الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
أما بعد:
فمن أركان الإيمان أن يصدق المؤمن يقيناً بأن هناك يوماً يجمع الله فيه الأولين والآخرين، ويحاسبهم على ما قدموا من خير أو شر، وهذا المعنى مذكور في قول ربنا جل جلاله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، وكذلك في قول ربنا جل جلاله: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285] إلى أن قال: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، فقوله: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )) متضمن الحديث عن اليوم الآخر، وأيضاً عاب ربنا سبحانه وتعالى في القرآن قوماً فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31]، وقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [يونس:45]، وقال: وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية:32-34]، فالإيمان باليوم الآخر ركن ركين لا يسلم دين المرء إلا إذا صدق به تصديقاً جازماً، ونؤمن باليوم الآخر أيها الإخوان! إجمالاً وتفصيلاً، أما الإجمال فهو ما ذكرت، نؤمن بأن هناك يوماً يجمع الله فيه الناس ويحاسبهم، ونؤمن تفصيلاً باليوم الآخر، ومن ذلك الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، ومن ذلك الإيمان بالنفخ في الصور، والإيمان بالحشر، والإيمان بتطاير الكتب، والإيمان بالميزان، والإيمان بالصراط، والإيمان بالجنة والنار، بالتفاصيل التي ورد ذكرها في كتاب ربنا، وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
يا أيها الإخوة الكرام! الموت هو أول مراحل الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من مات فقد قامت قيامته )، أي: أنه انتقل من دار إلى دار، ومن حال إلى حال، (والقبر أول منازل الآخرة، فإن كان خيراً فما بعده خير منه، وإن كان شراً -عياذاً بالله- فما بعده شر منه).
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يستعيذ بالله من عذاب القبر، وعلمنا صلوات ربي وسلامه عليه إذا فرغ أحدنا من التشهد ألا يسلم حتى يستعيذ بالله من أربع فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال ).
وعلمنا صلى الله عليه وسلم إذا أصبحنا أن يقول أحدنا: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر)، يقولها ثلاثاً إذا أصبح، وثلاثاً إذا أمسى، وكان صلوات ربي وسلامه عليه إذا كان في جنازة يقول لأصحابه: (تعوذوا بالله من عذاب القبر)، ومعلوم بأنه صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ إلا من شيء واقع، ومن شيء حاصل.
ولو سأل سائل وهذا السؤال يطرحه بعض الناس يقولون: إذا كان عذاب القبر حقاً، فلماذا لم يرد ذكره في القرآن؟ فنجيب هؤلاء بجوابين أحدهما مجمل، والآخر مفصل.
أما الجواب المجمل، فنقول لهم: نحن المسلمين لا نأخذ عقائدنا من القرآن وحده، بل من القرآن ومما ثبت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، ولأن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )؛ ولأن ربنا جل جلاله قال عن نبيه عليه الصلاة والسلام: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وربنا سبحانه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]، فنبينا عليه الصلاة والسلام يفسر القرآن، فيفصل المجمل ويقيد المطلق، ويبين المشكل، وهو ترجمان القرآن عليه الصلاة والسلام في سنته القولية، وسنته العملية، ولذلك قال ربنا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النور:56]، لكن من الذي علمنا أن صلاة الصبح ركعتان جهريتان، وفي كل ركعة ركوع واحد وسجدتان، ثم في نهاية الأمر لا بد من جلوس وبعده سلام، هذا كله ما عرفناه من القرآن، فمن أين أخذنا صفة صلاتنا؟ من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقل مثل ذلك في الحج، وقل مثل ذلك في تفاصيل الزكاة، فالإنسان الذي يقول: أنا أعمل بالقرآن وحده وليس لي علاقة بشيء سوى ذلك هذا إنسان جاهل، ونقول له: لن تعرف كيف تعبد ربك إلا إذا تعلمت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك أشياء من المحرمات نجتنبها وليست في القرآن، فنحن معشر الرجال المسلمين لا نتحلى بالذهب، ولا نلبس من الثياب ما كان حريراً، ولا نأكل لحم الحمر الأهلية، ولا نأكل ذوات الناب من السباع، ولا ذوات المخلب من الطير، فلا أحد منا يأكل لحم الحمار، وليس منا من يذبح له كديسة (القطة)، أو كلباً فيأكله، وهذا كله ليس في القرآن، وإنما عرفنا تحريم هذه الأشياء من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا هو الجواب المجمل.
