إسلام ويب

شرح الترمذي - باب الاستنجاء بالحجرين [8]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حال الجن كحال الإنس في التكليف والجزاء، وهم ينقسمون بناء على ذلك إلى صالح وطالح، وعاص وطائع، ومؤمن وكافر، وقد أخبر الله عز وجل أن عاصيهم يعاقب وكافرهم مصيره النار، ومطيعهم يثاب ومؤمنهم يدخل الجنة، وعلى هذا اجتمع جمهور أهل العلم من أهل السنة والجماعة.

    1.   

    قصة تبين عناية التابعين والسلف بآثار الصحابة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين, ورضي الله عن الصحابة الطيبين, وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهّل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

    اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

    سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

    اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

    إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس ترجمة سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وتقدم معنا أن ترجمته الطيبة المباركة ستدور حول ثلاثة أمور:

    أولها: فيما يتعلق بنسبه وصلته بنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    وثانيها: في منزلة عبد الله بن مسعود العلمية, وقد تقدم الكلام على هذين الأمرين.

    والأمر الثالث: شرعنا في مدارسته وما أكملناه, ولعلنا ننتهي منه في هذه الموعظة المباركة بإذن الله, وبذلك نكون قد انتهينا من ترجمة هذا الصحابي الجليل المبارك.

    الجانب الثالث كما قلت: لمحة لأقواله المحكمة الحكيمة وإرشاداته القيمة القويمة, وقد طالت ترجمته كما تقدمت معنا، ويعلم الله ما كان في نيتي أن تكون هكذا، وكنت أتوقع أن ننتهي منه في موعظة واحدة، ولكن قدّر الله وما شاء فعل. وعلى كل حال نحن ما زلنا في ترجمته, وقد تقدم معنا منزلته في الإسلام.

    والأمر وإن طال فهو كثير قليل في حق هذا الصحابي الجليل, رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.

    وكنت قدّمت في ترجمته وفي ترجمة غيره من أصحاب نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه, أن مدارسة أخبار الصحابة دين نتقرب به إلى رب العالمين.

    واسمعوا إلى هذه القصة الطريفة التي يذكرها الإمام الذهبي , ويرويها عن حبرين عالمين صالحين من علماء التابعين، ألا وهما: صالح بن كيسان , والثاني: محمد بن شهاب الزهري عليهم جميعاً رحمة الله.

    والقصة أوردها الإمام الذهبي في ترجمة صالح بن كيسان في الجزء الخامس صفحة 455 من سير أعلام النبلاء، وعند ذكر هذا الكتاب, كتب لي بعض الإخوة في الليلة الماضية من بعض البلاد, وقال: حدثنا عن هذا الكتاب لكثرة ما أنقل عنه، فنسأل الله جل وعلا أن يرحم أئمتنا, وأن يجزيهم عنا خيراً.

    والقصة أوردها الذهبي في هذا المكان -كما قلت- في الجزء الخامس صفحة 455 في ترجمة صالح بن كيسان : وهو ثقة ثبت عدل رضا، حديثه مخرجٌ في الكتب الستة، وكان شديد الصلة بالخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين، وقد كان عمر يعهد إليه بتأديب أولاده وتربيتهم, رضي الله عنهم أجمعين.

    وكان يقول له: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الغناء, الذي بدايته من الشيطان, وعاقبته سخط الرحمن.

    وكان صالح بن كيسان رضي الله عنه من شيوخ المسلمين، وقد رأى عبد الله بن عمر فهو من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وقد توفي سنة 130هـ، وقيل: 140هـ.

    وأما ابن شهاب الزهري فهو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أمير المؤمنين في الحديث، وتقدم معنا أنه توفي سنة 125هـ أو قبلها بسنتين 123هـ.

    اجتمع هذان التابعيان الجليلان الفاضلان، فاتفقا كما يقول صالح بن كيسان على أن يكتبا جميع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ممن كان حياً من الصحابة الكرام, ومن التابعين الذين تلقوا الأحاديث عن الصحابة عن نبينا الأمين, على نبينا وآله وصحبه جميعاً صلوات الله وسلامه.

    يقول: فكتبنا كل حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهما ذلك الوقت في مكانهما حسب وسعهما.

    فبعد أن فرغنا من ذلك قال لي محمد بن شهاب الزهري : هلم لنكتب آثار الصحابة الكرام، فقلت له: إن آثار الصحابة ليست سنة، قال: بلى إنها سنة.

    قال صالح بن كيسان : فكتب محمد بن شهاب آثار الصحابة وأخبارهم ولم أكتبها، إنما اكتفيت بكتابة الحديث المرفوع إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

    فأنجح محمد بن شهاب وأفلح، ووصل الأمر بـصالح بن كيسان في نهاية أمره أن تتلمذ على محمد بن شهاب الزهري من أجل معرفة آثار الصحابة ومعرفة أحكام الشريعة. وصالح بن كيسان أكبر سناً من محمد بن شهاب , عليهم جميعاً رحمة الله.

    فتعلم -كما قلت إخوتي الكرام-! أخبار الصحابة, ومعرفة آثارهم هذا دين، نتقرب به إلى رب العالمين.

    وكنت ذكرت مراراً في مباحث النبوة, وهي من الأمور التي يُعرف بها صدق الرسول, على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه النظر إلى حال أصحابه، هذا واحد من الأمور الأربعة؛ لأن التلاميذ صورة شيخهم، والصحابة أيضاً صورة من نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    1.   

    كلام ابن مسعود في الحث على إيثار الآخرة على الدنيا والمفهوم الخاطئ حول ذلك

    فقد تقدم معنا ما في ترجمة عبد الله بن مسعود من الخير والبركة والنور والفضيلة, تقدم معنا ونكمل ترجمته إن شاء الله.

    إخوتي الكرام! آخر شيء ذكرته في ترجمته, ونسبت القول إلى من خرّجه عنه أنه قال: من أحب الفاني أضر بالباقي، ومن أحب الباقي أضر بالفاني، فقال: أضروا بالفاني من أجل الباقي.

    موافقة كلام ابن مسعود للكلام النبوي

    وقلت: هذا الكلام كلام محكم لا يخلو من مشكاة النبوة، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام نظيره، وما تلقى هذا المعنى عبد الله بن مسعود إلا من نبينا المحمود, على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    وقلت: ورد معنى هذا مرفوعاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وكنت ذكرت الحديث أيضاً فيما مضى.

    وقلت إخوتي الكرام: إن الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، والبزار أيضاً في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير، وقال الإمام الهيثمي : رجاله ثقات، ورواه ابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه، وابن أبي عاصم في كتاب الزهد، والبغوي في شرح السنة.

    ورواه البيهقي كما تقدم معنا في السنن وفي شعب الإيمان وفي كتاب الزهد وفي كتاب الآداب.. في أربعة من كتبه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه؛ فآثروا ما يبقى على ما يفنى ) . وقلت: نقل نظير هذا عن عمروعن غيره رضي الله عنهم أجمعين.

    معنى إيثار الآخرة على الدنيا

    وختمت الكلام في الموعظة الماضية إخوتي الكرام! بأمر ينبغي أن نعيه أيضاً في بداية هذه الموعظة، وهو أن معنى حب الآخرة وإيثارها على الدنيا أن نؤثر طاعة الله جل وعلا على هذه الحياة، كما أن معنى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة أن نركن إليها, وأن نغفل عن الآخرة.

    وليس معنى ذلك أن نتجرد من الدنيا، لا ثم لا، إنما نسأل الله أن يجعلها في أيدينا لا في قلوبنا، فإذا جاءت لا نفرح بها، وإذا ضلّت لا نحزن عليها، ونحمد الله جل وعلا على الحالتين، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.

    فليس معنى حب الآخرة وإيثارها على الدنيا أن نبتعد عنها، وأن لا يكون لنا مسكن ولا ملبس ولا زوجة ولا تجارة ولا ولا. لا، إنما يكون لنا هذه الأشياء، لكن لا نتصرف فيها إلا على حسب شريعتنا الغراء.

    ولذلك اتفق أئمتنا الأتقياء على أن معنى قول العبد الصالح أبي سليمان الداراني : إذا أراد الله بعبد خيراً لم يشغله بمال وزوجة وولد. قالوا: ليس معنى هذا ألا يكون له هذه الأشياء، يعني: ليس عنده مال ولا زوجة ولا ولد، ولكن المعنى أن عنده مال وزوجة وأولاد، لكن لا يشغلونه عن طاعة رب العباد.

