إسلام ويب

شرح الأصول الثلاثة - الأصل الثاني [2]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإيمان هو الأصل الثاني من أصول الدين، والإيمان قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب والجوارح، وعلى هذا تواطأت تعريفات السلف له بالرغم من اختلاف ألفاظهم وتعبيراتهم.

    1.   

    تابع أركان الإسلام والدليل عليها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

    [ومعنى شهادة (أن محمداً رسول الله): طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.

    ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد قوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

    ودليل الصيام قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

    ودليل الحج قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]].

    معنى شهادة أن محمداً رسول الله وواجب العبد نحوها

    قوله رحمه الله: [ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلاّ بما شرع] هذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله، فكل من لهج بهذه الشهادة فإنه يجب عليه أن يستحضر هذه المعاني؛ فإن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من أمرين:

    إما خبر فالواجب فيه التصديق؛ فالأخبار تقابل بالتصديق.

    وإما أمر فالواجب فيه الانقياد والتسليم. واعلم أنه تجب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر به سواءٌ علمنا حكمة هذا الأمر أو جهلنا الحكمة، وسواء أدركته عقولنا أو لم تدركه، وهذا فيما يتعلق بالأوامر، فمن علّق العمل بالأوامر على معرفة الحكمة فإنه لم ينقد للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحقق هذه الشهادة، وحقيقة من هذه حاله إنما هو عابد لهواه؛ لأنه لا يقبل من الأوامر ولا ينتهي عن شيءٍ إلاّ ما وافق عقله ورأيه، وهذا لا يكون قد حقق العبودية لله عز وجل؛ لأن العبودية التامة أن ينقاد لأمر الله عز وجل، ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أدرك عقله الحكمة أو لا، فهذا فيما يتعلق بالأحكام.

    أما ما يتعلق بالأخبار فالواجب على المؤمن إذا بلغه خبر الله أو خبر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يؤمن بما أخبر الله به وبما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، علم معناه أو لم يعلم، فهذا هو الواجب؛ فإن الإنسان مهما بلغ علمه فإنه قد يخفى عليه بعض ما أمر الله به ورسوله، فلا يدرك معنى ما أمر الله به ورسوله على وجه الكمال، وعلى هذا فإن الواجب على مثل هذا أن يسلِّم بما جاء عن الله وبما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقول: آمنتُ بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإيمان المجمل يكفيه، وتبرأ ذمته به، ولا يلزمه معرفة التفاصيل إذا كان لا يستطيع معرفة التفصيل؛ لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وهذا ما عمله سلف الأمة في معرفة كيفيات ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه، وأخبر به عما يكون في اليوم الآخر، فإنهم آمنوا بذلك على ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم دون الدخول في تعيين الكيفيات أو تصويرها.

    فمعنى شهادة (أن محمداً رسول الله) طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، فشمل الواجب في الأمر، والواجب في الخبر.

    ثم قال: [واجتناب ما نهى عنه وزجر]، هذا تابع للأمر، وهو التفصيل.

    وقوله: [وألا يعبد الله إلاّ بما شرع] هذا فيه بيان وجوب لزوم طريقة النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الإجمال.

