إسلام ويب

علو الهمةللشيخ : نبيل العوضي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد ضرب السلف الصالح عليهم رضوان الله تعالى في علو الهمة أروع الأمثلة، وأجمل الصور. فهم السباقون في العبادة والدعوة والجهاد وطلب العلم ... إلخ. فما أجمل أن نحتذي حذوهم! وأن نقتدي بهم! فهم خير قدوة، وأعظم أسوة.

    1.   

    علو الهمة في العبادة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فلِمَ نعيش أيها الإخوة؟ ولِمَ نحيا؟

    وما هدفنا في هذه الدنيا؟ أو لنأكل ونشرب، ثم نموت ويظن الواحد منا أنه لا حساب ولا عذاب؟

    ما هدفك في هذه الحياة؟ تستيقظ في الصباح وتنام في الليل، لم تستيقظ؟ ولم تنام؟ علام تخرج من البيت وترجع إليه؟ هلا جعلت لنفسك هماً في هذه الدنيا؟! وهلا كان هذا الهم عالياً؟

    كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه الهمة العالية، فقال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى -لا تطلب إلا بالفردوس- فإنه أعلى الجنة، ووسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة) من منا لا يريد هذا؟!

    ويحضر له رجل وضوءه وبعد أن ينتهي من الوضوء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (سلني) ما الذي تطلبه؟

    الآن لو قيل لك: أي شيءٍ تريده في الدنيا يأتيك، منا من يطلب مالاً، ومنا زوجةً، ومنا ذهباً وفضة، ومنا منصباً عالياً، أما هذا الرجل فطلب أغلى ما يستطيع أن يطلبه، تقول لي: الجنة، أقول لك: أعظم مكان في الجنة، تقول لي: هو الفردوس، أقول لك: أعظم مكان في الفردوس، قال: (أسألك مرافقتك في الجنة).

    وهل هناك همةٌ أعلى من هذه الهمة؟ ماذا نطلب أكثر من هذا؟

    فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185] وكأن الأمر صعب، انظر! إلى الآية القرآنية (زحزح) كأن الأمر فيه شيء من الصعوبة، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ [آل عمران:185] نجاة من النار ودخول الجنة، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] وهذا هو الفوز الحقيقي.

    علو همة الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة

    ولهذا كان الأولون وعلى رأسهم محمد عليه الصلاة والسلام يقومون الليل حتى تتشقق القدم، تخيل! لو قمت حتى تعبت القدمان قد تنام، ولو فترت القدم قد تتوقف عن الصلاة، لكن من منا يستطيع أن يصلي حتى تتفطر القدم؟! من يقدر على هذا إلا أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام؟ همةٌ أعلى من الجبال، حتى قال عنهم القائل:

    كنا جبالاً فوق الجبـال وربما     سرنا على موج البحار بحارا

    بمعابد الإفرنج كان أذاننا     قبل الكتائب يفتح الأمصارا

    علو همة السلف في العبادة

    هؤلاء هم أهل الهمم العالية، واسمع وتدبر ثم حاسب نفسك، أين أنت من أولئك؟ وأين نحن من هؤلاء؟

    هذا سفيان الثوري إذا أذن الصبح نام على الأرض ورجله على الحائط، تعرف لمه؟ حتى يرجع الدم إلى رأسه من شدة قيامه في الليل، ومن طول قيامه، أي همةٍ هذه؟ وأي نفسٍ تلك التي يقوم بها الليل حتى إن الدم ما يأتي إلى الرأس من شدة القيام؟ تقول لي: ألا ينام؟ أقول لك: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] كلما نام يتجافى الجنب عن المضجع، ولا تهنأ نفسه بالنوم.

    يقولون عن سعيد بن جبير : ردد آية من الليل إلى الصباح، فكان يبكي ويرددها، وأي آية تلك؟ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] يوم القيامة ينفصل المجرمون المنافقون عن المخلصين الصادقين، ويتميزون، فهو يبكي ويردد الآية حتى الصباح.

    بل يقولون عن ثابت البناني أحد الصالحين العباد، أنه كان يقول: جاهدت نفسي بالصلاة عشرين سنة -انظر الهمة العالية- أجاهد نفسي بالصلاة وأقاوم النفس حتى أصلي بالليل، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60] تعب عشرين سنة، وتنعم عشرين سنة من الله جل وعلا.

    وكان إذا أصبح الصباح يعصر رجله؛ لأنها تخدرت من شدة القيام، وهو يقول: مضى العابدون، وقطع بي وا لهفاه! وا لهفاه! مضى العابدون أي: سبقني العابدون وهو يقوم الليل أكثره، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32].