    فالزوجة تعينه على الآخرة، والولد كذلك ينتفع به ويربيه ويحصّل من ورائه أجراً كثيراً، والمال يستعمله في طاعة الله, ويجعله مركباً إلى رضوان الله.

    لكن من أحب الدنيا وآثارها على الآخرة فإنه سيترك المأمورات, ويرتكب المحظورات؛ من أجل أن يصل إلى الغاية الرديئة التي تطلع إليها, وهي: إيثار الدنيا على الآخرة.

    كما قلت: هذا الكلام ينبغي أن نعيه تمام الوعي في معرفة حب الدنيا وحب الآخرة، وليس معنى حب الآخرة أن نتجرد من الدنيا، إنما معناه أن نؤثرها -كما قلت- على هذه الحياة.

    1.   

    تحذير ابن مسعود من البطالة

    من أقوال عبد الله بن مسعود المحكمة الحكيمة القيّمة القويمة، أنه كان رضي الله عنه يحذّر من البطالة, وما أكثر البطّالين في هذا الحين، فترى بعضهم لا يشغل نفسه لا بأمر الدنيا ولا الدين؛ بطّال.. لا يعمل فيما ينفعه في دنياه ولا فيما ينفعه في آخرته، يضيّع الأوقات ويقتلها بلا فائدة، هذه البطالة.

    فكان يحذّر من هذا ويقول كما في حلية الأولياء في الجزء الأول صفحة 130، وكتاب الزهد للإمام أحمد صفحة 159, قال هذا العبد الصالح عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل الآخرة ولا في عمل الدنيا.

    ليس عنده حرفة ولا مهنة يقوم بها، ولا يشغل نفسه أيضاً بطاعة يتقرب بها إلى الله جل وعز ؛ بطّال، ما عنده إلا أن يدور هنا وهناك، وأن يشغل الناس بعد أن ضيّع نفسه، فهؤلاء الذين يزاحمون الناس في الأسواق، ويتسببون في حصول الغلاء ليس منهم فائدة، هؤلاء البطّالون، لا يعملون في أمر دنيا ولا في آخرة.. لا يشغلون أنفسهم بشيء.

    يا عبد الله! اتخذ مهنة تقوم بها؛ فأنت تتقرب بها إلى الله، أو تفرغ لعبادة الله جل وعلا، ولا تجلس بدون شيء يعني إما نوم وإما أن تدور هنا وهناك، حقيقةً هذا من البلاء الذي أصيب به الناس في هذه الأيام.

    ومن مستسمعات الأخبار والقصص التي سمعتها من الأشخاص، مرة في بعض الدوائر في مراجعتي قضية من القضايا، وبعض الناس يعرك عينيه، وهكذا يتنطع ويتفاءل كالبقر، ولعله لا يشتغل في اليوم بمقدار درهمين، ثم بعد كل هذا يقول: ياليت أنه بنت، يعني: يستريح من هذه الحياة, أنه جالس يعمل، وماذا يعمل؟ يصيح في هذا ويصرخ في هذا, ولا يقدّم جهداً ولا عملاً، مع ذلك يتمنى لو كان بنية حتى ينام في البيت، وكأن البنية لا تشتغل بهذه الحياة. هذه هي البطالة التي كان يحذر منها هذا العبد الصالح رضي الله عنه وأرضاه: إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة، لا يشغل نفسه بشيء.

    إخوتي الكرام! الفراغ حقيقة إذا أصيب به الإنسان، وما اغتنم وقته في هذه الحياة فهو من علامة خذلانه وغضب الله عليه.

    أعظم ما يورثه الإنسان في حياته وقته، وكما كان يقول من قبلنا: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، هو سيمر عليك ويأكل عمرك شئت أم أبيت، وما تمر عليك ثانية ليس دقيقة إلا وأخذت من حياتك جزءاً، وإذا ذهبت لم تعد، فطوبى لمن شغل الأوقات بطاعة رب الأرض والسماوات، وشقاءً لمن ضيعها بالبطالة والجهالة.

    وقد كان أئمتنا الكرام يعتبرون أكبر علامة في العبد تدل على إذلاله ومقت الله له تضييع وقته، ألا وهي البطالة، ولذلك كانوا يقولون: تضييع الوقت من المقت، إذا مقت الله عبداً وغضب عليه جعله يضيع الأوقات بلا فائدة تعود إليه.

    وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى، وأخبرنا أن أكثر الناس يغبنون نحو وقتهم، ونحو صحتهم.. فيعطى أحدهم صحة وعافية فلا يغتنمها, يُغبن نحوها.

    وقت وفراغ لا يغتنمه فيشغل نفسه فيه بما يعود عليه بفائدة، يُغبن فيه، كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري وسنن الترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه الإمام البيهقي في الزهد من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ورواه البزار في مسنده, والطبراني في معجمه الأوسط بسند صحيح عن أنس .

    وأما الرواية الأولى فتقدم معنا في البخاري ، فلا داعي للتنصيص على صحتها كما يفعل بعض أهل السقط في هذه الأيام فيقول: في البخاري قلت: وهو صحيح.. لا داعي لهذا. واضح هذا؟ في البخاري انتهى، وأما بعد ذلك: في البزار وفي معجم الطبراني الأوسط نعم، بسند صحيح كما قال الإمام الهيثمي.

    ولفظ الحديث من رواية عبد الله بن عباس وأنس بن مالك رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ) . والغبن هو: الخسران، وضياع رأس المال.

    أي: يغبنون ويخسرون، والناس نحو نعمة الوقت إما أن يُغبنوا وإما أن يُغبطوا، فنسأل الله أن يجعلنا من المغبوطين؛ بحيث يتمنى العقلاء الكيسون مثل حالنا، وألا يجعلنا من المغبونين، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    1.   

    موقف ابن مسعود من حبس اللسان والتحذير من زلاته ومن الجهالة

    وكما كان يحذّر رضي الله عنه وأرضاه من البطالة، فكان يحذّر أيضاً من الجهالة، ومن خوض اللسان في الرذالة. والأمران مقترنان، فإذا كان الإنسان بطّالاً يضيع الأوقات سيجهل مع الجاهلين, ويطلق لسانه بما يندم عليه أمام رب العالمين.

    فإذاً: لا بطالة ولا جهالة، وما ينبغي أن يخوض الإنسان كما قلت في الرذالة، ولذلك أكثر الأشياء بحاجة إلى ضبط ومسك وسجن هي أصغر الأعضاء فيك، ألا وهي اللسان، الذي هو صغير الجرم لكنه كبير الجرم.. صغير جِرْمُهُ حجمه صغير، لكن كبير جُرْمه، إثمه ووزره وخطره، نعوذ بالله منه.

    فكان هذا العبد الصالح يقول كما في الحلية أيضاً في الجزء الأول صفحة 134: والله الذي لا إله إلا هو ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.

    لا يوجد شيء على وجه الأرض بحاجة إلى طول سجن -سجن مؤبد- يعني: ليس مؤقتاً تفرج عنه ليرتع بعد ذلك لا، هذا لا بد من أن تضبطه على الدوام.

    والله الذي لا إله إلا هو ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان، وهذا الأثر رواه عنه الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند صحيح.

    كما نص على ذلك الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة 526، والإمام الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر صفحة 303، وقال الإمام الهيثمي : رجاله ثقات. وقد روى الأثر عنه أيضاً الإمام أحمد في كتاب الزهد. وعليه، فهو في الحلية ومعجم الطبراني الكبير، والزهد للإمام أحمد : ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.

    زاد الإمام أحمد في كتاب الزهد: عن عبد الله بن مسعود أنه قال: والبلاء موكلٌ بالمنطق. وهذه من الحكم التي يتناقلها الناس, وهي من قول هذا العبد الصالح رضي الله عنه وأرضاه، ويعزى أيضاً إلى الحكيم الصالح الذي أثنى الله عليه في كتابه بسورة سماها باسمه, ألا وهي لقمان عليه وعلى سائر الصديقين الرحمة والرضوان, قال: البلاء موكلٌ بالمنطق.

    وإذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.

    إن كان يعجبك السكوت فإنه قد كان يعجب قبلك الأخيارا

    ولئن ندمت على سكوتٍ مرةً فلقد ندمت على الكلام مرارا

    إن السكوت سلامة ولربما زرع الكلام عداوة وضرارا

    حال اللسان إما أن يقول خيراً فيغنم, وإما أن يسكت عن شر فيسلم، فينبغي أن تسجنه، وإلا فاللسان حاله كحال الكلب العقور، والكلب العقور ينبغي أن يضبط دائماً، وحاله كحال الثعبان, والثعبان يحذر منه على الدوام.. فهكذا حال اللسان.

    احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان

    كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الأقران

    أي: كم من شجاع مات بسبب زلة لسانه، ولذلك كان أئمتنا يقولون: زلة اللسان تزيل الهام، وزلة الرجل تكسر الرجل فقط، يعني: الإنسان إذا زل برجله تضرر في رجله فقط، أما زلة اللسان هذا تقطع الرقبة، فليس شيءٌ على وجه الأرض أحوج إلى طول سجن من لسان، والبلاء موكل بالمنطق.

    احفظ لسانك لا تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق

    وأئمتنا يذكرون على لسان الحيوانات قصة طريفة عند هذه القضية ألا وهي: أن البلاء موكلٌ بالمنطق. طائران يطيران فرأتهما السلحفاة, وتعجبت من طيرانهما, وقالت: يا ليتني أطير مثلهما، قالا: الأمر سهل, ستطيرين وسترين عجائب خلق الله، بشرط نأخذ عليك عهداً ألا تتكلمي، قالت: لا أتكلم. فأحضرا عوداً وقالا: أنت تعضينه بفمك من الوسط، ونحن نحملك على العود لترتفعي في الجو وترين مثلنا وإن لم يكن لك أجنحة، فتعاونا على ذلك كي ترى عجائب خلق الله.

    قالت: لكما هذا العهد، قالا: إياكِ أن تتكلمي، فأحضرا عوداً, وكل طائر أمسك من جهة, والسلحفاة من الوسط فطارا، فلما رأت نفسها في الجو والعلو فرحت، وبدأت تصيح -يعني: لمعاشر السلحفاة من أشكالها وأمثالها-: أنا فوقكن، فلما فتحت فاها صارت ميتة، البلاء موكل بالمنطق.

    احفظ لسانك لا تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق

    يقول العبد الصالح عبد الله بن مسعود كما في الحلية وغيره: والله لو سخرت من كلب لخشيت أن أكون مثله.

    الزم هذه المراقبة، كلب إذا سخرت منه أخشى أن أكون مثله، هذا اللسان لا بد له من ضبط.

    قصة الكسائي واليزيدي حول حفظ اللسان

    وقد اجتمع الإمامان -وذكرت لكم القصة سابقاً- الكسائي واليزيدي ، والكسائي من القراء السبعة، وأما اليزيدي قراءته شاذة لا يقرأ بها, وهو من القراء الأربعة عشر.. ما زادوا على العشرة, ما زاد على العشرة فشاذ، اجتمعا في مجلس هارون الرشيد , فتقدم هارون , فلما حانت الصلاة قدّم هارون الكسائي ، فقرأ الفاتحة وبعدها سورة الكافرون فأخطأ في الكافرون.

    فاعترض عليه اليزيدي وقال: إمام العراق أرتج في سورة من قصار المفصّل.. سورة الكافرون تخطئ فيها! ولو سكت لما أخطأ، فلما حانت العشاء قدّم هارون الكسائي قال: لا أتقدم، يتقدّم اليزيدي , فتقدم اليزيدي فأخطأ في سورة الفاتحة، بدأ يقرأها, وارتج عليه وأخطأ، فلما سلّموا قال الكسائي لليزيدي :

    احفظ لسانك لا تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق

    وهو كذلك، هذا العبد الصالح يقول: البلاء موكلٌ بالمنطق، فلا بد إذاً من ضبط هذا اللسان.

    تبيين ابن مسعود منزلة اللسان في الخير وفي الشر

    وقد كان هذا العبد الصالح يخاطب لسانه ليبيّن للمسلمين منزلته في الخير وفي الشر، يخاطب لسانه في أعظم المواقف, وعند أفضل الشعائر ألا وهو في فريضة الحج, عندما يكون على الصفا، كان إذا رقى الصفا عند أداء النسك يقول هذا الكلام, والناس حوله؛ من أجل أن تُنقل عنه هذه الحكمة.

    والأثر مرويٌ في معجم الطبراني الكبير بسند رجاله رجال الصحيح كما في المجمع في الجزء العاشر صفحة 300، ورواها أبو الشيخ في كتاب الثواب، والبيهقي بسند حسن كما في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة 534، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت في صفحة 41.

    ولفظ الأثر عن عبد الله بن مسعود أنه رقى على الصفا فأمسك بلسانه وقال: يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شرٍ تسلم. فقال له الحاضرون: هذا شيءٌ تقوله من نفسك, أو سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام؟

    قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( أكثر خطايا بني آدم في ألسنتهم ) .

    ولذلك خذ هذه الحكمة في هذه الشعيرة: يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شرٍ تسلم.

    وهذا الكلام أيضاً أُثر عن عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، منهم العبد الصالح حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, كما في الحلية في ترجمته في الجزء الأول صفحة 328، وهكذا في كتاب الصمت لـابن أبي الدنيا في صفحة 49 عن ابن عباس رضي الله عنهما, أنه قال نظير ما قال عبد الله بن مسعود : يا لسان قل خيراً تغنم, واسكت عن شرٍ تسلم.

    ذكر ما يؤيد كلام ابن مسعود من مشكاة النبوة في حفظ اللسان

    إخوتي الكرام! هذا الهدي الذي كان عليه الصحابة الكرام، والذي هو خلق الإسلام تعلمه من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهذا المعنى مأخوذٌ من مشكاة النبوة، ومن كلام نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقد تركت معاني النبوة وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام أثراً في الصحابة، فكانوا إذا تكلموا يقولون كلاماً لكنه في الحقيقة حديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

    فهذا الكلام الذي يقوله عبد الله بن مسعود كما قلت مأخوذ من مشكاة النبوة، وقد ثبت في المسند والصحيحين من حديث أبي شريح الخزاعي وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ) .

    إذاً: ( فليقل خيراً أو ليصمت ). بمعنى أثر عبد الله بن مسعود : قل خيراً تغنم، أو اسكت عن شرٍ تسلم.

    نعم إخوتي الكرام! لا بد من ضبط اللسان، ولذلك جعل نبينا عليه الصلاة والسلام عنوان الإسلام أن يسلم أهل الإسلام من لسانك ويدك، وقدّم اللسان على اليد لشناعة ضره، فاللسان يتناول الخالق والمخلوق، ويتناول الحبيب والغريب، ويتناول البعيد والقريب، ويتناول المكلَّفين وغيرهم.

    يعني: حتى الجماد ما يسلم من لسانك، لو لعنته يسألك أمام الله: لم تلعنه؟ ولو لعنت هذه الشاة وهي مأمورة: لم تلعنها؟ وحتى الحيوانات، يعني: هذا اللسان ما سلم من ضره أحد من خالق ومخلوق، باختلاف أشكال المخلوقات.. وحقيقة إذا كان كذلك لا بد من ضبطه.

    ولذلك ثبت في المسند والصحيحين والسنن من رواية عدة من الصحابة الكرام.. من رواية جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) .

    وكما قلت: قدّم اللسان لشناعة ضره, وقبح أثره، وسعة دائرته؛ فهو أوسع دائرة من اليد، تتناول الحاضر والغائب، الخالق والمخلوق، ولذلك ( من سلم المسلمون من لسانه ويده ) هذا المعنى كان يسري في ذرات الصحابة وفي دمائهم، وفي كل موطن ينبهون عليه: يا لسان قل خيراً تغنم، اسكت عن شر تسلم. ويتلقى الناس هذه المعاني عن هذا العبد الصالح رضي الله عنه وأرضاه.

    1.   

    علاج البطالة والجهالة والرذالة من كلام ابن مسعود

    إخوتي الكرام! يستعين الإنسان على طرد البطالة عنه, وعلى منع نفسه من الجهالة, وخوض اللسان في الرذالة، يستعين الإنسان على هذا الأمر بالخلوة والخشية، فيخلو بنفسه، ولا يكثر من لقاء الناس؛ لأن كثرة لقاء الناس في غير أمور الخير مضيعة للوقت، وعندما تلتقي بهم ستثرثر بلسانك.

    يعني: لو سلمت من المحرمات من الغيبة والنميمة والكذب والبهتان والقذف، فلن تسلم من الكلام الفارغ الذي قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: ( فليقل خيراً أو ليصمت ) .