    فالواجب أن يسلِّم العبد قياده للنبي صلى الله عليه وسلم، وليعلم أن من رغب في الفوز والنجاة يوم القيامة أنه لا يمكن أن يحصل له مقصوده، ولا أن يفلح بمطلوبه، ولا أن يأمن مما يرهب إلاّ بسلوك طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى قد سد الطرق الموصلة إليه جميعها إلاّ طريقه صلى الله عليه وسلم، فمن رام الوصول إلى رضوان الله وجنته من غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم فإنما يطلب ضائعاً لا يمكن تحصيله، فهو لا يجني من سعيه خيراً، ولا يحصل مطلوباً، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فيما أخبر مما يكون في يوم القيامة أن الذين يعبرون الصراط إذا منّ الله عليهم بمجاوزته وأردوا دخول الجنة فإنهم لا يتمكنون من الدخول حتى يستفتح لهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الحديث عَنْ أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ)، وهذا يدل على أنه لا سبيل لدخول الجنة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ من طريقه، فإذا كانت الجنة لا يفتح بابها إلاّ باسمه فإن دخولها لا يتحقق إلاّ لمن تبعه واقتفى منهجه وسار على هديه، وهذا دليل هذه القاعدة أننا لا نعبد الله إلاّ بما شرع، وليعلم أن كل من عبد الله بغير ما شرعه الله سبحانه وتعالى أو بغير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد افترى على الله، وما افتراه واخترعه لا يزيده من الله جل وعلا إلاّ بعداً، فهذه قاعدة مطردة في كل بدعة وفي كل محدثة؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد شرع من الدين أكمله، وأتم علينا النعمة، وأسبغ علينا الفضل بكمال هذه الشريعة، فلا مجال للزيادة، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]، فأكمله جل وعلا في القول، وأكمله في عمل الجوارح، وأكمله في عمل القلوب، ثم إنه أكمله على وجه رضيه سبحانه وتعالى، فمن زاد فقد سخط ما رضيه الله جل وعلا، ولم يكتفِ بما رضيه الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، ودلائل هذه القاعدة أكمل وأكثر من أن تحصر، والأصل في ذلك قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، فاستمسك بهذا الصراط المبين والطريق القويم، واعلم المآل إلى جنة عرضها السموات والأرض، نسأل الله عز وجل أن يثبتنا عليه، وأن يزيدنا هدىً وتقىً فيه.

    دليل الصلاة والزكاة

    قال رحمه الله: [ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد قوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]].

    فهذه الآية تضمنت ثلاثة أمور:

    تضمنت بيان معنى التوحيد، وتفسيره، وتضمنت الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وفيها أن هذا الدين عقيدةً وعملاً هو أقوم الأديان، وأن كل من رام استقامةً في غيره فإنه لا يحصل له ذلك؛ لقوله تعالى: ( وَذَلِكَ ) أي: المتقدم مما أمر به من التوحيد، ومن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي: الدين القويم والصراط المستقيم.

    دليل فرضية الصوم

    قال رحمه الله: [ودليل الصيام قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]].

    وجه الدلالة قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ).

    قال رحمه الله: [ودليل الحج قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]].

    وفي هذه الآية دليل على وجوب الحج.

    وهذه هي أركان الإسلام وشرائعه التي لا يستقيم إسلام المرء إلاّ بها.

    1.   

    الإيمان وأركانه

    قال رحمه الله تعالى:

    [المرتبة الثانية: الإيمان. وهو بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: (لا إله إلا الله)، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.

    وأركانه ستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177].

    ودليل القدر قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]].

    العموم والخصوص بين الإسلام والإيمان

    هذه المرتبة هي المرتبة الثانية، وقد فرغ الشيخ رحمه الله من المرتبة الأولى وهي مرتبة الإسلام، وتلخص لنا أن الإسلام هو الطاعات الظاهرة، وهذا باعتبار ذكر الإسلام مع الإيمان والإحسان؛ لأن تعريف الإيمان والإسلام والإحسان يختلف فيما إذا اقترن شيء منها بالآخر، وفيما إذا جاء كلٌ منها على انفراد، ففي حال الانفراد يكون معنى الإسلام شاملاً كلاً من الإيمان والإحسان، وإذا جاء الإيمان منفرداً كان الإيمان شاملاً للإحسان والإسلام، وكذلك الإحسان إذا جاء منفرداً شمل الإسلام والإيمان، وانتبه لهذا التفريق.

    أما إذا اجتمعت كما هو الحال في حديث جبريل فإن الإسلام يختص بالأعمال الظاهرة قوليةً أو فعليةً، والإيمان يختص بالأعمال الباطنة، والإحسان هو الكمال والغاية في هذين الأمرين أعمال الظاهر، وأعمال الباطن.

