إسلام ويب

أسئلة عامة [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    ذكر بعض أشعار الجن ومدى صحتها

    السؤال: يذكر العلماء أشعاراً للجن في كتبهم، فكيف رويت هذه الأشعار، وكيف اطلعوا على صحتها؟

    الجواب: بالنسبة للأشعار والمقامات الواردة عن الجن والمروية في كتب السير، فإن كثيراً من هذه الكتب القديمة لا يظن بأهلها الكذب مثل محمد بن إسحاق فهو حديث عهد جداً؛ لأنه من كبار أتباع التابعين، فقد لقي عدداً كبيراً من التابعين وعهده قريب، فهي مروية عن الصحابة.

    وقد صح من أشعارهم بعض ما روي في صحيح البخاري مثل بكائهم على عمر بن الخطاب ، ومثل أشعارهم في وقت الهجرة، فقد كان بعضهم من المسلمين لم يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، ومنهم الصارخ الذي سمعه أهل مكة ينوه بـأم معبد :

    جزى الله عنا والجزاء بفضله رفيقين حلا خيمتي أم معبد

    هما نزلا بالحق وارتحلا به فيا سعد من أمسى رفيق محمد

    وكذلك قول الآخر:

    فإن يسلم السعدان يصبح محمدٌ بمكة لا يخشى خلاف المخالفِ

    فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصراً ويا سعد سعد الخزرجين الغطارفِ

    أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا على الله في الفردوس منية عارف

    وأشعارهم كثيرة، لكن بعض الأشعار تنسب إليهم ولم تثبت، مثل:

    نحن قتلنا سيد الخز رج سعد بن عباده

    رميناه بسهميـ ـن فلم تخط فؤاده

    ونحو هذا، فهذا لا يصح عنهم.

    والمقصود بصحة ذلك أن يسمعه الناس ولا يعرفون له قائلاً، بل يسمعون هاتفاً يصيح فيسمع الناس الكلام ويحفظونه ولا يعرفون له قائلاً، ولا يرون أحداً، فهذا المقصود من صحة الرواية عنهم.

    1.   

    الصلاة على الأنبياء

    السؤال: نرجو منكم الكلام على صيغة الصلاة على النبي، وهل تجوز الصلاة على غيره؟

    الجواب: أما ما يتعلق بالصلاة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن الله أخبرنا أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرنا أن نصلي ونسلم عليه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في حديث كعب بن عجرة ، وهذا يقتضي الصلاة عليهم أجمعين؛ لأن آل إبراهيم يدخل فيهم دخولاً أولياً الأنبياء والرسل.

    لكن اختلف أهل العلم في مشروعية ذلك، وأجمعوا على أنه يجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مرةً في العمر وعند ذكره، وأن ما زاد على ذلك مندوب، إلا في التشهد فقد اختلف فيه في التشهد الأخير هل هو على الوجوب، أو على السنية؟ وكذلك في خطبة الجمعة، هل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ركن من أركانها كما لدى الحنابلة في المشهور عنهم؟ أو ليس كذلك فتكون سنةً فقط.

    وأما من سواه من الرسل فلا تجب الصلاة عليهم، لكنها من السنن والمندوبات، وذكرهم بالصلاة والسلام هو المروي عن كثير من السلف، فقد كانوا يقولون: إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وتجدون ذلك في صحيح البخاري في كثير من المواضع، وقالت طائفة من الناس: بل الأفضل أن يخصص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أخبر الله أنه يصلي عليه، وأمرنا أن نصلي ونسلم عليه، وأما من سواه فيقال: (عليه السلام)، وهذا اللفظ أيضاً لا يختص بالرسل بل تجدون في صحيح البخاري إطلاقه على علي بن أبي طالب مثلاً وغيره مثل فاطمة عليها السلام.

    وصيغة الصلاة والسلام على النبي إذا كانت بالعطف فلا خلاف أيضاً في أنه يجوز أن يلحق به من سواه، ولهذا يصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآله يشمل كل مؤمن به كما سبق بيان ذلك، وكذلك على عباد الله الصالحين كما في حديث كعب بن عجرة ، لكن البحث في الصلاة والسلام على غير النبي منفرداً دون عطف.