    إذاً: لا بد من خلوة، والتقي الحازم الكيّس الذي يأخذ بحظه من الخلوة، فلا يخاطب الناس إلا في أمر الخير, ويفارقهم بعد ذلك.

    والآن كما قال الحميدي شيخ الإمام البخاري عليهم جميعاً رحمة الله:

    لقاء الناس ليس يفيد شيئاً سوى الهذيان من قيل وقال

    فأقلل من لقاء الناس إلا لأخذ علم أو إصلاح حال

    فانظر لهذا التحذير من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما حذرنا من البطالة والجهالة وخوض اللسان في الرذالة، بين لنا الذي يعيننا على ذلك ويساعدنا على أنفسنا, فقال كما في الحلية في المكان المتقدم صفحة 135 في الجزء الأول، والأثر رواه شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق صفحة 42: أن رجلاً قال لـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أوصني.

    فحذره من البطالة والجهالة والرذالة، وأرشده إلى الدواء الذي يحصل به البعد عن تلك الأمور، وإلى الحصن والملجأ منها.

    فقال: ليسعك بيتك، واكفف لسانك، وابك من ذكر خطيئتك. تريد وصية من خلق الإسلام، وممن صحب النبي عليه الصلاة والسلام على الدوام في الخلوة والجلوة والسفر والحضر، استمع إلى وصيته.

    ليسعك بيتك. هذا البيت الضيّق, وقد يكون عندك أوسع من الدنيا وما فيها، وأنت إذا دخلت إليه فأنت في روضة، فحذاري حذاري من أن يضيق صدرك من بيتك.

    ووصلنا إلى زمن نعوذ بالله من حالنا فيه، فالنساء الآن ما عادت تسعها بيوتها، فوجد بعض النساء ممن تقضي عملها من الصباح إلى قبيل العصر خارج بيتها في العمل، في تدريس أو غيره، ثم إذا صار بعد العصر تقول: إذا ما خرجت يضيق صدري! يعني: متى تستقرين في بيتك؟!

    ليسعك بيتك. نعم صومعة الرجل بيته، فالبيت ينبغي أن تلازمه، وتجعل رباطك فيه إلا أن تخرج منه لمصلحة شرعية.

    ليسعك بيتك، ومع ذلك اكفف لسانك، وابك على خطيئتك.

    حقيقة إذا استعنت بالخلوة والخشية ستبتعد عن البطالة، وعن الجهالة، وعن خوض اللسان في الرذالة. وجربوا هذا الدواء.

    إنسان يلازم البيت فلا يخرج إلى هنا وهناك، فاللسان يضبطه، ثم يكثر البكاء على خطيئته. فحقيقة ما عنده بعد ذلك وقت يقضي به أيامه في بطالة وجهالة ورذالة.. ليسعك بيتك، واكفف عليك لسانك، وابك على خطيئتك.

    وقد ثبت -إخوتي الكرام- في معجم الطبراني الكبير بسند رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر صفحة 299، والأثر في كتاب الزهد للإمام أحمد صفحة 156: أن رجلاً قال لـعبد الله بن مسعود أيضاً: أوصني، قال: أوصيك بثلاث. وفي رواية أنه أوصى ابنه بثلاث فقال: أوصيك بتقوى الله عز وجل، وفي رواية الزهد للإمام أحمد : قال: أمسك لسانك.

    أوصيك بتقوى الله عز وجل، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك. بمعنى الأثر المتقدم.

    ثبوت ما يؤيد قول ابن مسعود من السنة حول علاج البطالة والجهالة

    وهذا الكلام أيضاً من هذا العبد الصالح عبد الله بن مسعود -كما قلت- مأخوذٌ من مشكاة النبوة، وكما ترون كل قول من أقواله أحاول أن أرده إلى كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

    ولذلك تقدم معنا أنه كان يمر عليه الحول، والحولان وهو يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن يعبّر عن الأحاديث بكلام من عنده, حقيقة كله حكم، فهذا الكلام الذي أوصى به عبد الله بن مسعود ولده والمسلمين، هذا الكلام منقولٌ عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

    روى الإمام أحمد في كتاب الزهد والمسند، والأثر رواه الترمذي في سننه، وعبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق، ورواه البيهقي في ثلاثة كتب من كتبه في الزهد وفي شعب الإيمان وفي كتاب الآداب، ورواه ابن أبي عاصم في الزهد، والإمام أبو سليمان الخطابي في العزلة، وابن أبي الدنيا في الصمت والعزلة، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، والبغوي في شرح السنة، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد.

    والحديث إسناده حسن عن نبينا المكرم عليه صلوات الله وسلامه، من رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما سأله سائل فقال: (ما النجاة يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك ) نفس كلام عبد الله بن مسعود .

    ولذلك كما تقدم معنا لا يضيف الكلام إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن يقول على أنه كلامٌ حق, وهو في الحقيقة من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، والسنة تمشي في ذراته وفي دمه.. ( أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك ) .

    بل روي هذا الحديث أيضاً مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام من طريق عبد الله بن مسعود ، فأحياناً يصرح برفعه, وأحياناً يقوله على أنه كلامٌ من عنده حق له أن يعيه الناس.

    ثبت ذلك في معجم الطبراني الأوسط ومعجم الطبراني الكبير، كما في المجمع في المكان المتقدم صفحة 299 من المجلد العاشر: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليسعك بيتك، وابك على خطيئتك، وأملك عليك لسانك ) . هذه الأمور كما تقدم معنا من كلام عبد الله بن مسعود .

    وهذا الحديث -إخوتي الكرام- كان نبينا عليه الصلاة والسلام يوصي به كثيراً من الصحابة الكرام إذا استنصحوه, وطلبوا منه وصية؛ ففي معجم الطبراني الأوسط، والمعجم الصغير للإمام الطبراني أيضاً، والحديث رواه الإمام الخطابي في العزلة, وإسناده حسن, عن ثوبان مولى نبينا عليه الصلاة والسلام عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: ( طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته ).

    ذكر بعض ما جاء في الصمت وحفظ اللسان ومظان ذلك

    والأحاديث التي تقرر هذا المعنى كثيرة وفيرة, انظروها -إخوتي الكرام- في ست صفحات من مجمع الزوائد من صفحة 297 إلى صفحة 303 في المجلد العاشر في باب ما جاء في الصمت وحفظ اللسان، وانظروها في ثلاث صفحات في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة 521 وما بعدها, الترغيب في الصمت إلا عن خمس، وفي غير المسانيد آثار عن عبد الله بن مسعود انظروا قيمة إسنادها في المكانين المشار إليهما, ممكن كما في معجم الطبراني الكبير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, موقوفاً عليه من كلامه أنه كان يقول: أنذركم فضول الكلام، بحسب أحدكم أن يبلغ حاجته. أي: تكلم بمقدار الحاجة.

    التقي عليه لجام لا يكثر من الكلام.. أنذركم فضول الكلام، بحسب أحدكم أن يبلغ حاجته.

    حقيقة كان أئمتنا يقولون: من ضبط اللفظات واللحظات والخطوات والخطرات فهو صدّيق، إذاً هذه الأربع إذا ضبطها الإنسان فهذا صدّيق: لفظات: كلام، وبعدها لحظات وبعدها خطوات مشي، وخطرات في القلب.

    والله جل وعلا أشار إلى هذه الأمور الأربعة فقال: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] هذا أشار إلى أمرين: إلى الخطرات واللحظات، خائنة الأعين لحظة، وما تخفي الصدور خطرة.

    وقال جل وعلا في وصف عباد الرحمن في سورة الفرقان: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]. يمشون هذه خطوات، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63] لفظات، هذه الأمور أربعة.

    قال أئمتنا: لا يضبطها إلا صدّيق، أعظمها خطراً هذا اللسان، الذي هو ترجمان الجنان، ويترتب عليه بعد ذلك الأحكام في هذه الحياة؛ فإنه لو لم تتكلم فهما دار في قلبك فهو لا يزال، يعني: إذا لم يصل إلى درجة العزم والتسليم معفواً عنه، لكن إذا تكلم فرتبت الأحكام على الكلام.

    ولذلك اضبط لسانك، فقد قال ابن مسعود : أنذركم فضول القول، بحسب أحدكم أن يبلغ حاجته.

    وكان يقول كما في معجم الطبراني الكبير: إياكم وصعاب القول. أي: احذروا القول الصعب الشديد الفظ الغليظ.

    1.   