    فالمؤلف رحمه الله تعالى قال: [المرتبة الثانية الإيمان]، ثم بين الإيمان وعرّفه بقوله: [وهو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول (لا إله إلاّ الله)، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان]، وهذا تعريف للإيمان بنص نبوي، وفي هذا فائدة ولفتة مهمة لطالب العلم، وهي أن الاصطلاحات الشرعية كالإسلام والإيمان والإحسان والبر والتقوى والصلاة والزكاة وغير ذلك من ألفاظ الشريعة إنما يستقى معناها ويستفاد مفهومها من الشريعة لا من لسان العرب، وهذه فائدة تهمك وتفيدك في تعريف الإيمان، فإن أقواماً عرّفوا الإيمان بأنه مجرد التصديق، وقيل لهم: من أين لكم هذا؟ قالوا: أفادتنا اللغة بهذا. قلنا لهم: إن الإيمان أمره كبير، وشأنه خطير، به تحصل النجاة من النار والفوز بالجنة، وهل يعقل أن مثل هذا يتركه الله سبحانه وتعالى، ويتركه رسوله صلى الله عليه وسلم دون بيان أو توضيح؟

    الجواب: لا يمكن تركه بدون بيان وإيضاح، ولذلك وجب الرجوع في تعريف الإيمان والإسلام والإحسان وفي غيرها من الاصطلاحات الشرعية إلى بيان الشارع، وإلى ألفاظه وبيانه وتوضيحه، فإنه الغاية والمنتهى في بيان حقائق هذه الأمور، فالشيخ رحمه الله سلك هذا المنهج، فبين الإيمان بقول النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أحداً يقرأ هذا الحديث إلاّ ويتضح له الإيمان غاية الوضوح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الإيمان بضع وسبعون شعبة، ثم ضرب مثلاً لكل شعبةٍ من شعبه، فهذه المذكورات في هذا الحديث وهي ثلاثة أمور ترجع إليها بقية الشعب، فأعلاها قول: (لا إله إلاّ الله) هذا أعلى شعب الإيمان، وهذا يفيد أن الأقوال تدخل في مسمى الإيمان، فالقول من الإيمان، ولذلك جعل أعلى مراتب الإيمان قولاً، وهو قول: (لا إله إلاّ الله)، ثم قال: [والحياء شعبة من الإيمان]، والحياء عمل قلبي أصله في القلب، وقد تظهر ثماره في الجوارح والسلوك، لكن أصله في قلب الإنسان، وبهذا نعرف أن جميع الأعمال القلبية تدخل في مسمى الإيمان.

    وثالث ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من شعب الإيمان في هذا الحديث (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وإماطته: إزالته عن الطريق المسلوك. سواءٌ أكان طريق مشاةٍ، أم طريق سياراتٍ، أم طريق دواب، فكل ما استطرقه الناس ومشوا فيه بأرجلهم أو بدوابهم فإنه يدخل في قوله: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وإماطة الأذى من عمل الجوارح، وبه نعرف أن من مسمى الإيمان عمل الجوارح، وأن من أخرج الأعمال عن مسمى الإيمان فقد خالف ما أجمع عليه السلف، وما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة.

    فهمنا من هذا الحديث أن الإيمان يكون في القلب، ويكون في اللّسان، ويكون في الجوارح، واعلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأعلاها قول لا إله إلاّ الله) ليس المراد مجرد القول الخالي عن تدبر ما تضمنته هذه الكلمة من العمل، فالحقيقة أن قوله: (فأعلاها قول لا إله إلاّ الله) يشمل القول وعمل القلب؛ لأن القول هو قول القلب واللسان، وقول القلب يكون بتصديقه وإخلاصه، وقول اللسان يكون بنطقه وتلفّظه.

    إذاً فهمنا الآن ما هو الإيمان، وأنه قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وعلى هذا تواطأت كلمات السلف، فمهما اختلف لفظها وتنوع تعبيرها فإنها ترجع إلى أن الإيمان قول وعمل.

    قوله: [والإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول: لا إله إلاّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان] هل هذا تعريف الإيمان إذا قرن به الإسلام؟

    الجواب: لا؛ لأننا ذكرنا أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة إذا اقترن بالإيمان، وأن الإيمان يكون عمل القلب، والحديث تضمن قول اللسان وعمل الجوارح والقلب.

    ففهمنا من هذا أن المؤلف رحمه الله بدأ بيان هذه المرتبة بالبيان العام الذي لا يكون مع الإسلام والإحسان.

    أما الإيمان الذي يقصد ويراد عند ذكر الإسلام -أي: عند اقترانه بذكر الإسلام- فهو ما قاله رحمه الله في قوله: [وأركانه ستة، وهي أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره]، فهذه كلها أعمال قلبية.