وأما الجواب المفصل فنقول: قد ورد ذكر عذاب القبر في القرآن، فإن القرآن الكريم حدثنا عن عذاب القبر في كثير من المواضع، منها ما كان في سورة الأنعام، في قول ربنا جل جلاله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، وهذه الآية واضحة ما تحتاج إلى شرح، يخاطب الله عز وجل الواحد منا فيقول: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ غمرات الموت جمع غمرة، أي: سكراته، وسميت سكرة الموت غمرة؛ لأنها تغمر الإنسان وتستغرقه، ثم قال: وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ ، فالله عز وجل يصور مشهد قبض الروح تصويراً حسياً، أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ملك الموت يقول: (اخرجي أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب)، فملك الموت إذا أراد أن يقبض روح الكافر أو روح المنافق، أو روح الفاجر، يقول هذا الكلام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فتتفرق روحه في جسده، فينتزعها ملك الموت كما ينتزع السفود من الصوف المبلول )، يعني: عصا فيها زيت أو فيها دهن التصقت بصوف، فإنها لا تخرج إلا ومعها بعض هذا الصوف، فالملائكة تقول: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ، ثم تقول: (اليوم)، أي: يوم الموت، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ، فقولهم: اليوم هو يوم الموت، وليس يوم القيامة، فيوم القيامة ما يقال لهم: أخرجوا أنفسكم، وإنما يكون هذا يوم الموت.
الموضع الثاني في سورة غافر في قول ربنا جل جلاله: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:45-46]، قال الله عز وجل: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا أي: صباحاً ومساءً، ثم قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ، إذاً: النار التي كانوا يعرضون عليها غدواً وعشياً هي غير النار التي تكون يوم القيامة، فهذه نار شديدة، ويوم القيامة أشد العذاب.
وقد روى الإمام ابن أبي الدنيا ( أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان في سفر بين مكة والمدينة، ولما جاء إلى المدينة حكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بينما كان في الطريق انشقت الأرض، وخرج رجل جسده يشتعل عليه ناراً، وكان في يد عبد الله بن عمر إداوة من ماء، فقد كان مسافراً يحمل معه ماءً يقول: فقال لي: انضح يا عبد الله! قال: فما أدري هل عرف اسمي، أم ناداني بما كانت العرب تنادي به غيرها؟ قال: ورجل قائم في القبر يجره بسلسلة يقول: لا تنضح يا عبد الله !) ذاك يقول: انضح، أي: رش، والآخر يقول: لا تنضح، قال: ( ثم جذبه، والتأمت الأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو ما عرفته يا عبد الله بن عمر! ذاك عدو الله أبو جهل يفعل به ذلك إلى يوم القيامة )، وقرأ هذه الآية: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ، ومعلوم بأن أبا جهل كان واحداً من الفراعنة، ولذلك لما قتل قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( قتل اليوم فرعون هذه الأمة )، إذاً هذه الآية دليل على عذاب القبر.
ومن الآيات كذلك خواتيم سورة الواقعة، قال الله عز وجل: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:83-85] إلى أن قال سبحانه: وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة:92-95] بمعنى أن الإنسان يبدأ رحلة النعيم، أو رحلة العذاب عياذاً بالله منذ أن تبلغ روحه الحلقوم، مع أنه ما زال بيننا لم يغادر دنيانا والملائكة تعالج روحه، فتبدأ جذبها من قدميه، ولا يزال جسده يبرد حتى إذا بلغت الروح الحلقوم فإنه حين ذلك إن كان مؤمناً بدأت رحلة النعيم تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، الملائكة تبشره عند الموت، ولذلك يحب لقاء الله، ويستعجل خروج هذه الروح، ويفتح له باب إلى الجنة.