    تحذير ابن مسعود من الإمعة وذمه والحث على ترك التقليد الأعمى ومسايرة الدهماء

    ومن حكمه التي ينبغي أن نعتني بها, وأن نعض عليها بالنواجذ، وأن ننتبه لها، أنه كان رضي الله عنه يحذر من السير مع الدهماء, وعدم اتباع العلماء، كالذي يسير مع العرف بسبب التقليد الأعمى بلا بصيرة ولا بيّنة.

    وأكثر ضلال بني آدم من التقليد الأعمى، وأمران يحجب بهما عقل الإنسان.. أمران معنويان: الهوى، والتقليد الأعمى. وهما أسكر من المسكر والمخدر، يعني الذي يسكر يضيع عقله أحياناً ثم يعود إليه، وهكذا من يتعاطى المخدر، أما من سار على العرف واتبع الهوى، فهذا متى سيصحو؟ ومتى سيستيقظ؟

    ولذلك العصا التي كان يلوح بها الجهلة في وجه الأنبياء في كل وقت هي: السير مع الدهماء، واتباع ملة الآباء.. هذه هي الحجة الفرعونية، كما أخبر رب البرية، قال فرعون: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51] لم كانوا على خلاف هذا، وأنت الآن تأتي وتخبرنا بأنه هناك توحيد, وأن الله هو خالق السماوات والأرض, وينبغي أن يُعبد؟

    وهذه هي العصا القرشية التي قالها أهل قريش للنبي عليه الصلاة والسلام عندما قالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7] إلى آخر الآيات.

    إذاً: لا بد من أن نتبع العلماء على بصيرة وبيّنة، أما الرعاع والدهماء والعرف الذي يسير عليه الناس فلا بد من أن نحذر هذا.

    فكان عبد الله بن مسعود يطلق النصيحة نحو هذا الأمر فاستمعوا لكلامه، يقول كما في الحلية صفحة 137 من الجزء الأول، والأثر نقله عنه حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله, في الجزء الأول صفحة 29 وفي الجزء الثاني صفحة 112، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير من طرق عنه وإسناده صحيح: أنه كان يقول: اغد عالماً أو متعلماً ولا تغد إمعة بين ذلك.

    وسيشرح لنا الإمعة من كلامه رضي الله عنه فتابعوا الكلام، وكان يقول كما في الكتب المتقدمة: لا يكونن أحدكم إمعة، إنما ينبغي أن يكون عالماً أو متعلماً.

    لا يكونن أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمّعة يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: يقول: أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت.. أسير معهم، يعني: على تعبير بعض السفهاء في هذه الأيام، قال: إذا كان الناس سيدخلون النار أنا معهم!

    فيا عبد الله! والله لو أن أهل الأرض كلهم دخلوا النار وأنت دخلت الجنة، فما ضرك دخولهم؟ ولو أن أهل الأرض كلهم دخلوا الجنة وأنت دخلت النار لما انتفعت بدخولهم، فالذي ينبغي عليك أول ما تسعى في إنقاذ نفسك، لا أن تقول: إذا الناس على باطل أنا معهم!

    هذا هو الضلال، وهذا هو عمى البصيرة, وفساد السريرة، فانتبهوا هنا: لا يكونن أحدكم إمّعة، قالوا: وما الإمعة يا أبا عبد الرحمن ؟

    قال: يقول: أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت.. أنا معهم على جميع الأحوال.

    ألا ليوطنن أحدكم نفسه على أنه إذا كفر الناس ألا يكفر، وطّن نفسك على هذا, إذا ضل الناس لا تضل، وإذا كفروا لا تكفر، وإذا فجروا فلا تغدر..

    ألا ليوطنن أحدكم نفسه على أنه إذا كفر الناس ألا يخرج ويقول: أنا مع الناس, إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت.. هذه في الحقيقة خصلة رذيلة، كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه يحذرنا منها.

    وهذا المعنى مأخوذٌ من مشكاة النبوة، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم نظير هذا القول, وتلقاه منه عبد الله بن مسعود , وقاله بذلك الكلام المحمود.

    ثبت في سنن الترمذي وقال: حسن غريب، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يكن أحدكم إمّعة, يقول: أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسأت، وطنوا أنفسكم, إن أحسن الناس فأحسنوا، وإن أساءوا فتجنبوا إساءتهم ) .

    إخوتي الكرام! هذا هو حال الإمعة الذي يحذرنا منه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، مع الناس تقليدٌ أعمى، فينبغي أن نحذره.

    معنى الإمعة لغة وعرفاً

    الإمّعة هو: الذي لا رأي له. كما يقول علماء اللغة، ولا عزم له؛ فهو يتابع كل أحد على رأيه, ولا يثبت على شيء، فهو مع الناس بلا رأي, يسير كما يسيرون، يضل كما يضلون.. لا رأي له ولا عزم على فعل شيء.

    والإمّرة: الذي يسير على حسب أمر الناس وتوجيهاتهم دون أن يأمر نفسه, أو أن يهتدي بأمر ربه.

    إمّعة: يسير مع الناس. إمّرة: على حسب أمر الناس، جاءت التوجيهات والتعليمات انتهى.. تنفيذ أوامر، طيب وأوامر الرب القاهر؟! هذه وراء ظهره.

    وهذا المعنى كما قلت هو الذي ذكره علماء اللغة وأهل الغريب الذين كتبوا في غريب الحديث والأثر.. انظروا غريب الحديث للإمام أبي عبيد القاسم بن سلّام -عليه رحمة الله- في الجزء الرابع صفحة 49، وانظروا ذلك في تهذيب اللغة للإمام أبي منصور الأزهري في الجزء الثالث صفحة 249، وانظروه في اللسان لـابن منظور ، وفي الفائق للزمخشري وغير ذلك.

    وقد ثبت في كتاب جامع بيان العلم وفضله, في المكان الثاني الذي أشرت إليه, وقلت في الجزء الثاني صفحة 112، هذا في المكان الثاني.

    بيان معنى حقيقة الإمّعة في أصل إطلاق العرب، ثم بعد ذلك توسِّع في مدلوله لوجود ذلك المعنى فيه.

    ففي كتاب جامع بيان العلم وفضله في المكان الذي أشرت إليه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: كنا ندعو الإمّعة في الجاهلية الذي يُدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره، يعني: إذا دُعي إلى الطعام أخذ معه غيره، فكانوا يقولون له: إمّعة وهو فضولي, لا يتأدب بآداب الضيافة.

    فإذا دُعيت لا تأخذ معك غيرك؛ لأنه قد يشق على صاحب البيت أن يحضر فلان وفلان، يعني: ليس من أجل الطعام، لكن قد يشق عليه أن يحضر فلان؛ لوجود مثلاً فلان.

    انتهينا الآن من المعنى الذي كان عند العرب في الجاهلية، واللفظ الآن صار له اعتبار آخر عند المسلمين. وهو فيكم المحقب دينه الرجال, المحقب أي: المقلِّد، الذي يقلّد في دينه الرجال.

    يعني: في أمور الدين يقلد الرجال, فلا رأي له ولا بصيرة ولا علم ولا انتفاع، ولا يراد من الرجال هنا العلماء الأبرار انتبه.. اغد عالماً أو متعلماً، إنما يقصد بالرجال الذين لهم صفة الذكورة وانتهى الأمر، ولكن بعد ذلك هل هم رجال أو أنذال؟ علم هذا عند ذي العزة والجلال.

    يعني: يقلّد الناس دينه بلا بصيرة ولا بيّنة، أما العلماء فلهم شأن آخر، إنما يقول: اغد عالماً أو متعلماً.

    التقليد.. ما يكون منه للأموات وما يكون منه للأحياء

    وتقليد العالم كما سيأتينا من كلام عبد الله بن مسعود فيه سعة، لكن كان ينهى عن تقليد الحي, ويحث على تقليد الميت، وهذا السلفي المتقدم بعكس السلفيين المتأخرين الذين يأمرون بتقليد الأحياء والانصياع لأقوالهم, ورفض أقوال سلفنا المتقدمين، هذا شطط.

    الحي لا تؤمن عليه الفتنة، وأما ذاك فمات، وكما سيأتينا أُمنت فتنته, وذهب إلى جوار ربه، وأما هذا قلدّته، ثم بعد فترة رجع عن قوله أو كفر بربه، وما أكثر ما يقع هذا.

    فهنا يقصد أن يأخذ دينه من الرجال، يعني: أن يقلّد في دينه الرجال، ويقصد هنا الإمّعة الذي يسير مع الناس بلا بصيرة ولا بيّنة، وأما إذا كان يستضيء بأقوال العلماء ويسألهم، وما عنده أهلية لأن يعي الأدلة والأحكام وأن يستنبط، فهذا مما أذن الله فيه فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

    اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    وهذا المعنى إخوتي الكرام! بيّنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فانتبهوا له.. أن الإمّعة الذي يسير مع الناس أي: مع الجاهلين لا مع العلماء المهتدين، أما من كان معهم فهو على هدى.

    يقول رضي الله عنه وأرضاه كما في كتاب جامع بيان العلم في الجزء الثاني صفحة 292، والأثر رواه البغوي في شرح السنة, في أول كتابه في كتاب العلم في الجزء الأول صفحة 214، لكن دون إسناد منه إلى عبد الله بن مسعود رواه عنه معلقاً، وأما الإمام ابن عبد البر فساقه بالسند منه إلى عبد الله بن مسعود .

    والأثر نسبه شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية في الجزء الثاني صفحة 76 إلى ابن بطة ، وأنه رواه عن عبد الله بن مسعود ، وما عندي كتاب الإمام ابن بطة لأنظر في هذا الأثر، والعلم عند الله.

    وروى الأثر أبو نعيم في الحلية في الجزء الأول صفحة 196 مختصراً، فلفظ الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: لا يقلّدن أحدكم دينه رجلاً، فإن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإن كنتم لا بد فاعلين..

    يعني: لا تريد أن تكون عالماً ولا متعلماً على بيّنة فتقلّد وتقول: لا أتمكن من الوصول إلى الحق بنفسي ومعرفة الأدلة. فإن كنتم لا بد فاعلين فاقتدوا بالميت؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.

    ويريد بالميت أي: من سبق لهم الموت, من أئمة الخير والصلاح، كأنه يقول: لا تقتدوا بالحاضرين من الأحياء، فما تعلمون نتيجته، إنما عندكم من تقدمكم كـأبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين.

    وأما عثمان فلم يكن ميتاً في ذلك الوقت، وهكذا من مات في الوقت الحاضر اقتدوا بهؤلاء؛ فهؤلاء يؤمن عليهم الفتنة، وأما الحي هل سيرجع عن هذا القول؟ هل سيتغير حاله؟ العلم عند الله.

    لا يقلّدن أحدكم دينه رجلاً، فإن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإن كنتم لا بد فاعلين فاقتدوا بالميت؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.

    ترغيب ابن مسعود في التأسي بالصحابة رضي الله عنهم وبيان مكانتهم

    وهذا لفظ رواية أبي نعيم في الحلية المختصرة كما قلت، ولفظ رواية ابن عبد البر ومن معه أنه كان يقول: من كان متأسياً فليتأس بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    ونعم الوصية! من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأحسنها حالاً؛ قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوا آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

    من كان منكم متأسياً -وفي بعض الروايات: من كان منكم مستناً فليستن- فليتأس بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؛ إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلُّفاً، وأحسنها حالاً؛ قوم اختارهم الله لصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوا آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

    ومثل هذا القول ونظيره ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما في الحلية, في ترجمته في الجزء الأول في صفحة 305: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما ثبت هذا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

    بيان مكانة آثار الصحابة في الدين

    إخوتي الكرام! لا شك أن آثار الصحابة -كما تقدم معنا في مطلع هذه الموعظة- دين، نتقرب بمعرفتها إلى رب العالمين، فإن أجمعوا على أمر فلا مناص من الأخذ به في مكان الإجماع, وإجماعهم أقوى إجماع، وإن قال الواحد منهم قولاً لا يدرك بالرأي فله حكم الرفع المتصل إلى نبينا عليه الصلاة والسلام, وليست هذه المنقبة لغيرهم, فلا أجد سواهم يقول قولاً لا يُدرك بالرأي, ولا يصرح برفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فيكون لقوله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وإن لم يصرّح برفعه.

    وعد ما فسّره الصحابي رفعاً فمحمول على الأسبابي

    وما أتى عن صاحب بحيث لا يقال رأياً حكمه الرفع على

    ما قال في المحصول نحو من أتى (فـالحاكم) الرفع لهذا أثبت

    أي: ( من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد ) على نبينا صلوات الله وسلامه.

    أثر عبد الله بن مسعود هذا له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يُدرك من قِبل الرأي، قومٌ اختارهم الله لصحبة النبي عليه الصلاة والسلام، وإقامة دينه، فيهم هذه الصفات، أبرهم بالأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأحسنها حالاً. اقتدوا بهم.

    إن اختلفوا فيما بينهم فقد تقدم معنا: أن الإمام أبا حنيفة فقيه الملة -رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- يرى عدم إحداث قولٍ زائد على أقوالهم، وأن الأخذ بقول واحد من هؤلاء الصحابة متعيّن، ولا يجوز أن نحدث قولاً جديداً.

    والأئمة الآخرون كما قال الإمام الشافعي : أجتهد كما اجتهدوا رضي الله عنهم أجمعين، مع اجتهاده يستدل أيضاً بأقوال الصحابة، أما أبو حنيفة يقول: إن كان مسألة للصحابة فيها أقوال أتخير قول واحد منهم، وأقف عنده ولا أجتهد لأحدث قولاً آخر.

    إذاً: هذه المكانة للصحابة لا تثبت لغيرهم, بلا شك؛ لأن الفضيلة التي لهم لا تحصل لغيرهم، وتقدم معنا مراراً أن من وقع نظره على النبي عليه الصلاة والسلام لحظة فالنور من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه كما تقدم معنا، ووصل إلى رتبة لو أنفقت كل يوم مثل أحد ذهباً, وهو أنفق حفنة من شعير لزاد أجره على أجرك؛ بما يكون في قلبه من خشية الله وتعظيمه، لسبب النور الذي حصل له؛ لرؤية نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

    إذاً: قوم لهم هذه المكانة، فاعرف قدرهم.

    ولذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يتابع وصاياه في هذا الأمر، فاستمعوا إلى مثل هذا القول.

    يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في مسند الإمام أحمد وكتاب فضائل الصحابة لـعبد الله ولد الإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله، والأثر مرويٌ في المسند كما قلت -إخوتي الكرام- في الجزء الأول صفحة 379، والإمام السخاوي في المقاصد الحسنة في صفحة 367, عندما جاء لهذا الأثر الذي سأذكره: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن إلى آخره، قال: رواه الإمام أحمد في كتاب السنة, ولم يروه في المسند، ووهم من عزاه إلى المسند. وهو الواهم رحمة الله ورضوانه عليه.

    الحديث في المسند كما قلت، وانظروه في الجزء الأول صفحة 379 من مسند الإمام أحمد ، نعم هو بعد ذلك في السنة في كتاب فضائل الصحابة وغير ذلك، لا نزاع في هذا، إنما الحديث في المسند.

    فقول السخاوي عليه رحمة الله: وهم من عزا الحديث إلى المسند وهمٌ منه، فلعله لم يقف عليه في مسند الإمام المبجّل أحمد بن حنبل رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

    والأثر رواه البزار في مسنده والطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله موثقون، كما قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الأول صفحة 177، ورواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، وهو جزءان في مجلد كبير وفيه خير كثير.

    ورواه الإمام الحاكم في المستدرك، انظروه في الجزء الثالث صفحة 78، وصححه ووافقه عليه الذهبي ، ورواه البغوي في شرح السنة في الجزء الأول صفحة 215، وعزاه الإمام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية في الجزء الثاني صفحة 77 إلى ابن بطة , عليهم جميعاً رحمة الله.

    ولفظ الأثر من رواية عبد الله بن مسعود موقوفاً عليه من كلامه رضي الله عنه وأرضاه قال: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد عليه الصلاة والسلام خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته.

    ولا شك في ذلك، ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

    وما يقوله بعض أهل الشطط واللغط في هذه الأيام، من أنه لا يجوز أن نقول: إن نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل المخلوقات. قال: هذا من باب الغلو في النبي عليه الصلاة والسلام، وما ورد دليل على أن النبي عليه الصلاة والسلام هو أفضل العالمين، نقول: خاتم النبيين، أما أفضل العالمين! أفضل المخلوقات! لا يجوز. سبحان ربي العظيم! سبحان ربي العظيم!