    ولذلك سماها شيخ الإسلام رحمه الله: (عقود القلب)، وسماها (حقائق الإيمان)، فعقود القلب وحقائق الإيمان كلها من الأعمال القلبية، فإذا قيل لك: ما الإيمان؟ فإن أردتَ أن تعرِّفه تعريفاً عاماً دون اقترانٍ بذكر الإسلام فقل: ما ذكره المؤلف رحمه الله أولاً: بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: (لا إله إلاّ الله)، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.

    وإذا جاء ذكر الإيمان والإسلام في سياقٍ واحدٍ كقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35] حيث ذكر الأمرين: الإسلام والإيمان فالمسلمون في قوله: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) هم الذين أتوا بالأعمال الظاهرة، والمؤمنون في قوله: (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) هم الذين أتوا بالأعمال الباطنة، وتنبه إلى هذا الفرق.

    فقول المؤلف رحمه الله: [وأركانه ستة] هذا باعتباره مع الإسلام، فلو أن شخصاً أتاك وقال لك: عرِّف الإيمان فقلت: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره إذا لم يسبق سؤال عن الإسلام فإنك لا تكون قد أوفيت الإيمان ببيان كافٍ؛ لأنه بقيت الصلاة، والصيام، والحج لم يأتِ ذكر لواحدٍ منها، فتنبه لهذا، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟...)، فسره بقوله: (أن تشهدوا ألا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتعطوا الخمس من المغنم)، فعرَّف الإيمان بالإسلام؛ لأنه لم يأتِ سؤال عن الإسلام هنا، فكان الإسلام هو الإيمان، وهكذا حيث ذكر الإيمان أو الإسلام مستقلاً؛ فإنه لابد في البيان أن تبينه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً يشمل القول والعمل والاعتقاد، أما إذا سئلت عن الإسلام كما هو الحال في حديث جبريل، ثم جاءك السؤال عن الإيمان ففي هذه الحال يكون الإسلام متعلقاً بالأعمال الظاهرة، ويكون الإيمان متعلقاً بالأعمال الباطنة.

    1.   

    شرح أركان الإيمان

    الإيمان بالله

    قال المؤلف رحمه الله: [وأركانه ستة].

    أركان: جمع ركن. والركن: هو الذي لا يقوم الشيء إلاّ به. ففهمنا من هذا أن اختلال وصفٍ من هذه الأوصاف المذكورة ثلمةٌ في الإيمان تؤدي وتفضي بصاحبها إلى ارتفاع وصف الإيمان عنه، فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولم يؤمن بالقدر فإنه لا يكون مؤمناً، ولا يستحق وصف الإيمان؛ لأنه فقد ركناً من أركان الإيمان الذي لا يثبت ولا يقر إلاّ به.

    يقول رحمه الله: [أن تؤمن بالله] الإيمان بالله يتضمن أموراً، هي الإيمان بوجوده، وبربوبيته، وبإلهيته، وبأسمائه وصفاته، ولو أننا لم نذكر الوجود لما ضر؛ لأنك إذا أقررت بالثلاثة الأمور لزم منها أن يكون موجوداً من تثبت له الإلهية، والربوبية والأسماء والصفات؛ لأنها أوصاف، والأوصاف لا تثبت إلاّ لموجود، ولا تثبت لمعدوم، وإنما نص على الوجود لمقابلة شبهة الملحدين أهل التعطيل الذين يقولون: لا وجود للإله. أو: لا إله والكون مادة. فهؤلاء الجواب على شبهاتهم بأنه لا يحصل الإيمان إلاّ بهذه الأمور الأربعة.

    الإيمان بالملائكة والكتب

    ثم قال رحمه الله: [وملائكته].

    الإيمان بالملائكة بأنهم عالم غيبي نوراني أحياء ناطقون خلقهم الله سبحانه وتعالى من نور، ولهم شأن عظيم مفصل في الكتاب والسنة، فالإيمان بهم أن تؤمن بوجودهم على وجه الإجمال، وأن تؤمن بما ذكره الله عنهم في كتابه، وما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من سنته، وأن تؤمن بمن سمي منهم، وأن تؤمن بأنهم خلق عظيم لهم أحوال وقدرات مكنهم الله منها، وأنهم مذللون لرب العالمين لا يخرجون عن أمره، فهذا مما يتضمنه الإيمان بالملائكة.

