إسلام ويب

رسالة إلى تاجرللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التجارة نعمة أنعم الله بها على عباده، يصون الإنسان بها نفسه عن مذلة السؤال، ويكفي بها نفسه وأهله؛ لكن الله جعل للتجارة ضوابط وشروطاً تضبط تداول الأموال بين الناس، فمنع منها ما فيه ضرر على الفرد أو المجتمع، فعلى التاجر -إذا أراد البركة في تجارته- أن يلتزم بضوابط الشرع في البيع، وأن يشكر نعمة الله عليه، فيخرج زكاة ماله، ويتصدق على الفقراء والمساكين، ويصل رحمه؛ فهذه أمور تزيد من بركة التجارة، وتحقق رضوان الله على العبد.

    1.   

    أهمية التجارة في الإسلام

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين والمؤمنات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بالآيات البينات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    الحمد لله الذي جمعنا في هذه الساعة الطيبة المباركة من هذا الشهر المبارك الكريم، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأسأله بمنه وكرمه كما أكرمنا بهذا الاجتماع في هذه الدار، أن يجمعنا في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

    بادئ ذي بدء أشكر من كان له الفضل -بعد الله عز وجل- في هذا اللقاء، وشكر الله لكم مسعاكم، وقرن بطيب الجنة ممشاكم؛ حيث أقبلتم على هذه الروضة من رياض العلم، التي نتدارس فيها ما ينبغي على المسلم في تجارته مع الله عز وجل وتجارته مع الناس.

    أيها الأحبة في الله: التجارة نعمة من نعم الله عز وجل، وهي مهنة شريفة كريمة، ولو لم يكن في شرفها إلا أن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم عمل بها يوماً من الأيام، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه تاجر في مال خديجة رضي الله عنها وأرضاها.

    هذه التجارة تولاها الأخيار على مر القرون والأعصار من صحب النبي الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم، تولاها أبو بكر صديق هذه الأمة، وكان تاجراً ونعم التاجر، وكذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كـعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عن الجميع.

    وكان عبد الرحمن له في التجارة ثلاثة مواقف عظيمة جليلة:

    أولها: أنه قدم إلى المدينة -وهو من أهل الهجرتين رضي الله عنه وأرضاه- فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعد : يا عبد الرحمن ! هذا مالي، أشاطرك هذا المال نصفه لك ونصفه لي، ولي زوجتان انظر إلى أجملهما وأحسنهما أطلقها وتنكحها من بعدي . فقال عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه : بارك الله لك في مالك، دلني على السوق.

    كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم همة عالية، ونفوس طاهرة زاكية، فاستغنى عبد الرحمن بالله ففتح الله له أبواب الغنى، أقبل على السوق فتعب ونصب، وكان تاجراً أميناً صادقاً وفياً براً في تجارته ومعاملته؛ ففتح الله له أبواب الرحمة؛ فكان له من الخير ما كان.

    الموقف الثاني الذي كان له: أنه كان ممن يجهز جيش النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات، فصدق فيه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح) .

    أما الموقف الثالث: فهو أن إحدى أمهات المؤمنين خشعت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت وفاته صلوات الله وسلامه عليه؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (يحفظكن من بعدي الصادقون) فكان عبد الرحمن رضي الله عنه وفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أزواجه من بعده، فكان يتحمل نفقاتهن ويكثر الإحسان إليهن، فيا لها من تجارة عادت عليه بخيري الدنيا والآخرة!

    التجارة نعمة من الله وشرف للإنسان، وأي شرف أن يأكل من كد يديه وعرق جبينه! الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، حينما سُئل عن أطيب الكسب؟ فقال: (عمل الرجل بيده) .

    الإسلام دين عمل، ودين جد واجتهاد، ودين سعي وتحصيل، وليس بدين خمول ولا كسل، فشحذ الهمم إلى هذا العمل المبارك، يصون الإنسان به وجهه عن ذل السؤال وشدة الحال، ولذلك كان من أعظم الأمور بلية على العبد أن يتعلق أو تتعلق حوائجه بالناس.

    ذكروا عن إبراهيم بن أدهم -عابد من العباد، ورجل من الأخيار الصالحين من سلف هذه الأمة رحمة الله عليهم أجمعين- أنه كان في سفينة فتحركت الرياح وكادت السفينة أن تغرق، فسلم الله ولطف، فلما نجوا من الكربة قال قائلهم: يا إبراهيم ! ألم تر إلى هذه الشدة؟ قال: لا والله، إنما الشدة الحاجة إلى الناس.

    الشدة حاجة الإنسان إلى الناس فإنه يريق بها ماء وجهه، ويذهب بها كرامته، وينال بها شدة الحياة وقسوتها، فإذا فتح الله على العبد أبواب رحمته، ويسر له من عظيم منته ونعمته، فوجد كسباً طيباً يريق به عرقه لكي يحصل به طيب رزقه؛ فهي نعمة من الله عظيمة.

    1.   

    البيوع نوعان مباحة ومحرمة

    وقد بين الله عز وجل أن هذه التجارة تنقسم إلى قسمين: تجارة مباحة، وتجارة محرمة.

    أما التجارة المباحة: فقد أشار الله عز وجل إليها بقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275].

    وأما التجارة المحرمة: فقد أشار إليها باختصار في قوله: وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].

    قال بعض العلماء: إن الذي أحل الله من البيع أكثر من الذي حرم.

    ولذلك لما أراد أن يبين سبحانه الحلال قال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] ما فرق بين بيع وآخر، ولم يقل: أحل الله بيع البيوت ولا بيع الدواب ولا بيع الأطعمة، ولا الأكسية ولا الأغذية، ولكن قال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]؛ حتى يعلم المسلم أن الأصل في البيوع أنها حلال ومباحة، حتى يدل الدليل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على حرمتها.

    فعمم الله -جل وعلا- في الحلال، لكن لما أراد أن يحرم قال: وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، قال بعض العلماء: في هذا دليل على سماحة الإسلام ورحمة الله بالعباد؛ حيث جعل الحلال أكثر من الحرام.

    والذي حرمه الله إما لضرر على الإنسان أو ضرر على الناس، أو ضرر على الاثنين، أو لمقصد شرعي يعلمه الله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

    1.   

    تحريم البيوع يرجع إلى أربع قواعد أساسية

    لقد أجمع العلماء على أن التجارة المحرمة أصولها تعود إلى أربعة أمور:

    أولها: أن يكون الشيء محرماً بذاته.

    وثانيها: أن يكون محرماً لوجود الربا.

    وثالثها: أن يكون محرماً من أجل الغرر.

    ورابعها: أن يتضمن شروطاً فيها الربا أو الغرر أو هما معاً.

    قواعد فرعية تتعلق بتحريم البيع

    فهذه أربعة قواعد للتجارة المحرمة، وقد يرد التحريم لأمر يتعلق بالوقت أو بالزمان، أو بصفة تتعلق بالبائع أو بالمشتري، فيحرم الله من أجل الوقت كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] فحرم الله البيع في هذا الوقت؛ لأن الوقت مستحق لما هو أهم وأجل، وإذا تعارضت تجارة الدنيا وتجارة الآخرة فتجارة الآخرة مقدمة؛ لأن الله خلق الخلق من أجل هذه التجارة وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

    فإذا تعارضت تجارة الدنيا وتجارة الآخرة؛ قدمت تجارة الآخرة على تجارة الدنيا؛ فحرم البيع؛ لكن لا لذاته وإنما لعارض يعرض على ذلك البيع، وقد يحرم الله التجارة بسبب قطع أواصر الأخوة والمحبة، وتشتيت المجتمع وتفريقه، وإيجاد الشحناء والبغضاء.

    ومن هنا نعلم ترابط الشرع، أنه يربط بين العبادة والمعاملة، فكما أن المسلم يكون في مسجده عابداً لربه كذلك في دكانه وتجارته.

    أما المثال على تحريم المنع بالتجارة؛ بسبب كونها تفسد أواصر الأخوة وتقطعها؛ وتكون سبباً في إيجاد الضرر: فتحريم الله لبيع النجش.

    وبيع النجش: أن يزيد الإنسان في السلعة وهو لا يريد شراءها؛ فإنه إذا فعل ذلك خدع أخاه وخذله وآذاه، وجعل تجارته وسيلة للإغرار؛ فخرجت عن المقصود الأسمى والأسنى وهو نفع الناس؛ صارت التجارة حرباً وأذية وبلاء فقال الشرع: لا. لماذا؟ لأن هذا النجش يفضي إلى الأذية بالغير، والإسلام يريد من المسلم أن يكون على محبة وصفاء ونقاء لإخوانه المسلمين؛ فحرم الله النجش.

    حرم الله بيع المسلم على بيع أخيه؛ حتى لا يقطع أواصر المحبة: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) لأنه إذا قال المسلم: هي بعشرة. قال الآخر: عندي سلعة أجود منها أو مثلها بتسعة أو بثمانية. فكان في ذلك حنقاً للبائع، كيف يدخل بينه وبين من يريد منه تجارته أو بيعه، فحرم الله بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأن التجارة أصبحت قاطعة لأواصر الأخوة؛ ممزقة لمعاني المحبة.

    فقد يحرم الله عز وجل البيوع والمعاملات لأمر خارج، أما القواعد الأربع التي ذكرناها فهي لذات البيع ولأصل البيع، فإذا وجدت في البيع هذه الأربعة كانت محرمة، والقواعد الأربع هي:

    - تحريم عين المبيع.

    - الربا.

    - الغرر.

    - الشروط المتضمنة للربا أو للغرر أو لهما معاً.

    تحريم البيع لحرمة عين المبيع

    أما تحريم عين المبيع فإن الله له حكمه سبحانه وتعالى، يقول هذا حلال وهذا حرام، يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41]، ملك العباد وما ملكوا، فقد يحرم الشيء لذاته، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا النوع من البيوع المحرمة في خطبته حينما فتح مكة -صلوات الله وسلامه عليه- في يوم أعز الله جنده، ونصر فيه عبده وصدق فيه وعده -سبحانه وتعالى- فدخل عليه الصلاة والسلام إلى مكة متواضعاً متخشعاً متذللاً لربه سبحانه وتعالى.

    ولما كان اليوم الثاني -وكان اليوم الأول الناس هم في الحر، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وفتحها- قام خطيباً صلوات الله وسلامه عليه، وعليه عمامته السوداء ممسكاً بعضادتي الباب، فقال في خطبته: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام) .

    أربعة أمور ذكرها: الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام.

    هذا النوع من التحريم في الشريعة راجع إلى ذات الشيء المبيع، بمعنى أن المبيع لا يصلح أن تدفع الثمن بمقابله.

    الميتة: أكلها ضرر وأذية، ولا يمكن أن ينتفع بأجزائها، وهي نجسة؛ ولذلك حرم الله بيعها، فلا تباع بذاتها ولا بأعضائها وأجزائها، إلا ما استثنى الشرع منها وهو جلد الميتة إذا دبغ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما إهاب دبغ فقط طهر) .

    من أمثلة هذا النوع الموجود الآن ويخفى على الكثير: تحريم بعض الدواب الميتة، قد يُؤخذ مثلاً ثعبان ويحنط، وهو ميت فيباع، إذا نظرت إلى هذا البيع فإنه يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم بيع الميتة)، إذا تأملت ونظرت وتدبرت وتفكرت هذا الثعبان إذا حنط ودُفعت فيه المبالغ الباهظة والكثيرة، التي تسد الرمق، ويكون فيها الخير لو أنفقها الإنسان في مجالات أخرى، أي مصلحة في دفع هذا المال الكثير لحيوان يحنط ويجسم؟!

    فإذاً تحريم الشرع فيه الحكمة البالغة لمثل هذا، لكن لو أن الحيوان ذُكي وحنط فلا حرج؛ لأنه أصبح طاهراً، وفي هذه الحالة يزول معنى النجاسة الموجودة فيه، وإن كان بعض العلماء يعده ممنوعاً من جهة المصلحة؛ لعدم وجود المصلحة في بقائه.

    إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر؛ فالله حرم الخمر لكونه يفسد العقول ومقاصد الشريعة والأديان السماوية حفظت على الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم، فأي شيء يمس هذه الأمور الخمسة فإنه يعتبر في هذه الحالة محرماً، فالخمر تمس العقل الذي يكون الإنسان مرتقياً به عن مرتبة البهيمة؛ فحرم الله بيعها.

    ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه فتح الطائف، وكان له صديق في الجاهلية، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم قد أنعم الله عليه بفتح الطائف فجاءه بهدية، وكانت الهدية عبارة عن قربتين من خمر، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهديته -وكان صلى الله عليه وسلم حكيماً حليماً رحيماً، لا يعنف ولا يقهر الإنسان في وجهه، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه!- نظر إليه وقال: أما علمت أن الله حرم الخمر -يعني تعطيني هذه من باب الهدية، أما عندك علم أنها حرام-؟! قال: لا. فقام رجل -وكان جالساً- فسارَّ صاحب الهدية -بمعنى كلمه سراً في أذنه-، فقال صلى الله عليه وسلم: بم ساررته -ما الذي قلت؟- قال: أمرته أن يبيعها -ما دام النبي صلى الله عليه وسلم لا يريدها، وهي محرمة في الشرع- فقال صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها -وفي رواية: بيعها-) .

    تبيعها؟! فمن الذي يأخذها؟ ومن الذي يستفيد منها؟ فحرم الله مثل هذا البيع لهذا.

    تحريم البيع لوجود الغرر والخداع

    هناك نوع ثالث من المحرمات في التجارة، فمن أسباب تحريم التجارة: الغرر.

    الغرر باختصار -والكلام فيه يطول-: هو المخادعة، يقال: غره إذا خدعه، بمعنى أن البيع يتضمن شيئاً من المخاتلة التي يخدع فيها المشتري، مثلاً: يعطيه شيئاً يحتمل أن يقع ويحتمل ألا يقع، مثل: (سحب الأرقام)، يعطيه أرقاماً معينة، يقول له: اسحب منها رقماً، فإن كان رخيصاً فهو لك، وإن كان غالياً فهو لك. لكن الإسلام يقول: هذا البيع محرم؛ لأن الإنسان قد يدفع ماله، ويظن أنه يحصل على الغالي، فإذا به قد حصل على الرخيص؛ فيندم ويتألم ويغبن في حقه، ويكون ذريعة لأكل الأموال بالباطل، والشريعة تريد من المشتري إذا جاء يشتري ومن البائع إذا جاء يبيع أن كلاً منهما يكون على بينة وعلم، لا تريد الغش ولا تريد الخداع؛ لأن هذا يفسد القلوب.

    ولذلك قال: إذا كان المبيع مجهولاً أو كان الثمن مجهولاً لا يصح البيع، مثلاً: قال له: بعني هذه السيارة. قال: بعتك. قال: بكم؟ قال: نتفق فيما بعد، فهذا لا يجوز، لابد أن يحدد بكم يكون البيع؛ لأنه ربما أخذتها منك على أننا نتفق، وقيمتها في ظني عشرة، فتقول: هي باثني عشر أو ثلاثة عشر أو أربعة عشر؛ فتتقطع أواصر الأخوة؛ وتحصل النزاعات والخلافات بين المتبايعين.

    إذن: الشريعة لا تتدخل إلا إذا وجد الضرر أو وجد موجب الفساد.