ولذلك بعض المحتضرين، وهو في سياق الموت تبسم، وبعضهم قال: ما أجمل الجنة، ما أحلاها، إني أراها، مثلما قال أنس بن النضر رضي الله عنه: واهاً لريح الجنة إني أجدها من دون أحد، وهو رضي الله عنه في السياق، ومثلما قال بلال بن رباح رضي الله عنه، لما قالت زوجه وهو في سياق الموت: وا كرباه! قال: بل وا طرباه! غداً ألقى الأحبة، محمداً وحزبه، ومثلما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: مرحباً بالموت، مرحباً بحبيب جاء على فاقة، يرحب بالموت لأنه رأى ما أعد الله له في الجنة.
وبالمقابل -والعياذ بالله- الكافر والفاجر يفتح له باب إلى النار، فيرى ما أعد الله له من العذاب، (فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه)، ولذلك بعضهم يصرخ، وبعضهم ربما يقول: النار النار، وما إلى ذلك والعياذ بالله.
فرحلة النعيم، أو رحلة العذاب تبدأ منذ أن تبلغ الروح الحلقوم؛ لأن الله قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85].
كذلك من أدلة القرآن قول ربنا جل جلاله: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ [السجدة:21]، فقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما العذاب الأدنى بأنه عذاب القبر.
وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تواترت فيها الأحاديث تواتراً معنوياً، فإذا قرأها المسلم فإنه يصل إلى يقين بأن هذه القبور التي نمر بها ليست سواء، لذلك كان علي رضي الله عنه إذا مر بالمقابر قال: ما أسكن ظواهرك وفي دواخلك الدواهي، فالقبور ظاهرها سواء، لكن بعد ذلك الناس فيها بعضهم في روضة من رياض الجنة، وبعضهم -والعياذ بالله- في حفرة من حفر النار.
ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس )، فالرسول عليه الصلاة والسلام يرى ما لا نرى، ويسمع ما لا نسمع، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( لولا ألا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم مما أسمع )، وقال: ( لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون ).
ففي حديث ابن عباس ذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام مر بالمقابر، فلما أتى على قبرين قال: (إنهما ليعذبان) أي: صاحبا القبرين يعذبان، (وما يعذبان في كبير) أي: بزعمهما، كانا يعتبرانه شيئاً تافهاً، ثم قال: (بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله)، عدم الاستتار من البول يحمل على أربعة معانٍ:
المعنى الأول: كشف العورة، فتجد الآن بعض السفهاء إذا أراد أن يبول، فلربما يقف في ميدان من الميادين، ويبول ولا يبالي بمن ينظر إليه، ولا يبالي بمن يراه، فهذا يعذب في قبره؛ لأنه لا يستتر من بوله.
المعنى الثاني: (لا يستتر من بوله) أي: لا يتقي رشاشه، وهذا أيضاً متصور فيمن يبول وهو قائم، فإن النجاسة تأتي على ثيابه، وتأتي على بدنه وهو لا يبالي بذلك.
المعنى الثالث: يحمل على التعجل قبل استفراغ ما في المخرج، فإن بعض الناس مطبوع على العجلة، يستعجل دائماً، فتجده إذا بال لا يصبر إلى أن يستفرغ ما في المخرج، وإنما يقوم بسرعة، ويلبس ثيابه، وبمجرد ما يقوم فإن قطرات من البول تسيل على بدنه وثيابه، وهذا أيضاً لا يستتر من بوله.