    وقد صح في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، وأبو أوفى رجل من الأنصار، وهو والد عبد الله بن أبي أوفى ، كان يأتي بصدقته قبل أن يأتيه الساعي، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة قال: (اللهم صل على آل أبي أوفى).

    ولم يكن مستنكراً في الصدر الأول أن يقال: صلى الله عليك يا فلان! أو نحو هذا، أو إذا ذكر فلان فقيل: صلى الله عليه من باب الدعاء، فهذا لم يكن مستنكراً في الصدر الأول، لكنه اليوم مستبشع أن تذكر شخصاً من الناس فتقول: صلى الله عليه وسلم مثلاً، ولهذا ينبغي أن يخصص في زماننا هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم وإذا أطلق على نبي من أنبياء الله فلا إشكال أيضاً، لكن لا ينبغي أن يطلق على من دونهم ولا من سواهم.

    ومما كان في الصدر الأول قول جرير :

    صلى على عزة الرحمن وابنتها لبنى وصلى على جاراتها الأخرِ

    1.   

    أنساب الأنبياء

    السؤال: ذكرتم أن الأنبياء يكونون من أوسط قومهم نسباً، فهل ورد ذكر أنسابهم في الشرع؟

    الجواب: بالنسبة لأنساب الأنبياء، لم تكن العناية بها قويةً في النصوص الشرعية، وإنما نسب بعضهم إلى آبائهم وبعضهم إلى أجدادهم، فـإبراهيم سمى الله أباه آزر ، وذكر نسبة بعض الأنبياء إلى آبائهم أو أجدادهم، ونسب عيسى إلى أمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)، وهذا من أشرف الأنساب، حيث يجتمع فيه أربعة أنبياء في سرد واحد، وهو الذي يمثل به أهل البلاغة لنوع من أنواع البديع يسمى بالاطراد، وهو الذي يقول فيه السيوطي في عقود الجمان:

    الاطراد ذكرك اسم من علا فأبه فجده على الولا

    بلا تكلف على وجهٍ جلي مثل عليٍ بن الحسين بن علي

    فهو مثل هذا الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في نسب يوسف عليه السلام، لكنه جاء في بعض الآثار عن الصحابة فرفعوا بعض الأنساب، وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم نسب نفسه إلى عدنان ونسب بعض من سواه، فقد نسب لـسبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان عشر قبائل في الحديث الذي أخرجه الترمذي في السنن، وكذلك عد نسبه إلى عدنان فقال: (أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان).

    وجاء عنه أيضاً أنه قال: (إلى معد بن عدنان)، لكنه نسب معداً أيضاً إلى عدنان .

    والمقصود هنا القبيلة والنسبة.

    وكذلك قوله لقوم من كندة: (نحن بنو النضر بن كنانة لا نستنسب لغيره).

    وقد عرفت خئولات النبي صلى الله عليه وسلم وعموماته، فيذكر له أهل النسب: خمسمائة أُمٍّ معروفة، بعضها ثبت فيها أحاديث، مثل: (أنا ابن العواتك من سليم)، وعواتك سليم: أم وهب بن عبد مناف، وأم هاشم بن عبد مناف بن قصي ، وأم عبد مناف بن زهرة، فهؤلاء هن عواتك النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهن يقول البدوي رحمه الله:

    عواتك النبي أم وهب وأم هاشم وأم الندب

    عبد مناف وذهِ الأخيره عمة عمة الأولى الصغيره

    وهن بالترتيب ذا لذي الرجال الأوقص بن مرة بن هلال

    عاتكة بنت الأوقص ، وعاتكة بنت مرة ، وعاتكة بنت هلال، والصغرى: عمتها التي تليها، والأخرى عمة الصغرى، فالصغرى منهن عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال ، والتي تليها: عاتكة بنت مرة بن هلال ، والكبرى: هي عاتكة بنت هلال مباشرة.

    وكذلك في القبائل العشر: يقول البدوي رحمه الله في الأنساب:

    لسبأ بن بشجب بن يعرب سليل قحطان قريع العرب

    نسب خير مرسل بيننا عشرة الأزد الاشعرينا

    وحميراً ومذحجاً وكنده أنمار سادس لهم في العده

    وقد تيامنوا ومن تشام له غسان لخم وجذام عامله

    هذه القبائل العشر.