    الإمام أحمد بن حنبل لما أدخل السجن، أمضى ثمانية وعشرين شهراً وهو في السجن وهو شيخ كبير، أول ليلة في السجن ماذا صنع؟ تخيل! مظلوم؛ لأنه ينصر عقيدة أهل السنة دخل السجن، أول ليلة وكان البرد قارساً، وسجنهم ليس كسجننا، بل كان مظلماً وهو لوحده، فأخذ يتحسس بيده يبحث عن ماء، فوقعت يده على ماءٍ بارد جداً، فأخذ يتوضأ وصلى حتى الصباح. كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

    جاء أحد طلبة العلم لينام عند الإمام أحمد بن حنبل ، فوضع له الإمام أحمد إناء فيه ماء ليتوضأ قبل النوم، وفي الصباح جاء الإمام أحمد فرأى الإناء ما تغير، الماء هو الماء، فقال له: أما توضأت؟ قال: لا. قال: أما صليت شيئاً من الليل؟ قال: لا، أنا مسافر. فقال له الإمام أحمد : صاحب حديث -يعني طالب علم- لا يكون له وردٌ من الليل! فقال: أنا مسافر يا إمام! قال: وإن كنت مسافراً -أي حتى ولو كنت مسافراً ليس لك عذر- قال: وإن كنت مسافراً، حج مسروق فما نام إلا وهو ساجد. يعني من شدة التعب.

    أي همةٍ هذه؟ أي همةٍ تلك؟ الواحد منهم يقول: حتى وإن كنت مسافراً ليس لك عذر في ترك النافلة.

    يحكي شخص عن أبي حنيفة فيقول: فلما هدأ الناس خرج إلى المسجد، يقول: فتبعته فدخل المسجد، فأخذ يصلي حتى طلوع الفجر. يقول: تابعته ثلاث ليال على هذه الحال.

    أبو حنيفة يقرأ آية فما استطاع أن يكمل الذي بعدها، فاستمر يبكي ويرددها حتى أصبح الصباح، أي آية تلك؟ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] همةً وأي همة!!

    1.   

    علو الهمة في الدعوة إلى الله

    علو همة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة

    اسمع إلى همة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي همةٌ عالية في الدعوة إلى الله، وفي نشر هذا الدين، وفي تبليغه للناس، بل وكما قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً [الأنبياء:107] هل هو رحمة لزوجته .. لأولاده .. لأهل بيته؟ لا. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] أي: للناس جميعاً، بل للإنس والجن، فكان محمد عليه الصلاة والسلام رحمة. واسمع ماذا كان يصنع.

    كاد من شدة حسرته على الناس أن يموت؛ لأن الناس ما استجابوا له، حتى قال الله عز وجل: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].

    هل مر بك يوم، أو مرت عليك لحظات دمعت فيها عينك؛ لأن الناس لا يهتدون؟

    هل مرت بك لحظات أصابك فيها همٌ وغم؛ لأن الناس لا يصلون؟

    هل بت سهران ليلةً في حياتك؛ لأن لك جاراً لا يطرق باب المسجد؟

    هل في يومٍ من الأيام كنت في الطريق فأصابك همٌ وغم ودمعت العينان؛ لأنك رأيت بعض المتبرجات في الطريق؟

    هل حصل هذا؟ أما الرسول، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ [الكهف:6] أي: قاتل نفسك؛ لأنهم لم يؤمنوا بهذا الحديث، ولأنهم لم يدخلوا في دين الله.

    محمد عليه الصلاة والسلام قام على الصفا فكذبه أبو لهب ، فذهب إلى الأسواق، سوق ذي المجاز ومجنة وعكاظ فكان يقول للناس: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) أتعرف من الذي بجواره؟ إنه فرعون هذه الأمة، يأخذ -تخيل المنظر وأرجو أن تتصوره- يأخذ شيئاً من تراب ويرميه على وجه النبي عليه الصلاة السلام، والمصطفى عليه الصلاة والسلام لا يلتفت إليه أبداً، فهو يرمي عليه التراب ويصد.

    يأتي إلى خيام المشركين في منى عندما يأتون إلى الحج وإلى مكة ، فيأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم خيمة خيمة، ويدخلها منـزلاً منزلاً، وهو يقول: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).. (من يؤويني أبلغ دعوة ربي) ومن خلفه؟ إنه أبو لهب , أبو لهب أحول ذو غديرتين، كلما دخل خيمة دخل بعده، وقال: لا عليكم منه، إنه ابن أخي، إنه كذاب، إنه صابئ، إنه مجنون، تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5].

    همته العالية جعلته يمشي على قدميه إلى الطائف، خرج في هذه الجبال الشاهقة من مكة إلى الطائف ماشياً وحده عليه الصلاة والسلام، تعرف لِمَ؟ همته أن يبلغ دين الله جل وعلا، فلما جاء إلى علية القوم استهزءوا به وسخروا، وقال أحدهم: أَمَاَ وجد الله غيرك يبعثه؟! وقال الآخر: أمرِّط ثياب الكعبة إن كان الله بعثك، ويقول الثالث: إن كنت صادقاً فلأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، وإن كنت كاذباً فأنت لا تستحق أن أجيبك، ثلاثة من علية القوم يستهزئون به صلى الله عليه وسلم.

    فخرج وقد صف له أهل الطائف صفين، والنبي عليه الصلاة والسلام يمشي بينهم وكل واحدٍ يرميه بالحجارة، كلما رفع رجلاً رموه بالحجارة، حتى دميت قدماه وسالت الدماء من قدميه الشريفتين، وخرج من الطائف مهموماً، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى ظل شجرة، فجلس تحتها، فجاءه غلام يسمى عداساً ، وهو غلام نصراني أرسله عتبة وشيبة ابنا ربيعة بعنب، لما رأوا محمداً عليه الصلاة والسلام والدماء تسيل منه.

    فجاءه بالعنب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: باسم الله وأكل، فقال عداس : ما قلت؟ قال: قلت: باسم الله، ما اسمك؟ قال: عداس ، قال: من أين أنت؟ -انظر الآن إلى الوضع الذي فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام وما همه- قال: من نينوى ، قال: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى، قال: وما أدراك ما يونس بن متى؟! قال: هذا أخي، هو نبي، وأنا نبي مثله، فقال عداس: إذاً أخبرني خبره؟ فأخذ يقص عليه من أخبار يونس ورجلاه تنـزفان الدم، ولكنه عليه الصلاة والسلام همته العالية تجعل أهم قضية عنده أن يؤمن الناس، فأخذ يخبره خبر يونس بن متى، فلما أخبره بالخبر انكب عداس يقبل رجلا النبي صلى الله عليه وسلم ويديه، فقال عتبة لـشيبة : انظر إلى صاحبك ماذا يصنع لمحمد، وهما مشركان. أرأيت هم النبي صلى عليه وسلم وهو ينطلق بين الناس ولسان حاله يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

    هل كانت همتك عالية أن توصل هذا الدين وهذا الخير إلى أهل الشوارع والأرصفة؟

    هل فكرت يوماً من الأيام أن تزور أهل الدواوين والمجالس؛ لتبلغهم دين الله جل وعلا؟

    تقول: ليس عندي شيء من العلم، أقول لك: عندك شيءٌ من الدينار، اشترِ بعض الأشرطة، وبعض الكتيبات النافعة ووزعها لله جل وعلا.

    وأنا أعرف بعض العوام ما يقارب من نصف معاشه ينفقه في شراء الأشرطة الوعظية الإيمانية، يقول: أوزعها في كل مكان، قلت: أين توزعها؟ قال: كل مكانٍ تتصوره، ورأيته قبل يومين وعنده أكياس كثيرة، قلت: أين ذهبت هذه الأكياس؟ قال: عند مجلس الأمة وزعتها للحاضرين، يقول: لا يدخل شخص إلا وأعطيه شيئاً من هذه الأشرطة، ما تركت أحداً إلا وأعطيته، فأين هذه الهمة؟ طالما افتقدناها، أين شباب الصحوة؟ أين طرقهم للأبواب؟ أين جولاتهم على الناس؟ أين دخولهم في المنتديات، والمجالس العامة؟ أين الكلمة الطيبة الحسنة؟ أين الموعظة؟ أين هداية الناس؟ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً [فصلت:33] من أحسن من هذا الذي يدعو إلى الله سبحانه وتعالى؟

    علو همة موسى عليه السلام في الدعوة

    موسى عليه السلام بكى لما سلم عليه محمد عليه الصلاة والسلام في المعراج، قال الملك: هذا أخوك موسى سلم عليه يا محمد! فسلم عليه صلى الله عليه وسلم ورد عليه السلام، فلما غادر محمد عليه الصلاة والسلام بكى موسى، فقيل له: لِمَ تبكي يا موسى؟! قال: أبكي -اسمع! موسى نبي الله، وكليم الله يبكي من أي شيء- قال: أبكي؛ لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي.

    يقول: إن المتبوعين من أمته أكثر من أمتي، فهذا بكاء الرجال، وهذا بكاء أهل الهمم العالية، وهذا بكاء الذي يستشعر (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم).

    قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت لـه     فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

    بعض الناس يقول: دعوت ودعوت ودعوت فلم يستجب لي، دعوت خمس سنين، ودعوت عشر سنين والمسجد هو المسجد، والبيت هو البيت، والناس هم الناس، فأقول له: إن نوحاً عليه السلام دعا ألف سنة إلا خمسين عاماً، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً [العنكبوت:14] لبث تسعمائة وخمسين سنة، فهل تعرف كيف كان يدعو؟ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً [نوح:5-6].

    علو همة أبي بكر الصديق في الدعوة

    أبو بكر الصديق رضي الله عنه يلح على النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لنجهر بالدعوة إلى الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يهدئه، فما صبر أبو بكر حتى أذن له النبي عليه الصلاة والسلام، فكان أول خطيب يدعو إلى الله ورسوله، فقد قام بين الناس بعد أن جمعهم وأخذ يدعوهم إلى الله وإلى دين الله، فقام إليه المشركون يضربونه ضرباً مبرحاً، وأبو بكر لوحده حتى سقط على الأرض، وجاء أشقى القوم يضربه حتى وطئ على بطن أبي بكر ، ثم أخذ نعله هذا المشرك وأخذ يضرب بالنعل وجه أبي بكر ، والدم يسيل، حتى ظن الناس أن أبا بكر قد مات، فما جاء إلا بنو تيم وهم قوم أبي بكر يدفعون المشركين عن صاحبهم، فحملوه وظن الناس جميعاً أن أبا بكر قد مات، فقد ضرب من كل جهة، وتجمع المشركون عليه، حتى لا يعرف وجهه من قفاه من الضرب ومن الدم الذي سال عليه، وكل هذا ليبلغ دين الله، أي همةٍ تلك؟!!

    حتى حمل أبو بكر إلى داره، فما أفاق إلا آخر النهار، وقد قالت بنو تيم وقد جاءوا إلى المسجد: لئن مات أبو بكر لنثأرن له، فلما جاء آخر النهار استيقظ أبو بكر فرأى أمه أم الخير ، فقال لها: ما صنع رسول الله؟ قالت: يا بني! كُلْ شيئاً واشرب، قال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتيني بخبر رسول الله، وأمه كانت مشركة، فقالت: وكيف أعرف لك خبر محمد؟ فقال: ائتيني بـأم جميل بنت الخطاب ، فذهبت إليها وقالت: يا أم جميل ! إن ابني يسألك عن رسول الله، قالت: لا أعرف لا ابنك ولا رسول الله، فتعجبت أم الخير ، فقالت: تعالي معي إلى ابني أبي بكر ، فجاءت إلى أبي بكر ، فقالت أم جميل لـأبي بكر : إن أمك هنا، قال: لا عليكِ منها، أي: لن تخبر عن أمرنا، وكانت تكتم أم جميل إيمانها، فقال لها: ما صنع رسول الله؟ قالت: هو بخير، وهو بدار ابن أبي الأرقم ، فقال أبو بكر : إذاً احملاني إليه، قالت أمه: كل شيئاً أو اطعم شيئاً، قال: والله لا أذوق طعاماً حتى أرى رسول الله.

    فلما هدأ الناس آخر الليل، أمسكاه من كتفيه رضي الله عنه ورجلاه تخطان في الأرض حتى جيء به إلى دار ابن أبي الأرقم ، فلما فتح الباب وكان محمد عليه الصلاة والسلام جالساً مع الصحابة ممن كتم إيمانه، فلما دخل أبو بكر انكب على رسول الله يقبله وهو يقول: كيف أنت يا رسول الله؟! وبكى الصحابة جميعاً حوله وهم ينظرون إلى أبي بكر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا بخير، كيف أنت يا أبا بكر ؟! قال: ليس بي بأس إلا ما أصاب الفاسق من وجهي.

    أبو بكر هذا الرجل الصنديد الجبل، تعرف كم أسلم على يديه؟ أسلم على يده خلقٌ كثير، منهم خمسة من العشرة المبشرين بالجنة، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

    علو همة أم شريك في الدعوة

    بل حتى النساء، أم شريك كانت في مكة ، وكانت مؤمنة تكتم إيمانهاً خوفاً، وكانت تدعو إلى الله سراً، وأسلم على يديها نساءٌ كن من خيرة نساء الصحابة، حتى فضح أمرها، واكتشفت، فجاء بها المشركون وكادوا يقتلونها، لولا أن قومها تدخلوا.

    من هي أم شريك ؟ إنها امرأة في وقت البطش والظلم والقتل تدعو إلى الله جل وعلا.

    أين نحن من هؤلاء؟

    هل جربت يوماً من الأيام أن تنام على هم الدعوة، وتستيقظ على هم الدعوة، وتخرج من بيتك وهمك هم الدعوة؟ كيف يمتلئ المسجد؟ كيف تكون مساجدنا في صلاة الفجر كما تكون في صلاة الجمعة؟ كيف تغص المساجد بالمصلين؟ كيف ينتشر الحجاب؟ كيف يعبد الناس ربهم؟ هل فكرت بهذا الهم؟

    علو همة الإمام أحمد في الدعوة

    الإمام أحمد جلد وضرب وعذب فجاءه يوم من الأيام أحمد بن داود الواسطي يزوره، فدخل عليه، فقال: يا أبا عبد الله ! -انظر الكلمات- عليك عيال -أي: لك صبيان- وأنت معذور، قل أي كلمة، وانج بنفسك، قال: كأني أسهل عليه الإجابة، فهل تعرف ماذا قال الإمام أحمد ؟ قال: يا بن داود! إن كان هذا عقلك فقد استرحت. أي: إذا كان هذا تفكيرك وهذا همك فقد استرحت. ولكن الإمام أحمد عقله أكبر من هذا، وهمه هم الأمة، لا هم نفسه، فهو لا يبالي بنفسه.

    فقد كان السلف همهم أعلى مما تتصور، الواحد منهم ليس همه الرغيف والأكل والشرب والنوم، بل أكبر من هذا.

    1.   

    علو الهمة في الجهاد

    علو همة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد

    النبي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد ، وتعلمون ما الذي حصل يوم أحد، يبحث عنه أبي بن خلف، ويقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا. يتهدد أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، وقد كان يقول في مكة : عندي فرس أعلفها كل يومٍ ذرة، سوف أقتلك عليها يا محمد! أي: ربيت هذه الفرس وأحسنت تربيتها وتدريبها حتى أقتل محمداً عليه الصلاة والسلام عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع هذه الكلمات: (بل أنا أقتلك إن شاء الله).

    فلما اشتدت المعركة رأى أبي محمداً عليه الصلاة والسلام، فاقترب أبي من محمد عليه الصلاة والسلام، فانقض المسلمون عليه يريدون قتله، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه، فأخذ عليه الصلاة والسلام حربةً من الحارث بن الصمة ، فرماه به النبي عليه الصلاة والسلام فأصابه في عنقه، فسقط عن فرسه فعاد إلى قومه والدم ينـزف، أراد الله أن يعذبه، فقال لقومه: قتلني محمد، قتلني محمد، فقالوا: لا بأس عليك، لم يصبك شيء، وفي الطريق أصابه من الألم -وهم راجعون إلى مكة - حتى إنه كان يحلف بآلهته ويقول: لو كان ما بي بالناس جميعاً لماتوا. يتعذب ويتألم حتى مات في الطريق، لعنه الله.

    من شجاعة المصطفى عليه الصلاة والسلام ومن همته العالية في بدر، يقول الصحابة: كنا نتترس به، كل واحد يكون وراءه، يقول: من قوته وشجاعته.

    أتعلم ماذا صنع في حنين محمد عليه الصلاة والسلام؟

    محمد عليه الصلاة والسلام على بغلة وبيده رمح، وانفض المسلمون كلهم في المعركة، ولم يبق إلا بضعة عشر أكثرهم من آل بيته، وكان أبو سفيان يمسك بلجام البغلة، وأكثر المسلمين قد انفضوا وتراجعوا وما أمامه إلا المشركون وهو يتقدم ببغلته، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ويقول: يا عباس ! ادع أصحاب السمرة، ادع أصحاب البيعة، أي: ليرجعوا فقد بايعوني على الموت، وهو يتقدم على بغلته، وأبو سفيان ممسك بلجام بغلته، حتى لا يقتحم بها المشركين، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ) هل تعرف كم كان عمره؟ لقد جاوز الستين سنة، أي: في آخر عمره، ما بقي على وفاته إلا السنوات الأخيرة، وهو بهذه الشجاعة وبهذه القوة.

    أي همةٍ هذه الهمة، وأي همٍ قد خالط قلبه عليه الصلاة والسلام.

    علو همة أبي بكر وعمر في الجهاد

    أبو بكر أشجع الناس، حيث ما دفعهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر ، فكان يدفع المشركين وهو يقول: [أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله].

    عمر وما أدراك من عمر ، يقول ابن مسعود : [ما زلنا أعزةً منذ أسلم عمر ] عمر الذي هدم عرش الفرس، وفرَّ من أمامه كسرى، عمر الذي كانت الجبابرة وملوك الأعاجم إذا سمعوا به اهتز عرشهم واهتز ملكهم، يفرون من المعارك قبل أن يواجههم عمر

    عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يلبس ثوباً مرقعاً همه أن يفتح بلاد المسلمين؛ لأنها حقاً بلادٌ للمسلمين.

    يا من يرى عمراً تكسوه بردته     والزيت أدمٌ له والكوخ مأواه

    يهتز كسرى على كرسيه فرقاً     من خوفه وملوك الروم تخشاه

    علو همة طلحة بن عبيد الله في الجهاد

    هل سمعتم بـطلحة بن عبيد الله؟ إنه من المبشرين بالجنة، يقول له رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أوجب طلحة ) ما معنى أوجب؟ يعني: حقت له الجنة، طلحة ماذا صنع حتى تحق له الجنة؟ وماذا كان هم طلحة ؟ طلحة لو كان يعيش بيننا هل كان همه كشباب المسلمين اليوم أن يحصل على فتاةٍ جميلة، أو سيارةٍ فاخرة، أو يصبح نجماً في المباريات؟ هل كان هذا همه؟

    طلحة كانت غايته أن يموت شهيداً في سبيل الله، كان أغلى من عنده في الدنيا حبيبه عليه الصلاة والسلام، واسمع ماذا صنع طلحة بن عبيد الله؟

    يوم أحد ولى بعض المسلمين لما ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات، ولم يبق مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا أحد عشر رجلاً من الصحابة، وأكثر المسلمين تفرقوا ما يدرون أين النبي عليه الصلاة والسلام، فسمع المشركون أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان في الشعب، ومعه فقط أحد عشر رجلاً، فجاءوا إليه يريدون أن يقتلوه، فقال عليه الصلاة والسلام: من للقوم؟ أي: من يقوم للمشركين؟ فأول من تكلم طلحة فقال: أنا يا رسول الله! فقال: كما أنت -يعني اجلس، لا أريدك أنت- من للقوم؟ فقال رجلٌ: أنا، قال: أنت، فقام الرجل يدفع المشركين حتى قتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من للقوم؟ فقال طلحة: أنا يا رسول الله! قال: كما أنت، فقال رجلٌ آخر: أنا يا رسول الله! قال: أنت، فذهب فقاتل حتى قتل، حتى لم يبق معه إلا طلحة ، والمشركون قد تجمعوا يريدون قتل النبي عليه الصلاة والسلام، فماذا يصنع النبي عليه الصلاة والسلام؟ فقام طلحة يقاتل قتالاً عنيفاً حتى قيل عنه أنه فاق العشر الرجال، وصد المشركين، والصحابة قد سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان ولا يدفع عنه إلا طلحة ، فما وصلوا إلا وأصابع طلحة قد قطعت، فقال طلحة : حسن، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو قلت باسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون) وإذا بالصحابة يتجمعون يدفعون عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    تقول ابنته: جرح أبونا يوم أحد أربعة وعشرين جرحاً، تقول: وقع منها في رأسه شجةً مربعة، تقول: وقطع نساه -يعني عرقه- وشلت إصبعه، وكان سائر الجراح في جسده، وغلبه الغشي، ورسول الله مكسورةٌ رباعيته، مشجوجٌ في وجهه، قد علاه الغشي، تقول: وطلحة يحتمله، يعني حمل النبي عليه الصلاة والسلام، تقول: يرجع به القهقري، تقول: كلما أدركه أحدٌ من المشركين قاتله حتى يدفعه ويرده، حتى أسنده إلى الشعب، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أوجب طلحة ).

    مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].

    وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام يسمي طلحة ممن قضى نحبه، يقول: (إذا أردتم أن تنظروا إلى رجل ممن قضى نحبه فانظروا إلى طلحة ) حتى قيل عنه:

    و طلحة يوم الشعب واسى محمداً     لدى ساعة ضاقت عليه وسدت

    وقاه بكفيه الرماح فقطعـت     أصابعه تحت الرماح فشلت

    علو همة أبي طلحة الأنصاري في الجهاد

    هل سمعتم بـأبي طلحة الأنصاري؟ إنه صحابيٌ آخر، هذا الصحابي يقول عنه عليه الصلاة والسلام: (لصوت أبي طلحة في الجيش خيرٌ من ألف رجل) هذا صوته فكيف بسيفه؟! وكيف بيده؟! وكيف بفرسه؟!

    فهؤلاء رجال وأي رجال؟!

    انظروا الفرق بين هؤلاء الناس أهل الهمم العالية، وبين شباب المسلمين اليوم إلا من رحم الله، بين شباب المسلمين اليوم، دعك من نسائهم، شباب المسلمين اقرأ عنهم في الجرائد، أشعارهم غزلٌ بالنساء إلا من رحم الله، قصصهم لا ينامون الليل، تتجافى جنوب شباب المسلمين إلا من رحم الله عن المضاجع اليوم لكن هل تظنها خوفاً من الله، أو طمعاً في جنة الله؟ لا، بل أغلبهم لا ينامون الليل طمعاً في مكالمةٍ مع فلانة، أو متابعةٍ لفيلم ومسلسل، أو بكاءً حسرةً على فراقها، وعذاباً على تركها له، أو ليلةً لم يرها فيها، فهو لا ينام الليل كله، أرأيت الفرق بين شبابنا اليوم، وبين شباب سلفنا الصالح.

    أبو طلحة الأنصاري في يوم أحد أيضاً من الذين دافعوا، وكان يترس النبي عليه الصلاة والسلام بجسمه، والسهام تأتيه فيصد السهام وكان النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد كلما مر عليه صحابي معه نبل قال له: انثرها لـأبي طلحة أي: ائت بنبلك كلها لـأبي طلحة، لما كان يرى من أبي طلحة القتال الشرس، حتى كان كلما رمى بسهم كان الرسول عليه الصلاة والسلام ينظر إلى سهمه أين يقع، وكان لا يقع إلا على مشرك.

    أبو طلحة لما كبر في السن، قرأ قول الله جل وعلا: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:41] فقال لأبنائه: جهزوني للجهاد، قال أبناؤه: يا أبانا! أنت رجلٌ كبير، جاهدت مع رسول الله، وجاهدت مع أبي بكر ، وجاهدت مع عمر ، أما الآن فأنت معذور، قال: لا والله، إن الله يقول: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] هذه هي الهمة العالية.

    يا شباب! يا رجال! الشيخ الكبير يقول هذا فجُهز للجهاد، وركب في غزوة في البحر، حتى إذا كان في منتصف الطريق مات رضي الله عنه، ولم يجدوا جزيرةً يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، وكانت الجثة في السفينة لم تتغير، ولم يصبها أي تغير، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً [آل عمران:169] أين هذه الهمة؟

    من منا يتمنى إذا نام الليل ألا يصبح الصباح إلا وهو في وسط المعركة؟

    من منا يتمنى ويتغنى بأصوات المدافع والصواريخ، وكلما سمع عن أخبار المجاهدين في الشيشان أو في غيرها من بلاد المسلمين طربت نفسه، وحدثته بالجهاد؟ من منا هذه همته، وهذا همه؟

    فسل نفسك واصدق نفسك الإجابة.

    أعرابي يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ما على هذا اتبعتك. وهذا لما أعطاه نصيبه من الغنائم، قال: إذاً علام؟ قال: اتبعتك على أن أضرب بسهم من ها هنا فيخرج من ها هنا فأموت فأدخل الجنة، فدارت المعركة فقال عليه الصلاة والسلام: أين فلان؟ فجيء به وقد ضرب في المكان نفسه، قال عليه الصلاة والسلام: (أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: صدق الله فصدقه الله).