المعنى الرابع: أنه لا يعنى بقطع هذا الخارج عينه وأثره، المعنى: أنه ما يعنى بالنظافة بعد ما يقضي حاجته، فلا يستخدم ماءً، ولا يستخدم يابساً منقياً، وإنما يخرج، وهذا أيضاً موجود عند بعض الناس، نسأل الله العافية، فتجده يعيش كالبهائم يبول ويمشي.
إذاً: قوله: (لا يستتر من بوله) معناها: إما كشف العورة، وإما عدم اتقاء الرشاش، وإما التعجل قبل استفراغ ما في المخرج، وإما عدم العناية بالاستبراء من البول، (ثم أخذ صلى الله عليه وسلم جريدة رطبة فشقها نصفين، ووضع على كل قبر نصفاً، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا).
وثبت في الصحيحين أيضاً من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على دابته فمر ببعض المقابر، فنفرت دابته حتى كادت تطرحه، -يعني: هذه الدابة تضايقت وبدأت تتحرك تحركاً شديداً حتى كادت تلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال عليه الصلاة والسلام: قبور من هذه، فذكروا ستة ماتوا على الشرك -والعياذ بالله- فقال: إن هؤلاء يعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم )، ولذلك الآن إذا مررت بالمقابر فوجدت بهيمة عند قبر مطمئنة تبحث وتأكل، فتفاءل خيراً بأن صاحب هذا القبر في خير إن شاء الله.
يقول الإمام أبو عبد الله بن القيم رحمه الله: ولذلك كنا في بلاد الشام إذا مغلت الدواب، يعني: أصيبت بالإسهال، استطلق بطنها فمرضت، قال: كانوا يذهبون بها إلى قبور اليهود والمنافقين من النصيرية والإسماعيلية، قال: فلا تمكث هناك إلا يسيراً فتنطلق تعدو، تنسى مرضها، إذ العافية جاءت؛ لأنها وجدت مصيبة أعظم وأكبر، يعني -مثلاً: عافانا الله وإياكم- هناك مريض وراقد فشب حريق في البيت، فهل سيقول: والله أنا تعبان تعالوا خذوني؟ لا، حتى لو كان مشلولاً؛ فإنه سيحاول أن يخرج بأي سبيل من السبل، فعذاب أهل القبور تسمعه البهائم، ولذلك في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فيصيح صيحة يسمعه من في السموات ومن في الأرض، إلا الثقلين )، أي: إلا الجن والإنس؛ لأننا لو سمعناه ما عاد غيباً، وسيصدق الجميع المؤمن والكافر، لكن الله ابتلانا بأن يغيب عنا هذه الأشياء من أجل أن يتبين من المصدق الذي يؤمن بعالم الغيب كإيمانه بعالم الشهادة، ومن المرتاب المتشكك، ومن الضال المكذب، فالله جل جلاله غيب، والملائكة غيب، والجن والشياطين غيب، والجنة والنار غيب، وعذاب القبر ونعيمه أيضاً غيب، فهذه كلها غيوب، ينبغي أن نؤمن بها ونصدق؛ لأن الخبر قد ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب ربنا جل جلاله.
أيضاً من الأدلة الحديث الطويل الذي حكاه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم في بقيع الغرقد: (
فإذا وضع في قبره، وتولى عنه مشيعوه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، يأتيه ملكان فيجلسانه ويسألانه وينتهرانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل هو محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيقول له الملكان: كيف عرفت ذلك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وعرفت ما فيه، فينادي منادٍ من السماء: صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها فيقول: رب أقم الساعة، فيقول الملكان: نم نومة العروس، وتمر عليه فترة البرزخ كصلاة ظهر أو صلاة عصر، وأما العبد الفاجر -والعياذ بالله- إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا نزلت عليه ملائكة من السماء، سود الوجوه، معهم كفن من أكفان النار، ويقول ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، فتتفرق روحه في جسده، فينتزعها ملك الموت، كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، ثم يجعلونها في ذلك الكفن، ويصعدون بها إلى السماء، فتغلق دونها أبواب السماء، وتلا: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، فإذا وضع في قبره وتولى عنه مشيعوه، يأتيه ملكان فيسألانه وينتهرانه: من ربك؟ فيقول: ها ها، لا أدري، ما دينك؟ فيقول: ها ها لا أدري، ما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ها ها لا أدري )، وفي بعض الروايات: (بأنه يسكت، فيقول له الملكان: محمد؟ فيقول: هو رسول الله، يقول له الملكان: كيف عرفت ذلك؟ يقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته، فيقول له الملكان: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمرزبة من حديد لو ضربت بها جبال الدنيا لصارت تراباً، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة).