    رحمة الله على الإمام ابن القيم عندما ينقل في كتاب بدائع الفوائد عن شيخ الإسلام الإمام ابن عقيل الحنبلي عندما سئل: هل الحجرة النبوية التي دفن فيها خير البرية على نبينا صلوات الله وسلامه أفضل أم العرش, الذي استوى عليه ربنا سبحانه وتعالى؟

    فقال ابن عقيل: ماذا تقصد بالحجرة التي دُفن فيها النبي عليه الصلاة والسلام؟ أتقصد الحجرة بمن فيها؟ فإذا كنت تقصد الحجرة بمن فيها -يعني وهو النبي عليه الصلاة والسلام- فلا العرش ولا الكرسي ولا القلم ولا الملائكة ولا أحد يعدلها، هذي فيها خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، أتقصد هذا؟! أم تقصد حجرة بدون النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا حتماً العرش أفضل، والكعبة أفضل. ولا شك في ذلك.

    لكن حجرة فيها سيد ولد بني آدم، سيد المخلوقات، أفضل العالمين.. هذه الحجرة أفضل من الكعبة، وأفضل من العرش، وأفضل من كل ما خلق الله وذرأ وبرأ سبحانه وتعالى.

    هذا ينقله الإمام ابن القيم في كتاب: بدائع الفوائد عن الإمام ابن عقيل , ويقره عليهم جميعاً رحمات ربنا الجليل، وهذا موجود في كتاب رد المحتار على الدر المختار ولكن لا أستحضر الأجزاء والصفحات لأقول لكم، راجعوا هذا في بدائع الفوائد وفي رد المحتار.

    وهذا هو حقيقة الأمر، ويأتيك الآن من يقول: لا يجوز أن تقول: ليس عن الحجرة وفيها النبي عليه الصلاة والسلام، بل يقول: لا يجوز أن تقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل المخلوقات، قال: هذا غلو.

    أعوذ بالله.. أعوذ بالله من غلو الخوارج، هذا هو غلو الخوارج وهذا هو الشطط، رسول الله عليه صلوات الله وسلامه لا يقال عنه أفضل المخلوقات؟!

    1.   

    فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتماد ما رأوه في آثار ابن مسعود

    استمعوا لكلام عبد الله بن مسعود : إن الله نظر إلى قلوب العباد فوجد قلب محمد عليه الصلاة والسلام خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه, وابتعثه برسالته.

    وفي حادثة الإسراء والمعراج عندما رُفع إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام وتوقف جبريل، وقال: ( لو تقدمت لحظة لاحترقت، وما منا إلا له مقامٌ معلوم ) ، على أي شيء يدل هذا؟ هل يدل على أن جبريل أفضل من نبينا عليه صلوات الله وسلامه، حتى يقول: لا يجوز أن نفضّل النبي عليه الصلاة والسلام على الملائكة؟!

    ثم قال عبد الله بن مسعود : ونظر الله في قلوب أصحابه، فوجد قلوبهم خير قلوب العباد بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيئ.

    زاد الحاكم في روايته: وقد رأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر ، فخلافته حسنة شرعية.

    وأئمتنا يذكرون في كتب التوحيد -وكنت ذكرت هذا في بعض المواعظ المتقدمة- أن أمر الله القدري إذا تم حصوله وتنفيذه على أيدي عباده الصالحين المقربين فقد وافق أمره الشرعي.

    فكأن الله جل وعلا يقول للعباد بعد أن انعقدت خلافة أبي بكر من قِبل الصحابة أهل الخير والصلاح والرشاد: خلافة أبي بكر أمرتكم بها ورضيت عنها، ومن لم يرض بها فعليه لعنتي؛ لِمه؟ لأنه أمر قدره, وقع على أيدي من يحبهم الله ويرضى عنهم، وهؤلاء لا يمكن أن يفعلوا ما يكره الله أو يفعلوا خلاف ما يحبه ولا يمكن أن يحرموا توفيقه.

    فإذاً: أمر الله القدري إذا وقع على أيدي الصالحين فقد وافق أمره الشرعي، كأن الله أنزل نصاً في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

    على أنه هناك قول لأهل السنة من قولين لهم أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه منصوصٌ عليها في الأحاديث الصحيحة الصريحة، وسيأتي الكلام عليها في حينها إن شاء الله.

    إنما لو لم يكن هناك أي نص فالمسألة مسكوت عنها، ووقوع الخلافة لـأبي بكر على أيدي الصحابة الكرام ورضاهم بذلك أمرٌ قدري قدّره الله، إذا ما عندنا نص أن الله يحب هذا أو يكرهه، نقول: أمرٌ قدري من الذي باشره ونفذه؟ خير خلق الله بعد أنبياء الله ورسله, على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فلا يمكن أن يكون هذا الأمر القدري إلا موافقاً لأمر الله الديني الشرعي, فكأن الله يقول: خلافة أبي بكر أمرت بها وأحببتها ورضيت عنها، ومن كرهها فعليه لعنتي وعليه غضبي. فانتبه لهذا!

    إذاً: هنا ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء، وقد رأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر ، فهو حسن.

    ورأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر , ونعم الخليفة هو رضي الله عنه وأرضاه، وإذا أردت أن تعرف إلى منزلة أبي بكر من نبينا عليه الصلاة والسلام فانظر إلى منزلته منه بعد موته، فهو أقرب الناس به في حال حياته وبعد موته, على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    وقلت مراراً إخوتي الكرام: ليس هناك فارقٌ بين هاتين الطينتين المباركتين: طينة نبينا عليه الصلاة والسلام، وصدّيق هذه الأمة سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ليس هناك فارقٌ بين الطينتين إلا في أمرٍ واحد: نبينا عليه الصلاة والسلام أوحي إليه, ونزل عليه وحيٌ من السماء، وأبو بكر لم يحصل له هذا، لكن لا فارق بين الطينتين بعد ذلك في شيء آخر. فهذا حال أبي بكر أقرب الناس بنبينا عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد مماته.

    وتقدم معنا تقرير هذا ببعض المواقف التي ذكرتها، وكيف اتفق جواب النبي عليه الصلاة والسلام وجواب أبي بكر فيها؟ رضي الله عن أبي بكر وعن سائر الصحابة الكرام, رضوان الله عليهم أجمعين.

    1.   

    كلام ابن مسعود دليل أثري على حجية الإجماع

    1.   

    حجية الإجماع والتأكيد على أن الخلاف في غير التوحيد رحمة

    الأثر المنقول عن عبد الله بن مسعود له حكم الرفع: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء, هو من الأدلة الأثرية في حجية الإجماع، فإذا اجتمع المسلمون على أمر فإن اجتماعهم معصومٌ من الضلالة، ولا يجمع الله هذه الأمة على ردى، ولذلك إجماعهم حجة شرعية.

    وكنت قلت مراراً: إجماع أئمتنا واتفاقهم حجة قاطعة، ومخالف الإجماع ضال، واختلافهم رحمة واسعة، إلا بأمرٍ واحد ألا وهو تجريد التوحيد؛ لذلك كان أئمتنا يقولون: الاختلاف رحمة إلا في تجريد التوحيد، أي: إلا في إفراد الله بالعبادة، أن نجعل الدين كله له سبحانه وتعالى.

    وهذا منقولٌ عن العبد الصالح أبي يزيد البسطامي كما في حلية الأولياء في ترجمته يقول: خلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد.

    ولما جاء المعتزلة والجهمية والشيعة وما شاكل هؤلاء وخالفونا في تجريد التوحيد، فهل يقال هذا خلاف رحمة؟ هذا خلاف نقمة، والمخالف ضال، أما ما حصل بعد ذلك بين أئمتنا الهداة المهتدين من أبي حنيفة فمن بعده إلى الإمام المبجّل أحمد بن حنبل آخر الأئمة الأربعة, فهذا هو الخلاف الذي هو خلاف رحمة.

    من أشنع وأقبح وأخبث ما سمعت في هذه الأيام شريطاً قيل من بعض من يعدون من دعاة الإسلام في هذه الأيام، ونسأل الله أن يحسن ختامنا. والله يا إخوتي! عندما أسمع هذا الكلام أعجب من الأمة الإسلامية كيف انحطت إلى هذه المفاهيم! لا أدري.

    يقول: الآن ونحن في صحوة عامة، قبل خمس عشرة سنة المساجد كلها ظلمة؛ كلهم يعبدون الله بالتقليد على المذاهب الأربعة، ثم قال: ومن في مساجد نجد مع الخير والنور الذي فيها فهم مقلّدة أيضاً؛ لأنهم يقلدون الإمام أحمد ، وإن كان الإمام أحمد أقرب إلى السنة من غيره.

