إسلام ويب

شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس التاسع عشر)للشيخ : عمر سعود العيد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أوضحت الشريعة الإسلامية للناس حقائق العقيدة وضوحاً لا غموض فيه، ومن ذلك عقيدة القدر، حيث بقي الصحابة بها متمسكين ولها واعين، لم يخالط قلوبهم شك ولا ريب، وقد نهوا أن يبحثوا بعقولهم وأهوائهم، فكفوا واستسلموا لله رب العالمين، واستمر المسلمون على ذلك إلى أن نبتت في المسلمين بذور الخلاف والشقاق والانحراف وذلك بظهور فرق الجهمية والقدرية والمعتزلة ... إلخ، وبالتالي فإن الاعتصام بالكتاب والسنة نجاة، والبعد عنهما هلاك وضلال، لأن البدع ليس فيها ما هو حسن أبداً، بل كل بدعة في دين الله بالزيادة أو النقصان فهي ضلالة ولا يستثنى شيء من هذا العموم.

    1.   

    مسائل تتعلق بالقضاء والقدر

    التحذير من الخوض والتنقيب في باب القضاء والقدر

    الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

    لعلنا تكلمنا في الدرس السابق عن بعض المذاهب المتعلقة بالقضاء والقدر، ووجدت من الأحبة كثرة أسئلة حول هذا الأصل العظيم الذي هو الإيمان بقضاء الله وقدره خيره وشره، وأقول للأحبة كما قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: رأيت أعلم الناس بالقضاء والقدر أجهلهم به، وأجهل الناس بالقضاء والقدر أكثرهم بحثاً فيه وتنقيباً، ولعل السبب في ذلك: ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لما قال: [إن القضاء والقدر هو سر الله في خلقه، فمن يكشف سر الله تعالى؟].

    وتبقى العقول قاصرة أن تفقه أو تعلم دقائق هذا الأمر، ولكن أعطيت قواعد لابد من الإيمان بها، وهي المراتب الأربع: مرتبة العلم، والكتابة، والإرادة والمشيئة، والخلق، فإذا أقر الإنسان بها على ضوء النصوص اطمأنت نفسه ولم يجد في قلبه شيئاً من الاعتراض على أي شيء يحدث في هذا الكون من قضاء الله وقدره.

    قدمت بهذا الأمر مبيناً التحذير من كثرة التنقيب والخوض في باب القضاء والقدر، ولعل الشيطان أكثر ما يقدح في نفس الإنسان من الشبه والشكوك ومن الأمور التي تزعزع مبدأ القضاء والقدر والإيمان به، ولهذا لما ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن البدع والشبه خطيرة على الإنسان، قالوا: وأشدها خطراً ما كان متعلقاً بالقضاء والقدر، خاصة أنها تتعلق بأمرٍ غيبي ولا يمكن للإنسان تفسيرها إلا إذا كان عند الإنسان قاعدة بالإيمان بالله وبرسوله وبما أخبر عن الله وعن الرسول صلى الله عليه وسلم واطمأنت نفسه لهذا الأمر.

    أنواع تقديرات مرتبة الكتابة

    أنطلق إلى أنواع التقدير، وأبدأ بمرتبة الكتابة التي يجب علينا الإيمان بها، والتقدير أنواعه متعددة:

    التقدير الأول: التقدير الأزلي: وهو كتابة المقادير قبل خلق السماوات والأرض، ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) ويشهد له قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة) ومفهوم هذه المرتبة أن المسلم يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد كتب كل شيء، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (جفت الأقلام وطويت الصحف) أي: أن هذا الأمر قد فرغ منه، وما كتب في اللوح المحفوظ لا تغيير فيه ولا محو، ولا زيادة فيه ولا نقصان.

    التقدير الثاني: التقدير العمري، وذلك حين أخذ الميثاق على بني آدم: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] دل على أن هذا التقدير كان للإنسان منذ الأزل؛ قدر للإنسان ما سيعمله، ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث لـعمر بن الخطاب قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً ومقصوداً لذلك: أن الله سبحانه وتعالى قدر جزءاً من ذرية آدم إلى النار، وجزءاً منهم إلى الجنة، والله عالم بأهل الجنة وما يعملون، وأهل النار وما سيعملون سبحانه وتعالى، ويسمي العلماء هذا التقدير: التقدير المتعلق بأخذ الميثاق، وإن كان بين العلماء فيه خلاف.

    والإمام ابن القيم رحمه الله تطرق إلى هذه المسألة، ورجح أن قضية مسح ظهر آدم وإخراج الذرية منه إخراجاً حسياً أن النصوص ليست صريحة في إثباته، وإنما ما كان من التقدير الذي إنما يشهد تمييز الناس إلى جنة أو إلى نار، وأن هؤلاء من ذرية آدم إلى النار، وأن هؤلاء من ذريته إلى الجنة.

    التقدير الثالث: الذي يكون للإنسان عند أول تخلقه، ويسميه العلماء: التقدير العمري الخاص بالإنسان -والأول: التقدير الذي يعتبر متعلقاً بالميثاق- فالتقدير الذي يكون خاصاً بالإنسان مثلما قال الله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32] ويشهد له حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة) ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلقة، ثم المضغة، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح، ثم يكتب رزقه وأجله، ثم قال: وشقي أو سعيد، ويصبح كل واحد منا كُتب، وهذه الكتابة والتي قبلها كلها مرتبطة بقضية الكتابة المتعلقة باللوح المحفوظ.

    التقدير الرابع: التقدير الحولي: وهذا التقدير في ليلة القدر، وهي في قول الله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] أي: أن الله سبحانه وتعالى يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من سيموت ومن سيمرض ومن كذا، ويقدر ما سيعمله في ليلة القدر في السنة التي هو فيها وجزء من السنة القادمة.

    التقدير الخامس: التقدير اليومي، يقول الله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] سبحانه وتعالى.

    أنواع الإرادة

    ذكر العلماء أن الإرادة تنقسم إلى قسمين:

    1- إرادة كونية قدرية.

    2- إرادة دينية شرعية.

    أما الإرادة الكونية القدرية فتتعلق بكل شيء في هذا الكون، وما من حركة ولا سكنة ولا فعل ولا عمل ولا إمراض ولا حياة ولا موت ولا غيره إلا داخل تحت الإرادة الكونية القدرية التي يجب علينا أن نؤمن بها، وقد دل عليها قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13] .. فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] ويشهد لها قول الله تعالى كذلك: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] دل على أنه لا يخرج من الكون شيء أبداً عن مشيئة الله تعالى.

    وهذه نسميها الإرادة الكونية القدرية، ويدخل فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ولا يخرج أحد منها إطلاقاً.

    وأما الإرادة الدينية الشرعية فهي المتضمنة لمحبة الله ورضاه، وهذه تتعلق بشرعه ودينه، مثل: الصلاة والزكاة والعبادات والتوحيد.. وغيره، نقول: هذه الله يريدها من العباد ديناً وشرعاً، ويستدل العلماء لها بقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].. وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) هذه كلها مما يكرهها الرب سبحانه وتعالى.