    وبيوع الغرر كثيرة جداً، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع الحصاة، فما معنى بيع الملابسة والمنابذة والحصاة؟

    فمن صور بيع الملامسة: في الجاهلية لم يكن هناك أماكن، ورفوف لعرض البضائع وإنما كانوا يفرشون بضاعتهم على الأرض، فيأتي المشتري والبائع يعرض -مثلاً- ثوباً، ويريد المشتري أن يقلب الثوب، فيقول له البائع: لا تقلب الثوب، أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من البيع؛ لأنه قد يكون العيب موجوداً داخل المبيع؛ فإذاً لا يريد الشرع أن يدفع المشتري شيئاً دون أن يكون على بينة من أمره.

    فنخرج من هذا كله: إلى أن الشريعة حرمت البيع إذا كان هناك ضرر، أما إذا لم يكن هناك ضرر، ولم يكن هناك ما يوجب تحريم البيع؛ فالأصل حل البيع وجوازه.

    1.   

    نعم المال الصالح عند الرجل الصالح

    التجارة نعمة من الله، وإذا صارت في طريقها المحمود فهي خير عاجل، خير من الله لعبده، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم التجارة في كلمتين هما أساس الخير حيث قال: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح) أما قوله: (نعم المال الصالح) أي: نعم ما يكون من مال إذا صلح ذلك المال من الخبث وهو الحرام، ولن نستطيع أن نعرف صالح الأموال من فاسدها إلا بالرجوع إلى العلماء، والاهتداء بهدي كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    لذلك: أوصي إخواني التجار، بل نتواصى جميعاً أن نقف عند حدود الله، فإذا قال العالم: لا يجوز؛ فقل: سمعنا وأطعنا. وإذا قال: يجوز؛ فقل: الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث.

    فالمال الصالح يتوقف على حكم من الله بصلاحه، وقد بينا المحرمات.

    والجملة الثانية في قوله: (عند الرجل الصالح)، والرجل الصالح المراد به: من أصلح الله سريرته وأصلح الله علانيته، فإن الرجل إذا باع بيعه واتقى الله في بيعه، فهي شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بصلاحه، وهذا خير للتاجر الصالح: أن يظفر بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم له بكونه صالحاً، (عند الرجل الصالح) فالرجل الصالح هو الذي يسلم من الدخل في قلبه، فإذا جاء إلى دكانه أو إلى بقالته أو إلى متجره أو إلى محل عمله دخل وقلبه نقياً للمسلمين، يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فإن بلغ ذلك فقد نصح لله ورسوله ولعباده المؤمنين.

    أن يدخل بنية صافية، وقلب نقي زاكٍ، يحب لإخوانه ما يحب لنفسه.

    فهذا جرير اشترى فرساً، وأعجبه هذا الفرس، فكانت قيمة الفرس بالمال، فجاء إلى بائع الفرس وزاده في المال، ثم ذهب وركب الفرس فأعجبه، فرجع ثانية وزاده في المال، ثم ركب مرة ثالثة فأعجبه فجاء إلى الرجل وزاده، فنظر إليه الرجل -كأنه يظن أن جريراً به شيء في عقله- فقال جرير رضي الله عنه: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصيحة لكل مسلم) فلن أغشك، رأيت أن فرسك هذا يستحق أكثر فلذلك زدتك.

    فهذه الوصية الأولى: أن يكون الإنسان صالحاً في قلبه وباذلاً النصيحة للمسلمين.

    الوصية الثانية: الصدق في وصف المبيع، في الثمن الذي تدفعه، عدم المبالغة، عدم الكذب، عدم الحلف الكاذب الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يذهب البركة، قال صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) .

    فكل بيع تبتاع أو تبيعه للغير فأنت بين أمرين: بين قوله عليه الصلاة والسلام (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما -وقوله-: وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) .

    فنسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن صدق وبر، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لمن وفق لهذه السماحة، فقال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) .

    1.   

    الرضا بالقليل من الربح دليل القبول والبركة

    قال بعض العلماء: السماحة في البيع أن ترضى بالقليل من الربح، لا تبالغ، ولذلك ذكر عن عبد الرحمن بن عوف أنه قيل له: كيف أصبحت غنياً وقد قدمت المدينة فقيراً؟ فذكر كلمة يقول عنها بعض العلماء: هي كنز في التجارة، فقال رضي الله عنه: (كنت إذا أعطيت أقل الربح رضيته؛ فبارك الله لي). يقول بعض العلماء: هذا كنز التجارة. وتوضيح لذلك قالوا: لأنه إذا رضي بأقل الربح رغب الناس في بيعه؛ فيقبلون على بضاعته؛ لأن ربحه قليل، فيشتهر بين من يشتري منه.

    كذلك أيضاً: إذا اشترى الناس منه نفدت منه السلع، فصار يشتري من غيره، فيحبه من يأخذ منه لكثرة أخذه ممن يبتاع إليه، فأصبح محبوباً بين من يبيع له وبين من يشتري منه، فلذلك يقولون: هي كنز من كنوز التجارة.

    الأمر الثاني قالوا: إنه إذا رضي بقليل الربح وقعت البركة، ولذلك الإسلام لا يحرج عليك أن تبيع الذي اشتريته بعشرة بألف، فلا يحرج عليك، وأما ما يقوله بعض المتأخرين -هداهم الله وأصلحهم-: من أنه لا يجوز المبالغة في الربح، ليس هناك دليل على تحديد نسبة معينة في الأرباح، هذا في أصل الشرع؛ لكن أجاز العلماء لولي الأمر أن يتدخل في التسعير عند وجود المصلحة، إذا وجدت المصلحة فله أن يسعر ولا حرج، لكن نحن نقول: كون الشخص يشتري بعشرة ويبيع بمائة، فهذا مباح: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] ما دام أن نفسك طابت أن تشتري بمائة فلا حرج.

    وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـعروة البارقي -أحد الصحابة رضي الله عنه- يوماً من الأيام: (خذ ديناراً واشتر لنا من هذا الجلب شاة. فأخذ عروة الدينار، فذهب إلى الجلب فوجد شاة بنصف دينار، فاشترى شاتين بدينار، ثم باع إحدى الشاتين بدينار، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، فقال: يا رسول الله! هذه شاتكم وهذا ديناركم. فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم بارك له في صفقة يمينه) فكان لو اشترى تراباً ربح فيه رضي الله عنه، وهذه من معجزاته عليه الصلاة والسلام.

    الشاهد أنه اشترى بنصف دينار وباعه بدينار، وهذا يدل على جواز ربح المائة بالمائة. لكن يقول العلماء: السماحة والبركة والخير في عدم التضييق على الناس، فالله عز وجل قد ينعم على الإنسان ويأخذ الأرباح الباهظة، لكن لا يأمن أن يسلط الله على ماله بلاءً، ولا يأمن أن يسلط الله عز وجل على ماله نقمة، ولكن إذا اتقى الله عز وجل ورضي بقليل الربح؛ فتح الله له أبواب البركة؛ فأصبح ربح الواحد كالعشرة. فليس المهم أن يأخذ الإنسان المائة ولا الألف ولا الألفين، ولكن المهم البركة، والبركة تكون في الأموال، وتكون في الأولاد، وتكون في الأرزاق والأقوات، ولذلك قالوا: ربما أن الإنسان يكون له ولد واحد يضع الله فيه البركة عن عشرة وعن عشرين، وربما يكون له عشرة من الولد ليس فيهم بركة نسأل الله السلامة، حتى يتمنى أنه ما ولد له ولد -نسأل الله السلامة والعافية-.

    فالمهم البركة، فقد تأخذ العشرة ويضع الله فيها بركة الألف، وقد تأخذ العشرة فيصلح بها دين العبد ودنياه وأخراه، يتصدق منها، ويصل الرحم، ويغنم منها في أمور بيعه وتجارته.

    فالمقصود: أن هذه من دعائم الخير: الصدق في المعاملة، النقاء في القلوب، الرضا بالقليل كما أثر عن هذا الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه.

    1.   

    الحذر من المشتبهات في البيع

    كذلك هناك أمور ينبغي أن ينبه إليها، وهي: أن البيع منه الحلال ومنه الحرام ومنه المشتبه، وهو الذي يقع الإنسان به في الشبهة ولا يدري أحلال هو أو حرام؟! فإذا وقفت أمام الشبهات فاحتط لدينك، واستبرئ لدينك؛ يسلم لك دينك؛ وتسلم لك آخرتك،؛ ويعوضك الله خيراً مما فقدت، ولذلك قالوا في الحكمة -وتروى مرفوعة، ولكن الصحيح عدم ثبوتها-: (ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه) .

    فقد تقف أمام بيع أو تجارة أو معاملة، ولكن فيها شبهة، والنفس غير مطمئنة، وتسأل العلماء فتجد هذا يحلل وهذا يحرم؛ فتقع في لبس من أمرك؛ فحينئذ الأتقى لربك، والأنقى لصدرك، والأعظم لأجرك أن تدعها لله، فإن تركت باباً فتح الله عليك أبواباً، وإن تورعت عن شيء فتح الله لك غيره، فما عامل أحد الله عز وجل فخاب.

    1.   

    شكر النعمة وأنواعها

    الوصية الأخيرة التي أختم بها هذا المجلس المبارك: أن الله عز وجل وعد المحسن على الإحسان إحساناً، فمن نعم الله على التاجر أن يفتح له أبواب رحمته، فيشرح صدره بشكر نعمة الله عز وجل باللسان وبالجنان وبالجوارح والأركان.

    فإياك أن تدخل متجرك أو تخرج من محلك إلا وأنت تثني على الله حق ثنائه! وقل: يا رب! كنت وضيعاً فرفعتني، وكنت فقيراً فأغنيتني، وكنت ضائعاً فآويتني، فلك الحمد الذي أنت أهله، فإن الله تأذن بالمزيد لمن شكر: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].

    وأوحى الله إلى نبيه نوح أن اشكرني فقال: يا رب! كيف أشكرك وشكرك نعمة تستحق الشكر؟ قال: أما وقد علمت أنك لن تستطيع شكري فقد شكرتني.

    ما دمت تعتقد أنك لن تصل إلى شكر النعم على الحقيقة فقد شكرتني، هذا شكر القلوب: أن تعتقد اعتقاداً جازماً أنه ليس بالذكاء ولا بالشطارة ولا بالفهم، ولكن بفضل الله ورحمته، ما فتح الله من رحمة لا يستطيع أحد أن يغلقها، وما قفل من أبواب لا يستطيع أحد أن يفتحها سبحانه لا إله إلا هو!

    النوع الأول: شكر النعمة بالقلب

    فأول شيء: شكر نعم الله من جهة الجنان، أن تعتقد فضل الله عليك، ولذلك من اعتقد فضل الذكاء وفضل الفهم والشهرة أن لها أساساً في ربحه وتجارته؛ لا يأمن من مكر الله به، ولذلك انظر إلى قارون قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [القصص:78] فلما قال ذلك، خسف الله به وبداره الأرض، فهو يتزلزل فيها إلى يوم القيامة.

    فاشكر نعمة الله عز وجل عليك، اعلم أنك الفقير الذي لا غنى لك عن الله، وأنك الغني بالله وحده لا بالذكاء ولا بالفهم.

    النوع الثاني: شكر النعمة باللسان

    الأمر الثاني: شكر اللسان، وهو التحدث بنعمة الله، فاذكر ما كنت فيه وما كنت عليه، واجمع أبناءك، ولينظر الله إليك يوماً من الأيام وأنت مع أهلك وأولادك تقول لهم: يا أبنائي! كنت فقيراً فأغناني ربي، وكنت ضائعاً فآواني ربي، وكنت جائعاً فأطعمني ربي، وعارياً فكساني ربي، فله الحمد الذي هو أهله. فطوبى لك ونعمت عينك إذا نظر الله لك يوماً وأنت جالس مع ولدك تتحدث بنعمة الله عليك! هذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان العقلاء والحكماء وكبار السن دائماً يجلسون مع أبنائهم، يذكرون ما كانوا فيه من شدة وبلاء؛ حتى يعرف الأبناء ويعرف الصغار ما كان فيه الكبار؛ فيدركوا فضل الله عز وجل عليهم.

    النوع الثالث: شكر النعمة بالجوارح

    النوع الثالث من الشكر: شكر الجوارح والأركان، اقتحام العقبة بفك الرقبة، وإطعام ذي المسغبة، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، الإحسان إلى الناس؛ فإن العبد إذا أحسن، أحسن الله إليه، فإذا نظر الله إليك فقد شكرت نعمته وشكرت منته، فأطعمت الجائع وكسوت العاري.

    1.   

    الصدقات الخفية أكثر ثواباً وأعظم أجراً

    اجعل بينك وبين الله صدقات، واجعل هذه الصدقات خفية؛ فإن الله يحب العمل الخفي، ولذلك ذكروا عن زين العابدين -سيد من سادات التابعين وعلمائهم المجتهدين رحمة الله عليه- أنه كان إذا جن عليه الليل حمل على ظهره الطعام إلى بيوت الأرامل والأيتام رحمة الله عليه، وهو إمام في العلم والورع والزهد والصلاح رحمة الله عليه، حتى إنهم لما أرادوا أن يغسلوه ويكفنوه خلعوا ثيابه من أجل أن يغسل، فوجدوا ظهره متشحطاً من أثر الدقيق الذي كان يحمله على ظهره رحمة الله عليه.

    فكان يحسن ولكن كان في الخفاء، لم يحسن أمام الناس، ولم يحسن ليقال: إنه كريم. لا، فإن العبد إذا أحسن أمام الناس على رياء منه وسمعة؛ سمع الله به يوم القيامة، فيأتي العبد بحسناته وأجوره بين يدي الله فيسأله الله: ماذا أردت عبدي؟ فإذاً لابد أن تكون للإنسان صدقات خفية.

    نعم تستطيع أن تربح الألف والعشرة الآلاف والعشرين والثلاثين من أي باب خير كان، ولكن الأكمل والأجمل والأعظم أجراً أن تخطو في ظلمات الليل بثيابك، وتغبر قدمك في طاعة الله؛ فإنها خطوات عزيزة عند الله جل جلاله، وتقرع أبواب الأيتام والأرامل؛ حتى تصيب صالح دعائهم، فلعلك في لحظة من اللحظات تطرق فيها باباً تكون أبواب السماء مفتوحة، فيدعى لك بالخير، ويكون لك به حسن العاقبة في دينك ودنياك وآخرتك؛ فإن الله لا يضيع دعوات الأيتام والأرامل.

    وكم من محسن كريم عاش الأيتام والأرامل على يديه! ويا لها من نعمة عظيمة إذا مات الإنسان فافتقدت الأرامل أثره! ولذلك لما توفي علي زين العابدين ، فقده ثلاثون -وفي رواية ستون- من بيوت الضعفة ممن يطرق عليهم في ظلمات الليل أبوابهم، فعرفوا أنه علي زين العابدين رحمة الله عليه.

    اجعل بينك وبين الله صدقات خفية، أما الظاهر فجزاك الله عنه خيراً: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ [البقرة:271] (خير): بمعنى أخير، أي: أعظم أجراً وأكثر ثواباً لكم، لأن هذا ينمي عن حب الله عز وجل وإرادة وجه الله: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ [الإنسان:9-11] حتى إن القرآن لم يسكت، بل ذكر أمنيتهم؛ فقال: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:10] وما سكت الله عز وجل عن هذا فقال: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:11].

    سروا الأيتام؛ فسرهم الله عز وجل يوم القيامة، سرهم الله يوم المساءة، وضاعف لهم من الخير والإحسان لما كان منهم لعباده.

