إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب العارية [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أباحت الشريعة عقد العارية حتى ينتفع الناس بعضهم من بعض، لكن لم تطلق الشريعة للمستعير أن يتصرف في العارية بما شاء، بل وضعت له ضوابط وقيوداً متى تعداها تحمل مسئولية هذا، فإذا اختلف هو وصاحب العارية فيرجعان إلى القضاء فيفصل بينهما بضوابط قد نص عليها العلماء.

    1.   

    أحكام التصرف في العارية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل منا ومنكم صالح الأقوال والأعمال، وأن يعيد علينا هذه الأيام المباركة بكل خير وبركة، وأن يجعلها عزاً لدينه ونصرة لأوليائه؛ إنه السميع المجيب.

    كان حديثنا عن جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بعقد العارية، وكنا قد ذكرنا أن هذا العقد يعتبر من أهم العقود التي تعم بها البلوى؛ لأن الناس يحتاج بعضهم إلى بعض بعد الله سبحانه وتعالى، فيحتاج المسلم إلى استعارة شيء من أخيه المسلم، وبيّنا مشروعية ذلك وجوازه، والأحكام المتعلقة بذلك، والمسائل المترتبة على هذا العقد.

    حكم إعارة العارية

    قال رحمه الله: [ولا يعيرها].

    لا يجوز للمستعير أن يعير العارية للغير، وهذه مسألة مفرعة على ضابط العارية، بعض العلماء يقول: العارية إذنٌ بالمنفعة.

    وبعض العلماء يقول: العارية تمليكٌ للمنفعة.

    فهناك مذهبان:

    مذهب يقول: كل شيء تعيره للناس فقد ملَّكته لمن استعار.

    وهناك مذهب آخر يقول: كل شيء تعيره للناس فقد أذنت لمن استعار أن ينتفع به، توضيح ذلك بالمثال: لو كان عندك سيارة، وقلت: يا محمد! أعرتك سيارتي هذا اليوم تستفيد منها، وعند المغرب تردها لي، هذه عارية، وأخذ العارية وتحددت بالزمان وهو يوم، فلما نظرنا في كلامه: (خذ السيارة يوماً) وجدنا العلماء ينقسمون إلى طائفة تقول: محمد يملك منفعة السيارة، وطائفة تقول: صاحب السيارة أذن فقط لمحمد أن ينتفع.

    الفرق بين القولين: أن القول الأول الذي يقول: محمد ملك المنفعة، يكون من حق محمد أن يعطي السيارة لغيره لكي يركبها ويأذن لغيره بأن ينتفع مثلما أذن له؛ لأنه ملك هذه المنفعة، فمن حقه أن ينتفع هو وأن ينفع غيره، وأيضاً من حقه أن يأخذ السيارة منك عارية ويؤجرها للغير ويضمنها حتى يردها إليك. هذا بالنسبة للقول الذي يقول: إنه مالك للمنفعة. ويختار هذا القول أئمة الحنفية والمالكية والشافعية رحمهم الله، ويقولون: إن العارية تمليك للمنفعة.

    وقال طائفة من العلماء: العارية إذن بالمنفعة. وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وعليه المذهب، أن العارية إذن وسماح بالمنفعة، وإذا قلت: إذن. ننظر في هذا الإذن هل هو مقيد أو مطلق؟ وجدناه مقيداً؛ فأنت قلت: يا محمد خذ السيارة إلى المغرب، فليس من حق محمد أن يقيم غيره، وليس من حق محمد أن يؤجر على غيره، فمتى ما أجر على الغير لزمه أن يدفع الأجرة إلى المالك الحقيقي، وينتقل من كونه مستعيراً إلى كونه ضامناً للعين المعارة، وأيضاً ضامناً لأجرة السيارة طيلة هذا اليوم، حتى ولو قال لغيره: خذ هذه الدار واسكنها بدلاً مني؛ فإنه يضمن أجرة المستعير الثاني، ويكون المستعير الثاني في حكم المستأجر، لكن يضمن الأجرة المستعير الأول؛ لأنها أعطيت له إذناً ولم تعط لغيره، فصار الغير إذا سكن كأنه انتفع بمال غيره؛ فوجب عليه الضمان، من الذي مكنه من ذلك؟ مكنه المستعير الأول، فنقول للمستعير الأول: ادفع الأجرة.

    وعلى هذا: فإن العارية ليست بتمليك للمنفعة وإنما هي إذن، وهذا هو الأشبه والأقوى إن شاء الله.

    وشرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان ما يتعلق بالتصرف في العارية، فإذا أخذت من أخيك المسلم شيئاً على أنه عارية، كأن تأخذ دابة أو سيارة على أنك تنتفع بها مدة معينة، فإن الواجب عليك أن تتصرف في هذه العين التي استعرتها على وفق ما اتفقت عليه مع أخيك المسلم، فالأصل أنك أنت الذي تستفيد لا غيرك، ولذا قال رحمه الله: (ولا يعيرها)، بمعنى: أنك لو قلت لأخيك: أعرني سكنى دارك شهراً، قال: أعرتك، فإنه لا يجوز لك أن تقيم الغير مقامك على أحد قولي العلماء، وذكرنا هذا القول ووجهه عندما بينا حقيقة العارية، وقلنا: إنها إذن بالمنافع وليست بتمليك للمنفعة، فالذي يقول لك: اسكن داري، أذن لك أن تسكن ولم يأذن لغيرك، وأذن لك أن تستعير هذه السكنى ولم يأذن لك أن تتصرف فيها بالإجارة، فلا يحل لك بيع هذه المنفعة فتؤجرها على الغير.

    إذا ثبت هذا فيدك يد مأذون لها بالتصرف لك لا لغيرك، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى: أن لك أن تعير للغير، وأن العارية تمليك للمنافع، واختارها بعض العلماء، وهو قول عند الحنفية والشافعية رحمة الله على الجميع؛ وبناء على هذا القول الذي اختاره المصنف لا يجوز لك شرعاً أن تقيم غيرك مقامك، فلو أخذت السيارة من أخيك على أن تستفيد منها ما بين المغرب والعشاء، لا يجوز أن تعطيها لآخر ، ولا أن تبذل منفعة ركوبها للغير، هذا من حيث الأصل العام والذي اختاره المصنف.

    ولاشك أن الذي ينبغي للمسلم دائماً أن يحتاط في حقوق الناس، وأن يتصرف على وفق ما اتفق عليه مع الطرف الثاني دون زيادة أو خروج عن العقد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فأنت إذا قلت لأخيك المسلم: أعرني، قال: أعرتك، اختص الانتفاع بك لا بغيرك، فكما أنك لا تقبل أن يقوم غيره مقامه كذلك لا ينبغي لك أن تقيم غيرك مقامك، وكم من شخص يأذن لإنسان لحقه عليه ولا يأذن لغيره، خاصة في المنافع التي يكون بذلها للغير فيه إحراج لصاحبها ومالكها الحقيقي.

    قال رحمه الله: (ولا يعيرها) وهذا يدل على مسألتين:

    المسألة الأولى: سقوط الحق.

    المسألة الثانية: حصول الإثم؛ لأننا إذا قلنا: لا يملك المنفعة فإنه يأثم إذا صرف الدابة للغير، ويخرج عن الإثم بتحلل صاحب الدابة، مثلاً: أخذ سيارته وأعطاها لشخص آخر، يقول له: إني قد أخذت سيارتك على أني راكبها وأعرتها للغير فسامحني في حقك أو اجعلني في حل من حقك، ونحو ذلك.

    حكم العارية إن تلفت عند المستعير الثاني

    قال رحمه الله: [فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها]

    الفاء في قوله: (فإن) للتفريع، وإذا كان ليس من حقك أن تقيم غيرك مقامك فأقمته، فأخذ السيارة وتلفت فهذا فيه تفصيل:

    الحالة الأولى: أن تقيم الغير مقام عاريتك.

    الحالة الثانية: أن تقيم الغير مقام إجارتك، وهناك فرق بين أن تقول للغير: خذ هذه السيارة عارية مني فيما بين المغرب والعشاء، وبين أن تقول له: أجرتك السيارة فيما بين المغرب والعشاء، فيد العارية يد ضمان ويد الإجارة يد أمانة، إذا ثبت هذا فالشخص الثاني الذي تقيمه مقامك له صورتان:

    الصورة الأولى: أن يعلم بأن المالك الحقيقي للسيارة لم يأذن لك، وأنك قد تصرفت في ماله بدون حق، فيأخذ منك السيارة على أنك قد أعرته وهو يعلم أن السيارة ليست ملكاً لك، وأن مالكها لم يأذن لك بهذا التصرف.

    الصورة الثانية: أن لا يعلم بذلك ويكون جاهلاً، كجار للإنسان جاء فوجد السيارة التي استعارها جاره فظنها له، فقال: أعرني هذه السيارة أذهب بها لقضاء حاجة أو نحو ذلك، قال: خذها، فأخذها الجار يظنها ملكاً لجاره، أو يظن أن مالكها قد أذن لجاره أن يعيره.

    فالصورة الأولى: الجار هو المستعير الأول، أي: الطرف الأول الذي أذن له بأخذ السيارة والانتفاع بها، والمستعير الثاني: هو الذي أعطي السيارة سواءً كان عالماً أو غير عالم، وهو الذي فصلنا فيه، فأما بالنسبة للمستعير الثاني إذا أخذ السيارة وهو يعلم أنه لم يؤذن للمستعير الأول بالإذن بها، ويعلم أنها ملك لغيره فإنه ظالم، ولذلك يقول العلماء: إنه يعتبر في حكم الغاصب، وهذا أمر مهم جداً؛ لأنه يتفرع عليه ما لو أنه أخذ السيارة فحصل له حادث، أو أن السيارة تلفت بآفة سماوية أو بدون تفريط منه، فسواء تلفت بالتفريط أو بدون تفريط تكون يده يد ضمان، فتستقر عليه قيمتها على ما قاله المصنف.

    فهذه مسألة التضمين، وفيها تفصيل من حيث ترتب الأحكام كالآتي:

    تقول: المستعير الثاني إذا كان يعلم أن المستعير الأول قد تصرف بدون حق؛ فإنه لا يجوز له شرعاً أن يأخذ السيارة، فيعتبر في حكم الغاصب لو أخذها، ويلزمه ضمان أجرة السيارة في المدة التي أخذها، وضمان مثل السيارة إن كان لها مثلي إن أتلفها، أو قيمتها إن لم يكن لها مثلي، فهناك أحكام تترتب على أخذ المستعير الثاني مع علمه باعتداء المستعير الأول، فإن كان يعلم فهو أولاً: آثم، وثانياً: يده يد ضمان مطلقاً، حتى لو أن السيارة تلفت بدون تفريط أو تعدٍ، فنقول للثاني: يجب عليك أن تضمن السيارة؛ لأنه يعلم أن الشرع لا يأذن له بذلك، وأنها في حكم المغصوبة، ويتفرع على ذلك ضمانه لقيمة السيارة إذا لم يكن لها مثلي، أو مثلها إن كان لها مثلي، وكذا ضمانه لأجرتها.

    فلو أخذها المستعير الأول على أن يسافر بها من مكة إلى المدينة، ثم أعطاها للمستعير الثاني، وقال له: سآخذ السيارة من محمد على أنني سأسافر بها وأعطيها لك، فعلم المستعير الثاني بغش المستعير الأول، فأخذها المستعير الثاني وخرج بها من مكة إلى المدينة، فتلفت قبل وصوله إلى المدينة، نقول: أولاً: يأثم. هذه مسئولية الآخرة؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، ثانياً: يلزمه ضمان هذه السيارة إن كان لها مثلي، وإن لم نجد في السوق مثل هذه السيارة نقول له: اضمن قيمتها، ويكون ضمان القيمة يوم التلف، فلو كانت السيارة حينما أخرجها من مكة قيمتها خمسة آلاف، فلما تلفت بعد أسبوع صارت قيمتها عشرة آلاف فإنه يضمنها يوم تلفت بعشرة آلاف، واستقرت عليه القيمة يوم التلف، ثالثاً: نقول له: عليك أجرة السيارة فيما بين مكة إلى المكان الذي تلفت فيه السيارة، والدليل على هذه الثلاث:

    أولاً: يأثم؛ لأن أموال الناس لا تستحق إلا بطيبة نفس منهم وتراضٍ، قال تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ [النساء:29] فالبذل مبني على التراضي، ومالكها رضي أن يبذلها منفعة للأول دون الثاني، فإذاً صار الثاني غير مأذون له من حيث الأصل، فترتب عليه الإثم.

    ثانياً: أنه أعان هذا الظالم على ظلمه بأخذه للسيارة مع علمه بعدم رضا المالك الحقيقي.

    ثالثاً: إذا ثبت أنه ظالم، ولا حق له في الانتفاع بهذه السيارة، فنقول: أصبحت يده يد اعتداء، ويد الاعتداء ضامنة بكل حال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فيده مثل يد الغاصب، وعلى هذا سنقول: إذا تلفت السيارة يضمن، وجهاً واحداً عند العلماء رحمهم الله، الذين يقولون بأنه لا تملك منافع العارية.

    رابعاً: نقول له: عليك أجرة السيارة من مكة إلى المكان الذي تلفت فيه.

    أما إذا كان لا يعلم، كما لو أن شخصاً أخذ سيارة من أخيه على أنه ينتفع بها مدة معينة، فأعطاه إياها على أنه ينتفع بها، فذهب وأعطاها شخصاً آخر ينتفع بها، فظن الشخص الثاني أن الذي أعطاه يملك السيارة، أو أن المالك الحقيقي قد أذن له بالتصرف فيها وإعارتها للغير، فتختلف هذه الصورة عن الصورة الأولى بأن المستعير الثاني عنده شبهة، ولا يعلم بالاعتداء، ويظن وجود الإذن بالتصرف؛ ففي هذه الحالة يسقط الإثم؛ لأنه لا اعتداء، وإنما وغرر به المستعير الأول؛ لأن الأصل أن الشخص إذا قال لك: خذ هذه السيارة، وأنت ترى أنها تحت يده، فهناك شيء يسميه العلماء: العمل بالظاهر، وظاهر الحال حينما ترى السيارة تحت يد شخص ومفتاحها عنده وقال لك: خذ سيارتي، الظاهر من الحال أنه مالك لها، وهكذا لو رأيته يقودها ويسير بها، وهذا يسمى العمل بالظاهر.

    والظاهر حجة، ومن حيث الأصل يعمل به، فهو إذا جاء إلى غيره وقال له: خذ السيارة هذه الليلة، فأخذها الثاني، فقد غرر به حيث ظن أنه مالك لها وليس بمالك، ويسقط عنه الإثم للشبهة، وفي هذه الحالة يسقط عنه ضمان الأجرة؛ لأنه مغرر به، ويثبت ضمان الأجرة على المستعير الأول وليس على المستعير الثاني. أما الدليل على أن المستعير الأول يضمن أجرة السيارة ويلزمه دفع قيمة المنافع التي استغلت تلك الليلة؛ فلأن صاحبها حينما أعطاها للمستعير الأول أذن له ولم يأذن لغيره، فإذا جاء يعطيها للغير فالغير لا يملكها، وما خرجت إلى يد الاعتداء إلا بسببه هو، وهو في هذه الحالة تصرف في منافع لا يملكها؛ لأن المنافع التي يملكها ما كانت له؛ فتصرف في منفعة الغير وحبسها المدة التي انتفع بها المستعير الثاني، فيلزمه ضمانها.

    على هذا لو أعطيته سيارة، فأعطاها لشخص يذهب بها إلى المدينة لزمته أجرته إلى المدينة، ولو أعطيته بيتاً يسكنه شهراً، فأسكن الغير لزمته أجرتها تلك المدة، سواء أسكن الغير بأجرة أو بدون أجرة، هذا من حيث الاستحقاق.

    إلزام المستعير الثاني بالضمان عند تلف العارية

    لو أن المستعير الثاني أخذ السيارة إلى المدينة وهو يظن أن السيارة ملك للمستعير الأول وتلفت، من الذي يضمن؟ في هذه الحالة: يضمن المستعير الثاني؛ لأن المستعير وإن كان معذوراً لكنه أخذها بيد العارية؛ لأنه قال له: أعرني، فأعاره، فليس عنده شيء يسقط الضمان، والعارية توجب الضمان؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة).

    إذاً: هناك صورتان:

    الصورة الأولى: أن يكون المستعير الثاني عالماً باعتداء المستعير الأول؛ فيلزمه ضمان الأجرة وضمان العين إن تلفت تحت يده، أولاً: يلزمه ضمان الأجرة؛ لأنه تصرف في مال الغير بدون إذنه، وثانياً: ضيع عليه منفعة هذا الشيء فوجب عليه ضمانها، وثالثاً: يلزمه ضمان العين؛ لأنه قد اغتصب تلك العين فأخرجها إلى موضع لم يؤذن له بإخراجها إليه.

    الصورة الثانية: إذا كان المستعير الثاني لا يعلم، أو ظن وجود الإذن، أو ظن أن المستعير الأول مالك حقيقي لها؛ فوقع في التصرف بشبهة الملكية أو بشبهة الإذن، فإنه في هذه الحالة يأخذ حكم المستعير، إلا إذا أخذها إجارة، فله حكم ثانٍ، فإن أخذها استعارة من المستعير الأول يكون عليه ضمانها؛ لأن المستعير يضمن ولا أجرة عليه، والأجرة على المستعير الأول لا الثاني، وتلزم الأجرة المستعير الأول في هذه الصورة الثانية؛ لأنه غرر بالمستعير الثاني وتصرف في مال غيره بدون إذنه، فضمن قيمة المنفعة.

    أما لو أن المستعير الأول أجرها للشخص الثاني، فحينئذٍ الإجارة لا ضمان فيها إلا إذا تعدى، فلو قال المالك الحقيقي للمستعير الأول: خذ بيتي هذا واسكنه شهراً، فأخذه المستعير الأول وذهب إلى محمد وقال: يا محمد! هذا البيت لي -وكذب عليه- خذه وأسكنه شهراً بمائة، قال: قبلت، فأصبح الشخص الثاني مستأجراً لا مستعيراً، يعني: إما أن يغرر به مستعيراً أو يغرر به مستأجراً، إن غرر به مستعيراً ضمن؛ لأن يده يد ضمان، وإن غرر به مستأجراً ضمن الأجرة ولا يضمن العين إن تلفت؛ لأن يد الإجارة لا ضمان فيها إلا بالتعدي، كما تقدم في باب الإجارة.

    قال رحمه الله: [وعلى معيرها أجرتها].

    هذه هي الحالة التي ذكرناها، إذا غرر بالمستعير الثاني فإنه يلزمه ضمان الأجرة على التفصيل الذي ذكرناه؛ فإذا كان المستعير الأول مغرراً بالمستعير الثاني ضمن الثاني الأجرة، والمستعير الأول حينئذٍ يضمن الأجرة ويضمن العين بالعارية، ولا يضمن الثاني؛ لأن يده يد أمانة.

    تضمين المعير لأي المستعيرين شاء

    قال رحمه الله: [ويضمن أيهما شاء].

    ويضّمن المالك أي الاثنين شاء، إن شاء ضمن المستعير الأول، وإن شاء ضمن المستعير الثاني؛ لأن المستعير الأول قد تصرف بالاعتداء وكذب على المستعير الثاني، وحينئذٍ يكون المستعير الثاني ضامناً مع الأول؛ لأن الأول مستعير والثاني مستعير؛ والثاني مغرر به، لكنه رضي بالعارية، وأنت إذا رضيت بالعارية ضمنت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بل عارية مضمونة) فكل شخص يقول: أعرني، كأنه يقول: أنا أضمن لك هذا الشيء الذي تعيرني إياه، على ظاهر الحديث؛ بناءً على ذلك يشترك الطرفان في مسألة العارية. وإن إذا كان الثاني مغرراً به ومعذوراً، فنقول للمالك الحقيقي: إن شئت ضمن الأول وإن شئت ضمن الثاني.

    فلو أن هذه الدار التي تلفت -واليد يد عارية- تساوي قيمتها المليون، نقول له في هذه الحالة إن تلفت: إن شئت أخذت المليون من المستعير الثاني وإن شئت أخذتها من المستعير الأول؛ لأن يد الأول ضمان ويد الثاني ضمان. وبالنسبة لحال عدم الضمان، كما لو أجر المستعير الأول لآخر وكان يظن أنه مالك؛ حينها يضمن المستعير الأول دون المستأجر؛ لأن المستأجر يده يد أمانة وليست بيد ضمان.

    أحكام إشراك المحتاج في منفعة العارية

    قال رحمه الله تعالى: [وإن أركب منقطعاً للثواب لم يضمن].

    يرد السؤال: أنت حينما تأخذ العارية من غيرك وتعطيها للغير، حينئذٍ تنتقل العين من يدك إلى يد الغير، ويصبح الضمان فيها على التفصيل من وجود العذر وعدم وجوده، فعقد الإجارة شيء، وعقد العارية شيء، لكن السؤال: لو أركب منقطعاً؟

    حينما يؤذن لك أنت أن تركب السيارة، معناه: أن المنفعة لك أنت لا لغيرك، وحينما تعطيها للغير عارية أو إجارة فقد أخرجتها باليد إجارة أو عارية، لكن لو أن الاثنين اشتركا في المنفعة، فهل تنتقل يد الأول، وتلغى أم لا؟ وهي التي يسمونها يد التشريك.

    فقوله: (وإن أركب منقطعاً)، أي: أعطيته دابتك، وقلت له: سافر بها من المدينة إلى مكة، فرأى في الطريق منقطعاً فأركبه، والمنقطع من حيث الأصل قد يجب عليك إركابه إذا خشي عليه التلف والموت؛ لأن إنقاذ النفس المحرمة واجب شرعاً، ولا يجوز أن تتركه إذا رأيته في حال الهلكة، حتى إن بعض الظاهرية يقولون: من رأى مسلماً على هلكة وهو قادر أن ينقذه فلم ينقذه فقد قتله قتل عمد، وإن كان هذا القول قولاً مرجوحاً، والصحيح أنه ليس بقاتل، لكنه يبوء بإثم عظيم، ومثله قالوا: كأن يراه غريقاً وهو يحسن السباحة فلا يسبح إليه، أو يراه جائعاً وعنده الطعام فلا يعطيه، أو يراه عطشاناً وعنده الماء فلا يعطيه، أو يراه منقطعاً وهو قادر على حمله ولا يحمله، ولهذا قال المصنف: (منقطعاً)؛ لأن المنقطع يتعين عليك حمله، وفي هذه الحالة يكون دخوله عليك بصورة اللزوم، فلو رأيت منقطعاً فأركبته المنفعة فقد أركبته منفعة ليست ملكاً لك، ونحن قررنا قاعدة: أن المستعير من حيث الأصل أذن له ولم يؤذن لغيره، فهل التشريك هنا يوجب الضمان أو لا يوجبه؟

    فبين رحمه الله أنه لا يوجب فقال: (وإن أركب منقطعاً للثواب).

    ركوب المنقطع له صورتان: الصورة الأولى: أن تركبه بأجرة.

    الصورة الثانية: أن تركبه بدون أُجرة؛ فإذا ركب بدون أجرة فحينئذٍ لا إشكال، لكن إن ركب بأجرة صار بذل المنفعة في مسألة إجارة العين المستعارة توجب الضمان لمنفعتها كلها، وكذلك إجارة جزئها.

    فإذاً عندنا حالتان للمنقطع:

    إما أن يركبه لله بدون أجرة، كما قال: (للثواب) واللام للتعليل، أي: من أجل الثواب، فتبقى يد المستعير كما هي يد ضمان، ولا يلزمه دفع أجرة الراكب؛ لأنه في هذه الحالة متعين عليه أن يركبه؛ لأنه منقطع. وإما أن يركبه بأجرة، فركب معه، وحينئذٍ أصبحت المنفعة منقسمة إلى قسمين: قسم أخذه المستعير، وقسم أجره، في هذه الحالة يضمن أجرة ما أجره ويكون ذلك المال للمالك الحقيقي.

    وفي حالة ما إذا كان المالك الحقيقي قد أذن له باستعارتها فأركب منقطعاً بدون مال، تبقى يده يد ضمان، وهذا الراكب لا يضمن؛ لأنه يجب إركابه في هذه الحالة، وبقي الأصل وهو البذل، حتى المالك الحقيقي لو أنه مر على المنقطع لوجب عليه إركابه؛ لأن المسلم يجب عليه إنقاذ أخيه، لكن لو أجره وقال له: أركبك معي بمائة، فركب معه بمائة، ضمن أجرته.

    أما الدليل على تضميننا إياه لأجرته فنقول: الأصل في المنفعة يوجب الضمان إذا أجرها كلها، كذلك لو أجر جزءها، فأنت لو قلت له: خذ هذه الدار واسكنها شهراً عارية مني لك، فسكن نصف شهر وأجرها نصف الشهر، وجب عليه الضمان في نصف الشهر، وعليه: فإركاب الراكب معه تشريك له في المنفعة، فيجب ضمان الجزء الذي أجره للراكب، ويضمن بأجرة المثل.

    وفائدة المسألة: أنه لو أركب الراكب بمائة ريال وأجرة مثله مائتين؛ وجب عليه ضمان المائة الثانية، ففي هذه الحالة تكون الإجارة أجرة المثل.

    1.   

    مسائل الاختلاف بين المعير والمستعير

    قال رحمه الله: [وإذا قال: آجرتك، قال: بل أعرتني أو بالعكس عقب العقد، قُبل قول مدعي الإعارة، وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل].

    هناك صور في المسألة:

    الأولى: إن قال: آجرتك، قال: بل أعرتني.

    الثانية: إن قال: أعرتك، قال: بل آجرتني.

    الثالثة: إن قال: أعرتني، قال: بل غصبتني.

    الرابعة: إن قال: آجرتني، قال: بل غصبتني. هذه كلها مسائل يصطلح العلماء على تسميتها بمسائل الاختلاف، ومسائل الاختلاف: هي جملة من المسائل التي يختلف فيها العاقدان في كيفية العقد، ولا تختص بباب معين بل تشمل أكثر أبواب المعاملات إن لم يكن جلها، ففي كل باب من أبواب المعاملات شيء يسميه العلماء: مسائل الاختلاف، والحقيقة أن مسائل الاختلاف لو تأمل فيها طالب العلم لوجدها في الأصل راجعة إلى باب القضاء؛ لأن المراد بهذه المسائل معرفة من المدعي ومن المدعى عليه، وبعض العلماء يقول: هو مدعي والآخر مدعىً عليه، وهو مدعىً عليه والآخر مدعي. هذا كله بمعنى قولهم: فالقول قوله، فإذا قالوا: القول قوله، فمعناه: أنه مدعى عليه، وهذه المسائل كلها راجعة إلى باب القضاء.

    أما من حيث المنهجية الفقهية؛ فكان الأصل يقتضي أن هذه المسائل تؤخر إلى باب القضاء؛ لأن مسائل القضاء تختص بباب القضاء، ولكن السبب الذي جعل أهل العلم رحمهم الله يفردون مسائل الاختلاف في كل باب بحسبه: أن هذه المسائل حينما تدرس في كل باب بحسبه تعرف أصول الأبواب الراجعة إلى القضاء، ففي بعض الأحيان تكون قاعدة القضاء عامة، لكنها في باب الشفعة تنخرم، وتكون قاعدة القضاء عامة ثابتة ولكنها في باب العارية تنخرم، فلما تدرس مسائل الاختلاف في كل باب بحسبه يكون ذلك أضبط وأتم لمعرفة الأبواب المستثناة، ومعرفة أصول كل باب وتطبيقها حتى في مسائل الاختلاف، فكما عرفت العارية اتفاقاً تعرفها اختلافاً.

    اختلاف المعير والمستعير في كون العقد عارية أم إجارة

    فقد يختلف المعير والمستعير في عقد العارية، يقول: أعرتني، فيقول: ما أعرتك بل أخذتها غصباً، قال: أعرتني، قال: بل أجرتك، قال: آجرتني، قال: بل أعرتك، هل هناك فرق بين أن يقول: أجرتك، وبين أن يقول: أعرتك، وبين أن يقول: غصبتني؟

    نعم، في بعض الأحيان حينما تكون السيارة ملكاً للشخص، ويدعي آخر أنه استعارها، فيقول المالك: بل أجرتك، فمن مصلحة المالك أن يقول: أجرتك، وفي بعض الأحيان يكون العكس، يقول له: أجرتني، قال: لا. بل أعرتك، فإن السيارة إذا تلفت الأفضل أن يقول: أعرتها؛ لأنها تضمن؛ لأنه لو قال: أجرتك، لا تضمن، أما لو كانت السيارة موجودة، فإن الأفضل أن يقول: أجرتك؛ لأنه يضمن قيمة المنفعة في المدة التي أخذها ذلك الرجل، فإذا قال: أجرتك. وجب عليه قضاءً -إذا قلنا القول قوله- دفع الأجرة، لكن هذا في الحقيقة يحتاج إلى ضوابط فقهية صحيحة.

    ومن هنا تجد المصنف رحمه الله رتب المسائل، فابتدأ أولاً فقال: إذا وقع الاختلاف بعد العقد مباشرة، أي: أن العين موجودة -التي هي السيارة- فالتلف غير موجود، فحينئذٍ لا ضمان، ولكن يبقى فقط مسألة المنفعة: هل تكون بأجرة أو بدون أجرة؟ هذا إذا كانت العين قائمة وموجودة، ويترتب الضمان على التسليم بكونها عارية، لكن إذا قال له: أجرتك، قال: بل أعرتني، قال: أعرتك، قال: بل أجرتني. والعين تالفة، فإن المالك في بعض الأحيان الأصلح له أن يقول: أجرتك، وفي بعض الأحيان يكون الأصلح له أن يقول: أعرتك.

    وتوضيح ذلك: لو أن العين تلفت فقلنا: قيمتها خمسة آلاف ريال، والعين مضى عليها عند الشخص خمس سنوات، فادعى المالك أنه أجره كل سنة بألفين، فالأفضل أن يقول: أجرتك؛ لأن له عشرة آلاف ريال، وإذا قال: أعرتك، سقطت أجرته ولزمه أن يدفع له ضمان المنفعة، وهو خمسة آلاف ريال، والعكس: فقد تكون الأجرة خمسة آلاف ريال، وقيمة العين عشرة آلاف ريال، فالأفضل أن يقول: أعرتك ولا يقول: أجرتك، إذاً: هناك مسألة مهمة وهي معرفة من الذي يقبل قوله؟ هل نقبل قول المالك مطلقاً، أم نقبل قول الآخذ سواء ادعى الإجارة، أو ادعى العارية مطلقاً؟

    هذا فيه خلاف بين العلماء:

    بعض العلماء يقول: أنا أصدق المالك؛ لأن المال ماله، والأصل إذا قال: أجرتك، أن تكون المنفعة مملوكة ومستحقة، وإذا قال: أعرتك، فالأصل أن عينها تضمن، فلا نفوت حقوق الناس، لأننا إذا أسقطنا قوله في حالة ما إذا ادعى العارية والعين تالفة فوتنا عليه ضمان عينه وماله، وإذا أسقطنا قوله: أجرتك، فوتنا عليه قيمة المنافع، ولا يجوز تفويت حقوق الناس، ولذلك يقول: أنا مع المالك مطلقاً، وربما في بعض الأحيان يكون المالك قوله الأضعف ولا يقول بالأصلح؛ فيكون في هذه الحالة تنازل عن الأكثر، فلو كانت قيمة العين خمسة آلاف ريال وأجرتها عشرة آلاف ريال وقال: أجرتني، وقال المالك: بل أعرتك، يصبح في هذه الحالة لا إشكال؛ لأنه تنازل عن الخمسة آلاف الزائدة عن استحقاقه، لكن المشكلة إذا زاد عن الاستحقاق.

    وعلى هذا يقول بعض العلماء: أصدق قول المالك مطلقاً.

    وبعضهم يقول: أقبل الأقل وأعتبر الزائد ادعاء، فإذا قال له: أجرتك، والأجرة خمسة آلاف ريال، والآخر قال: بل أعرتني، والعارية ثلاثة آلاف ريال، يقول: اتفق الطرفان على ضمان ثلاثة آلاف، وبقيت الألفان هي محل الخلاف؛ فأنا آخذ باليقين وهي الثلاثة آلاف، وأقول: القول قول من قال موافقاً للثلاثة آلاف، فيعتبر قول الأقل؛ لأنه يقين ومتفق عليه بين الطرفين.

    مثال: إذا قال له: أجرتك، والإجارة بعشرة آلاف ريال، قال: بل أعرتني، والعين قيمتها خمسة آلاف ريال، لا نشك أن المالك يستحق خمسة آلاف ريال، فيقول: أقبل القول الذي يثبت الخمسة آلاف؛ لأنه القدر المتفق عليه بين الطرفين، وأعتبر المالك مدعياً للزائد؛ قال: كما لو اختلفا وقال له: استلفت مني ألف ريال، قال: بل استلفت ألفين، فإن الكل متفق على أن هناك ألف ريال أخذها وهي يقين، لكن الشك في الألف الزائدة، فيقول: آخذ باليقين وأترك الشك حتى يأتي الدليل على إثباته؛ لأن ذمة الطرف الثاني في الزائد -وهي الخمسة آلاف ريال- مشكوك فيها، فأبقى على اليقين وهو الأقل وألغي الزائد، وأسقط قول من قال بالزائد حتى يقيم البينة عليه، هذا معنى قولهم: أو فالقول قول من قال بالعارية. فالقول قول من قال بالإجارة.

    كل هذا محل خلاف بين العلماء، منهم من يقول: القول قول المالك، وقلنا: علته أنه يرى أن مال صاحب الحق لا يذهب هدراً، وإذا أردت أن تختصرها وتقول: المالك إما أن يريد ضمان عينه، وإما أن يريد ضمان أجرة العين، وفي كلتا الحالتين تضمن الأعيان والمنافع، لأن بيوت الناس إذا تلفت فهي مضمونة ولا تذهب هدراً، وسكنى البيوت والانتفاع بها الأصل أنه مضمون ولا يذهب هدراً، فنحن نقبل قول المالك مطلقاً، ومنهم من يقول: آخذ باليقين وألغي الشك. وكلا القولين له وجهه وتعليله، والمصنف رحمه الله يقول في هذه المسألة: (وإذا قال: آجرتك، قال: بل أعرتني أو بالعكس عقب العقد، قُبل قول المدعي الإعارة).

    وفي هذه الحالة إذا قبلت قول مدعي الإعارة ستسقط الأجرة. مثلاً: لو أن شخصاً أخذ سيارة من شخص وبقيت عنده شهراً كاملاً، ثم قال: آجرتني، قال: بل أعرتك، فحينئذٍ قالوا: العارية توجب ضمان العين والإجارة توجب ضمان المنفعة، فآخذ بالضمان الأتم الأكمل وأقول: أقبل قول من قال بالعارية لا قول من قال بالإجارة، وعلى هذا يقبل قول من قال بالعارية سواء كان المالك أو المستأجر، وفي كلتا الحالتين تارة تكون المصلحة للمالك أن يقول: أجرتك، وتارة تكون المصلحة أن يقول: أعرتك.

    قال رحمه الله: (وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل).

    ذكرنا أنهم يقولون: حينما يكون الاختلاف قبل فوات المدة يكون ضمان العين أفضل من ضمان المنفعة، فهو إذا قال: أعرتك، يقولون: عندنا صورتان:

    الصورة الأولى: أن يقع الاختلاف بعد العقد مباشرة، والصورة الثانية: أن يقع الاختلاف بعد مضي مدة تستحق فيها الأجرة، فقالوا: إذا وقع الاختلاف بعد العقد مباشرة فلا ضمان للمدد، أي: إذا قال له: أعرتك، قال: بل آجرتني. قال: آجرتك، قال: بل أعرتني، ولا مدة مضمونة؛ لأنه ما مضى شيء، فقالوا: نقبل قول من قال بالعارية؛ لأنه يوجب ضمان الرقبة بكاملها، وهذا أحظ من ضمان المنفعة التي هي الأقل، وحينئذٍ يقولون: المالك بين أمرين: إما أن يدعي العارية أو الإجارة، فإن ادعى العارية؛ فحينئذٍ نقبل قوله وهذه سيارته وهذا ملكه، ونقبل قول من قال بالعارية، وسقط استحقاقه للأجرة، لكن لو قال: آجرتك، وقال الذي أخذ: أعرتني، فسيتضرر المالك من جهة عدم وجود الأجرة، وستؤخذ عليه منفعة الدار بدون أجرة، فلماذا قبلنا قول من قال بالعارية في هذه الحالة؟

    لأنه إذا قال له: أعرتك، تبدأ مسألة اللزوم وعدم اللزوم، فبعض العلماء لا يرى لزوم العارية، ويقول: إذا قلنا: نقبل قول من قال بالعارية، ففي هذه الحالة يكون المالك له خيار الإسقاط؛ لأنها ليست بلازمة له، مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91] يقول: أعرتك، ثم يقول: أعطني إياها، فيرجع مباشرة وينتهي الإشكال، وعلى هذا فحق المالك مضمون، ولا يفوت عليه الحق. وعلى القول بلزوم العارية، قالوا: ضمان العين أفضل من ضمان المنفعة، وعلى هذا: يكون الاستحقاق لليد عند فوات العين بضمانها أتم من استحقاق المنفعة والأجرة.

    اختلاف المعير والمستعير في حصول الغصب وعدمه

    قال رحمه الله: [وإن قال: أعرتني، أو قال: آجرتني، قال: بل غصبتني، أو قال: أعرتك، قال: بل آجرتني، والبهيمة تالفة، أو اختلفا في رد؛ فقول المالك].

    هذه مسألتان: مسألة من يقبل قوله، ومسألة من يرد قوله ونعني بها الاختلاف بين المتعاقدين، وتحتاج إلى شيء من التفصيل.

    1.   

    مسألة التنازع في عقد المنفعة

    بينا المسائل المتقدمة، وبقي بيان ثلاث كلمات: آجرتني، أعرتني، غصبتني.

    مثلاً: سيارة أو دار ملك لشخص، وكان يسكنها شخص لمدة سنتين، ثم تلفت هذه الدار، فادعى الساكن للدار أنه كان مستأجراً أو كان مستعيراً، وادعى مالك الدار أنه كان غاصباً.

    فما الفرق بين قول الشخص في هذه المسائل: آجرتني.. أعرتني.. وقول المالك: غصبتني؟

    إذا ادعى ساكن الدار أنه استأجر فهذا له حكم، وإذا ادعى أنه استعار فله حكم آخر، وإذا ادعى عليه المالك أنه غاصب فهذا له حكم ثالث.

    فإذا قال: آجرتني، فمعنى ذلك: أننا سنطالبه بضمان أجرة الدار لمدة سنتين، ولا نطالبه بضمان قيمة الدار، فرضنا أن هذه الدار التي تلفت قيمتها مائة ألف، وأجرة كل سنة عشرة آلاف، فإذا قال: آجرتني، فإنه يقر بأن عليه عشرين ألف ريال، لكن لا يطالب بضمان الدار بمائة ألف، فهو يدعي الأقل حتى يخرج من ضمان الأكثر.

    والسبب في هذا: أنه إذا قال: آجرتني، فإن المستأجر لا يضمن العين المؤجرة إلا إذا فرّط أو تعدى -كما تقدم-، فهو يقول: آجرتني، مع أنه سيغرم الأجرة، لكنه سيسلم من ضمان الدار.

    أو يقول: أعرتني، فإذا قال: أعرتني، يخرج من الأجرة ويلزمه ضمان الدار، ففي بعض الأحيان تكون الأجرة أغلى من قيمة الدار، كما لو سكن هذه الدار عشر سنوات، وكل سنة بعشرة آلاف ريال وقيمة الدار خمسون ألف ريال، فإذا قال: آجرتني، فسيدفع مائة ألف، وإذا قال: أعرتني، سيدفع خمسين ألفاً، فالأفضل أن يقول: أعرتني.

    فإذاً: العلماء رحمهم الله ذكروا قوله: آجرتني.. أعرتني.. قال: بل غصبتني.. هذا كله من جهة الحقوق المترتبة على العين التالفة.

    فالضمان بالأجرة والضمان للعين التالفة مستحق على من تلفت الدار تحت يده، فيضمن الدار إذا كان مستعيراً؛ لأن المستعير لا يدفع الأجرة ولكن يلزمه ضمان العين، لقوله عليه الصلاة والسلام: (بل عارية مضمونة).

    فإذا قال المالك: بل غصبتني، فإنه يستحق الأمرين، أجرة الدار؛ لأن المغصوب تضمن منافعه، ويستحق قيمة الدار؛ لأن المغصوب مضمون العين، وبناء على ذلك يضمن المنافع وقيمة الدار التي تلفت.

    فإذا قال: غصبتني، يكون له حقان: حق الأجرة، وحق قيمة الدار التي تلفت.

    فإذا اختلف الاثنان، فقال الذي في الدار: آجرتني، قال: بل غصبتني، هل: نصدق المالك أم نصدق الذي في الدار؟! هذه المسألة راجعة إلى مسألة قضائية، وسبق التنبيه عليها، وهي: من المدّعي ومن المدعى عليه؟!

    فإذا نظرت إلى المالك للدار أن الأصل أنه ملك هذه الدار، وأنه تضمن عين الدار وتضمن منافعها؛ لأن أموال الناس محترمة شرعاً ولا تخرج عن أيديهم إلا بضمان، نقول حينئذٍ: القول قول المالك، حتى يقيم الشخص الذي ادعى الإجارة أو العارية الدليل على أنه مستعير أو مستأجر، هذا معنى قوله: فالقول قول المالك.

    يعني: أن القاضي يقبل قول المالك أنه غاصب، ولكن يحلف المالك اليمين بالله على أنه غصبت منه هذه الدار، وأن هذا قد غصبها المدة التي يطالب بأجرتها.

    وبناء على ذلك: يكون المالك مدعىً عليه، والمستأجر أو مدعي الإجارة يطالب بالبينة.

    والقول قول المالك يكون في الصورتين، أي: سواء ادعى الذي في الدار الإجارة أو العارية؛ لأن في الدار شيئين:

    الشيء الأول: قيمة الدار التي انهدمت.

    والشيء الثاني: منفعة سكن الدار عشر سنوات.

    فلماذا قلنا: القول قول المالك؟ قالوا: أولاً: الأصل واليقين أن الإنسان لا يعطي الشيء إلا بقيمة أو بمقابل، فضمناه الأجرة.

    وثانياً: الأصل في أموال الناس أنها لا تذهب هدراً، فما دام أن الدار سقطت وهي تحت يد فلان فالأصل أنه ضامن حتى يثبت أن يده يد أمانة لا ضمان فيها.

    ولذلك لو اختلف اثنان، فقال أحدهما: أجرتني، قال: بل وهبتني، فإن الذي يدعيه خلاف الظاهر؛ لأن الأصل في الإنسان أنه لا يبذل الشيء إلا بمقابل، فهم يقولون: نضمنه الدار؛ لأن الأموال محترمة، ومادام سقطت تحت يده فالأصل أنه ضامن لها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، وليس عندنا دليل يسقط هذا الأصل، ونضمنه الأجرة؛ لأن هذه العشر سنوات لا تذهب هدراً حتى يقوم الدليل على أنه قد تبرع بها المالك الحقيقي. وليس عندنا دليل.

    هذا من جهة من يقول: القول قول المالك.

    القول الثاني: قول من يقول: القول قول من يدعي الإجارة؛ فهو في هذه الصورة مدعىً عليه؛ لأنه يقول: إنه أخذ العين بالمقابل، فجرى على الأصل من أنه مستأجر، وكونه يضمن الدار، أو يكون غاصباً ويحمله قيمة الدار هذا خلاف الظاهر؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها.

    وكل من قال قولاً خلاف الأصل فهو مدعي:

    والمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد

    فيقول: الأصل أن هذا الشخص الذي في الدار بريء، ومادام أنه قال: أنا مستأجر، والغالب أن الإنسان يأخذ الدار مستأجراً لمنافعها، فإذا تلفت نقول: تلفها مستحق على مالكها حتى يثبت أن هذا الشخص قد تحمل ضمانها بالإعارة، أو بالغصب.

    ثم قالوا أيضاً: الغصب خلاف الظاهر، والأصل أن المسلم لا يغصب لأن هذه تهمة، وبناء على ذلك نقول: لابد أن يقوم الدليل على أنه قد غصب؛ لأن الغصب تترتب عليه آثار من الإثم والتعزير، وهذا القول الثاني أيضاً من القوة بمكان.

    وعلى هذا ترددت أقوال العلماء بين الجانبين، بعضهم يقول: إننا نصدق الذي في الدار؛ لأنه مدعى عليه، ونطالب المالك بإقامة دليل على أنه غصب، وأخذت منه الدار، وأن هذا هو الذي غصب.

    ومنهم من يقول: نصدق المالك لأن أموال الناس ومنافع أعيانهم الأصل ضمانها.

    وكلا القولين له وجهه، وله تعليل وإن كان -كما ذكرنا- القول الثاني في مسألة الغصب -وهو القول بتصديق المالك- يضعف؛ لأنه تترتب عليه ما ذكرناه من المؤاخذة،؛ إذ لا يقف الأمر على ضمان الأعيان والمنافع بل يتعدى ذلك إلى الاتهام، والأصل براءة المتهم حتى تثبت إدانته.

    اختلاف المعير والمستعير في رد العارية

    قال رحمه الله: [أو اختلفا في رد فقول المالك].

    هذه المسألة غير المسألة الأولى، والعلماء رحمهم الله لما ذكروا مسائل العواري نبهوا على قضية الرد وعدم الرد، إذا قال: فلان أخذ مني سيارتي عارية، ولم يردها، فقال الذي أخذ: بل رددتها.

    هل نصدق الذي أخذ السيارة أم نصدق المالك؟

    إن صدقنا الذي أخذ السيارة، فحينئذٍ نطالب المالك بإقامة دليل على أن فلاناً لم يرد السيارة، وإن صدقنا المالك وقلنا: إنك لم تردها، طالبنا الذي أخذ السيارة بالبينة والشهود على أنه قد رد السيارة.

    مثال: إذا قال له: رددتها، قال: لم تردها، سأل القاضي الذي أخذ السيارة: متى رددتها؟ قال: رددتها ليلة الجمعة، قال المالك: ما ردها ليلة الجمعة، فشهد شاهدان أن فلاناً المالك كان يقود سيارته صباح الجمعة، فهذه بينة تدل على كذبه، وأنه فعلاً قد ردت إليه السيارة؛ لأنه ادعى عدم الرد، وقد ثبت أنه ردها، لكن إذا لم توجد بينة، فهل نصدق الذي قال: رددت، أو نصدق الذي نفى الرد؟!

    عندنا مثبت للرد وعندنا ناف، وهذه المسألة ترجع إلى نفس المسألة السابقة: كيف نميز بين المدعي والمدعى عليه؟!

    فبعض العلماء يقول: إذا أخذ السيارة وادعى أنه ردها، وادعى صاحب السيارة أنه لم يردها، فعندنا شيء اسمه اليقين، وشيء اسمه الشك، واليقين لا يزال بالشك، فهو يعترف أنه أخذ السيارة، وكلا الطرفين مقر بأن هناك أخذاً للسيارة.

    فإذاً نقول: ما دمت أنك تقر أنك أخذت سيارة فلان فأثبت لنا يقيناً أو بما هو في حكم اليقين وبالبينة أنك قد رددتها؛ لأنك مقر أنك أخذتها، ومقر أن ذمتك قد شغلت بهذه السيارة.

    ففي هذه الحالة إذا قال: أعرتك، قال: نعم أعرتني ولكن رددت السيارة إليك، أعرتني دارك ولكن رددتها إليك.

    مادمت قد أقررت أنك أخذت فإن يدك تكون مشغولة بهذا الأخذ، ومحكوم عليك أنك آخذ حتى يثبت أنك قد رددت الذي اعترفت بأخذه، هذا وجه قول من قال من العلماء: إنه يصدق المالك. وهذا هو القول الصحيح، أنه إذا أقر واعترف بأنه أخذ السيارة عارية وردها، نقول: أقم البينة على أنك رددتها.

    وبعض العلماء يقول: نصدقه لأن الذي يقول: رددت، مثبت، والذي يقول: لم ترد، ناف، والمثبت مقدم على النافي، ولكن الصحيح أن القول قول المالك كما ذكر المصنف، وهذا هو الصحيح والخلاف هنا ضعيف.

    فإن قول من قال: يصدق الذي قال: رددت، قول ضعيف، خاصة وأن أصول القضاء تقوي أن القول قول المالك؛ لأن الذمة قد ثبت شغلها بالأخذ، فلابد من إثبات الدليل على براءتها بالرد.

    1.   

    الأسئلة

    الفرق بين الإجارة والعارية من جهة تمليك المنافع وعدمه

    السؤال: ما الفرق بين تمليك المنافع في الإجارة وأحقية التصرف فيها، وتمليك المنافع في العارية وعدم أحقية التصرف فيها، مع أن الكل يضمن إن فرط وتعدى؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد: فإن المستأجر منك إذا استأجر داراً لمدة سنة بخمسة آلاف فمعناه: أنك لا تملك سكنى هذه الدار سنة كاملة، وتنازلت عنها لقاء خمسة آلاف ريال؛ يملك بها المستأجر هذه المنفعة ملكاً تاماً، من حقه أن ينتفع هو ومن حقه أن يقيم غيره مقامه، وأنت رضيت بهذا الملك، ورضيت بالمعاوضة عليها، والله أمرك بالوفاء وإتمام العقد على ما اتفقتما عليه.

    فالإجارة فيها عوض، ويجب عليك خمسة آلاف لقاء السكنى سنة، وأما في العارية فلن يدفع لك شيئاً، وصارت على محض الإحسان والتكرم والتفضل، وحينئذٍ تضعف يد الآخذ في العارية أكثر منها في الإجارة؛ لأن الإجارة قد عاوضك وأعطاك قيمة الشيء، وأما في العارية فلم يعطك في مقابل العارية شيئاً، وعلى هذا لا يستحق في العارية إذا وهبت له وأعطيت إلا في حدود الهبة والعطية، فتقيدت في العارية وأطلقت في الإجارة، واستحق في الإجارة ولم يستحق في العارية، فالفرق بينهما واضح، ولذلك يكون المستأجر مالكاً للمنافع في الإجارة غير مالك للمنافع في العارية، وهذا على القول بأنها إذن بالمنافع وليست بتمليك خلافاً للجمهور، والله تعالى أعلم.

    حكم تضمين المستعير إن كانت العارية بها عيب وزاد عيبها عنده

    السؤال: إن استعار شخص سيارة بها عيوب ثم تلفت في يديه من جراء تلك العيوب والأعطال التي بها سابقاً، فهل يضمن المستعير؟

    الجواب: نعم تضمن في هذه الحالة؛ لأن يدك يد ضمان فرطت أو لم تفرط، وتضمنها معيبة ولا تضمنها كاملة، مثال: لو أخذت السيارة وهي في آخر رمق منها، تسير ساعة وتقف ساعتين، ففي هذه الحالة الشرع يقول لك: أي شيء تستعيره فإن يدك يد ضمان، فأنت الذي أدخلت على نفسك الغرر، معنى ذلك: إذا كانت السيارة في آخر رمقها فأنت ضامن، كأنك تقول: أنا أتحمل مسئولية ردها، فإذا لم تردها فيدك يد ضامنة تضمنها بحالتها، فإذا وجدت مثلها تسير ساعة وتقف ساعتين حينئذٍ تضمن المثلي، وإن كان لا مثل لها وقيمة مثلها ثلاثة آلاف، نقول: عليك ضمان هذه السيارة بالتلف، أي: بالعيوب الموجودة فيها، ولا تضمنها كاملة، وعلى هذا نقول: يدك يد ضمان وليست بيد أمانة حتى يفصل بين كون التلف بتفريط أو بدون تفريط، بسبب موجود أو غير موجود، فقوله: (أغصباً يا محمد! قال: بل عارية مضمونة) نص يدل على أن العواري تضمن، وأن من أخذ العارية فقد تحمل المسئولية.

    وهذا في الحقيقة حكمة من الشريعة؛ لأن الشخص الذي أعطاك العارية تكرم وتفضل بمنافعها؛ فجعل الشرع مكافأة له على هذه المنافع -كنوع من العدل، والشريعة قائمة على العدل- أنك تضمن ردها له تامة كاملة على الصفة التي أخذتها بالتمام والكمال، والله تعالى أعلم.

    حكم تمكين الغير من استخدام العارية عند الحاجة

    السؤال: لو أن شخصاً استعار سيارة في سفر، واحتاج أثناء الطريق لشخص آخر يقود السيارة عنه، فهل في ذلك حرج؟

    الجواب: لا حرج إلا الضمان؛ فلو أن هذا الشخص الثاني تصرف فيها فتلفت تضمن؛ لأن الشخص الثاني إن أقمته مقامك عند الضرورة والحاجة يسقط عنك الإثم، لكن لا يسقط عنك الضمان، فإن الذي ملك السيارة أذن لك أن تقودها ولم يأذن للغير أن يقودها، ولذلك تقف حتى يتراد إليك نفسك؛ لأنه ما دام أنه قد أذن لك أنت أن تقود فإنه لم يأذن لغيرك بقيادتها، وهذه شريعة تامة كاملة تضمن حقوق الناس على أتم الوجوه، قد ترضى لمحمد يسوق ولا ترضى لغيره، فلو جئت تتساهل في هذا الشيء اليسير الذي لا خطر فيه، فقد تتساهل في شيء أعظم خطورة، وشيء أكثر مفسدة، ولذلك -من حيث الأصل الشرعي- لا يقوم غيرك مقامك؛ لأن الشريعة قالت: أذن لك ولم يأذن لغيرك، فتبقى أموال الناس مصونة ومحفوظة، ولا يمكن للغير أن يقوم مقامك إلا إذا أذن المالك الحقيقي بإقامته مقامك، والله تعالى أعلم.

    بالنسبة لهذه المسألة يستثنى منها الاشتراط، كأن تقول له: فإن تعبت يقود عني ابني، أو اجعلني في حلٍ إذا احتجت لغيري أن يسوق بي، فهذا إذن، أيضاً يدخل في هذه المسألة الإذن المعروف مثلما يقع بين الأصدقاء والأحبة، تعلم أن أخاك تطيب نفسه أن تقيم غيرك مقامك في حالات الحاجة، وذكروا دليلاً لذلك حديث أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سُمعت الصيحة في المدينة، خرج الناس فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أروع الأمثلة على شجاعته -بأبي وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، وثبوت قلبه وجنانه، فلما صارت الصيحة والفزع كان أول من خرج عليه الصلاة والسلام، فكان لا يبالي بالموت ولا يبالي بشيء صلوات الله وسلامه عليه؛ وهذا من كمال إيمانه، وكمال رجولته عليه الصلاة والسلام، فكان أتم الناس في قوة إيمانه وتوكله على ربه، فكان أول من خرج على فرس أبي طلحة ، وأخذ فرس أبي طلحة من دون إذن أبي طلحة ، وللعلماء فيه أوجه، منها: قالوا: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] فقالوا: إذا كان أولى بهم من أنفسهم فمن باب أولى أموالهم، وفي هذا الحديث لا يقل عن ثلاثين مسألة، فقط في أخذ فرس أبي طلحة .

    من هذه المسائل: أنه يجوز أن تأخذ مال الغير إذا علمت رضاه، فإنه ركب فرس أبي طلحة وهو يعلم أن أبا طلحة يحب ذلك ويرضى به، فأنت إذا أخذت الشيء عارية وأنت تعلم أن صاحبه لو وقف واطلع على الشيء الذي فعلته عند حالات الضرورة أذن لك، قالوا: في هذه الحالة يسقط عنك الإثم؛ لأنك تعلم أن من عادته وطبيعته أنه يأذن لك بهذا، وهكذا لو وجدت حذاءه -أكرمكم الله- وأنت محتاج لأخذه فأخذته، ولو وجدت دابته وأنت محتاج إليها فأخذتها؛ وهذا معروف بين الإخوة والأصدقاء والأحبة، قالوا: فيجوز أن تقيم الغير مقامك ليقود بك عند حالات الحاجة، أو تعرفه حليماً رحيماً إذا حكيت له هذا الظرف وافق على أن تقيم غيرك مقامك، فهذا لا بأس به، ولا إثم فيه، لكن لا يخرج الشيء عن يد العارية الموجبة للضمان.

    حكم الجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع بنية واحدة

    السؤال: هل يصح أن أجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع في وقت طواف الوداع بنية واحدة؟

    الجواب: أولاً: على المسلم أن يلتزم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالخير كل الخير في اتباع هديه والسير على نهجه صلوات الله وسلامه عليه، إن المسلم حينما يعلم أن هديه عليه الصلاة والسلام في يوم النحر أنه نزل وطاف طواف الإفاضة، ثم رجع وبات بمنى ورمى الجمار، ثم رجع وطاف طواف الوداع فإنه يفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يترك هذه السنة، ولا يتساهل فيها، ولذلك حينما يقول: هذا واجب وهذا ركن، والواجب يندرج تحت الركن، يقول بعض العلماء: إن الفقه قد يكون وبالاً على صاحبه متى؟ حينما تجد من يتعلم الفقه يقول لك: هذه سنة فيتركها، بينما العامي يعلم أنها سنة ولكن يقتتل عليها حتى يحصلها، فانظر كيف أن هذا جاهل يفوز بالدرجات العلى وهذا عالم يحرم الخير.

    فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يفرط بالسنة، هذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه نزل في يوم النحر وطاف طواف الإفاضة، فلماذا تترك هذه السنة؟ ما الذي أقدم الإنسان من آلاف الكيلو مترات أشعث أغبر من كل فج عميق، وتحمل المشاق؟ ثم يأتي الشيطان يحول بينه وبين الخير ويمنعه من خطوات يتبوأ بها الدرجات العلى والخير الكثير، ويصيب بها الرحمة ويشرفه الله بالطواف ببيته فيمتنع من هذا الخير كله ويتقاعس عنه، ويقول: أجمع بين طواف الإفاضة والوداع؛ لأن الفقهاء يقولون: يندرج الأصغر تحت الأكبر، لماذا يحرم الإنسان نفسه هذا الخير؟ نعم إن وجد عذر، كالمرأة الحائض تحيض في العيد، ويأتي يوم النحر وهي حائض، لا تستطيع أن تطوف طواف الإفاضة، ثم تبقى يوم التشريق الأول والثاني والثالث، ثم تطهر فتريد أن تطوف طواف الإفاضة وتريد أن تصدر، نقول: طوفي طواف الإفاضة ويكون مغنياً لكِ عن طواف الوداع، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافه).

    فهذه إذا طافت طواف الإفاضة ونوت تحته طواف الوداع أجزأ؛ لأنه واجب لا يتحقق إلا بالنية، وفي هذه الحالة قد تحقق مقصود الشرع بجعل آخر العهد بالبيت طوافه، لكن القادر والمستطيع وطالب العلم والعالم الذي يعلم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته ويقصر في ذلك، فهذا أمر لاشك أنه حرمان من الخير، وفوات للخير على العبد، وهو من تخذيل الشيطان للإنسان، فينبغي للمسلم أن لا يكون ذلك الرجل، ويحرص المسلم وتحرص المسلمة على أن تنزل يوم العيد وتطوف طواف الإفاضة في يوم النحر؛ لأن في ذلك الخير الكثير، قال تعالى: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].

    جعل الله أحب الأشياء إليه وأعظمها عنده زلفى وقربى منه سبحانه وهي الهداية، جعلها مقرونة باتباع هديه عليه الصلاة والسلام؛ وهي أ‘ظم مكافأة يجدها المسلم في اتباعه، قال سبحانه وتعالى: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، فنتبع سنته عليه الصلاة والسلام، ونطوف طواف الإفاضة في يوم النحر، ونطوف طواف الوداع إذا صدرنا وخرجنا، ونجعله آخر العهد؛ فإن وجد العذر فلا بأس حينئذٍ، وأما إذا لم يوجد العذر وفعل الإنسان ذلك متعمداً فقد فاته الخير، وليس هناك دليل على الإلزام بشيء، والله تعالى أعلم.

    حكم حج من أغمي عليه ولم يرم الجمرات

    السؤال: رجل أصيب بالإغماء في اليوم الثاني عشر ولم يرم، فما الحكم؟

    الجواب: الحجة تامة، إذا كان ذلك بعد وقوع أركانه على الصفة المعتبرة، وفي هذه الحالة إذا أفاق فإنه يرمي ما لم تتأخر إفاقته إلى فوات الوقت؛ فمذهب طائفة من العلماء: أن الإغماء موجب لسقوط التكليف؛ وبناءً على ذلك: يسقط عنه التكليف بالإغماء على هذا القول، ومن العلماء من يفرق بين الإغماء الطويل والإغماء القصير، فيقولون: ما كان في حدود الثلاثة الأيام يكون المغمى عليه في حكم المكلف، ولذلك قالوا: إن عمار بن ياسر قضى الصلوات حينما أغمي عليه ثلاثة أيام، والأشبه من ناحية أصولية: أن المغمى عليه أشبه بالمجنون منه بالنائم، فإن من يقول: هو مكلف، يشبهه بالنائم، ومن يقول: إنه غير مكلف، يشبهه بالمجنون، وهذا أصح؛ لأن النائم إذا أيقظه الإنسان استيقظ، والمغمى عليه لو أيقظه لا يستيقظ، ولذلك هو أقوى -من حيث الأصل- شَبهاً بالمجنون، فيسقط تكليفه، والله تعالى أعلم.

    حكم من اعتمر ليلة يوم التروية ثم تحلل وأهل بالحج

    السؤال: من يعتمر ليلة يوم التروية ثم يتحلل ويهل بالحج قبل ظهر يوم التروية، فهل هذا يعتبر متمتعاً؟

    الجواب: نعم. يعتبر متمتعاً، من جاء بالعمرة قبل الوقوف بعرفة وتحلل منها، سواء وقع ذلك على الوجه الذي يدرك به السنة من يوم التروية، أو كان ذلك على وجه تفوت به السنة، كأن يأتي متأخراً، فما دام أن عمرته قد وقعت قبل الوقوف بعرفة وتحلل منها، ثم بعد ذلك أحرم بنسك الحج فإنه يكون متمتعاً وجهاً واحداً عند العلماء، والله تعالى أعلم.

    حكم الفصل بين الطواف والسعي

    السؤال: هل يؤثر الفصل بين الطواف والسعي سواء كان هذا الفاصل قليلاً أو كثيراً؟

    الجواب: السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم الوصل بينهما، ويكون الفاصل بالمأثور وهو ما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام من صلاته لركعتي الطواف، وشربه لماء زمزم، وتقبيله للحجر، ثم مضيه إلى السعي، هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، وخفف العلماء في الفاصل اليسير، كأن يستريح قليلاً ويكون من كبار السن، أو تكون معه رفقة يخشى عليهم الضياع فينتظر اجتماعهم، أو نحو ذلك مما هو خفيف يسير، فهذا لا يؤثر عند من يشترط الموالاة بين السعي والطواف، أما لو كان الفاصل بأجنبي، أو كان فاصلاً مؤثراً فاحشاً، كأن يذهب إلى استراحته وينام، ثم يرجع ويسعى فهذا فاصل مؤثر يفوت به شرط الموالاة عند من قال باعتباره، والله تعالى أعلم.

    ما يشترط في الوكيل لرمي الجمرات

    السؤال: هل يشترط في من وكل بالرمي عن العاجز أو المريض أن يكون مؤدياً للحج في نفس العام أم يجوز أن يوكل من لم يحج في هذه السنة ويرمي وكان قد حج الفريضة؟

    الجواب: المسألة الأولى: لا يجوز التوكيل إلا عند وجود العذر، فمن كان معذوراً كأن يكون مريضاً أو به ضعف شديد أو عاجز لا يستطيع كالمشلول، فهؤلاء المعذورون هم الذين يرخص لهم في التوكيل، فإن كان العذر موجوداً صح التوكيل، وإن كان العذر غير موجود فإنه لا يصح التوكيل ولا يجزئ الرمي، فإن الشخص الذي يذهب يرمي يتعب نفسه إذا علم أن الشخص الذي وكله غير معذور، كالذين يتلاعبون بالحج فينزلون في يوم العيد ويوكلون أشخاصاً للرمي عنهم، فهؤلاء رموا أو لم يرموا فالرمي وجوده وعدمه على حد سواء؛ لأن مثل هذا غير معذور، فيشترط وجود العذر، فإذا وجد العذر صح التوكيل، وإذا لم يوجد العذر لم يصح التوكيل.

    المسألة الثانية: إذا وكل ينبغي أن يكون الوكيل قد حج في نفس العام؛ لأن الرمي عبادة لا تصح إلا من الحاج ولا تجزئ من غير الحاج، تعبد الله بها من كان في النسك ولم يتعبد بها من لم يكن في النسك، فيجب أن يكون الوكيل قد حج في ذلك العام، فالشخص الذي يوكله لابد أن يكون محرماً، ولا يكون من الحلال ممن لم يحج، فلا يجوز توكيل غير الحاج، ويبدأ الوكيل بنفسه، فيرمي الجمرات تامة، ثم يرجع ويرمي عمن وكله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ) فالرمي نسك تام، فيبرئ ذمته منه تماماً ثم يبرئ ذمة من وكله، فلو أنه رمى عمن وكله أولاً، ثم رمى نفسه لم يجزئ، وهل ينقلب رمي من وكله عن نفسه أو يلزمه الإعادة؟ وجهان للعلماء:

    من أهل العلم من قال: ينقلب رميه عن نفسه ثم يرمي عمن وكله، وحينئذٍ يعيد مرة واحدة على هذا القول؛ لأن الرمي الأول انقلب له، لكن الرمي الثاني نواه عن نفسه فلا ينقلب للغير فيعيد مرة واحدة، وهناك من أهل العلم من قال: يجب عليه أن يعيد الاثنين.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755771582