    ما هو الفرق بين الإرادتين؟

    يفرق العلماء بين الإرادتين فيقولون:إن الإرادة الكونية القدرية تتميز:

    أولاً: أنها شاملة للكون كله، فلا يخرج شيء من الكون عنها.

    ثانياً: لا يلزم أن يحبها الله ويرضاها، فقد يحبها الله ويرضاها وقد لا يحبها الله ولا يرضاها، وهذه الإرادة نسميها: الكونية القدرية.

    ثالثاً: الإرادة الكونية القدرية تتحقق في الكافر وفي المؤمن.

    أما الدينية الشرعية فهي تتميز:

    أولاً: أن الله يحبها ويرضاها.

    ثانياً: لا يلزم وقوعها.

    ثالثاً: أنها لا تتحقق -أي: الدينية الشرعية- إلا في المؤمن المستقيم، أما الكافر فلا تتحقق فيه الإرادة الدينية الشرعية.

    مثال ذلك: إذا أراد الله سبحانه وتعالى إنزال المطر كوناً وقدراً لا بد أن يقع، لكن الإرادة الكونية الشرعية لو سئلنا جميعاً: أليس الله يريد من العباد أن يصلوا؟ هذه إرادة شرعية دينية يريدها منهم، لكن هل يلزم منهم أن يصلوا؟

    لا يلزم، منهم من يصلي ومنهم من لا يصلي، والله أمرنا بالاستقامة على دينة، فهل يلزم كل الناس أن يستقيموا؟ لا، منهم من استقام ومنهم بقي على انحرافه، فلا يلزم وقوعها.

    الإرادة الكونية القدرية لا يلزم أن الله يحبها ويرضها، فإن الله أراد كوناً وقدراً أن يقع الكفر، وتقع المعاصي، هل يلزم أن الله يحبها؟ لا، لكن إرادته الدينية الشرعية: الصلاة، الصيام، الاستقامة.. وغيرها يحبها الله ويرضاها من عباده، ولهذا قال الله تعالى: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7].. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].

    ولهذا نجد أن بعض الطوائف غلت في هذا الباب، فنجد طائفة الجبرية أخذت بالإرادة الكونية القدرية فقط، وبهذا انحرفت ونسيت الإرادة الدينية الشرعية، وطائفة المعتزلة أخذت بالإرادة الدينية الشرعية، ونسيت الإرادة الكونية القدرية، وضلت هذه الطائفة، وكلتا الطائفتين على انحراف وضلال، لكن أهل السنة والجماعة جاءوا بالإرادتين جميعاً فآمنوا بهما، ووفقوا بينهما، وكانوا أسعد الطوائف في باب القضاء والقدر، ولهذا كانوا من أصلح الناس في هذا الأمر.

    نقول للأحبة: أفعال العباد لا تخرج عن خلق الله تعالى، وهي داخلة في إرادة الله ومشيئته، ولا يخرج شيء من الناس إطلاقاً بفعله أو عمله عن هذه الإرادة أبداً، ويدل عليها من ناحية العقل ومن ناحية الشرع:

    أما ناحية الشرع: فجميع الآيات الواردة في الإرادة الكونية القدرية.

    وأما ناحية العقل: فنجد أن الكون ملك لله تعالى ولا يخرج شيء عن ملكه، فهل يقع في ملكه ما لا يريده ولا يحبه؟

    بالنسبة لما لا يحبه قد يقع في مسألة الكفر، لكن ما لا يريده أبداً، الله هو المالك والمتصرف بهذا الكون سبحانه، ولا يقع فيه إلا ما أراده سبحانه وتعالى، سواء كانت أفعال العباد كلها اختيارية أو كانت أفعالاً نسميها جبرية جبل الإنسان عليها.

    1.   

    سبب نكوص كثير من الناس عن طلب الهداية

    مسألة: كثيراً ما يعرض بعض العصاة وأصحاب الفسق ويحتجون إذا نوقشوا بالاستقامة على دين الله بالقضاء والقدر، وقالوا: نحن لم يرد الله هدايتنا ولا استقامتنا، وأنتم هداكم الله، فما موقفك من هذه؟

    الجواب: إن هؤلاء لا يحتاجون إلى كثير من النصوص الشرعية ولا المناقشات ولا غير ذلك، ولا تصغ إليه، بل يكفي ضرب المثال ليتضح بطلان ما هو عليه، ولهذا تجد بعض الناس عندما تقول له: لماذا لا تصلي؟

    قال: سبحان الله! أنا مكتوب في بطن أمي وعندنا عقيدة شقي أو سعيد، نقول له: نعم، يقول: أنا مكتوب من أهل الشقاء وانتهى الإشكال، أو بعض الناس يقول: أنت هداك الله لماذا أنا لا يهديني؟ نستدل له بالقرآن، وسبحان الله! آية عظيمة جداً في سورة وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1]، لما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:5-6]جاءت بعدها فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:7]بدئ بالعمل أولاً، فنقول لهذا المنحرف: ائت إلى المسجد وصلِّ الصلوات، وجالس الأخيار، واحضر حلقات العلم، واحرص على الأعمال الصالحة ييسرك الله لليسرى، أما أن تجلس في محلات الخنا والمعاصي والفسق والفجور، وتنتظر الهداية إلى تنزل عليك من السماء، هذا أمر لم يجعله الله؛ إذ قد جعل الله سبحانه وتعالى من سننه الكونية أن ربط الأسباب بالمسببات، وجعلها الله سبباً، ولنذكر لهذا المسكين مثالاً بسيطاً وهو من اللطائف: ذكروا أن شيخاً لقي أحد تلاميذه وقد غاب عنه زمناً، وقد كبر سنه، سأله: هل جاءك أولاد؟ قال: والله ما رزقت بأولاد، ولكن لو دعوت الله لي لكان طيباً، فأخذ الشيخ يدعو له -وقد غاب عنه- وبعد سنة، سأله: أرزقت بأولاد؟ قال: والله ما رزقت، فسأله الشيخ: هل تزوجت أم لم تتزوج؟ قال: لا. لم أتزوج، قال: كيف تجعلني أدعو لك سنة أن يرزقك الله أولاداً وأنت ما تزوجت؟

    وهذا الذي يريد الهداية أن تنزل عليه من السماء كحال من يريد أولاداً بدون زواج، هل يمكن؟

    سنة من سنن الله الكونية وهي ربط الأسباب بالمسببات، وهؤلاء يعملون أغلوطات هم لا يعملون بها في كل جوانب حياتهم، قد يعمل بها في حال المعصية ولا يعمل بها في حال الطاعة.

    عجباً لهؤلاء القوم! يحتج بالقضاء والقدر في معصيته، لكن إذا جاء إلى المسجد وذهب إلى مكة يطوف ويسعى، ما قال: والله كل هذا بقضاء الله وقدره، ما عندي عمل إطلاقاً وأنا مجبور، لا يمكن! لو قلت له: أنت مجبور أن تذهب الآن إلى المسجد، يقول: السلام عليكم وانتهى الإشكال يقول: أنا مجبور .. حر، وبهذا يستطيع التمييز، وهؤلاء مساكين يكيلون بمكيالين، ففي الطاعات يقول: هذا عملي وأنا الذي قدمت.

    وتجد الشخص إذا بنى مسجداً أو أنفق أموالاً قال: بنينا، وعملنا، وتعبنا، وأسأل الله أن يتقبل هذا العمل وغيره، لكن في حال المعصية لا يقول: أسأل الله، إنما يقول: هذا بقضاء الله وقدره، ليس لي شيء، وهذا لا شك أنه احتجاج باطل لا شك في بطلانه.

    ثم نقول لهؤلاء المساكين الذين يحتجون بالقضاء والقدر في حال المعاصي، ونضرب لهم بمثالين بسيطين:

    أول مثال وهو من الأمثلة البديهية: أليس قد كتب رزقك أم لم يكتب؟

    الجواب: مكتوب رزقك: (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها) ما رأيكم أن نجلس هنا ولا نخرج، إن كان الله كتب لنا أن يأتي الفطور جاء، وإن كان لم يكتب في اللوح المحفوظ فليس هناك مجال، لا يمكن أن يأتي، هل يعمل به؟ أبداً، هل يمكن أن يقبله؟ لا يقبله أبداً، ولذلك إذا جاء أحدنا الظهر أول ما يدخل يدخل المطبخ يفتح الثلاجة ويأخذ شيئاً خفيفاً، يسحب الصماط يقدم يعمل يعمل، لا يمكن أن يأتيه أكل بدون أن يقدم شيئاً.. [إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة] كما قال عمر للذي جلس في المسجد يسأل أن ينزل عليه شيء.

    إذاً.. فما نعمله في أمور الدنيا يجب أن نعمله لأمور الآخرة، فلماذا نعمل للدنيا ولا نعمل للآخرة، ونكيل بميزانين؟

    الأمر الثاني: من الأمور التي غابت عن عقولنا الآن، وهي مثل مبحث القضاء والقدر، قضية موت أحدنا الآن، لو سئل كل واحد منا الآن سؤالاً: متى ستموت؟

    ليس عندي خبر.

    أي سبب ستموت به؟

    ليس عندي خبر.

    وعندك (100%) يقين؟

    قال: نعم عندي (100%) يقين.

    ومكتوب في اللوح المحفوظ السبب؟

    نعم.

    قلنا له: جزاك الله خيراً، مادمت تحتج بالقضاء والقدر على قضية الهداية، الخط السريع إذا جاء في الساعة الثانية عشرة ليلاً، افتح الفراش ونم وسط الخط السريع الدائري، وإن كان الله كتب موتك لا محالة ستموت، وإن كان لم يكتب الله موتك تجد السيارات يذهبن يميناً ويساراً ولا يقربنك أبداً.

    عندما ينام لا يمكن أن تقر له عين، لا تأتي سيارة إلا وهو ينتظر متى تصل إليه!

    إذاً.. ليس عندك يقين بهذا الشيء؟ عندي معتقد، فلماذا؟ ونحن نقول: نحن نعلم بأن الله قد كتب هذا الأمر، لكن لم يخبرنا الله أأنت شقي أم سعيد.

    ثم كل واحد منا يفرق بين الأمر الاختياري والأمر الإجباري، هذا أمر يقيني عندنا، أحدنا إذ يأتي إلى المسجد لحلقة علم لا يشعر أنه يجر برقبته حتى يدخل المسجد، بل يشعر بطمأنينة يمشي مختاراً، ويستطيع الإنسان أن يمشي، ولا يقول أحد: أنا مجبور أبداً.

    أضرب مثالاً بسيطاً: لو قتل أحد إنساناً، قلنا له: لماذا؟ قال: هذا أمر مكتوب، ثم جاء شخص آخر حامل السلاح قلنا له: إلى أين؟ قال: أنا سأقتل. هذا مكتوب عليه وأنا مثله مكتوب علي وهذا لا يمكن أبداً، لا يعلم أبداً بهذا الشيء، يستطيع الرجوع مباشرة، ولو قلت الآن لأي شخص: أنت الآن جئت إلى الدورة مجبوراً؟ قال: لا مجبور ولا أي شيء، السلام عليكم ولا درس ولا شيء.. أنا حر، ولهذا يشعر الإنسان بأفعاله في الطاعات، وفي المعاصي أنه ليس مجبوراً أبداً، لا يشعر بجبر، يستطيع الترك ويستطيع العمل.

    فمثلاً: بعض الفساق تمر المرأة مثلاً وقد تجملت، يقول: الحمد لله! هذا رزق جاء به الله، ما جئت به أنا؛ أنا جالس أنظر وينتهي الإشكال، هل يمكن؟

    لا يمكن أبداً وهو يشعر بالاختيار، والدليل على ذلك أنه يمشي من هنا، ويمشي من الجهة الثانية، وينظر ويعمل إلى أن يقحم نفسه في المعصية، ليس هناك جبر أبداً، مع علمنا أن كل شيء قد كتب في اللوح المحفوظ.

    أردت أن أضرب هذه الأمثلة لنقطع دابر هؤلاء الذين يحتجون بالقضاء والقدر في معاصيهم.

    الاحتجاج بالقضاء والقدر إنما يكون على المصائب والآلام لا المعايب والآثام

    يذكر أهل السنة والجماعة قاعدة عظيمة جداً، وهي في مبحث القضاء والقدر: إن القضاء والقدر يحتج به في باب المصائب لا في باب المعايب، ومن الأمثلة على ذلك: نحن نسير في طريق وانقلبت السيارة أو صدمت، نأتي للشخص ونقول: الحمد لله على قضاء الله وقدره، لله ما أخذ، الحمد لله أنه ما جعلها أعظم، نحتج بالقضاء والقدر.

    شخص الآن مشى وضرب شخصاً وقتله، لا نأتي إلى القاتل ونقول: الحمد لله على قضاء الله وقدره، هذا أمر مكتوب عليك! بل نعاتب عليه ونعنف عليه، ونسبه ونشتمه: أما تخشى الله.. أما تتقيه.. أما تعلم مغبة قتل المسلم وأثره؟ لا نحتج له بالقضاء والقدر، مع أن هذا الأمر واقع بقضاء الله وقدره، ولذلك قال العلماء: يحتج بالقضاء والقدر في باب المصائب لا في باب المعايب.

    ولعلي أذكر مثالاً وأنطلق للرد على أهل المعاصي، يمثل العلماء له بقضية القتل: فمثلاً: صديق لك قتله شخص، حين نذهب إلى أهل المقتول أول ما ندخل عليهم نقول: الحمد الله على قضاء الله وقدره، هذا أمر مكتوب عليه، ونسليهم، وحين نذهب إلى القاتل لا نأخذ هذا القاتل؛ بل نسبه ونشتمه، أما تعلم أنك ستقتل، أما تعلم بالآيات الواردة في تحريم القتل، أما تعلم أن هذا من كبائر الذنوب، أما تخشى الله؟ نعنف عليه، أما أولئك فنسليهم، ونسريهم، ونسحب من نفوسهم الحزن، وهذا هو مصداق: يحتج بالقضاء والقدر في باب المصائب دون باب المعايب، فإنه لا يحتج به في باب قضاء الله وقدره.

    الرد على الجبرية في الاحتجاج بالمعاصي

    ننتقل إلى من يحتجون بالمعاصي، أول رد عليهم: أن الله سبحانه وتعالى أضاف العمل للعبد، وإضافة العمل للعبد وجعْلُه كسباً له يدل على أنه هو المعاقب عليه، ولهذا قال: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [غافر:17].. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32].. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61].. فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] حثك بأن تعمل وتجتهد في هذا الأمر.

    الأمر الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه الله فوق طاقته، الصلاة فوق الطاقة، الصيام فوق الطاقة، الزكاة فوق الطاقة؟ أبداً، كلها في قدرة الإنسان، ولذلك إذا كلفك الله ما تطيق تستحق أن تحاسب على الخير وتحاسب على الشر، ولهذا قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ونقصد أن الإنسان مكلف على قدر طاقته، أي أنه ليس مجبوراً على أي عمل يعمله، لا صلاة ولا صيام ولا غيره، والدليل على ذلك: أيام الإجازات أناس ينطلقون لطاعة الله، وأناس ينطلقون إلى المعاصي، وكل واحد منهم مختار لهذا الأمر، ولكن شتان بين مشرق ومغرب!

    الأمر الثالث: أن كل واحد منا يفرق بين الفعل الاختياري والفعل الجبري، فالفعل الاختياري يستطيع الإنسان أن يتخلص منه، وأما الفعلي الجبري فلا يستطيع الإنسان التخلص منه، هل يستطيع واحد منا أن يوقف كبده أو تنفسه؟ لا يستطيع، لكن الفعل الاختياري: تمشي إلى حلقة مسجد، أو حلقة علم، أو إلى زيارة إخوانك في الله .. إلى غير ذلك، أما الأمر المجبور عليه الإنسان فلا تستطيع.

    ولذلك فالأمر الجبري لا مجال للحساب ولا للعقاب عليه أبداً، وحق الإثابة ليس عليه شيء كأن يكون طويلاً جداً، فيعطى أجوراً أكثر والقصير لا يعطى، ليس له علاقة، لون الإنسان .. موطنه .. سكنه ليس لها ارتباط.

    الأمر الرابع: أن العاصي قبل أن يقدم على المعصية لا يدري ما قدر الله له، إنسان انطلق ليزني، قلنا له: إلى أين؟ قال: أنا أريد أن أنظر القضاء والقدر إلى ماذا ينتهي بي، إلى أين؟ بدأ بنظرة، ثم انطلق إلى مكان المعصية، ينتظر القضاء والقدر! من أعلمك بما قضاه الله وقدره عليك؟ لكن الله أمرك أن تبتعد عن المعصية، ولذلك نقول له: اتق الله فلا تفعل هذا الأمر، حتى يكون رادعاً له به، ولهذا حري بالمسلم أن يسلك الطريق الصحيح، ويقول بعد ذلك: هذا ما قُدِّر لي.

    الأمر الخامس: أن الله أرسل الرسل لقطع الحجة على العباد: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]ولو كان القدر حجة للعاصي ما انقطعت الحجة بإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولهذا فإننا نقول لمن يحتج بالقضاء والقدر على عدم الحاجة للعمل: إنه لا ينبغي أبداً أن نحتج بالقضاء والقدر فنكسل عن العمل سواء في طاعة الله أو في الأعمال الدنيوية، بل الواجب علينا أن نعمل، قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] كله أمر بالعمل والاجتهاد فيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) كل هذا أمر لنا بأن نسير بالتسليم لقضاء الله وقدره والعمل بطاعة الله.

    1.   

    ثمار الإيمان بالقضاء والقدر

    أولاً: أن الإيمان بالقضاء والقدر يعتبر من أكبر الدواعي التي تدعو الإنسان للعمل والنشاط بما يرضي الله تعالى، والإيمان بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل ويقدم على عظائم الأمور بثبات وعزيمة ويقين.

    فمثلاً: أنا أسير، ثم بعد ذلك أؤمن بقضاء الله وقدره، مثلما جاء الأعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ناقتي أعقلها وأتوكل أم أتوكل على الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعقلها وتوكل) أمرنا بالعمل لأمور الآخرة، ثم بعد ذلك نؤمن ونطمئن بأن الله مع أوليائه، وينصرهم ويوفقهم ويعينهم ويسددهم في الدنيا والآخرة، فيصبح حافزاً لك على العمل الصالح.

    ثانياً: أن يعرف الإنسان قدر نفسه، فلا يتكبر ولا يبطر ولا يتعالى أبداً؛ لأنه عاجز عن معرفة المخلوق، فإذا كان الإنسان صاحب مال كثير فهو يؤمن بقضاء الله وقدره، وأن هذا هو الذي كتبه الله له، فلا يؤدي إلى التكبر، الله الذي أعطاك هذا الشيء، وإذا كان الإنسان فقيراً رضي بما قضاه الله له وقدره، واطمأنت نفسه بعيشه الذي هو فيه، وسعى لأن يغير من واقعه، وهذا يعطي الإنسان طمأنينة نفسية قوية جداً، لعلمه أن الله هو المدبر لهذا الكون، وهو المصرف له سبحانه وتعالى.

    كذلك الإنسان قد خلق محباً للحياة الدنيا، وسبحان الله! يقول إبراهيم بن إسحاق الحربي: من لم يؤمن بالقدر لم يتهنأ بعيشه، وهذا لا شك أنه صحيح، ولذلك تجد بعض الشباب يعيشون فوق طاقاتهم، وأمرنا كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا أن ننظر إلى من هو أسفل منا؛ لئلا نزدري نعمة الله علينا، لكن في أمور الآخرة والعبادة ننظر إلى من هو أعلى منا، لا ننظر إلى من هو أدنى منا، ولعل هذا يعطينا طمأنينة.

    بعض الناس إذا ذهب إلى أصحاب الثراء تقطع قلبه، ثم أخذ يتعب نفسه ويجاهدها بكل الوسائل، ويريد أن يكون مثلهم ولا يكتب له ذلك، لكن إذا علم بقضاء الله وقدره، اطمأنت نفسه، يقول الله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:32].

    ولهذا جعل الله بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، جعل الله الناس طبقات، وهذا يوجب للإنسان طمأنينة، والله قد جعل من طبيعة الإنسان: إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج:20-21] لكن من رزق الإيمان بقضاء الله وقدره فلا يتأثر في حال الخير ولا في حال الشر.