    وقد نص بعض الصحابة على نسب النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه، فرفعوه أيضاً إلى إسماعيل، أما كونه من ذرية إسماعيل فهذا لا اختلاف فيه، لكن تسمية الرجال إلى إسماعيل محل خلاف، والراجح والمشتهر بين الناس أن عدنان ابن أد بن أدد بن الهميسع بن قيدار بن نبت -أو نابت- بن حمل بن إسماعيل بن إبراهيم .

    وبعضهم يعكس فيقول: عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن قيدار بن حمل بن نابت بن إسماعيل ، وخلاف قليل هنا؛ لكنهم يتفقون أن إسماعيل هو السابع لـعدنان.

    وعلى هذا فأنساب الأنبياء مثل أنساب الناس يرجع فيها لذوي النسب، وليست هي في حكم الشرع فيرجع فيها إلى النصوص الشرعية وحدها، وأهل الأنساب هم الذين يعتنون بهذا من حيث ضبطه وحفظه.

    وكذلك ذكرنا أنهم ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أُمٍّ، ولم تبق قبيلة من العرب إلا وله فيها أُمٌ، إلا ما كان من بني تغلب وحدها.

    وبالنسبة لما ورد عنه أنه قال: (كذب النسَّابون فيما فوق عدنان)، ما أظن أنه يصح، وإن كان مشتهراً أيضاً، وحمله كثير من النسابين على أن المقصود به: أنهم كذبوا في الأسماء حيث لم تكن من لغة كثير منهم، فحرفوا فيها، وأكثر هذه الأسماء محل خلاف في ضبطها، مثل: مهلائيل ومهلال؛ وكذلك لامك ولمك، وفالغ وفالج وعابر وعيبر.

    السؤال: هل لفظة (إلياس) موجودة في كلام العرب؟

    الجواب: (إلياس) غير موجودة، لكن هذه لغات أخرى، فلذلك كان الخلاف فيها إنما هو فيما يتعلق بالجزم بصيغة الاسم وضبطه؛ لأن أهل كل لغة إذا نطقوا باسم، فإن أهل اللغة الأخرى يحرفون فيه غالباً، لأنه يصعب عليهم النطق به على هيئته الحقيقية.

    1.   

    معنى كون حسنات الأبرار سيئات المقربين

    السؤال: ما المقصود بقولهم: (حسنات الأبرار سيئات المقربين)؟

    المقولة التي فيها (إن حسنات الأبرار سيئات المقربين)، المقصود بها أن تفاوت الناس في التكليف على قدر تفاوتهم في التشريف، وهذا يشهد له كثير من النصوص الشرعية، وتفاوت درجات الناس بحسب ذلك من الموافق للحكم، وللمقتضى العقلي ومقتضى الفطرة؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقالة العثرات، وقال: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، وأمر أن ينزل الناس منازلهم كما في حديث عائشة رضي الله عنها.

    1.   

    حصر الرسل من الملائكة

    السؤال: كم عدد الرسل من الملائكة؟

    الجواب: الرسل من الملائكة لم يرد فيهم حصر مثل الرسل من البشر، ولكنه من المجمع عليه أن جبريل عليه السلام من رسل الله من الملائكة، فهو أمين الله على الوحي إلى كل الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ولذلك فإن بني إسرائيل كانوا يعادون جبريل في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أنه عدوهم من الملائكة، كما أخبر الله بذلك في كتابه: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ[البقرة:98] .

    1.   

    عدم امتناع القتل في حق الرسل

    السؤال: لماذا لا يمتنع القتل في حق الرسل؟

    الجواب: ليس مما يمنع في حق الرسل أن يقتلوا؛ لأن الموت كتبه الله على البشر:

    ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد

    ولذلك لا يستحيل في حقهم القتل؛ ولهذا قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144] ، وقد قتل بنو إسرائيل عدداً كبيراً من أنبياء الله، ونص على ذلك في القرآن، وهؤلاء جمعوا المقامات المختلفة، فجمعوا النبوة والرسالة والشهادة في سبيل الله، وهي أعلى درجات البشر، ومن هؤلاء زكريا ويحيى عليهما السلام، فقد صح أن بني إسرائيل قتلوهما، وكذلك حاولوا قتل عيسى بن مريم فرفعه الله، وشبه لهم بشخص فقتلوا ذلك الشخص وصلبوه.

    وكذلك قتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسم الذي وضعوا له بشاة خيبر، قال: (ما زالت أكلة خيبر تعادوني والآن حان انقطاع أبهري).

    فهؤلاء من الرسل الذين قتلوا في سبيل الله، والآيات مصرحة بكثرتهم، لقول الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[آل عمران:146-147].

    و(كأين) من الألفاظ التي تدل على التكثير والمبالغة، وهذا مبني على الاختلاف في القراءة في قوله: قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ[آل عمران:146] ، ففي قراءة: (قتل معه ربيون كثير)، وهو اختلاف لا يغير هذا الحكم؛ لأن القراءتين كالآيتين، فيثبت حكماهما لتواترهما معاً.

    وعلى هذا: فالشهادة في سبيل الله منزلة عظيمة، ودرجة عالية، وقد صح في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل!) تمنى رسول الله هذا على الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    امتناع الخسائس على الأنبياء

    السؤال: هل تعتبر المهن الخسيسة ممتنعة في حق الأنبياء؛ وكذلك غيرها من الخسائس؟

    الجواب: أما الأعمال غير الخسيسة وغير الممتهنة فتجوز في حقهم؛ فقد كانوا يخصفون نعالهم، ويزرعون ويغرسون، ويشاركون الناس في أعمالهم كلها.

    وكذلك يصابون بالأمراض غير المنفرة، بل يوعك أحدهم كما يوعك رجلان من الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لزيادة ثوابهم، وعلو منزلتهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)؛ وليكونوا أسوة حسنة يتسلى بهم من سواهم، فإذا أصيب أحدنا بمصيبة تأسى بأولئك الرسل الذين هم خيرة الخلق وأشرفهم، وأكرمهم على الله، فقد ابتلاهم الله بذلك فصبروا وصمدوا، فنتسلى بما أصابهم، ونتأسى بهم ونتعزى.

    والمهن التي لا تؤثر في المروءة كرعاية الغنم لا تمنع في حقهم، بل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه ما من نبي إلا وقد رعى الغنم، فقيل: وأنت يا رسول الله؟ فقال: وأنا، كنت أرعى غنماً لقريش على قراريط).

    وعلى هذا فرعي الغنم مهنة غير خسيسة بل هي تعويد على القيادة والنصح والصبر، وتعويد على الخلوة بالنفس؛ لأن راعي الغنم لا يستطيع أن يجلس مع الناس؛ لأنه يخاف عليها من الذئب وكل عادية، فيكون دائماً خالياً بنفسه، فيقتضي ذلك جرأته وشجاعته، ويقتضي نباهته وقوة عقله؛ لأنه يخادعه الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة عن غنمه، فراعي الغنم لا بد أن يكون نبيهاً ولا بد أن يكون صاحب فطنة وذكاء لكيد الأعداء.

    وكذلك فإنها رياضة بدنية وروحية لما فيها من الخلوة والحركة الدائمة، ومثل هذا ما يتعلق بالتجارة والزراعة وغير ذلك.

    فموسى عليه السلام رعى الغنم أيضاً كما صرح بذلك في سورة القصص، والنبي صلى الله عليه وسلم خرج بتجارة خديجة إلى الشام، وكذلك في الزراعة شارك في غرس النخل الذي كان سلمان كاتب عليها مواليه؛ وكذلك في البناء، فقد شارك في بناء المسجد وفي حفر الخندق وحتى بناء بيوت الناس فقد كان يشارك فيها، كما صح في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتزع ميزاباً للعباس بن عبد المطلب كان في داره يصب في المسجد، فلما انتزعه، قال العباس : والله لقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فبكى عمر بكاءً شديداً ثم أقسم على العباس أن يركب ظهر عمر حتى يعيد الميزاب إلى مكانه، وعمر خليفة إذ ذاك، فركب العباس مع ضخامة العباس وجسامته، حتى أعاد الميزاب إلى مكانه.

    ونظير هذا من الأعمال كخياطة ثياب ونحوها، كل ذلك من الأعمال التي لا تزري بدين ولا مروءة ولا تنفر، فيحل أن يشتغل بها.