مسألة: بعض الناس يقولون: إننا كشفنا عن القبور فما وجدنا شيئاً.
فنقول لهؤلاء:
أولاً: عالم الآخرة لا يقاس على عالم الدنيا.
ثانياً: نار القبر ليست بالضرورة أن تكون كنار الدنيا، يعني: أليس في قدرة الله عز وجل أن يحمي التراب والحصباء تحت هذا الميت، حتى تكون أشد من نار الدنيا أضعافاً مضاعفة، فالآن مثلاً مما أنتجه البشر بعض الأفران الكهربائية هذه لو فتحتها تراها عادية كأنها ليس فيها شيء، لكن لو وضعت يدك عليها فربما تذهب يدك في خبر كان، وربما تسيح حتى ما تجدها، فإذا كان البشر قد صنعوا هذا أليس في قدرة الله؟! ثم أرانا الله أيضاً هذه الأسلاك الكهربائية، الآن الإنسان يمسك بها وهو مطمئن، لكن لو أن هذا الغشاء البلاستيكي الذي عليها نزع، وأفضيت إليها مباشرة أين ستكون؟ ستكون في خبر كان، فهذا الميت أيضاً يبدو لنا كما هو، لكن ما أدراك أنه كما هو، ثم جعل الله لنا مثلاً في الدنيا، فالآن تجد مثلاً في أيام الاعتكاف في رمضان، تجد رجلين نائمين أحدهما مبسوط ومنعم، ويشعر بأنه في جنة وفي رحمة وفي كذا، والآخر متألم ومعذب وتجده وهو نائم يهز برأسه، وربما يتأوه، ويصدر أصواتاً وما إلى ذلك حتى يوقظه الناس، وهما نائمان بجوار بعضهم، هذا في الدنيا يا إخواننا، يرى الإنسان هذا، فما بالكم بعالم الآخرة الذي لا يخطر على بال.
على كل حال: هذا موضوع من أراد أن يتوسع فيه، فهناك بعض المراجع منها كتاب الروح للإمام ابن القيم، وهناك كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة للإمام القرطبي، وهناك كتاب اسمه شرح الصدور بأحوال الموتى وأهل القبور للإمام الجلال السيوطي، وكتب أخرى، ويمكن للإنسان أيضاً أن يرجع إلى كتب العقائد المختلفة، فيجد فيها بياناً وجواباً لتلك الشبهات.
أسأل الله أن يجيرنا من النار برحمته.
السؤال: امرأة أوصت قبل وفاتها أن ينتهي العزاء بانتهاء مراسم الدفن، ولا عزاء للنساء، ما حكم ذلك؟
الجواب: هي لما قالت: ينتهي العزاء بانتهاء مراسم الدفن، ليس مقصودها بأنه ما فيه عزاء، إنما هذه العبارة يقصد بها أنه لن يكون عزاء على ما تعورف عليه من إقامة سرادق، وصنعة الطعام، وتوزيع المشروبات، ووضع الأرائك وما إلى ذلك مما يفعله الناس.