    ثالثاً: الإيمان بالقضاء والقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تقضي على المجتمعات وتورث الأحقاد بين الناس، ولعلي أضرب للأحبة مثالاً، يقول العلماء: إن الأقران بينهم من الحسد كما بين التيوس إذا كانت في زريبة غنم، وتجد مثلاً اثنين يتنافسان في العلم، تجد كل واحد يبحث عن زلة الآخر، يقول: والله هو طيب ولكن عليه ملاحظات، وتجد هذا يتكلم وهذا يتكلم، لكن من آمن بقضاء الله وقدره اطمأنت نفسه، وأصبح يرضى بما ميز الله بعضهم على بعض، وكم كان لـشيخ الإسلام رحمه الله من الحساد في عصره، حتى وشوا به إلى السلطان وسجن عدة مرات ومات في السجن رضي الله عنه ورحمه، كله بسبب الحسد، لكن المسلم يرضى، وهذا يكون بين التجار بعضهم مع بعض، وبين أصحاب الأموال، كلما تجد أقراناً تجد بينهم هذا الأمر، ولكن إذا كان الإنسان مؤمناً بقضاء الله وقدره اطمأنت نفسه أن هذا هو الذي قسمه الله له، وما فضل الله عليه بعضاً من الناس ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4].

    رابعاً: أن الإيمان بالقضاء والقدر يوجب للقلوب المؤمنة الشجاعة في مواجهة الشدائد، ويقوي بها العزائم، ويثبتها في ساحات الجهاد فلا تخاف الموت:

    ولست أبالي حين أقتل مسلماً     على أي جنب كان في الله مصرعي

    وكم كان للصحابة من المواقف العظيمة العجيبة، ولعل من الأمثلة ما ذكر في ترجمة الزبير رضي الله عنه وأرضاه أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاد بعض المعارك، وفي بعضها لم يكن قائداً، وقيل للزبير: لو كنت أميراً علينا في هذه؟ قال: لا تستطيعون أن أكون عليكم أميراً، قالوا له: ولماذا؟ قال: أريكم، كان كبير السن وجيش العدو أمامه، فانطلق بجواده، فشق صفوف العدو ثم رجع مرة أخرى، قال: تستطيعون؟ قالوا: لا نستطيع مثل هذا، وما رجع إلا بطعنات، ويدل على أن هذا يوجب للإنسان طمأنينة أنه لن ينقطع الأجل، وليس دخول المعارك سبباً لقضية الموت.

    أيضاً خالد بن الوليد رضي الله عنه كم خاض من معارك يريد الشهادة ومع ذلك ما كتبت له، وإنما مات على فراشه رضي الله عنه وأرضاه.

    ويصبح الإنسان عنده شجاعة وطمأنينة بهذا الأمر، توجب له السير على ما كان عليه أو الرضا بقضاء الله وقدره، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس بقوله: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك: رفعت الأقلام وجفت الصحف) إلى غير ذلك مما تدعو الإنسان إلى ثمار الإيمان بقضاء الله وقدره.

    1.   

    فضيلة الاتباع وخطورة الابتداع

    ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

    هذا اعتقاد الشافعي ومالك     وأبي حنيفة ثم أحمد ينقل

    فإن اتبعت سبيلهم فموفق     وإن ابتدعت فما عليك معول

    منهج السلف الصالح في الاتباع

    كنا نتمنى أننا لو ترجمنا لهؤلاء الأئمة الكبار رحمهم الله تعالى ورضي عنهم، ولكن إلى الله المشتكى لضيق الوقت، ولعلنا توسعنا في بعض الجوانب، وقلت في نفسي: تراجم هؤلاء من السهل الوصول إليها، لكن الحرص على عرض بعض مسائل الاعتقاد هو الذي جعلنا نُغفل هذه، وقد نبهت سابقاً واعتبرتها كالقاعدة عندنا نحن: أن الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى كلهم أثري سلفي في معتقده، وقصدي بذلك أنه متى ثبت عند أحدهم حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ترك رأيه واطرحه اطراحاً كاملاً.

    - مالك رحمه الله يقول: "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم".

    - أبو حنيفة لما عرض عليه حديث الإيمان، قالوا: ألا تجيبه؟ وكان يرى أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، قال: كيف أجيبه وقد قال بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء بهذا عن رسول الله، لا أستطيع.

    - الشافعي سئل عن مسألة وقال فيها بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، قيل له: ما رأيك أنت؟ قال: أعوذ بالله! أتروني في كنيسة؟ أتروني في وسطي زناراً؟ أتروني في بيعة؟ أقول: قال رسول الله، فتقولون: ما رأيك أنت؟ منكراً عليهم، وهكذا منهج أئمة السلف، وهو السير على ما ثبت عن الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: (هذا اعتقاد الشافعي ) أي: هذا جملة من اعتقاد الشافعي وليس كله، وإلا فإن العقيدة جوانبها كثيرة، والمؤلف لم يعرض مسائل الاعتقاد كلها، لكن ما ذكره من المسائل الماضية هو ما يعتقده الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى، وهذا هو المنقول عنهم، وهو الصحيح فيما ذكر في هذا، ثم قال:

    فإن اتبعت سبيلهم فموفق

    أي: من سار على ما كان عليه الأئمة الأربعة في معتقدهم فهو الموفق للحق والصائب فيه، وهذا نعتبره في الجملة؛ لأنهم على المنهج، وليس معناه أنه لا يحصل عندهم خطأ أو لا يحدث عندهم عدم إصابة الحق؛ لأننا نعتقد أنهم غير معصومين، فإن كل يؤخذ من قوله ويرد ولا عصمة إلا للرسل عليهم الصلاة والسلام، أما من عداهم فإنه يحدث عندهم شيء من الخطأ، لكنهم كلهم على المنهج، أي: على منهج الكتاب والسنة والحرص عليه، ثم قال:

    وإن ابتدعت فما عليك معول

    أي: إن لم تأخذ بهذا المعتقد السابق وجئت بأمرٍ مبتدع محدث فما عليك معول، لا حجة فيما قلته أبداً، فالأول أدلته الكتاب والسنة، وإذا جئت بشيء غير ما دل عليه الكتاب والسنة فلا اعتماد على ما قلت، ولا قبول لما أردت.

    ذم البدع في ضوء الكتاب والسنة

    أود أن أعرج على مبحث البدع وما ورد من الذم لها، وقد ورد عندنا الذم لقضية البدع:

    يجب أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أنعم على هذه الأمة نعماً عظيمة، ومن أعظم نعمه التي أنعم الله عليها هي كمال الدين، وأن الله أكمل دينه وأتمه، وقصدنا بقضية كمال الدين أن نقطع على عقول المبتدعة أن يزيدوا لنا شيئاً أو ينقصوا منه شيئاً، من نقص في دين الله تعالى شيئاً فقد ابتدع، ومن جاء بشيء جديد فقد ابتدع، وكم هي طوائف المبتدعة كثيرة جداً، فمنها ما يتعلق بالبدع .. بدع تتعلق بالاعتقاد: كبدع الخوارج ، والمعتزلة ، والجهمية ، والرافضة .. وغيرها، وبدع تتعلق بالأحكام: كبدع الصوفية وإن كان عندهم بدع كذلك في الاعتقاد بإتيانهم بأوراد وعبادات وصلوات وأعمال لا رصيد لها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    يقول ابن عباس رضي الله عنه عند هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]مفسراً لها: أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كذلك أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله تعالى فلا ينقص أبداً، وقد رضيه فلا يسخطه أبداً، ثم بين الله لنا الأمر باتباع ما جاءت به الرسل في غير ما آية، ففي آدم عليه الصلاة والسلام: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طـه:123] كذلك قوله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف:3].. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55].. وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] إلى غير ذلك من الآيات الآمرة به.