    واعلم رحمك الله! أن الأيتام والأرامل والضعفاء يزعجون ويقلقون، ولربما تضيق عليك الأرض بسبب سؤالهم، فمن من الأمور التي توسع عليك، شعورك أن الله عز وجل يرحمك برحمته، وأن أي شيء تقدمه ولو كان قليلاً أنه عند الله كثير.

    وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، سبحان الله! ما قال: اتقوا النار بركعة ولا بسجدة، وإن كان الركوع والسجود يحفظ بإذن الله من النار، ولذلك لا تمس النار مواضع السجود من بني آدم، وهذه من صفات المؤمنين، لكن لما أراد أن يذكر الفضل قال عليه الصلاة والسلام في حديث عدي في الصحيحين (ما من عبد منكم إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم -يعني من الصالحات- وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم -يعني من السيئات- وينظر تلقاء وجه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) يعني نصف تمرة يمكن يحجب الله عز وجل العبد من النار بها، نصف تمرة.

    ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة طرقت على عائشة رضي الله عنها وكانت معها ابنتان، فاستطعمتها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل بنت تمرة، وأخذت تمرة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى البنتين، فأخذت التمرة وأعطتها لها. فعجبت عائشة رضي الله عنها من رحمة هذه الأم! فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فذكرت له ما صنعت. قال: أو تعجبين مما صنعت؟! إن الله قد حرمها على النار بتمرتها تلك) .

    فالإحسان لا يذهب عند الله عز وجل، ولذلك

    من جاد ساد وأحيا العالمون له بديع حمد بمدح الفعل متصل

    كم من أناس ماتوا وهم أحياء في الناس! أحياء بأخبارهم الحميدة ومآثرهم المجيدة، وكم من أناس فرجت بهم كربات، فأصبح المكروبون كلما ذكروهم ترحموا عليهم، وهذا هو الذي يبقى، وهذا الذي يراه الإنسان أمام عينيه شكر نعمة الله بالإحسان، وتفقد ضعفة المسلمين.

    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا وإياكم من أهل البر والتقوى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    حقيقة الاحتكار وحكمه وحالاته

    السؤال: ما حكم احتكار البضائع؟

    الجواب: احتكار البضائع ورد فيه الحديث الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) وورد النهي في أحاديث أخرى منها الحسن ومنها الضعيف، حتى ورد الوعيد الشديد على الاحتكار، لكن العلماء -رحمة الله عليهم- فصَّلُوا:

    أولاً: الاحتكار -كما هو معلوم- أن يمسك السلعة ولا ينزلها للبيع في السوق وينتظر غلاء الأسعار.

    هذا الاحتكار له حالات:

    الحالة الأولى: أن يمتنع من بيعها بسبب عدم وجود رأس المال أو الربح المعقول فيها، مثال ذلك: اشترى طعاماً بمائة ألف، فالمائة الألف هذه قيمة رأس المال في الطعام، وكانت تكلفة جلب هذا الطعام عشرة آلاف، فأصبح رأس المال وتكلفة جلب الطعام مائة وعشرة آلاف، فجاء يقدر الوضع الموجود الآن -قبل شهر رمضان فرضاً- قال: لو بعت فإنني سأحصل على مائة أو على تسعين أو على مائة وخمسة -مثلاً- إذن فيه خسارة، قال العلماء: يجوز الاحتكار في مثل هذا؛ لأنه يتوصل إلى حقه، وليس قصده الإضرار، فلذلك قالوا: نيته ليست مخالفة للشرع، لا يقصد الأذية، والذي يطلبه حقاً من حقوقه؛ فجاز الاحتكار من أجله.

    الحالة الثانية : أن يجد الربح المعقول، ويمتنع من إخراج السلعة لربح أكثر، أو ينتظر ضيق السوق حتى يتحكم في قيمته، فهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يحتكر إلا خاطئ) .

    فإذا كان يريد غلاء السوق، أو يريد أن يحتكر السوق عنده حتى يعرفه الزبائن، ولا ينطلقون إلى غيره؛ صحيح أنه يبيع ويأخذ قيمة الشيء وينال المال، ولكن نيته آثمة، وإنما الأعمال بالنيات.

    فلذلك هذا ينطبق على هذا الحكم، ولا يجوز الاحتكار في مثل هذه الصورة.

    عدم اختصاص الاحتكار بالأرزاق على القول الراجح

    السؤال: هل الاحتكار في جميع الأموال أم يقتصر على الطعام؟

    الجواب: هذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، بعض العلماء يقول: الاحتكار خاص بالأرزاق، ومنهم من يرى العموم، والذين يرون العموم يقولون: لعموم النص: (لا يحتكر إلا خاطئ) حيث لم يفرق.

    والحقيقة: مذهب العموم قوي من ظاهر الحديث والرواية، لكن تخصيص العلماء كان من جهة الإضرار، لأن المعنى الموجود في النص هو الإضرار بالناس.

    ولو احتاط الإنسان أفضل، أعني خروجه من الخلاف أفضل.

    حكم زكاة العقارات ومذاهب العلماء فيها

    السؤال: نود توضيح مقدار الزكاة في العقارات، علماً بأن الإنسان يشتري أرضاً وقد يبيعها أو يبني عليها مستقبلاً.

    الجواب: إن اشترى أرضاً فلا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: إما أن يشتريها بنية البناء، وتظل عنده سنوات بنية أنه إذا يسر الله عليه بنى هذه الأرض، فهذه الأرض ليس فيها زكاة بإجماع العلماء؛ لأنها ليست بعرض للتجارة، وإنما هي قنية، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه زكاة)، هذا إذا كان نيته أن تكون عنده لا للبيع.

    الحالة الثانية: أن ينوي بيعها، يعرضها في السوق أو ينتظر غلاء السوق ويبيعها، فهذه الحالة فيها الزكاة، وللعلماء قولان:

    قال بعض العلماء: إذا عرضت بيتاً أو أرضاً أو مزرعة للبيع فتجب الزكاة في كل حول. كل سنة تجب عليك، ويبتدئ الحول من نيتك للبيع؛ بشرط أن تمر عليك السنة كاملة وأنت تنوي البيع، فلو في نصف السنة حولت النية للبناء، أو حولتها هبة للغير، أو حولتها للاستثمار -كأن تبنيها- من أجل أن تكون مستودعات، أو تكون مثلاً دكاكين- قالوا: فلا تجب الزكاة، أي أنه لابد من سنة كاملة تعرض. هذا المذهب الأول.

    والمذهب الثاني: أنه تجب عليك الزكاة إذا حصل البيع حقيقة، وهذا مذهب طائفة من السلف منهم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وسعيد بن المسيب ، وخارجة بن زيد وغيرهم من العلماء، وهو أصح القولين إن شاء الله: أنه تجب عليه الزكاة إذا باعها لسنة واحدة.

    ولذلك قد تجد الرجل يعرض الأرض للبيع عشر سنوات ثم يطرأ أن يبنيها لنفسه، فلم يتحقق بيعها أصلاً، ولذلك أصح الأقوال في هذا: أن الأرض تزكى لعام، فإن خرج الإنسان من الخلاف وأحب أن يزكي كل سنة فلن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.

    كيف تزكى؟

    المبلغ الذي يقبضه يزكيه، وقد ورد في السؤال: وقد يبيعها أو قد يبني عليها مستقبلاً. فنقول: هذه نية مترددة، إذا كان متردداً بين أن يبيع وبين أن يبني، فلا تجب عليه الزكاة، وإنما تجب الزكاة إذا تمحضت النية، وقصد فعلاً البيع، وثبت على هذه النية.

    حكم زكاة المصانع وحالتها

    السؤال: ما مقدار زكاة المصانع؟

    الجواب: المصانع زكاتها فيما يخرج منها، أي: ما يخرج من المصانع إذا كانت تصنع ذوات الأشياء، لأن المصنع له حالتان:

    الحالة الأولى: إما أن تكون مهمة المصنع أن يصنع الأشياء الموجودة، وتخرج إلى السوق وتباع، فالزكاة في الأشياء الموجودة.

    الحالة الثانية: أن يكون المصنع مستأجراً للتصنيع، فيكون صاحب المصنع يصنع للناس ويصنع لهم، فتأتي شركة -مثلاً- تعطي المصنع مواد خام من أجل أن يصنع، فحينئذ الزكاة على صاحب المصنع في رأس المال الذي يجنيه من المصنع، بشرط حولان الحول عليه.

    المصنع له طاقة، هذه الطاقة كل يوم يصنع بألف، الألف تقبض، كل ألف في كل يوم لها حولها، وإن أحب في بداية السنة أن يجمع جميع ما عنده ويزكيه زكاة واحدة فلا حرج، وهذا يقول به طائفة من العلماء، مثل الرواتب، الذي لديه رواتب، فبدلاً من أن يجعل لكل راتب شهر حولاً، يجعل حوله شهراً واحداً، وإذا جاء هذا الشهر جمع ما عنده قليلاً أو كثيراً وزكاه، قياساً على زكاة الغنم، لا يشترط فيها حولاً عن حول.

    وإن أحب أن يجعل لطاقة كل يوم وكل أسبوع وكل شهر رأس مال، يعني كل عمل ينتجه المصنع تكون القيمة على هذا العمل، بشرط أن يحول الحول على هذه الألف التي هي قيمة الإنتاج.

    أما آلات المصنع وُعدد المصنع وما في داخل المصنع فهذا لا تجب فيه الزكاة، مثل الثلاجة التي في البقالة لا تجب فيها الزكاة، ومثل الآلات التي تستخدم في المصانع، هذه ليس فيها زكاة؛ لأنها ليست بعرض للتجارة، وإنما المقصود أن يتاجر بما يكون منها من نفع.

    زكاة السلع المعروضة تكون عند البيع على الراجح من الأقوال

    السؤال: مسألة القيمة الشرائية للمال.

    الجواب: إذا كان الشخص مثلاً عنده سلعة اشتراها بمبلغ وعرضها للبيع، إذا قلنا -مثلاً-: عليه أن يزكي. فهل ينظر إلى القيمة التي اشترى بها أم القيمة التي يعرضها؟

    هذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، أصح الأقوال عند من يقول بالزكاة على عروض التجارة: أنه ينظر إلى قيمة البيع في يوم حولان الحول، فلو كان حوله أول محرم، ومثلاً لديه سيارات يعرضهن للبيع، وفي اليوم الأول من محرم سنة (1414هـ) كانت قيمة السيارة بناءً على قرب وقتها مائة وعشرين، لكن لما صار في حولان الحول نزلت القيمة -فرضاً إلى الربع- فصارت أقل، فرضنا السلعة بمائة فصارت بخمسين ألفاً، فالعبرة بالقيمة التي ثبتت عليها في العرض للتجارة؛ لأنه يملك هذه القيمة، لأن حولان الحول على هذه السلعة في ذلك اليوم فالعبرة بالقيمة فيه.

    فحينئذ إذا كان قيمة السلعة مائة ألف بالشراء، وفي حولان الحول أصبحت مائتين، تزكي على مائتين، ولو اشتريت مائتين وأصبحت في حولان الحول مائة تزكي على مائة، فالعبرة بقيمة البيع، وهذا هو أصح الأقوال.

    ولذلك: هذا القول فيه إنصاف؛ لأن في الحقيقة أنك مالك للقيمة التي هي قيمة السوق في يوم حولان الحول، فكأنها في جيبك، فأنت تزكي مالاً في حكم ما هو مقبوض في اليد، لذلك يعتبر في يوم الحول.

    وصايا ونصائح لبائعي الكتب الدينية والأشرطة الإسلامية وللتجار عموماً

    السؤال: تجارة بيع الأشرطة الإسلامية والكتب الدينية من الأعمال التي يبتغى بها وجه الله، ما نصيحتكم لأصحاب التسجيلات الإسلامية، علماً أنني منهم ولله الحمد؟ وما نصيحتكم لأصحاب الأموال؟ نرجو التوجيه.

    الجواب: أما بالنسبة للأشرطة والتسجيلات فلا شك أنها قامت بجهد عظيم، وكذلك المكتبات الإسلامية أغنت وأفادت وأجادت وسدت ثغراً عظيماً.

    أسأل الله العظيم أن يتقبل منا ومنكم ومنهم صالح الأعمال، ولا شك أنها نعمة عظيمة، فما يدريك لعل هذا الشريط أن يخرج الله به عبداً من الظلمات إلى النور، وكم أصلح الله من بيوت! وكم أصلح الله من جماعات بهذه الأشرطة القيمة! ولا شك أن وجود الشريط في هذه الأيام فتح من الله عز وجل، وهذا تبليغ عن الله ونصرة لله عز وجل ولكلمته سبحانه وتعالى.

    فتجد الإنسان وهو راكب في سيارته يسمع إلى العالم، من كان يتوقع أن عالماً يركب معه في سيارته يحدثه، ويفتيه، ويجيبه، ويجد هذا الخير الكثير وهو جالس في السيارة أو نائم على فراشه! هذا نصر من الله ورحمة، فنسأل الله أن يبقي هذا الخير، وأن يعظم للإخوة أجورهم.

    أوصيهم بالنصيحة وإعطاء هذا الأمر حقه، والرضا بأجر الآخرة، ولا حرج أن يكون للإنسان حظ من أجر الدنيا، ولكن يجعل الهم هم الآخرة، فإن هذه الكلمات الطيبة والنصائح الغالية والمحاضرات القيمة والندوات العلمية فيها أجر كثير، ومن أعان عليها أُجر كأجر صاحبها.

    من أعان على خير أجر كأجر صاحبه، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الخادم الأمين الذي يؤدي ما أمره به سيده له مثل أجره)، هذه نعمة كبيرة جداً، فنوصيهم بالإخلاص لله عز وجل.

    الأمر الثاني: أن يتقنوا هذا العمل، فإن الشريط الإسلامي يحتاج إلى إتقان وإخراج جيد، بعيداً عن التشويش في إلقاء المحاضر، وبعيداً عن الأمور التي تكدر عند سماعه، كما أحثهم على الاهتمام بتنقيته، وتهذيبه وإخراجه بالصورة الحميدة، وكذلك محاولة نشر هذا الشريط بالتشجيع على توزيعه، وكذلك إخبار ذوي الأموال والغنى أن يكون لهم حظ في المساهمة لنشره.

    وأوصي إخواني التجار أن يكون لهم حظ، اشتر مائة شريط ليوزع في توجيه مشكلة اجتماعية، توجه الناس إلى حلها؛ لأننا نريد ما ينفع الناس، ونريد بهذه المحاضرات تقويم الناس وإرشادهم، والذي ليس عنده إلا الدلالة على طاعة الله، والتقريب إلى محبة الله ومرضاة الله، فعليك بنشر الأشرطة الهادفة التي تعالج مشاكل المجتمع الأخلاقية ونحوها، فإنها تدل على طاعة الله وتقرب منه، فهذا خير كثير.

    وأسأل الله العظيم أن يتقبل من الجميع صالح الأعمال.

    حكم من لم يخرج زكاة ماله وما يجب عليه

    السؤال: رجل لم يخرج زكاة ماله لمدة خمس سنوات، فهل يخرج الزكاة لهذه المدة؟

    الجواب: أولاً: عليه الندم والاستغفار، وأن يحمد الله على العافية، فلو قبضت روحه قبل أداء هذه الزكاة لكانت له شجاعاً أقرع يعذبه الله به في قبره، كما روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له صفائح من نار، يكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيد عليها فأحميت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها فصيلاً، يجدها أوفر ما تكون - يعني: أسمن ما تكون- تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها، كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار) .