    أعوذ بالله! وأنت يا ضال يا مضل! أنت تحمي السنة الآن, الإمام أحمد أقرب إلى السنة من الشافعي ومن مالك ومن أبي حنيفة ، وذكر اثنين في هذا الوقت فلان وفلان, قال: هما جددا السنة في هذه الأيام.. الإمام أحمد أقرب إلى السنة من المذاهب الأربعة! قال: في الأصول وفي الفروع.

    والله إخوتي الكرام! لو وجد من يحاسبه على هذا القول لضرب رقبته إلا إذا تاب إلى الله عز وجل، الإمام أحمد أقرب إلى السنة في الأصول والفروع من المذاهب الأربعة، يعني: حتى الأصول وهي الاعتقاد، يعني: فيها وفيها. أعوذ بالله!

    وكان أئمتنا إذا أرادوا أن يخبروا عن اعتقادهم، كما هو الحال في أبي الحسن الأشعري ومن بعده يقول: أنا على اعتقاد الإمام أحمد ، ولا لأنه انفرد باعتقاد، كما كان أئمتنا يقولون هذا مذهب مالك وسفيان والشافعي والظهور لـأحمد ؛ لأنه لمّا امتحن ومثَّل أهل السنة نسب اعتقاد الحق إليه.

    يقول: الإمام أحمد مذهبه أقرب إلى السنة في الأصول وفي الفروع من المذاهب الأربعة!

    لكن يقول: من في مساجد نجد مع الخير والبركة هم مقلِّدة.

    كما قال من خمس عشرة سنة وجدت الصحوة، والله ما وجدت إلا البدعة والضلالة والعمى، وتشبيه آراء سلفنا بأقوالٍ وجدت في أيامنا.

    وذكرت اليوم في خطبة الجمعة، وهذا الكلام -إخوتي الكرام- أود والله لو كتبناه على جبين طالب كل علم، فيجب ألا تغفل الأمة عن كلام السلفي الحق والسلفي الدعي.

    السلفي الحق في سفيان الثوري الذي توفي 161هـ شيخ المسلمين وسيدهم بلا نزاع، يقول عبد الله بن المبارك شيخ الإسلام: كتبت عن ألف شيخ ما فيهم مثل سفيان ، ويقول الإمام أحمد : لا يتقدمه في قلبي أحد، ويقول الأوزاعي : لو قيل لي: اختر من هذه الأمة إماماً يقتدون به لما اخترت لهم إلا سفيان ، ماذا يقول؟

    يقول كما في كتاب الفقيه والمتفقه في الجزء الثاني صفحة 69: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه, وأنت ترى غيره فلا تنهه. لِم؟ لأن الاختلاف كما قلنا رحمة، إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة.

    وقلت: هذا كلام شيخ الإسلام الإمام ابن قدامة في مقدمة المغني، وهذا كلام الإمام ابن تيمية في الجزء الثلاثين صفحة 80 من مجموع الفتاوى، وأئمتنا تتابعوا على هذا، وسأفرد محاضرة ثانية -إن شاء الله- حول هذه الجملة, إجماع علماء الإسلام حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة.

    وأما بعض أهل الشطط في هذه الأيام يقول: إذا كان اختلافهم رحمة واسعة فإجماعهم نقمة البصيرة، ليس أعمى البصر! نحن قلنا: إن إجماعهم رحمة أو قلنا: حجة قاطعة مخالفها ضال؟ لكن عندما يختلف أئمتنا الأبرار في المسألة الفرعية فهو رحمة، والأدلة تحتمل, والأقوال على هدى.

    ولذلك إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه، فرأيته يضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع لا تقل له: أرجح القولين الإسبال، وإذا كان يسبل لا تقل له: أرجح القولين القبض، إذا يحرك إصبعه لا تقل: لا تحرك، إذا يجهر بالبسملة لا تقل له: اسكت، إذا يسكت لا تقل له: اجهر، لم هذا؟ لأن هذه الأقوال كلها منقولة عن أئمتنا اليوم، واحتملتها أدلة الشريعة المطهرة، فعلام تقدم فهمك على فهمه، وفهم السلفيين على فهم الإمام أحمد ؟

    وعلام تقول هذه العبارة التي هي في منتهى السوء والقبح: مذهب الإمام أحمد أقرب إلى السنة من سائر المذاهب في الأصول والفروع؟ وهذه العبارة الأخيرة سمعتها الآن في طريقي إلى هذا المسجد المبارك، فقلت للولد قلت: أعوذ بالله، إلى هذا الحد؟!

    والله -يا إخوتي الكرام- أمر عجيب، أمر فضيع، وانظر لهذا الوضع الذي كان عليه سلفنا, وانظر كيف تغيرت الأحوال في زمننا! ونسأل الله أن يرزقنا الإنصاف والقصد وسلامة الاعتقاد، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء؛ من أدلة حجية الإجماع.

    وقد رأى المسلمون أن الاختلاف فيه توسعة وسعة فلنحمد الله على ذلك، وكلنا نريد وجه الله لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37] وهي النية الخالصة.

    1.   

    ما يدل على ظهور الفتن وتغير الأحوال من كلام ابن مسعود

    وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه مع هذا النصح الذي يقوله لهذه الأمة كما قلت، حذّر من البطالة والجهالة، وخوض اللسان في الرذالة، ثم أرشدنا إلى أمر نستعين به على ذلك وهي الخلوة والخشية، ثم انتقل إلى تحذيره لنا من السير مع الدهماء, وعدم اتباع العلماء, والاقتداء بالصحابة النجباء, رضي الله عنهم وأرضاهم.

    وهو الآن ينتقل إلى أمر آخر يشير فيه إلى أن الأمور ستتغير بعد عصره، وأن الأحوال ستختلف، فماذا يقول عبد الله لو أدركنا؟! والله لاستعاذ بالله منا ومن أحوالنا.

    فاستمع لهذا الأثر الثابت عنه ويرويه مرفوعاً عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه, في قصة طريفة جرت له مع صحابي آخر ألا وهو وابصة بن معبد رضي الله عنهم وأرضاهم.

    والأثر -إخوتي الكرام- في مسند الإمام أحمد ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، ورواه الحاكم في المستدرك الجزء الثاني صفحة 302، وانظروه في المسند في الجزء الأول 448. والأثر في سنن أبي داود أيضاً في الجزء الرابع صفحة 456 في الطبعة الحمصية التي حققها الشيخ عزة عبيد الدعاس .

    فإذاً: هو في هذه الكتب الأربعة: في المسند، وسنن أبي داود ، ومعجم الطبراني الكبير، ومستدرك الحاكم . والحديث صحيح.

    عن وابصة بن معبد الأسدي وهو من الصحابة الكرام الأبرار, عُمِّر كثيراً وتوفي قرابة سنة 90هـ.

    قال وابصة : إني بالكوفة في داري ، وتقدم معنا أن عبد الله بن مسعود هو المعلم في الكوفة, وهو الوزير لـعمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين.

    إني بالكوفة في داري إذ سمعت على الباب السلام عليكم أألج؟ يعني: صوت من يستأذن ويستأنس.. السلام عليكم أألج؟ فقلت: وعليك السلام فلج، أي: مسموح لك أن تدخل، والطريق مفتوح.

    وعليك السلام فلج، قال: فدخل, فإذا هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

    فقلت له: يا أبا عبد الرحمن أية ساعة زيارة هذه, نحن في نحر الظهيرة؟ الآن بعد الظهر عندنا قيلولة، وأنت جئت تزور في هذا الوقت، يعني: بين الظهر والعصر تزور.

    فقال عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: طال علي النهار فتذكرت من أحدثه ويحدثني.

    أي: في أمور الخير نتناصح، فجئت إليك.. أنت صحابي وأنا صحابي، يعني: نأوي إلى بعضنا، وإذا طال النهار على واحد منا فليتحمله، صاحبي هذا جاء إلي.

    قال وابصة : فجعل يحدثني عن النبي عليه الصلاة والسلام وأحدثه حتى قال -يعني: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه- سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( تكون فتنة النائم فيها خير من المضطجع، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الراكب؛ قتلاها كلها في النار ) نسأل الله العافية، فتنة تقع في الأمة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (النائم خير من المضطجع)؛ لأنه في غفلة عما يقع، والمضطجع الذي هو متمدد يعني على جنبه أو على ظهره هذا أحسن من القاعد؛ لأنه بعيد عنها.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755909155