    وكذلك هناك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تأمرنا بقضية الاتباع، والسير على ذلك، وقد ورد في صحيح مسلم من حديث جابر في حجة النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله) دل على أن من تمسك بالكتاب والسنة فلن يضل أبداً، وقد روى مسلم كذلك من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة).

    وكذلك لما أمرنا باتباع السنة وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) إلى غير ذلك من الأحاديث.

    من أنصح الخلق للناس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبرهم بأمته، وأعلمهم بما يصلحهم، أمرنا بقضية الاتباع، وحذرنا من قضية الابتداع.

    رويت عن الصحابة رضي الله عنهم وعن التابعين آثار كثيرة جداً تأمرنا بقضية الاتباع في مسائل الاعتقاد وفي مسائل الأحكام، ليس بعضها دون بعض، فمنها: قول معاذ بن جبل رضي الله عنه حين قام بـالشام فقال: [أيها الناس! عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ألا وإن رفعه ذهاب أهله، وإياكم والبدع، والتبدع والتنطع، وعليكم بأمركم العتيق] أي: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم لا تأتوا بشيء جديد.

    ومنها كذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [عليكم بالطريق فلئن لزمتموه لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن خالفتموه يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً] ثم يقول أبو الدرداء : [لن تضل ما أخذت بالأثر] أي: ما جاءك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها: [عليك بتقوى الله والاستقامة واتبع ولا تبتدع] كما قالها ابن عباس رضي الله عنهما لرجل .. إلى غير ذلك من الآثار.

    تعريف البدعة في اللغة والاصطلاح

    البدعة في اللغة: مأخوذة من الشيء المخترع من غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9] وقوله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27].. بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [البقرة:117] نجد من هذا المفهوم أنه يدلنا على أن البدعة شيء جديد لم يكن عليه من قبل.

    يجب أن نعلم أن البدعة تستعمل في الخير والشر، إلا أنها أكثر ما ترد في قضية ما نسميه عرفاً في قضية الذم، إذا قيل: هذا أمر مبتدع، كأنك تنفر الناس منه.

    بالنسبة للبدعة فقد عرفها جمع من أهل العلم، وممن عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، قال: البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ولا رسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من دين الإسلام ولا يسمى الذي شرعه الله بدعة وإن تنازعوا -يعني: العلماء- في شيء من ذلك، وسواء كان هذا الأمر معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن معروفاً.

    ابن رجب رحمه الله تعالى ذكر تعريف البدعة: أنها ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل في الشريعة يدل عليه فليس ببدعة شرعاً، وإن كان يسمى بدعة لغوية.

    ونفهم من التعريفين السابقين أموراً متعددة:

    أولاً: أن البدعة إحداث في الدين، فيخرج بذلك ما أُحدث ولم يدخل به من أمور الدين، مثل: الأمور المتعلقة بالأمور الدنيوية، ميكرفونات.. سيارات.. إلى غيره، ما كانت هذه بدع، ولكنها ليست متعلقة بالدين، بل إن هذه من أمور مصالح الدنيا.

    كذلك نجد أن البدعة ليس لها أصل في الشرع يدل عليها، وأن ما دلت عليه قواعد الشريعة فليس ببدعة وإن لم ينص عليه الشارع، مثل الآن: الصواريخ والطائرات والآلات الحربية وغيرها، نصت عليها الأدلة: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] ولكننا لا نعتبرها بدعة؛ لأنها لم ترد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

    ونستفيد من التعريف كذلك أن البدع كلها مذمومة، وليس هناك بدعة أبداً حسنة، وهذا أصح أقوال أهل العلم في هذا الأمر.

    كذلك: البدع في الدين قد تكون بالنقص، وقد تكون بشيء زائد، فمن النقص: أن يبتدع الناس ترك السنن، فيقررون بينهم أنه لا حاجة لسنة أبداً، ولا حاجة للعمل بها، ويسيرون على أنه منهاج، ولكن هذا ليس مسلماً به على إطلاقه.

    ومن ألطف من كتب في البدع الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه الاعتصام ، وله تعريف في البدعة نذكره.

    قال: البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى.

    أقسام البدع

    ذكر العلماء تقسيمات للبدع، فمن العلماء من ذكر بأن البدع تنقسم إلى قسمين: بدعة حقيقية، وبدعة إضافية.

    ومنهم من قال: بدعة عادية وبدعة عبادية.

    ومنهم من قال: بدعة فعلية وبدعة تركية.

    ومنهم من قال: بدعة اعتقادية وبدعة عملية.

    ومنهم من قال: بدعة واجبة، وبدعة مستحبة، وبدعة محرمة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة.

    وممن ذكر هذا التقسيم أنها متعلقة بالأحكام التكليفية الخمسة أول من أحدث هذا الأمر العز بن عبد السلام ، وتبعه على ذلك القرافي ، وتقسيمهم هذا ليس بصحيح.

    أول من قسم البدعة هو الإمام الشاطبي رحمه الله وذكر أن البدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة حقيقية، وبدعة إضافية.

    والبدعة الحقيقية هي البدع التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا من إجماع أو استدلال معتبر.

    وذكروا من هذه البدع: تحريم شيء من الحلال على الناس، مثل: بعض الصوفية يحرم على نفسه أكل اللحم، وبعضهم يحرم على نفسه ركوب الدواب، هذه نسميها بدعة حقيقية ولا تجوز شرعاً أبداً، بل هذه من الأمور المحرمة.

    وذكروا منها كذلك: تحليل شيء من المحرمات، كأن يجعل نظاماً عند أناس يحلون لهم هذا الأمر، مثل: يحل لهم الربا، أو يحل لهم الزنا، أو شرب الخمر.. أو غيره، وهذا لا شك بأنه باطل.

    ومن البدع الحقيقية: إنكار حجية السنة أو ادعاء النبوة، أو ادعاء الألوهية.. إلى غيرها.

    بالنسبة للبدعة الإضافية فهي تنقسم إلى قسمين: ذكر العلماء منها ما يقرب إلى الحقيقة ومنها ما يكاد يعد سنة محضة وإن كان يسمى بدعة إضافية.

    والبدعة الإضافية مثل: تخصيص بعض الأيام بأنواع من العبادات، مثل: يوم الخميس يخصص له شيء معين من العبادات، ولا شك بأن هذا الأمر ليس بمسلم، ومثله الآن عدم الالتزام بالسنن الرواتب، يأتي أناس يقولون: ليس هناك حاجة للالتزام بالسنن الرواتب، وقد يكون من المثال الواضح جداً على هذا الأمر، وهو لا شك أنه أصرح لهذه، قالوا: أن تلتزم شيئاً من العبادات غير السنن الرواتب التزاماً قوياً، فمثلاً: من السنة أننا نسبح بعد الصلوات، فيأتي إنسان ويقول: لا، نجعل بعد كل يوم عصر نسبح بعدد معين، فالتسبيح أصله مشروع، ولكن الهيئة والصفة ليست مشروعة، وبهذا نقول: إن مثل هذا العمل ليس صحيحاً أبداً.

    مسألة: بعض العلماء يقولون: هل تدخل البدع في الأمور العادية أم لا؟

    الجواب: الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى يقول: إن مثل هذه الأمور قد تدخل في مسائل مرتبطة بمسائل التعبد لها شائبة فيها، أما بعضها فلا تدخل فيها، ولعل من الأمثلة نسميها البدع الآن الموجودة وينبغي الوقوف فيها، مثلما تجدون من الأمور المحدثة مثل: خاتم الخطوبة الآن، فيه نوع تشبه، وأصبحت من البدع الآن على المسلمين ما كانت تعرفها، قد يقال: الأصل في التختم أنه أمر عادي، وبعضهم يقول: من السنن، لكنه لما قرن بصفة معينة وجعل له هيئة معينة وبكيفية معينة، ولها تقديس في القلب، نقول: هذه أصبحت من البدع، ولهذا فإن من اللطائف هنا: أن بعض الناس قد يلبس خاتم الخطوبة لو خلعه خلعت رقبته بسببه؛ لأنه يعتقد وتعتقد الزوجة أنه خلع الميثاق بينه وبينها، وأغلى مسألة ما كان بينهم من عقد الزوجية وغيره وغيره، نقول: هذا كلام باطل، وليس بصحيح وليس بهذا التعلق، مما يدل على أن هذا يعتبر من البدع، وينبغي أن ينكر مثل هذا الأمر، فإن هذا لا شك أنه من الأمور المحدثة.

    أقول للأحبة: عندي مسائل كثيرة في مسائل البدع ولن أتطرق لها.

    1.   

    آداب في طريق طلب العلم

    إخلاص النية في طلب العلم

    أقول للأحبة في ختام هذه الدورة وفي ختام هذا الدرس: ينبغي لنا دائماً إخلاص النية لله تعالى في الطلب، وأن يحتسب الإنسان الأجر والثواب عند الله تعالى، وأن يستشعر المسلم أنه يسير في طريق الجنة: (من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وأن يكون أمام طالب العلم دائماً أن ما حصله في هذه الدورة أو الدورات أياً كانت ليس هي العلم كله، وإنما هي جزء من العلم ومفاتيح، وأنه ينبغي لنا مواصلة الطلب، فليس عهدنا بالعلم هذه الدورة، ثم بعد ذلك ننتظر سنة أخرى علنا نشارك في دورة ثانية، وإنما نسير على الطريق، ونلتزم به، وما شعرنا بلذائذه وثماره لن ننقطع عنه، فسبحان من جعل في قلب الإنسان من اللذائذ العظيمة في قضية العلم والفهم وبحث المسائل والفرح بها، وتدريسها وتعليمها، وتعلمها وتأصيلها، بل هي تعتبر من أعظم لذائذ المسلم أن يسير في طريق العلم، وليس أعظم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين).

    قال العلماء بمفهوم العكس: أن من لم يفقه الله في الدين فإنه لم يرد الله به الخير، ومن لم يطلب العلم من الذين لا يرد الله بهم الخير، وإن كان على صلاح واستقامة، لكن الخير الكامل هو في طلب العلم والاستمرار عليه.

    الاستشارة في طلب العلم

    أقول للأحبة: ينبغي لنا دائماً في حال قراءتنا وفي حال تعلمنا أن نستشير من عنده تجربة وخبرة، فخبرات من قبلكم خير من أن يبدأ الإنسان من نفسه، وكم نسمع من الأحبة أن عنده مكتبة ضخمة لكن لا يدري ما الأولويات التي يقرأها من العلوم، ولا أولويات الكتب التي يطلع عليها، فيصبح جمَّاعة للكتب وجمَّاعة لمعارف مشتتة، لكنها ليست مؤصلة عميقة يستطيع أن يوصلها إلى غيره، ويستطيع أن يفيد نفسه ويستفيد منها، ويصبح الإنسان عاطفياً؛ سمع كلاماً عن العلم فانطلق أسبوعاً وشهراً فطلب، ثم نسي ستة أشهر وانتهى، وجد كلمة أخرى انطلق، نقول: لا، طريق العلم طريق مستمر ولا انقطاع له، ويوجب للمسلم أن يحرص عليه وأن يلتزم به.

    ثم أقول للأحبة: ينبغي أن يكون لكل واحد منا بعد انتهاء هذه الدورة درس أو درسان في الأسبوع يلتزم بهما التزاماً صادقاً قوياً، قد يكون الإنسان وأرى أنه فيه صعوبة على بعض الناس، لكني أقول: كثير من الأحبة عندهم لقاءات أسبوعية في جلسات وأنس وغير ذلك، وعنده التزام بها، لكن حلقة العلم ما أسهل على النفس أن تزهد بها، نقول: ينبغي لنا أن نواصل ونستمر.

    أهمية الجلوس في حلقات العلم

    ذكروا أدباً لطيفاً للعلماء رحمهم الله في الطلب، وأنبه عليه وأرى أنه من الآفات التي تحدث عند الطلب: بعض الأحبة ينتقل إلى طلب العلم على أيدي المشايخ الكبار، ولست أقول: لا يقرءوا عندهم، بل لست ممن يثبط عن طلب العلم ويجثو بركبتيه عند علمائنا الكبار، بعض الأحبة يقول: هذه الحلقات أرفع من مستواك، ويبقى الإنسان بعيداً، أقول: إن هؤلاء مخذلون عن طلب العلم، ولكن الأدب الذي ذكره العلماء في آداب الطلب أدباً نفيساً، قالوا: إن الإنسان إذا سافر إلى بلدٍ لطلب العلم ينبغي أن يمضي له فترة من الزمن، يتقلب في الحلقات الموجودة في البلد كلها، ثم يعرف من يطلب العلم عنده، وقصدي بهذا أن اجلس واجثُ بركبتيك عند هؤلاء العلماء الكبار شهراً وشهرين وثلاثة، ثم وازن بعد ذلك، هل أنت ممن يستفيد أم ممن يشعر بأن فائدته قليلة.

    أقول: ينبغي لك أن تبحث عن العالم وعن طالب العلم الذي تشعر بأنك تستفيد منه استفادة كبيرة، وليس هؤلاء العلماء لا تستفيد منهم، بل فيهم الخير وفيهم العلم، وما من حلقة إلا وفيها العلم والفائدة، وفيها من التأصيل العلمي، لكن بعض الناس لا يكون عنده قواعد.

    ولذلك أقول للأحبة: كم من طلاب العلم من يجثون بركبهم في حلقات لكنهم سرعان ما يفرون منها، ويصبح حالهم كشخصين:

    الشخص الأول: يحضر الحلقة للبركة، فيجلس ويبحث عن سارية ليسند ظهره إليها، ثم ما يبدأ الشيخ إلا وقد غاب في غيبوبة كاملة، وبعضهم يجلس نصفها والنصف الآخر يتقدم في روضة المسجد وربما توسد كتبه فأخذ يغط في نوم عميق، وتسأله قال: الحمد لله، نحن من طلاب الشيخ، وقد حضرنا، وأفتانا شيخنا، وقد علقنا عند شيخنا، واستفدنا منه، ولازمناه سنوات، وقد درس على السارية وعلى روضة المسجد أكثر مما تعلم من الشيخ وعلمه.

    الشخص الثاني: خرج قادحاً للعلم ولأهل العلم، وهذه سلبية كبيرة جداً، وأقول للأحبة: كم نجد من الأحبة وربما بعض طلاب العلم ينفرون من حلقات علمائنا الكبار، فيقولون: هذه الحلقات إمرار كتب، وليس فيها نفع كبير، وليست إلا قضاء للوقت، وليست مؤصلة للعلم، ولا تخرج طالب علم، ولا تصلح إلا لطلاب العلم الكبار، وخذ من الشبه التي تسمعها، ثم بعد ذلك يصبح عند الطالب قناعة داخلية أن هذه الحلقات إنما تفرج عليها وأحضر إليها من باب البركة فقط، ولذلك أقول للأحبة من الأمثلة: حلقة شيخنا العلامة يوم الخميس يحضرها أعداد كثيرة جداً، أسمي هؤلاء طلاب البركات يحضرون.. (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) لكنهم هل يؤصلون، يتابعون ويقيدون من الفوائد؟! يحضر يوماً وبقية الأيام لا يحضر، ولست أقول: لا يحضر إلى تلك الحلقة، لو حضر يوماً واحداً ففيه خير كثير.

    ولذلك أقول للأحبة: بالنسبة لشيخنا فهو عالم أمة، وما يخرج لك من كلمة هي جهد ستين أو سبعين سنة من الطلب، لا يخرج إلا زبداً ودرراً وذهباً مصفى من الأحكام وغيرها بالحكم على الأحاديث وفتاوى علمية وغيرها قد لا تجدها في الكتب مدونة، ولئن استفاد الإنسان فتوى أو اثنتين أو ثلاث خير له من الدنيا وما فيها؛ لأنه يتبصر بعلم عميق يستفاد منه، ولهذا أقول: ينبغي لنا أن نلازم الحلقات وأن نحرص عليها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأحث الأحبة من لم يستطع حضور حلقات الفجر لسماحة شيخنا فلا أقل أن يحضر الإنسان درساً بعد المغرب في ليلتين، وتقرأ فيها كتب السنة، ويستفيد الإنسان ويعلق فوائد، ويحصل له من الخير العظيم.

    أقول للأحبة: ارقَ إلى القمم ولا تنزل فإن في ذلك الخير العظيم الذي يعين الإنسان على مواصلة الطريق والاستمرار فيه، فإنه والله لا أسعد على المسلم من لذة طلب العلم، وربما لا يشعر به إلا من عاشه واستمر فيه، وسبحان الله! لم نجد من منهج استفدناه من شيخنا العلامة أمره عجيب جداً وشخصية نادرة حقيقة، وبالنسبة لم أر مثله في قضية الحرص على الطلب والاستفادة مع كبر سنه، وسبحان الله! لا يجد في نفسه حرجاً أن يستفيد من الصغير أو من الكبير في مثل هذه المسائل.

    وأذكر من الطائف أمد الله في عمره على طاعته: زرته مرة يوم الاستسقاء، وكانت الزيارة في الفجر، جلس الشيخ وإذا به طلب من كاتبه أن يقرأ عليه أحاديث البلوغ في صلاة الاستسقاء، والشيخ ليس إمام مسجد ولا خطيب ولا غيره، أحدنا لو قيل له: صلّ صلاة الاستسقاء على طول ذهب إلى كتب الفقه من أجل أن يعرف كم عدد التكبيرات وكيف تتقدم الصلاة قبل أو بعد، ولكنه يؤصل العلم، مما يدل على أن الشيخ يراجع دائماً، وأذكره منذ ثمان سنوات فأكثر ما كان في بعض الدروس يقول حفظه الله: اليوم لا تقرأ فإني لم أحضر للدرس أصلاً، عالم الأمة يحضر! كثيراً من الأحبة يفتح درساً ويقول للطلاب ما هب ودب، يكفيهم قليل من العلم ولا يحتاجون إلى تأصيل، لا، وإنما إذا كان هذا العالم يحضر للعلم، ويحرص عليه ليعرض على الناس علماً يستفاد منه، فكيف بأفراد الناس والمبتدئين في الطلب، فيه الخير والبركة أن يكون الإنسان يحضر الدروس، وهذا يدل على أن الشيخ حفظه الله وأمد الله في عمره ليس فيه قضية التزكية بأنه مفتي هذه الديار، فلا حاجة للرجوع إلى كتب أهل العلم، ولا بحث المسائل، ولا التنقيب عنها، ولا الأخذ بآراء العلماء والاستفادة منها، بل يشعر دائماً أنه في حاجة إلى فهم كلام العلماء وتأصيله وتمكينه.

    طلب العلم .. ومراجعة الدروس

    وقالوا في آداب الطلب: كان أحد العلماء رحمه الله تعالى ما تمر به سنة إلا وقد مر على أبواب الفقه كلها، ولعل عنده بعض الكتب المختصرة يقرؤها دائماً، ويؤصل فيها، بحيث تصبح دائماً أمام عينيه مسائل العلم، أحدنا لو قرأ كتاباً تسأله: -هذا الكتاب قرأه منذ عشر سنوات- رجعت إليه؟ قال: الحمد لله قرأناه وانتهى، وكأنه حصل كل العلم الموجود فيه، ولا شك بأن هذه سلبية، وسرعان ما ينسى الإنسان العلم الذي يكون عنده، بسبب عدم المذاكرة وعدم الاستفادة.

    الدعوة إلى الله من ثمار طلب العلم

    أقول للأحبة: من اللطائف كذلك التي استفدناها من حياة شيخنا أمد الله في عمره: مرة من المرات أوصلته إلى منزله بسيارتي، وكنت مشيت معه لندخل إلى داخل منزله، وكان معي أحد الأحبة فذكر للشيخ بعضاً من الكتب، وقال الشيخ حفظه الله: كم من الكتب أحببنا أن نقرأها وأن نستفيد منها، ولكن علمنا بأن فائدة العلم إيصاله للناس، فأصبح إيصال كثير من هذا العلم للناس أشغلنا عن كثير من القراءة والتحصيل، وليس معنى ذلك أنه منقطع، لكن قصدي من ذلك أن نستفيد أن ثمرة العلم الذي استفدناه في هذه الدورات أن نوصله إلى غيرنا، نوصله إليهم بتعليمهم، وتوجيههم وتبصيرهم، فليس أحدنا أوعية للعلم دون الإيصال، بل نحن نتفاعل مع العلم، نتعلمه ثم نوصله إلى غيرنا.

    ولذلك بوب البخاري باب: العلم قبل العمل، وجاء بالعلم ثم العمل ثم الدعوة إليه، ثم الصبر على ذلك وإيصاله إلى الناس.

    ختاماً: نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يختم لنا بخاتمة خير.

    ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755805456