    علو همة أبي محجن في الجهاد

    هل سمعتم بصاحب الهمة العالية أبي محجن بن حبيب الثقفي الذي حبسه سعد في معركة القادسية ، وما أدراك ما القادسية؟ إنها ليست مباريات، ولا كأساً ولا دورياً، إنها معركة حقيقية تطير فيها الرقاب، إن الفرق بين هؤلاء وهؤلاء جنةٌ ونار، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، إنها معركة لإعلاء كلمة الله.

    أبو محجن يحبس، من الذي حبسه؟ سعد أمير المؤمنين في الجهاد يحبس أبا محجن ، وأبو محجن متعلق قلبه بالجهاد، يسمع صليل السيوف، وأصوات المعركة، فيقول لـسعد : أسألك بالله أن تفك قيدي وأرجع، ماذا يريد؟ يريد أن يجاهد في سبيل الله، قال سعد : لا أفك قيدك، قال: اعف عني، قال: لا أعفو عنك.

    فذهب سعد ، فرأى أبو محجن سلمى زوجة سعد، فقال لها: يا سلمى! فكي وثاقي، فوالله لئن نجوت لأرجع مرةً أخرى، يطلب ويرجوها رجاء أن تفك وثاقه، لمه؟ يريد الجهاد، لا يتحمل، يسمع صوت المعركة وهو جالس، فكأنها ترددت سلمى، فقال شعراً يبين لها صدقه، فكأنها قبلت، ففكت قيده.

    قال: أعطيني البلقاء، وهي فرس سعد ، فأخذ البلقاء، وأسرع إلى المعركة وقد تلثم، فجاء والمسلمون قد أثخن فيهم المشركون، فجاء إلى الميمنة ودخل في وسط الصف، وأخذ يلعب بفرسه وسيفه ورمحه حتى اخترق صفوف المشركين، وهو لا يستقبل رجلاً إلا قتله، والمسلمون ينظرون، لا يدرون من هذا الرجل الذي جاءهم، فثبتهم، ثم بعد أن ثبت الميمنة رجع مرةً أخرى ودخل في الميسرة وأخذ يلعب بفرسه وبسيفه وبرمحه، ويقتل في المشركين قتلاً، ولا يواجه رجلاً إلا دق صلبه، ثم رجع إلى القلب ودخل في وسط المعركة وأخذ يلعب بفرسه، فرآه سعد ، قال سعد : من ذلك الفارس؟ من هذا الذي يصنع هذا الصنيع؟ الذي ثبت جيش المسلمين، فقال سعد بن أبي وقاص : أما الضبر فضبر البلقاء -أي: قفز هذا الفرس أعرفه- وأما الطعن فطعن أبي محجن ، فلولا أني تركته في القيد لقلت أنه أبو محجن .

    فلما انتصر المسلمون، وهدأت المعركة، رجع أبو محجن مسرعاً إلى القيد مرةً أخرى، فرجع سعد وأخبرته سلمى الخبر، فلما علم سعد عفا عنه وفك قيده، وأطلق سراحه، وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا [آل عمران:146].

    تقول: يا شيخ! وأي جهاد؟! أقول: حدث نفسك، اعزم النية من الآن: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ [التوبة:46] حدث النفس: (من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).

    أين الهمة العالية؟ أين عزة الإسلام في قلوبنا؟ الواحد منا الآن ينظر إلى الشرق والغرب، واليهود والنصارى، فيصيبه الإحباط، ويصيبه الملل والكلل، ويقول: أي عزةٍ بديننا؟

    علو همة خالد بن الوليد في الجهاد

    خالد بن الوليد في معركة اليرموك وقد كان المسلمون قلة، والنصارى كثرة، فجاء قائد النصارى إلى خالد بن الوليد ويسمى ماهان وقال له: يا خالد ! أنا أعلم حاجتكم. أي: أعلم فقركم، وجوعكم، وما جئتم إلى بلادنا إلا تطلبون الخبز والطعام، فقال ماهان لـخالد : فنعطي كل واحدٍ منكم عشرة دنانير ذهباً، وكسوة وطعاماً، وترجعون والعام المقبل نعطيكم مثلها، عشرة دنانير لكل واحد، وطعاماً وكسوة ماذا تطلبون أكثر من هذا؟

    فقال خالد بن الوليد لـماهان : إنا لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت -ليس هذا الذي أخرجنا: الدينار، والطعام، والشراب، والقصور، والذهب، والفضة، والنساء- قال: ما الذي أخرجكم؟ قال: إنا قومٌ نشرب الدماء -انظر العزة، قال: نحن قوم تعودنا نشرب الدم- وسمعنا أنه لا دم أطيب من دمائكم. أي: نريد أن نشرب من دمكم، فهذه هي الهمة العالية، وهؤلاء هم الرجال.

    هذا هو خالد الذي يقول: أحلى ليلةٍ عنده في حياته وأحسنها وأرجى ليلة عندي عند الله جل وعلا ليلةٌ بتها، يقول: وأنا أحرس المسلمين في ليلةٍ مطيرة فأغطي هذا، وأدفع عن هذا، وأحمي هذا، وأحرس ثغراً من ثغور المسلمين، يقول: هي أرجى ليلةٍ عندي.