    منع الزكاة هذا أمر عظيم جداً، ولو يوماً واحداً، ويحاسب الله عز وجل عن ذلك، الزكاة ينتظرها المحروم، ينتظرها المجنون، ينتظرها المهموم، حق جعله الله في مالك، أعطاك الكثير ورضي منك القليل.

    فعليه بالتوبة والاستغفار، والمبادرة بإخراج الزكاة قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، وينبغي عليه أن يبادر.

    الأمر الثاني: عليه أن يخرج الزكاة الآن، يقدرها للسنوات التي مضت، وإذا فعل ذلك وتاب تاب الله عليه.

    والله تعالى أعلم.

    حكم بيع السلع المعلبة والتي تتغير بكثرة اللمس

    السؤال: هل يجوز بيع علبة مغلقة مكتوب عليها ما بداخلها، ولكن الكتابة لا تغني عن معاينة السلعة؟

    الجواب: الإجماع قائم على أنه لا يجوز بيع الشيء إلا إذا كان معلوماً.

    هذه مشكلة: فالتاجر عنده سلعة، وقد تكون بعض السلع لو كشفت لتضرر التاجر، وقد يقول الزبون: لا أريدها. وإذا خفيت حينئذ يُظلم المشتري، فالشريعة بين ظلم البائع وظلم المشتري.

    مثلاً: الثياب تكون مطوية مطبقة، عرض السلعة له أثر في قبول الزبون، فلو قلنا مثلاً: هذه الثياب لابد أن تفتش وتقلب، فكل من جاء يفتش الثوب ويقول: لا أريده؛ لأن البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، قال: رأيت فما أعجبني، والشريعة ما تلزمني بالشراء.

    حسناً: الآن سيتضرر البائع بعرض السلعة. فإذا قلنا: يبيع السلعة وهي محفوظة سيتضرر المشتري، فما الحل؟

    هناك حل وسط: أن يخرج عينة واحدة من المبيع، ويجعل المشتري يتأمل هذه العينة، إن كان يبيع ثياباً أخرج ثوباً من هذه الثياب، بشرط أن تكون الثياب الموجودة في (الكراتين) أو المغلفة لا تختلف صفتها عن الثوب الذي يعتبر كعينة، إذا فعل هذا -بل يلزم فعل هذا- فحينئذ يصح البيع ولا حرج فيه.

    أما إذا كانت غير معروفة فلا، لأنه لا يجوز بيع المجهول، ولذلك: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة والمنابذة) لمكان الجهالة، فلابد أن يعرف حقيقة هذا البيع.

    أما المعلبات فيمكن أن يجعل عينة للمعلبات يعرف بها، أو يجعل مواصفات دقيقة؛ لأن السائل هنا يقول: والكتابة لا تغني عما بداخلها، أما إذا كانت المعلبات مصنعة والكتابة تغني مثل ما هو موجود الآن في كثير من المعلبات، تكون المعلومات واضحة، يكتب عليها -مثلاً- ما بداخلها، يكتب الغذاء الموجود بداخلها والمواد المركبة، يعني الآن الموجود في السوق -في الغالب يعني- معلومات شبه كاملة، فالمعلومات الموجودة على هذه العلب تكفي، ما دام أنه دقيق والغالب فيه، ولذلك العلماء يقولون: حكم الغالب. لأن الغالب وبالتجربة وجدنا أنها صحيحة، تفتح العلبة فلا تجد اختلافاً بين الموجود على المعلبات والموجود بداخلها؛ لأن الشركات طبعاً متابعة ومراقبة، سواء من جهات مختصة أو من جهة الناس أنفسهم للحصول على سمعتهم، وليس من المعقول أن يجعل الكتابة شيئاً، ويكون بداخلها شيء آخر؛ لأن هذا يضر بسمعتهم كثيراً.

    فنحن نقول: إذا كانت الكتابة واضحة فلا حرج، أما كون الكتابة لا تفي بالغرض، فهذا من النوع المحرم ولا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى بيع المجهول، وبيع المجهول لا يجوز.

    حكم استقدام العمال للعمل عنده وعند غيره

    السؤال: هل يجوز استقدام العمال لغرض تقديم خدمات للمواطنين، ويكون الاتفاق مع العامل -مثلاً- بستمائة ريال في الشهر، ويشترط لدى من يعمل عنده تسعمائة أو أكثر؟

    الجواب: قضية عمل العامل: الأصل في العمل أن الإنسان إذا استقدم العامل يستقدمه للعمل عنده، أو يستخدم لإقامة عمل عند الغير مبني على كفالته ووجاهته، فإذا كان العامل يقوم بعمل الإنسان في بيته، أو يقوم بعمل التزم به لغيره كبناء عمارة، أو بناء بيت، وجاء بعمال ليشتغلوا، فهذا لا إشكال ولا حرج في جوازه.

    ويعتبر التعاقد مع العمال مندرج تحت عقد معروف في الفقه الإسلامي الذي هو عقد الإجارة، فحينئذٍ لا حرج، لكن يشترط أن تكون أجرة العامل معلومة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره) لا يقول له: سأرضيك، أو سنتفق فيما بعد يعني يجعله على غرر مثلما ذكرنا في البيع، لا، بل لابد من أن يكون على علم وبينة، حتى يكون الأمر لا غرر فيه ولا خلاف، وبناءً على هذا إذا حصل التعاقد على هذا الوجه فهو جائز ومشروع ولا حرج.

    الحالة الثانية: أن يترك العامل يذهب ويعمل حيث أراد ثم يقول له: اعمل عند من شئت وأتني بمائة أو مائتين. فهذا من أكل أموال الناس بالباطل، وفيه أذية وإضرار؛ لأن الكفيل ما قام بعمل.

    فلو قال قائل: الكفيل متحمل بكفالته، ويأخذ لقاء (الفيزة) أو الإقامة التي وفرها لهذا العامل.

    فجواب هذا: أن (الفيزة) ليست ملكاً للكفيل، وإنما هي ملك للدولة، والدولة لا تأذن بهذا، ولا تأذن باستغلاله على هذا الوجه؛ لأنه يضر بمصالح الناس.

    العامل إذا ألزمته بقيمة في الشهر ولم يجد عملاً ماذا يفعل، خاصة إذا كان عليه ديون، ربما اضطر إلى السرقة، ربما اضطر إلى الأمور التي تخل بشرفه وتخل بحقوق الناس، وربما يبالغ في أمور قد تنتهي به إلى ما لا يحمد عقباه.

    فهذا النوع لا شك في حرمته: كونه يقول له: اذهب اشتغل عند من شئت، وأعطني كل شهر مائتين فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من الأمور المحرمة.

    ومن باب العبرة: أذكر رجلاً كان قد أنعم الله عليه بالمال، و-نسأل الله السلامة والعافية- فتح عملاً من هذا القبيل، ونُصح وذكر من بعض العلماء، وشاء الله عز وجل أنه أصر على ذلك العمل ولم يكف عما هو عليه، فنسأل الله السلامة والعافية ابتلي بالداء الخبيث -نسأل الله السلامة والعافية- فأنفق أمواله التي كان يأخذها من هؤلاء الضعفاء، حتى إنه خرج على الناس وهو مجنون نسأل الله السلامة!، كان في غنى وثراء ونعمة، فوالله العظيم إني لأعرفه، نسأل الله السلامة والعافية! نسأل الله أن يغنينا بحلاله عن حرامه.

    حكم من يخرج زكاة ماله من السلع الموجودة عنده

    السؤال: ما حكم من يخرج زكاة ماله من السلع الموجودة عنده؟

    الجواب: تاجر الأقمشة يقوم بإخراج زكاة ماله من الأقمشة، تاجر الأطعمة يخرج زكاة ماله من الأطعمة، هذا لا يجوز بإجماع العلماء، كونه يخرج الزكاة من الأعيان لا يجزيه، وعليه إعادة جميع الزكوات.

    والسبب في هذا: أن الزكاة حق لله، وهذا الحق جعله الله بعينه للسائل والمحروم: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25] هذا حق، ليس فيه منة حتى قال بعض العلماء: ينبغي على الغني إذا جاء يزكي -قالوا:- لا يرفع يده عند إعطائه الزكاة للفقير، حتى لا يكون فيه منة؛ لأنه حقه، فإذا رفع يده كأنه تفضل على الفقير، قوله تعالى: حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24]* لِلسَّائِلِ [المعارج:25] (اللام) للتمليك، فهو ملك للسائل، فلا يجوز فيه التصرف.

    تصور يا أخي! لو أنك تعمل في عمل ما أو وظيفة ما، وكان الاتفاق أن تأخذ خمسة آلاف في الشهر، ولما جاء آخر الشهر قال: لن نعطيك خمسة آلاف، بل نعطيك ثياباً، ونعطيك أطعمة وأكياس رز، وأكياس سكر، أترضى؟ لن ترضى، تقول: أريد مالي، أريد حقي. وكذلك هم، كيف ترضى أن إنساناً جعل الله له هذا المال، أو فقيراً قد يريد منه سداد الدين، لا يستطيع أن يسدد بأكياس الأرز ولا يسدد بالقماش ما عليه من الديون؟!

    الأمر الثاني: أنه ذريعة للتخلص من بعض الأمور الكاسدة التي تكون عند الإنسان وهو يريد أن يتخلص منها.

    فلذلك: لا يجوز هذا النوع من الزكاة.

    عدم إخراج البدل في الزكاة إلا في الذهب بدلاً عن الفضة

    السؤال: هناك فتوى من العلماء أن إخراج زكاة المال من السلع جائز؟!

    الجواب: بالنسبة للذي ظهر من نصوص الكتاب والسنة أنه غير جائز.

    السائل: يعني أنه لا يوجد من العلماء المتقدمين من أجاز ذلك.

    لا أحد -حسب علمي- بالنسبة للعلماء المتقدمين من أجاز بإخراج البدل، وإنما المحفوظ: أن يخرج المال بعينه، إن كان من الذهب فمن الذهب، وإن كان من الفضة فمن الفضة، وأجازوا إخراج الذهب بدل الفضة، هذا فقط في المالين، وأما بالنسبة للسلع فالقول: أنه يخرج الزكاة منها، هذا الذي نعرفه من أقوال أهل العلم.

    هذا الذي أحفظ أنه بالإجماع، ومن عاش فسيرى اختلافاً كثيراً.

    حكم التستر عن أناس لا توجد عندهم إقامات مشروعة

    السؤال: التستر أحد الآفات التي يعاني منها مجتمعنا، هل من كلمة في هذا الموضوع عن هذه الظاهرة.

    الجواب: الحقيقة ما دام أنه يوجد طريق مشروع لاستقدام الناس وإعطائهم الإقامات المشروعة والنظامية، بالطريق الذي لا وجه فيه ولا شبهة فلا يجوز لأحد أن يتستر على أحد، وينبغي للإنسان أن يسمع ويطيع؛ لأن هذه الأمور قصد بها مصالح الناس عامة، فكم من جرائم تنتشر في المجتمعات، وإخلالات بحقوق الناس العامة والخاصة والمصالح العامة بسبب عدم معرفة من ورائها؛ لأن الرجل الذي ليست له إقامة نظامية ينام حيث شاء ويذهب حيث شاء ويفعل ما يشاء، ليس له كفيل يتابعه، ليس له إنسان يراقبه ويعرف مدخله ومخرجه ويتحمل مسئوليته.

    فإذا نظر إلى المصلحة في هذا واندراء المفسدة فلا يشك عاقل أنه ينبغي، بل يجب التعاون في هذا، ولا يجوز -في الحقيقة- التستر على هذا الوجه الذي يضر بمصالح الناس، ويعتبر الإنسان آثماً من وجهين:

    الوجه الأول: معصيته لولي الأمر فيما ينبغي طاعته فيه.

    والوجه الثاني: أنه إذا حصل ضرر من هذا الذي يتستر عليه، فإن الإنسان يحمل وزره بين يدي الله عز وجل؛ لأنه أعان على وجوده.

    فإذا أراد الإنسان أن يعين أخاه على خير، فليذهب ويطرق الأبواب المشروعة لإقامة هذا الشخص بصورة نظامية؛ حتى يكون في ذلك الخير لهذا الشخص؛ وعصمةً لكرامته؛ وأبعد عن الإضرار بمصالح الناس العامة والخاصة.

    حكم الأموال التي يأخذها الشخص بوجاهته

    السؤال: ما حكم الأموال التي يأخذها الكفيل بوجاهته؟

    الجواب: الحقيقة نحن ذكرنا هذه الصورة من جهة التزام الكفيل بالوجاهة، هذا يتخرج في بعض الأحوال على شركة الوجوه، كأن هناك شراكة بين الكفيل والعامل فيما هو قريب من هذه الصورة.

    الآن مثلاً: إذا قال له الكفيل في عمل ما أنا أؤمن لك هذا العمل، ويوجد له فرصة هذا العمل، ويلتزم الكفيل بهذا العمل، كأنه بوجاهته يتحمل مسئولية هذا العمل، حينئذ لا حرج أن يتفق مع العامل على جزء معقول، وبشرط أن لا يجحف فيه بالعامل، حينها لا حرج، لكن إذا فرض عليه من جهة مشبوهة ومحرمة على الإطلاق، يطلقه الشخص ويقول له: ائتني بأربعمائة كل شهر. ولا يتدخل له في أي عمل، حتى لو جاءه من عمل محرم، المهم أن يدفع الأربعمائة أو المبلغ المتفق عليه، هذا هو الذي يمنع منه.

    ضرورة توضيح الأسئلة ليسهل على العلماء الإجابة عليها

    السؤال: ما حكم بعض الفتاوى التي تكون الفتوى فيها غير واضحة وخاصة فيما يتعلق بالمؤسسات والشركات العامة؟

    الجواب: الحقيقة -يا إخوان- هناك أمر مهم أحب أن أنبه عليه في الفتاوى: هناك بعض القضايا من السهل أن يجاب فيها، لكن لما تكون مشهورة وذائعة وموجودة بين الناس بطرق معينة، أحب أن يكون هناك تصور كامل قبل الفتوى فيها، وأنا لأول مرة أسمع بهذا النوع من الفتاوى، لكني أؤكد على أن تكتب صورة كاملة عن واقع هذه المؤسسات والشركات، ولو عن طريق الغرفة التجارية؛ لأني أرى الحقيقة في بعض الأحيان حينما يُسأل بعض العلماء أسئلة، ويجيبون بفتاوى يتأثرون بطبيعة السؤال، خاصة إذا كان هناك شركات ومصانع فيها مصالح للعامة، ربما يأتي الشخص ويسأل سؤالاً عن صورة ما، وينسى أشياء مهمة في السؤال وفي الجواب، فيأتي العالم فيقول: حرام، ما يجوز. فيشيع بين الناس أن هذه الشركة فيها معاملة محرمة؛ فتهضم حقوق الناس.

    فأنا أرى الأفضل والأكمل أن يكون هناك تصور كامل، وأي قضايا فيها مصالح عامة وترتبط بالمؤسسات والشركات، ممكن عن طريق الغرفة -إن شاء الله- يكون هناك تعاون، يحدد لقاء أو ندوة أخرى نذكر فيها بعض المعاملات الموجودة الآن، وإن شاء الله ما يكون إلا كل خير.

    وأنا مستعد بإذن الله، والفتوى جاهزة نسأل الله المعونة والتوفيق.

    ونسأل الله أن يرزقنا الصواب في القول والعمل، فإنه المرجو والأمل.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755902337