    لكن يحرم في حق النبي ما يكون منفراً أو مقتضياً لعدم الاستجابة لدعوته، ومن هذا أخذ العلماء أن على من يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويسلك طريق الأنبياء؛ أن يتزين للناس حتى لا ينفرهم بنفسه.

    وما يطلب من الزهادة والتقشف في أمور الدنيا لا يطالب به الذين يدعون إلى الله ويخالطون الناس لهدايتهم؛ لأن ذلك ربما نفر كثيراً من الناس فلم يصلوا إلى تأثير في مستويات معينة من المجتمع، لكن ينبغي أن يكون ذلك في أيديهم وأن لا يكون في قلوبهم، وأن لا يغتروا بزخارف هذه الدنيا وما فيها، فليسوا أكرم على الله ممن سواهم، ولا ينبغي لهم أن يأمنوا مكر الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[الأعراف:99] ؛ لذلك ذكر أهل العلم في اللباس أنه يندب فيه للعلماء والدعاة وخطباء المساجد تحسينه، وأن يكون من أرقى الأنواع وأثمنها، ليؤثروا بذلك في قلوب من لا يعتبرون إلا بمثل هؤلاء الذين ينظرون إلى المظاهر ويعنون بها.

    1.   

    الحكمة في أن الرسل من أهل القرى

    السؤال: لماذا ذكر الله أنه ما أرسل رسولاً إلا من أهل القرى؟

    الجواب: أما كون الأنبياء جميعاً من سكان القرى كما أخبر الله بذلك في كتابه، فإن ذلك مقتض منهم لحصول الرفعة، وأهل البوادي دائماً أشد عنجهية وأسوأ أخلاقاً، وأقل نظافةً ممن سواهم؛ ولذلك قال الله تعالى في كتابه: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ[التوبة:97] ، وليس التحضر نسباً، حتى يقال: فلان بدوي، معناه: أن أباه كان كذلك، بل المقصود هو في نفسه، فلو سكن شخص من أهل البادية في الحاضرة، فإنه ليس من الأعراب ولا يدخل في ذلك؛ بل المقصود به من يتصف بهذه الصفة بنفسه لا بنسبه.

    الرسل عليهم الصلاة والسلام يراد بهم أن يسوسوا البشرية وأن يقودوها، فلا بد أن يعرفوا طرق تدبير المعاش، وهذه لا يعرفها أهل البوادي، ولا يعتنون بها، فأهل البوادي إنما يعيشون من الصيد -مثلاً- أو اتباع البهائم، ويعيشون مع الأحلام والأوهام كثيراً، وقد أخرج أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب الصيد غفل، ومن بدا جفا)، ومعناه: من سكن البادية غلظ طبعه، (ومن طلب الصيد غفل)، أي: نقص عقله بقدر ذلك؛ فلهذا اختير الرسل من أهل القرى.

    1.   

    معنى أمر الله لرسوله باتباع إبراهيم ونهيه عن التشبه بيونس عليهم السلام

    السؤال: لماذا أمر الله رسوله باتباع ملة إبراهيم ونهاه عن التشبه بيونس عليهم السلام؟

    الجواب: أما أمر الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم، ونهيه عن أن يكون كصاحب الحوت الذي هو يونس عليه السلام، في قوله: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ[القلم:48] ، فنهيه عن أن يكون كصاحب الحوت مقيد؛ لأنه قال: إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ[القلم:48] ، فالمنهي عنه اتباعه في حال واحد وهو تعجله في الدعاء، وأمره باتباع ملة إبراهيم يقتضي منه صبراً وأناة وحلماً وعدم استعجال في الدعاء على قومه.

    فيونس تعجل عقوبة قومه فدعا عليهم كثيراً، وتأخرت الاستجابة، فاستعجل في الإجابة فغاضب الله سبحانه وتعالى بأن سافر في البحر، وكادت السفينة أن تغرق، فاستهموا على من يلقوه في البحر فكان من المدحضين، فرموه في البحر فالتقمه الحوت، ثم بعد ذلك أنجاه الله، فعاد إلى قومه بعد فترة طويلة، فدعاهم فأسلموا أجمعين، فتحقق الوعد، وارتفع عنهم العذاب، وكانت خاصة لأمته أن الله رفع عنهم العقوبة بعد أن رأوها، ولم ير قط قوم الآيات إلا نزلت بهم العقوبة، وقد استثناهم الله من ذلك فقال: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ[يونس:98] .

    وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا تفضلوني على يونس بن متى).

    والوجه المعروف لدى المحدثين عموماً: أنه لا ينبغي الجزم بالتفضيل الذي يقتضي تنقصاً، فلو فضلته بوجه لا يقتضي تنقصاً فلا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق؛ لكن إذا كان ذلك على وجه به تنقص مثل أن تتنقص نبياً من الأنبياء بسبب قصة حصلت له أو نحو ذلك، فهذا هو المنهي عنه شرعاً.

    لكن ابن سيد الناس ذكر وجهاً آخر بعيد المنال؛ ولذلك اشتهر به بين الناس، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به وعرج به فوق سبع سماوات حتى أعلا الله منزلته هذا الإعلاء العظيم، ويونس كان في قعر البحر في جوف الحوت؛ لكنه ليس أقرب إلى الله منه، فالله تعالى قريب في علوه علي في دنوه، فهذا معنى التفضيل هنا، وهذا وجه استحسنه العلماء ورضوه، واشتهر به الرجل بين الناس.

    1.   

    خلو الأنبياء من المنفرات

    السؤال: ذكرتم اشتراط خلو النبي عن منفر طبعاً، فما تقولون فيما يذكره المفسرون عن أيوب من أنه تساقط أعضاؤه من المرض؟

    الجواب: ما يذكر في بعض كتب التفسير التي تذكر الإسرائيليات عن نبي الله أيوب عليه السلام: أن النصب الذي أصابه به الشيطان كان مرضاً منفراً في بدنه، وأنه تساقط بعض أعضائه ونحو هذا؛ فهذا لا يصح، ولا يمكن أن يعتمد عليه بوجه من الوجوه؛ بل هو كما أخبر الله عنه أنه أصابه الشيطان بنصب وعذاب، وقد أزال الله أذاه ورفع منزلته وأعاد إليه عافيته، فكان من أدبه مع الله سبحانه وتعالى أنه لم يقل: (أصبتني)، إنما قال: (مسني الشيطان بنصب وعذاب)، ولذلك أثنى الله عليه بأنه كان عبداً أوّاباً.

    1.   

    تعدد الزوجات للأنبياء

    السؤال: هل يدل قوله تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً[الرعد:38] على تعدد زوجات الأنبياء؟

    الجواب: ما يذكر من أن جميع الأنبياء قد عددوا زوجاتهم أخذاً من قوله تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً[الرعد:38] ، فهذا مأخذ بعيد جداً وفهم لا يستقيم مع الآية؛ لأن الآية قوبل فيها الجمع بجمع، والأصل أن الجمع إذا قوبل بجمع فكل واحد يقابله واحد، مثل قوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[البقرة:184] ، ولا تقتضي الآية إثباتاً لذلك ولا نفياً له؛ لكن منهم من ثبت له تعديد الزوجات كنبينا صلى الله عليه وسلم، وكسليمان عليه السلام، ومنهم من لم يتزوج أصلاً وثبت له ذلك كيحيى عليه السلام، إذ قال الله فيه: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ[آل عمران:39] ، فلم يتزوج أصلاً حتى يعدد، ومنهم ما سكت عنه، فلا يخالف في مثل هذا.

    فالآية المذكورة بينت أن من الرسل الذين أرسلهم الله قبل النبي صلى الله عليه وسلم من آتاهم الله أزواجاً وذرية، أي: فليس وجود الأزواج والذرية طعناً في النبي صلى الله عليه وسلم ولا عيباً فيه؛ لأن أعداءه قالوا: كيف تزعم أنك نبي يأتيك الوحي، وأنت تتزوج النساء ويأتيك الأولاد، فرد الله دعواهم بأن من سبقه من الرسل كذلك، فالمقصود أنها سيقت لرد هذه الشبهة والدعوى فقط.

    1.   

    قوة الأنبياء

    السؤال: هل كان الأنبياء جميعاً يتميزون بالقوة على غيرهم، وما الحكمة من ذلك؟

    الجواب: أما ما يذكر في قوة أبدانهم فالظاهر أنهم جميعاً كانوا كذلك، لأنهم يكلفون بأعمال هائلة جداً، ويضحون تضحيات جسيمة، فيؤيدهم الله تعالى على ذلك، وبالأخص كلام الملائكة واجتماعهم، فإن زيد بن ثابت رضي الله عنه قد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسنداً ركبته إلى فخذه، فنزل عليه الوحي فرضت فخذه حتى كاد يموت من شدة وطئه؛ وذلك من شدة الوحي، فمن لم يقو غاية القوة لا يمكن أن يتحمل الوحي؛ لذلك قواهم الله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضلهم، حتى فيما يتعلق بالقوة، فقد ذكر عنه قوة عجيبة، وكان الناس يشاهدونها في كل الأمور، فكانت فيه قوة العقل وقوة الروح، وقوة البدن، حتى قوة الجماع، وقد عقد لها القاضي عياض رحمه الله باباً مستقلاً.

    1.   

    إرسال يحيى وعيسى في زمن واحد

    السؤال: هل أرسل يحيى وعيسى في زمن واحد لبني إسرائيل،ولماذا؟

    الجواب: بالنسبة لقصة عيسى وزكريا والوحي المنزل إليهما وأنهما أمرا بتبليغه، فهذا يقتضي أن بني إسرائيل يشكون في خبر الواحد، حتى لو عرفوا أنه نبي فإنهم يؤذونه ويكذبونه ويشكون بخبره؛ لكن إذا جاءهم من ليس معه في مكان بنفس الخبر صدقوه، فهذا من باب أن بني إسرائيل قوم بهت، لا يصدقون خبراً حتى لو كان من نبي مرسل يعرفون صدقه، لذلك قال موسى فيما حكى الله عنه في بني إسرائيل: يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ[الصف:5].

    1.   

    حياة الأنبياء في قبورهم

    السؤال: هل يصح ما يقوله بعض الناس أن الأنبياء لا زالوا في قبورهم أحياء؟

    الجواب: ورد ستة عشر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون وقد حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم، لكن حياتهم حياة برزخية ليست كحياة الدنيا على الأرض، وإذا قبضهم الله إليه، فمنهم من يبقى في مدفنه الذي دفن فيه، ويعرف مكانه، ومنهم من ينقله حتى بجسده إلى حيث شاء، ولا يعرف اليوم قبر نبي من الأنبياء بالجزم غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكن يعرف أن بمكة قبر إسماعيل عليه السلام، وكذلك آدم عليه السلام وعدد من الأنبياء، قال بعض الصحابة: إن حول الكعبة سبعين نبياً، وبالشام دفن عدد كبير منهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف قبر موسى أنه عند الكثيب الأحمر في طريق الشام، وأنه لو كان عنده لأراهم إياه.

    أما بالنسبة لقبر إبراهيم عليه السلام فيقال إنه في المكان الذي سمي بمدينة الخليل، لكن لا يعرف القبر بعينه، إنما يتلقى عن خبر بني إسرائيل وليس لهم إسناد متصل ولا تواتر، والإسناد من خصائص هذه الأمة، فلذلك انقطع الخبر، فلا يعتمد عليه، لكن يظن ذلك.

    بنو إسرائيل يقولون: هذا مكان قبر إبراهيم، وهناك قبور عندهم واضحة كقبر إبراهيم وقبر زوجته، وقبر إسحاق ويعقوب، ولكن الله أعلم بحال ذلك، والذي يبدو أن يعقوب توفي بمصر؛ لأنه هاجر إليها.

    1.   

    زوجات الأنبياء

    السؤال: نريد الكلام على زوجات الأنبياء وهل يختارهن الله اختياراً، وما هي خيانة زوجة نوح وزوجة لوط؟

    الجواب: بالنسبة لزوجات الأنبياء: أكثرهن يختارهن الله لذلك اختياراً، كما قال تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ[النور:26] ؛ وبذلك فأكثر زوجات الأنبياء زوجات لهم في الدنيا وفي الآخرة، ومنهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللواتي أنزل الله فيهن القرآن وأعلى منزلتهن، وشرف درجتهن؛ فهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وزوجاته في الدار الآخرة، وهن أمهات كل المؤمنين به، ويجزم بأنهن جميعاً من أهل الجنة، ويلزم الإيمان بذلك.

    وأما زوجة نوح وزوجة لوط فقد جعلهما الله مثلاً للكافرين، وذكر أنهما خانتاهما، ونص العلماء على أن هذه الخيانة ليست خيانة فيما يتعلق بالزنا أو نحو ذلك، وإنما هي خيانة فيما يتعلق بما اؤتمنتا عليه من الأسرار، فكانتا تنقلان أخبارهما وأسرارهما إلى أعدائهما؛ ولذلك لم ينجهما الله، فأهلك امرأة نوح مع قومه، وأهلك امرأة لوط مع قومها، أي قريباً منهم: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ[هود:83].

    فليست هاتان المرأتان من أهل هذين النبيين، بل عوضهما الله خيراً منهما، فليستا زوجتين لهما في الآخرة، وإنما هما زوجتان في الدنيا، وانقطع ذلك بكفرهما، ثم زوجهما الله خيراً منهما، ولا شك أن هذا من ابتلاء هذين النبيين الذي هو إعلاء لمنزلتهما، ورفع لدرجتهما.

    وكذلك ما جاء في جواب الله تعالى لنوح عليه السلام عندما قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ[هود:45-46]، فلا يقصد به أنه ليس من ذريته، بل المقصود أنه ليس من المؤمنين؛ لأن أهله الذين وعده الله بإنجائهم هم الذين آمنوا به؛ ولذلك قال: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ[هود:40] ، فأهله هم المؤمنون به، وهذا الولد كان يظنه من المؤمنين به، ولكن الله أخبره أنه ليس كذلك فقد كان منافقاً؛ ولهذا حين أمره أن يركب في السفينة امتنع عن ذلك، وقال: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ[هود:43] .

    وأما قوله: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ[هود:46] ، فمعناه أن عمله غير صالح، هذا أرجح شيء في التفسير؛ ولذلك فالقراءة الأخرى: (إنه عَمِلَ غَيْرَ صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم).

    وقالت طائفة من أهل العلم: معنى (إنه عمل غير صالح) أنه كسب غير صالح، فكأنه هو لم يصلح، فالولد عمل من الأعمال من كسب أبيه؛ لكن هذا الولد غير صالح، حيث لم يكن من أهل الجنة.

    انظر عتاب الله لنوح عليه السلام لدعائه هذا؛ لأنه بين أن العتاب على مسألته، وأنه ظن أن الله أخلف الوعد، فأراد أن يذكره بالوعد، وأن ينجي هذا الولد لأنه من أهله؛ ولذلك اعتذر نوح من هذا فقال: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ[هود:47] ، فتاب الله عليه، فتوبته كانت من دعائه؛ لأنه دعا ما لم يأذن له به؛ ولذلك يعتذر بها يوم القيامة عندما تطلب منه الشفاعة كما سنذكر في حديث الشفاعة.

    1.   

    رفع إدريس ورفع عيسى عليهما السلام

    السؤال: ذكر الله أنه رفع إدريس مكاناً علياً، فما الفرق بين رفعه ورفع عيسى؟

    الجواب: رفع إدريس ليس كرفع عيسى، فإدريس لم يرد فيه أنه سينزل، بل أخبر الله أنه رفعه مكاناً علياً، وهذا الرفع يحتمل أن يكون رفعاً معنوياً ويمكن أن يكون رفعاً حسياً، ويمكن أن يكون لروحه وجسده، ويمكن أن يكون لجسده بعد موته، ويمكن أن يكون لروحه فقط؛ كل ذلك محتمل، ولم يرد فيه شيء يفسره؛ لكنه رفع بعد موته.

    وأما عيسى فإن الله توفاه في الدنيا، بمعنى: أنهى رسالته وأنه قد أدى مهمته وانتهت رسالته، وهذا معنى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ[آل عمران:55] ، وقد رفعه الله حياً بروحه وجسده؛ ولذلك سيعود كما رفع، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سينزل حكماً عدلاً، وقت صلاة الفجر عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وسيحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فسيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وهذا في الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويشهد له أيضاً قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا[النساء:159] ، وسينزل بين ملكين يمنيه على أحدهما ويساره على الآخر، كأنما خرج من ديماس إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان، وإذا طأطأه تساقط منه، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات من حينه، ونفسه يبلغ حيث يبلغ بصره، وهو الذي يقتل المسيح الدجال.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755992262