    ثم قال رحمه الله: [وكتبه].

    أما الإيمان بالكتب فإنه الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى أنزل إلى رسله كتباً، والله أعلم بها، وتؤمن بما سماه الله منها كالزبور، والإنجيل، والتوراة، والقرآن، وهو أعظمها، ويزيد القرآن خاصيةً وميزةً في الإيمان أن تؤمن بأن أخباره يجب تصديقها، وأن أحكامه يجب الانقياد لها، فهذا ما اختص به القرآن دون غيره من الكتب، وأيضاً أن تؤمن بأن الجميع كلام الله، حتى التوراة هي من كلامه سبحانه وتعالى، مع أنه كتبها لكنه كتبها وتكلم بها.

    الإيمان بالرسل

    ثم قال رحمه الله: [ورسله].

    الإيمان بالرسل يحصل بأن الله سبحانه وتعالى بعث رسلاً لا يحصيهم إلاّ هو، وأن تؤمن بمن سماه الله منهم، وأن تؤمن بأنهم بلّغوا البلاغ المبين، ونصحوا أممهم، وقاموا بما أمرهم الله به، ويختص محمد صلى الله عليه وسلم بأن تؤمن أنه خاتم الرسل، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده، وأنه مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس، وأن من أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وأنه لا ينتظر نبي بعده، ولا يرتقب كتاب غير كتابه، فلا كتاب بعد كتابه، ولا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، ويضاف إلى هذا وجوب الطاعة والانقياد، وذلك بتصديق أخباره، وقبول ما جاء به من الأحكام.

    الإيمان باليوم الآخر

    ثم قال رحمه الله: [واليوم الآخر].

    والإيمان باليوم الآخر ملخصه أن تؤمن بكل ما أخبر الله به مما يكون بعد الموت، فهذا ملخص الإيمان باليوم الآخر، فاليوم الآخر يبتدئ بالموت، قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق:19] (بالحق) أي: بما أخبرت به الرسل مما يكون بعد الموت من الثواب والعقاب، كما في التفسير.

    الإيمان بالقدر خيره وشره

    قوله: [وبالقدر خيره وشره] هذا فيه إثبات القدر، والقدر: هو حكم الله الكوني. هذا تعريف القدر وأحسن ما قيل في تعريفه، فتؤمن بأن الله سبحانه وتعالى علم بالأشياء قبل وقوعها، وأنه كتبها سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ، وأن ما علمه وكتبه فقد طابق مشيئته وخلقه، وبهذا تعلم أن القدر أربع مراتب كما سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

    وقوله رحمه الله: [بالقدر خيره وشره] المقصود بالقدر هنا المقدور، أي: بما قدره الله من الخير والشر واعلم أن الله سبحانه وتعالى ليس في فعله شر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه ({والشر ليس إليك)، فالشر لا يضاف إلى الله عز وجل، ولا ينسب إليه، إنما الشر في المفعولات والمقدورات والمخلوقات، أما تقديره وفعله وخلقه فلا شر فيه سبحانه وتعالى، بل الخير كله في يديه.

    الدليل على أركان الإيمان

    قال رحمه الله: [والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]].

    هذه خمسة أركان.

    ثم قال رحمه الله: [ودليل القدر قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]].

    وقد جمعت في حديث جبريل الذي سيأتي الحديث عنه قريباً، واعلم أن الأدلة على هذه الأصول كثيرة، وإنما يذكر أهل العلم هذين الدليلين؛ لأن الدليل الأول جمع خمسة أركان من أركان الإيمان، والثاني نص على الركن السادس، وإلاّ فإنه لا ينحصر الاستدلال على هذه الأركان بهذا الدليل، وإنما نبهنا على هذا حتى لا يتوهم متوهم أن العلماء إذا ذكروا هذا الدليل فلا دليل غيره، بل الأدلة كثيرة، وإنما هذا الدليل يذكر ويكرر لكونه جمع أكثر أركان الإيمان.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756504340