    فهو يقول: ولا دم أطيب عندنا من دمائكم، لقد جئنا لذلك.

    قال ماهان لأصحابه: هذا والله ما كنا نُحدث به عن العرب.

    أي: هذا الذي كنا نسمعه عنهم.

    هذي بساتين الجنان تزينـت     للخاطبين فأين من يرتادوا

    يا وحينا ماذا أصاب رجالنـا     أو مالنا سعد ولا مقداد

    نامت ليالي الغافلين وليلنا     أرقٌ يذيب قلوبنا وسهاد

    سلت سيوف المعتدين وعربدت     وسيوفنا ضاقت بها الأغماد

    أهو القنوط يهد ركن عـزيمتي     وبه ظلماً مخاوفي تزداد

    يا ليل أمتنا الطويل متى نـرى     فجراً تغرد فوقه الأمجاد

    أجدادنا كتبوا مآثر عزها     فمحى مآثر عزها الأحفاد

    ميعادنا النصر المبين فـإن يكن     موتٌ فعند إلهنا الميعاد

    دعنا نمت حتى ننال شهادة     ًفالموت في درب الهدى ميلاد

    من منا لم يسمع عن نساءٍ في أيام البوسنة والهرسك ، وأيام الشيشان ، قاصرات لم يبلغن الحلم، يتعاقب النصارى والشيوعيون على اغتصابهن؟

    من منا لم يسمع عن نساءٍ مسلمات بعد أن متن تعاقب المشركون على اغتصابهن؟ من منا لم يسمع تلك الصيحات؟

    رب وامعتصماه انطلقت     ملء أفواه الصبايا اليتم

    لامست أسماعهم لكنها     لم تلامس نخوة المعتصم

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38].

    1.   

    علو الهمة في طلب العلم

    إن الهمة العالية في كل شيء: همةٌ عالية في العبادة .. في الصلوات .. في قراءة القرآن .. في حفظه وتلاوته .. في تدبره .. في طلب العلم.

    الهمة العالية في كل شيءٍ من أمور الدين، هذا ابن جرير الطبري يقول لأصحابه: تنشطون لتفسير القرآن؟ يريد أن يقرأ عليهم تفسير القرآن. قالوا: كم يكون قدره؟ كم يكون قدر تفسير القرآن الذي تريد أن تدرسنا إياه، قال: ثلاثون ألف ورقة. درس واحد. فقط في التفسير ثلاثون ألف ورقة، قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه. أي: نموت وما انتهينا، فاختصره في ثلاثة آلاف.

    ثم قال لهم: تنشطون في تاريخ العالم، من آدم إلى قيام الساعة؟ نتكلم عن التاريخ، قالوا: كم ورقة؟ فذكر نحواً مما ذكر في التفسير، قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في ثلاثة آلاف، ثم قال: إنا لله ماتت الهمم!!

    فماذا يقول ابن جرير لو يسمع أن بعض حلق العلم كان يرتادها خمسون طالباً، والآن لم يبق إلا ستة أو سبعة من الطلاب يحضرون على حياء؟

    ماذا يقول ابن جرير الطبري لو يعيش في عالمنا وفي عصرنا؟

    طلبة العلم بعضهم لم يقرأ تفسيراً واحداً لكتاب الله، ممن يدعون أنهم من طلاب العلم لا يحفظ بعض الأجزاء من كتاب الله، ممن يدعي أنه من طلاب العلم لم يقرأ صحيح البخاري أو صحيح مسلم ، ولا يحفظ شيئاً من أحاديث المصطفى، ماذا يقول: لو عاش بيننا؟ كان يقول: إنا لله ماتت الهمم، فلا أدري ماذا سيقول لو عاش بيننا؟

    الشعبي لما سئل كيف حصلت على هذا العلم كله؟ -انظر إلى الهمة العالية- قال: بنفي الاعتماد، هذا أول شرط، ما اعتمدت على غيري، بل على جهده وهمته بتوكله على الله، قال: والسير في البلاد، أي: مشيت، وارتحلت، وسافرت في طلب العلم، قال: وصبرٍ كصبر الجماد، هل رأيت الجماد يشتكي؟ الجماد لا يتكلم، ويصبر مهما وضعته، قال: وصبرٍ كصبر الجماد.

    أيها الإخوة الفضلاء: أيها المستمع الكريم! إن الهمة العالية تحتاج إلى رجال، أصحاب إيمانٍ صادق، مخلصين لله جل وعلا، هدفهم أن يرضى الله عز وجل عنهم في هذه الحياة، غايتهم لقاء الله جل وعلا وهو عنهم راضٍ، كما قيل للرجل: (ماذا تقول؟ قال: أسأل الله الجنة، وأستعيذ به من النار، قال: حولها ندندن) هذه هي الهمة العالية، ولعلي ذكرت شيئاً من جوانبها، وشيئاً من أسبابها.

    أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا الجنة وما قرب إليها من قولٍ أو عمل.

    أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756497487