهو) أي: القرآن الكريم (كلام الله تعالى) وهذا إعادة لما تقدم، لكنها إعادة ليبني عليها، فقوله:

    (لا يساويه شيء من كلام المخلوقين) وهذا فيه الرد على من قال: إن القرآن من كلام جبريل، وفيه الرد على من قال: إن القرآن من كلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى أضاف القرآن إلى الرسول الملكي والى الرسول البشري أي: إلى جبريل والى النبي صلى الله عليه وسلم، أضافه إلى جبريل في قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:19-20]هذا الرسول هو جبريل عليه السلام.

    وأضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ [الحاقة:40-41] ومعلوم أن الذي اُتهم بأنه شاعر هو النبي صلى الله عليه وسلم.

    فالإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع، والإضافة إلى جبريل في الموضع السابق إضافة تبليغ، وليست إضافة إنشاء، وهذا الذي جعل المؤلف رحمه الله يقول: (لا يساويه شيء من كلام المخلوقين)، وقوله: (المخلوقين) يشمل الإنس والجن والملائكة، وكل مخلوق يتصور منه الكلام لا يأتي بمثله، فلو اجتمع الإنس والجن ومن في السماء والأرض على أن يأتوا بمثل القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، بل هو قول رب العالمين الذي لا مثل له ولا ند سبحانه وتعالى.

    ثم قال: (ولا نقول بخلقه) رد بهذا على الجهمية الذين قالوا: إن القرآن كلام الله مخلوق، وهم الذين جرت منهم الفتنة لعلماء المسلمين، ولأئمة الإسلام في وقت الإمام أحمد رحمه الله، فالإمام أحمد ابتلي بالجهمية الذين كانوا يفتنون الناس في مسألة خلق القرآن.

    قال رحمه الله: (ولا نخالف جماعة المسلمين) يعني: في جميع ما نعتقد فيما يتعلق بهذا وبغيره، لكن هنا المراد به: لا نخالف جماعة المسلمين في مسألة: القول بأن القرآن كلام الله، ومن هذا نعلم أن جماعة المسلمين قديماً وحديثاً على أن القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه سبحانه وتعالى يعود، ومن قال بغير هذا فإنه خالف جماعة المسلمين.

    1.   

    حرمة التكفير بالمعاصي

    قال المصنف رحمه الله: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله. ]

    هذا المقطع فيه انتقال من مسألة القرآن إلى بعض مسائل الإيمان، يقول رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة) أهل القبلة هم أهل الصلاة المسلمون، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وذبح ذبيحتنا فذاك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا) رواه مسلم .

    ولهذا يسمى أهل الإسلام (أهل الصلاة)، وقد سمى بعض أهل العلم مؤلفاتهم به: كمقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، والمقصود بالمصلين: أهل القبلة، فأهل القبلة هم: أهل الصلاة، وهذا شعار على أهل الإسلام يشمل أهل الإسلام جميعهم: مبتدعهم وسنيهم، فكلهم يشتركون في هذا إلا من خرج عن فرق أهل السنة والجماعة الثلاث والسبعين فرقة فإنه ليس منهم.

    يقول: (لا نكفر أحداً من أهل القبلة) يعني: من المسلمين (بذنب ما لم يستحله) وهذه العبارة حقيقة فيها عدم اتساق؛ لأن فيها من الإطلاق ما لم يطوِ عليه أهل السنة والجماعة عقداً.

    يقول: رحمه الله: (لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) الذنب هنا يشمل كل ذنب، وهل الشرك ذنب أو ليس ذنباً؟ وهل الكفر ذنب أو ليس ذنباً؟ ذنب، وهل الشرك والكفر يشترط في تكفير صاحبه الاستحلال؟ هل المشرك إذا سجد للصنم -مثلاً- أو الكافر الذي سب الله أو سب رسوله يلزم أن يستحل ذلك، أو يكفر سواء استحل أم لم يستحل؟ الجواب: يكفر سواء استحل أم لم يستحل.

    فهذه العبارة فيها من الإطلاق ما يوهم، لكن مراد المؤلف بهذه العبارة: الرد على الخوارج والوعيدية من المعتزلة الذين يكفرون أهل الإيمان بمطلق الكبائر، وبمطلق المعاصي، ولا شك أن قولهم خطأ وضلال مبين، فإن بدعة الخوارج هي أول بدعة ظهرت في الإسلام، ولم يأت في السنة من التحذير والتنفير والتشديد في البدع كما جاء في بدعة الخوارج، فإنها من البدع التي توافرت النصوص على ذمها، وذم أهلها، وبيان سوء حالهم ومنقلبهم، فكانت أول بدعة ظهرت في المسلمين بدعة الخوارج، وهي: بدعة التكفير.

    وهذه البدعة دائرة على أنهم يكفرون الناس بمطلق الذنوب، بل بما يرونه ذنباً ولو لم يكن ذنباً، وهذه مسألة أشد يعني: أنهم لا يكفرون بالذنوب التي أجمعت الأمة عليها فقط، بل حتى الذنوب التي هي محل خلاف، أو قد تكون في نظر شخص أنها ذنب، وفي نظر آخر أنها ليست بذنب، فهم يكفرون بمطلق الذنوب، بل وبما يرونه ذنباً، ولو لم يكن كذلك، فقول المؤلف رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) فيه رد على هذه الفرقة الضالة، ومثلهم المعتزلة الذين قالوا: مرتكب الكبيرة يخرج عن الإيمان، لكنه لا يوصف بالكفر، ويكون في منزلة بين المنزلتين، وهذا القول إنما هو في الدنيا أما في الآخرة فإنهم يوافقون الخوارج في أن مرتكب الكبيرة في النار.

    والمؤلف رحمه الله يبحث في الأسماء؛ لأنه يقول: (ولا نكفر) يعني: لا نثبت اسم الكفر، والأسماء هي: كافر، مسلم، عاصي، فاسق، هذه هي الأسماء، وأما الأحكام فهي: في الجنة أو في النار، وهل البحث الآن في الأسماء أو في الأحكام؟ البحث في الأسماء.

    يقول: (ولا نكفر أحداً) أي: لا نثبت وصف الكفر واسم الكفر لأحد من أهل القبلة، (بذنب) أي: بسبب ذنب، فالباء هنا للسببية (ما لم يستحله).

    لكن هذه العبارة -كما ذكرنا- في إطلاقها نظر، فلابد أن تقيد، وأحسن منها ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في الواسطية حيث قال في بيان عقد أهل السنة والجماعة: إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك -يعني: أهل السنة والجماعة- لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي، فقوله: (وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر) هذا يدل على عقد أهل السنة بالمطابقة.

    أما ما ذكره المصنف هنا ففيه من الإطلاق والإجمال ما يُدخِل في المعنى نقصاً، وقد علق على هذا شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله بتعليق جيد قال فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) مراده رحمه الله أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم الموحد المؤمن بالله واليوم الآخر بذنب يرتكبه كالزنا وشرب الخمر والربا وعقوق الوالدين وأمثال ذلك ما لم يستحل ذلك، فإن استحله كفر لكونه بذلك مكذباً لله ولرسوله خارجاً عن دينه.

    أما إذا لم يستحل ذلك فإنه لا يكفر عند أهل السنة والجماعة، بل يكون ضعيف الإيمان، وله حكم ما تعاطاه من المعاصي بالتفسيق وإقامة الحدود وغير ذلك حسب ما جاء في الشرع المطهر، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن سلك مسلكهم الباطل، فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، يعني: بين الإسلام والكفر في الدنيا، وأما في الآخرة فيتفقون مع الخوارج بأنه مخلد في النار، وقول الطائفتين باطل بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وقد التبس أمرهما على بعض الناس لقلة علمه، ولكن أمرهما بحمد الله واضح عند أهل الحق كما بينا، وبالله التوفيق. ا هـ

    وهذا التعليق جيد يقيد ما في هذه العبارة من إطلاق حيث إن الشيخ رحمه الله فسر معنى الذنب في قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) فقال: بذنب يرتكبه كالزنا وشرب والخمر والربا وعقوق الوالدين، يعني: من الذنوب المتفق عليها، من الذنوب التي يقع تكفير الخوارج لأصحابها، أما الذنوب التي هي كفر أصلاً كالشرك بالله، والسجود للأصنام، وسب الله، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم، والاستهانة بالمصحف، والاستهزاء بآيات الله، وبدين الله، فهذه يكفر بفعلها ولا فرق بين مستحل وغير مستحل.

    ومما تقيد به هذه العبارة -أيضاً- أن إطلاق العلماء لقولهم: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) المراد ما عدا الصلاة والزكاة والحج والصيام، فإنه قد وقع الخلاف بين العلماء في كفر تارك هذه الأركان، وأقوى ما في ذلك من الخلاف الخلاف في ترك الصلاة، فإن من العلماء من يرى أن ترك الصلاة كفر ولو لم يجحد الإنسان وجوبها، مع أنه من جملة الذنوب، لكنه كفر، فقوله رحمه الله (بذنب) يشمل الذنوب التي هي مخالفات وارتكاب المنهيات، ويشمل -أيضاً- الذنوب التي هي ترك للواجبات.

    لكن يستثنى من ترك الواجبات أركان الإسلام فإنه قد وقع خلاف بين أهل العلم في ذلك؛ ولذلك شيخ الإسلام رحمه الله قيد العبارة هذه في بعض مؤلفاته وهي قوله: (وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج) فقيدها بما عدا الأصول، فإنهم مختلفون في كفر تارك الصلاة، ومختلفون في كفر تارك الزكاة، ومختلفون في كفر تارك الحج، ومختلفون في كفر تارك الصيام.

    إذاً: هذه العبارة فيها مأخذ، أما قوله رحمه الله: (ما لم يستحله) فهذا قيد مهم في الذنوب كالزنا والخمر وما أشبه ذلك، فإن من استحل هذه الذنوب فهو كافر ولو لم يفعلها، يعني: من استحل الزنا وقال: الزنا حلال فإنه كافر ولو لم يزن، ولو كان أعف الناس. ومن قال: الخمر ليست بحرام، فإنه كافر ولو لم يشربها، والمراد بقول المؤلف رحمه الله: (ما لم يستحله): ما لم يكن هناك تأويل، فإذا استحله بالتأويل فهل يكفر أو لا يكفر؟ الجواب: لا يكفر؛ لأنه استحل ذنباً من الذنوب بالتأويل، كمن يستحل الربا في هذه الأوراق النقدية الآن، ويقول: لا يجري فيها الربا على مذهب المتقدمين من الفقهاء في جميع المذاهب، في مذهب الإمام أبي حنيفة ، وفي مذهب مالك ، وفي مذهب الشافعي ، وفي مذهب أحمد ، فيقول: هذه ليس فيها ربا، وعلى هذا فكل ما يجري من الربا ليس محرماً، فهذا فيه استحلال لصورة من صور الربا، لكن هل يكفر به صاحبه؟ الجواب: لا يكفر به صاحبه، لماذا؟

    الجواب: لأن هذا متأول، والمسألة فيها خلاف قديم، فأول ما نشأت هذه الأوراق النقدية وقع فيها الخلاف بين العلماء، هل يجري فيها الربا؟ وهل تأخذ حكم النقدين أو لا تأخذ حكم النقدين؟ ففي مثل هذه الأمور ينبغي للمؤمن أن يتروى وألا يستعجل، فالاستحلال إذا كان مقترناً بتأويل فإنه لا يكفر صاحبه، لكن الواجب أن يبين له الحق، ولا تعجب فإنه قد جاء أن قدامة بن مظعون رضي الله عنه -وهو من أهل بدر- استحل الخمر في زمن عمر بالتأويل، حيث ظن أن قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93] ظن أن هذه الآية تفيد إباحة الخمر، فشرب الخمر رضي الله عنه هو وجماعة معه، ظناً منهم أن هذا مباح، وأنه ليس عليهم حرج، فكتب إليه عمر، وجمع الصحابة وشاورهم، فرءوا أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا.

    فهؤلاء استحلوا محرماً، لكنهم استحلوه بالتأويل، ومع ذلك لم يكفرهم عمر ، بل استتابهم رضي الله عنه، وبين لهم تحريم الخمر، ثم جلدهم على شربه، فعظم الأمر على قدامة رضي الله عنه، واشتد عليه ما وقع منه من استحلال ما حرم الله ورسوله حتى بلغ به الأمر أن يئس من رحمة الله، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأول سورة غافر: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:3] فلا أدري أي سوء أتيت أعظم: استحلالك للخمر أم يأسك من رحمة الله؟! فبين له أن ما جرى منه خطأ، والله جل وعلا يقبل التوبة، وقال: فتب ولا تيئس من رحمة الله، فإنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الضالون.

    فالمهم أن استحلال المحرم -استحلال الذنب- بتأويل لا يكفر به صاحبه، وهذا شاهد قائم من عهد الصحابة رضي الله عنه في خلافة عمر الفاروق، ولذلك يا إخواني! ينبغي للمؤمن في مسألة التكفير أن يتروى، وألا يستعجل، وأن ينظر إلى الأمر بتؤده، وألا يتجاسر عليه، وصغار الطلبة والمبتدئون في طريق الطلب يجب عليهم أن يتحروا.

    والآن لو سألت بعض الناس عن مسألة من مسائل الطهارة التي يدركها العوام في المسح على الخفين أو ما أشبه ذلك أو التيمم، لقال: ما أدري، اسأل العلماء، وإذا سألته في كفر فلان أو فلان لوجدته البحر الذي لا ساحل له في التكفير والقول على الله بغير علم!

    فالمسألة تحتاج إلى تؤده وتروي، والعلماء يؤكدون هذا في عقائدهم, ويكررونه وهو -ولله الحمد- واضح في طريق أهل السنة والجماعة.

    يقول: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) عرفنا أن قيد (ما لم يستحله) هذا فيما لا يحصل الكفر فيه إلا بالاستحلال، أما ما يحصل فيه الكفر بالاستحلال أو بدون استحلال فلسنا بحاجة إلى هذا القيد، كالسجود للأصنام، ودعاء غير الله، وما أشبه ذلك.

    مسألة: هل الكفر غير الشرك؟

    الجواب: الكفر غير الشرك، والكفر كثير غير محصور، بل صور الكفر كثيرة، لكن فيه ضوابط وإن كانت صوره كثيرة، وما قاله العلماء -الحمد لله- واضح، وهم مع ذلك لا يكفرون بمطلق المعصية يعني: بأي معصية، ولا بالكبائر كما يفعله الخوارج.

    1.   

    مذهب أهل السنة في الإيمان والرد على المرجئة

    قال المصنف رحمه الله: [ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله] هذه العبارة من المؤلف رحمه الله فيها الرد على المرجئة وهم من قابل الخوارج.

    وانظر -يا أخي- إلى البدع كيف ينشأ عنها بدع، ويتولد عنها شرور، ومن الشرور التي تتولد عن البدع: أن البدعة تسبب بدعة أخرى، وتدعو إلى بدعة أخرى، فبدعة الخوارج الذين غلوا في التكفير فكفروا الزاني، وكفروا شارب الخمر، وكفروا المرابي، وكفروا كل من وقع في كبيرة، بل كفروا بما يرون أنه ذنب وليس بذنب حتى كفروا أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، قابلتهم بدعة المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله مهما كان الذنب، يعني: لو جاء رجل -نعوذ بالله- ورمى المصحف وداسه وبال عليه وتغوط -نعوذ بالله- ما يكفر؛ لأن هذا ذنب ما يحصل به الكفر عند هؤلاء، وما دام مصدقاً بقلبه فلا يضره ما يفعله من الأفعال، ولو يمسي ويصبح على سب الله ورسوله ما يكفر؛ لأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، وما هو الإيمان عندهم؟ الإيمان عندهم: مجرد المعرفة، فمن عرف الله فهو مؤمن، ولو لم يركع لله ركعة، ولو لم يقم بعمل صالح، بل ولو قام بما قام به من الكفر، فلو سجد للصنم -وهو مؤمن على زعمهم- لا يضره مع الإيمان ذنب، وهذا قول خطير؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) أي: بل الذنوب تضر، وضررها متفاوت، منها ما يضاد الإيمان ويرفعه، وهذا في الاعتقاد والعمل:

    في الاعتقاد كأن يعتقد أن غير الله ينفع ويضر، أو أن يجحد ما تيقن أنه جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

    وفي العمل كأن يسجد للصنم، أو يدعو غير الله، أو ما أشبه ذلك من المكفرات العملية، فهذا يضر الإيمان ويرفعه.

    إذا:ً من الذنوب ما يضاد الإيمان في الاعتقاد والعمل، ومنها ما ينقص الإيمان ولا يضاده، وهذا الذي ينقص الإيمان ويضاده يشمل كل الذنوب صغيرها وكبيرها، فإن الذنوب صغيرها وكبيرها على تفاوتها واختلافها تضر صاحبها، وتنقص مرتبته، ولكنها لا ترفع عنه وصف الإيمان، فالزاني مؤمن بإيمانه، وفاسق بكبيرته؛ ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ولا يسلبون اسم الإيمان عن الفاسق الملي) يعني: من كان فاسقاً من أهل الملة لا يُسلب عنه مطلق الإيمان، يعني: الإيمان بالكلية، ولا يُثبت له الإيمان المطلق، فلا نقول: هو مؤمن كامل الإيمان كما تقول المرجئة، ولا نقول: إنه لا إيمان معه كما تقول الخوارج، بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. والله أعلم.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755836186