وأما قولها: لا عزاء للنساء، فأيضاً لأنها عهدت من نساء قومها أن العزاء يكون معه معاص كالنياحة والندب، والندب بمعنى: توصيف الميت: يا زينة الشباب! يعني: كما كان النساء في الجاهلية يقلن: وا جبلاه! وا جملاه! وا عضداه! وا سيداه! وكذا وكذا؛ لأن هذا كله عذاب للميت، ولذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه لما كان في السكرات فزوجته قالت: وا سيداه! وا عضداه! أفاق فقال لها: والله ما قلت كلمة إلا لكزتني الملائكة، أنت كذلك؟ يعني: قالت وا سيداه، فقالت الملائكة: أنت سيد؟ وا عضداه!.. يقول: (وأنا بريء مما برئ منه الله ورسوله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة)، والصالقة هي: التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة هي: التي تحلق شعرها، والشاقة هي: التي تشق ثيابها.
طبعاً الآن بحكم الأوضاع الاقتصادية ليس هناك رجل يشق ثيابه، وبسبب أن الشعر أصلاً قليل، وحتى الموجود: النساء يحرصن عليه، ليس هناك واحدة تحلق رأسها، لكن ما زالت الصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة موجودة.
السؤال: هل سيدنا عيسى رفعه الله إليه، أم توفاه ربه؟ وإذا رفعه الله إليه، فهل الرفع بالجسد أم بالروح؟
الجواب: قول ربنا جل جلاله: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ [آل عمران:55]، الوفاة في القرآن تطلق على النوم، كما في قول ربنا جل جلاله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60]، وكما قال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من النوم قال: ( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا )، وربنا جل جلاله من رحمته أنه قبل أن يرفع عيسى ألقى عليه النوم، ما الغرابة؟ فمثلاً الآن الواحد إذا أراد أن يجري عملية جراحية فإنه ينوم، فالله عز وجل ألقى على عيسى النوم ثم رفعه، ولذلك هذه الآية فيها ثلاثة تفسيرات:
التفسير الأول: أن الوفاة بمعنى النوم، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55] يعني: منومك ثم أرفعك.
التفسير الثاني: بأن الوفاة ههنا بمعنى الضم، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55] أي: أضمك، كما تقول: توفيت ديني من فلان.
التفسير الثالث قالوا: في الآية تقديم وتأخير، والأصل: إني رافعك إليّ ومتوفيك، يعني: بعد ما تنزل إلى الأرض، قالوا: ومنه قول القائل:
ألا يا نخلة من ذات عرق عليك ورحمة الله السلام
فالشاعر قال: عليك ورحمة الله السلام، يعني: عليك السلام ورحمة الله، فالعرب تقدم وتؤخر، والقرآن نزل بلسان عربي مبين.
السؤال: هل يدلى الميت إلى القبر من جهة رأسه؟
الجواب: السنة أن يدلى الميت في قبره من جهة رجليه، هكذا كان يفعل الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس من السنة أن ننزل الميت من جهة الرأس، وإنما من جهة رجليه ننزله في قبره ونضعه موجهاً إلى القبلة على شقه الأيمن ويقول الواضع: (باسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
أما بالنسبة للتكبيرات على صلاة الجنازة فيمكن أن تصل إلى تسع تكبيرات، لكن استقر العمل كما قال الإمام النووي رحمه الله على أنها أربع تكبيرات، فأقل من هذا لا يصح، وتكون الصلاة باطلة.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم اجعل خير عملنا خواتمه، وخير عمرنا أواخره، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتوفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان، وأحسن الختام يا علام، اللهم إنا نعوذ بك من الكفر والفقر، ونعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال، اللهم اجعلنا ممن ينادون عند الموت أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل هذا المجلس المبارك شاهداً لنا لا علينا، واجعله في صحائف حسناتنا يوم نلقاك، وكما جمعتنا فيه نسألك أن تجمعنا في جنات النعيم، وأن ترزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأن تجعلنا إخواناً على سرر متقابلين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر