إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الوكالة [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن مقصود الشرع من الوكالة هو الإرفاق وتحقيق المصلحة، فلهذا جازت الوكالة فيما كان على هذه الصفة، لكن إذا تضمنت الوكالة محذوراً، كأن تكون وكالة على محرم، أو كان الفعل لا يصح التوكيل فيه، فعند ذلك يمنع الشرع من هذه الوكالة.

    1.   

    الأشياء التي يصح فيها التوكيل

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد تقدم الحديث عن الأمور التي يجوز للمسلم أن يوكل غيره فيها، وذكرنا أن هناك جانبين: جانب فيما بين المسلم وبين الله، وجانب فيما بينه وبين العباد، وذكرنا الجانب الذي بينه وبين الله عز وجل، وفيه حقوق قصد الشارع أن يقوم المسلم بها بنفسه: كالصلوات الخمس، والصيام، فلا يجوز أن يوكل غيره فيها، ولا تصح الوكالة في هذا النوع.

    وأما النوع الثاني من هذا الجانب الذي بينه وبين الله عز وجل: الحقوق التي قصد الشارع وصولها لأصحابها كالزكوات والكفارات، فيجوز للمسلم في الحقوق المالية أن يوكل غيره فيها، فيعطي عشرة آلاف لرجل ويقول: ادفع هذه العشرة الآلاف للفقراء أو المستحقين للزكاة، فيوكله في حقٍ فيما بينه وبين الله عز وجل، وذكرنا حكم ذلك، ثم حقوق الآدميين ذكرنا ما الذي تدخله النيابة وتصح، وما هو في ضد ذلك.

    التوكيل في العقود

    ثم شرع المصنف -رحمه الله- في بيان محل الوكالة فقال رحمه الله: [ويصح التوكيل في كل حق لآدمي].

    أي: يجوز لك أن توكل غيرك، ويجوز لك أن تقبل وكالة غيرك، يعني: في كلا الجانبين يجوز لك أن تكون موكلاً، ويجوز أن تكون وكيلاً:

    (في كل حقٍ لآدمي).

    يعني: كل أمرٍ من الأمور التي من حقك أن تقوم به، فيجوز أن توكل الغير فيه، فقال رحمه الله: (من العقود).

    (من) بيانية، (العقود): جمع عقد، والعقد أصله التوثيق والإبرام، ومنه عقدة الحبل، وإذا قال العلماء: العقد، فهو الإيجاب والقبول، فيجوز لك أن توكل أي شخصٍ بشرط أن يكون أهلاً للعقد الذي توكله فيه، فيجوز لك أن تجعله نائباً عنك، مثاله: أن تقول له: يا محمد! اشتر لي سيارةً من نوع كذا، فهذا توكيلٌ بالشراء، يا محمد! بع أرضي الفلانية بعشرة آلاف، فهذا توكيلٌ بالبيع، فيجوز لك أن توكل في العقود كالبيع والإجارة، كأن تقول لصاحب مكتب العقار: وكلتك أن تؤجر عمارتي بعشرة آلاف، أو بعشرين ألفاً، أو بمائة .. إلى آخره، فهذا توكيلٌ بالإجارة، وكذلك أيضاً توكله في القيام بالعقود الأخرى كالشركات ونحوها فهو وكيلك.

    فيقول رحمه الله: (ويصح التوكيل في كل حقٍ لآدمي)، أي: يملك أن يبرمه وينشئه، وعندما قال رحمه الله: (من العقود)، هناك جانبان: الجانب الأول: ما يسمى: إنشاء العقود، وهناك جانب عكسي وهو: فسخ العقود، فإذا قلت: يجوز أن توكل في الإنشاءات فيجوز أن توكل في الفسوخ، فمن حقك أن توكل غيرك في إثبات العقود وإنشائها، فينشئ عنك البيعة ويلزمك، وينشئ عنك الإجارة وتلزمك، وينشئ عنك الشركة وتلزمك .. إلخ، وتوكله في الفسخ، فتقول له: يا محمد! افسخ عقد البيع الذي بيني وبين فلان، أو افسخ عقد الإجارة الذي بيني وبين فلان.

    قال رحمه الله: [من العقود والفسوخ].

    العقود عامة، وعلى هذا فيجوز أن يتوكل عنك في عقد النكاح، فتقول له: يا فلان! اقبل زواجي من فلانة، فتوكله أن يكون قابلاً لزواجك، لكن ما يستطيع أن يتوكل في الفعل وهو فعل النكاح، فإنشاء النكاح شيء، وفعل النكاح شيءٌ آخر، فالشرع قصد من المكلف أن يفعل بنفسه ليعف نفسه عن الحرام، فلا يكون التوكيل عن زوجٍ ولا عن زوجة في الفعل، لكن في الإنشاء يجوز، ويجوز في الإنشاء ما لا يجوز في الأثر، فأثر النكاح الاستمتاع، فهناك فرق بين إنشاء عقد النكاح وبين أثره، فتوكله إنشاءً ولا يصح أن يوكل فيما بعد ذلك.

    والعكس في المرأة كذلك، فيجوز أن يتوكل الغير عنها في قبولها، وهكذا بالنسبة لوليها يجوز أن يوكل الغير، فعقد النكاح يجوز إنشاؤه وكالةً، ويجوز إنشاؤه أصالةً.

    التوكيل في الفسوخ

    قوله: (والفسوخ) جمع فسخ، يقال: فسخ الثوب إذا أزاله، والفسخ: الرفع والإزالة، والمراد بالفسخ: فسخ العقود، فيجوز أن توكله، مثل ما يقع في أصحاب الشركات، وكل صاحب شركة أو مؤسسة كبيرة قد لا يكون عنده الوقت والفراغ ليبرم العقود، فيوكل شخصاً معيناً عن شركته، فيكون هذا الشخص يفوض إليه، ويقول له: لك حق إبرام العقود وفسخها يعني: أنت وكيلٌ عني في أن تبرم عقود البيع وعقود الإجارة، ولك الحق أيضاً، وكلتك في أن أي عقد بيع ترى من المصلحة أن يفسخ تفسخه، وكل عقد إجارة ترى من المصلحة فسخه تفسخه، ويستوي في ذلك أن يكون الفسخ من أحد الطرفين أو منهما معاً بالرضا من الطرف الثاني.

    التوكيل في العتق

    قال رحمه الله: (والعتق).

    العتق كما هو معلوم في مقصود الشرع: فك رقبة إذا كانت مسلمة ومؤمنة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء فقال: أعتقها فإنها مؤمنة) وجملة (فإنها مؤمنة)، أي: لأنها مؤمنة، فدل على أن مقصود الشرع عتق الرقاب إذا كانت مؤمنة، فالتوكيل في عتق الرقبة، تقول: يا فلان! وكلتك في عتق إمائي أو عتق عبيدي، هذا عموم، أو عتق فلان من عبيدي أو فلانة من إمائي هذا كله جائز، فيجوز أن يتوكل عنك في العتق كما أنه يجوز أن يتوكل عنك في شراء الأمة والعبد ونحو ذلك.

    التوكيل في الطلاق

    قال رحمه الله: (والطلاق).

    يجوز أن يوكل غيره في تطليق امرأته أو تطليق نسائه، سواءً جعل له الطلاق كله كأن يقول: وكلتك أن تطلق نسائي دون أن يقيده بطلقة أو بطلقتين، وإنما يقول له: وكلتك أن تطلق امرأتي، ويفوض له ذلك بأن يطلق طلقة أو طلقتين أو ثلاثاً وقد يقيد ذلك فيقول: وكلتك أن تطلق زوجتي فلانة -فهذا تقييد في واحدة من نسائه- أو تطلقها طلقة أو طلقتين ويقيد عدد الطلاق، ففي هذه الحالة يجوز، لكن إن وكله في تطليقه لزوجته فلا تخلو الوكالة من حالتين: إما أن تكون مطلقة على السنة، فيطلق الوكيل على السنة، وإما أن يطلق الوكيل لغير السنة كما ذكرنا في درس النكاح، كأن يطلقها وهي حائض، فحينئذٍ يكون فيه الخلاف المشهور ويرد السؤال: هل تطلق أو ما تطلق؟ فالقائلون بأن الطلاق في الحيض يقع -وهم جماهير السلف والخلف رحمةُ الله عليهم على ظاهر الروايات التي ذكرناها عن ابن عمر رضي الله عنهما- يقولون: إن وكله في التطليق فطلقها وهي حائض أثم الوكيل دون الأصيل، ويمضى الطلاق ويكون طلاقاً بدعياً، ويأثم الوكيل ولا يأثم الأصيل، ولكن الطلاق نافذ، ولو قال له: طلق زوجتي -وهي في الحيض- فقال: وكلتك أن تطلق زوجتي الآن، أو تطلقها اليوم، أو تطلقها وهي حائض وكانت في حيضها، فكأن الموكل قصد أن يوقع الطلاق حيضها فاختلف العلماء:

    قال بعض العلماء: لا يتوكل الوكيل عن الأصيل في الحرام، فكما لا يصح التوكيل في الظهار كذلك لا يصح التوكيل في الطلاق في الحيض، فلو وكله وقال له: طلقها في حيضها، فنص على بدعية ومحرم فلا يجوز التوكيل، ولا تصح الوكالة على هذا الوجه، قالوا: لأن الوكالة عقد شرعي أذن به للأمور المشروعة لا للأمور الممنوعة؛ لأن الله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، فهذا الطلاق في حال الحيض إثمٌ واعتداءٌ لحدود الله؛ لأن الله نهى في آية الطلاق فقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]، فنص على أنه من حدود الله عز وجل، وحدود الله أن تطلق المرأة في غير الحيض.

    وبناءً على ذلك: لو قال له: طلقها في الحيض، بطلت الوكالة في قول طائفة من العلماء، والفرق بين من يقول: تبطل الوكالة وبين من يقول: لا تبطل، أنه لو قال له: وكلتك أن تطلق امرأتي حال الحيض فطلقها وقلنا: الوكالة باطلة فالطلاق لا يقع، وإن قلنا: الوكالة صحيحة فالطلاق يقع على الوجه الذي ذكرناه في قول الجمهور، وفي الحقيقة لا شك أنه يأثم الموكل والوكيل، وعند النظر في المقصود الشرعي من طلاق الحيض فإنه يقوى أن ينفذ عليه طلاقه؛ لأنه نفذ على الأصيل، فمن باب أولى أن ينفذ على الوكيل.

    التوكيل في الرجعة

    قال رحمه الله: (والرجعة).

    أي: يجوز للمسلم إذا طلق امرأته طلاقاً رجعياً وهي الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية وما زالت في عدتها أن يراجعها، وهذا فيما إذا كان بعد الدخول، وينبغي أن ينبه أن الطلاق الرجعي لا يكون إلا بعد الدخول بالمرأة؛ ولذلك نقول: الطلقة الأولى والطلقة الثانية بعد الدخول، فإذا وقعت الطلقة الأولى قبل الدخول فليس برجعي؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49] فدل على أنه لا رجعة في الطلاق قبل الدخول، لكن الرجعية تكون إذا كان قد دخل بها، فإذا عقد على المرأة ودخل بها وطلقها الطلقة الأولى أو طلقها الطلقة الثانية وما زالت في عدتها فإنه يمتلك رجعتها؛ لقوله سبحانه: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228]؛ لأنه قال في صدر الآية: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، فقد جاءت الآية مقيدة لقوله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228].

    وعلى هذا قال العلماء: إنه ما دامت الطلقة رجعية فإنه يمكنك استرجاعها بدون إرضائها، فلو أنه ارتجعها بنفسه صحت الرجعة كأن يقول: راجعت فلانةً أو راجعت زوجتي أو يقول: يا فلان! وكلتك أن ترجع لي زوجتي، أو وكلتك في ارتجاع زوجتي، فإنه وكيل فتصح الوكالة، فكما صحت الوكالة في إنشاء عقد النكاح صحت الوكالة في استدامة عقد النكاح؛ لأن الرجعة استدامة وفيها وجهان:

    بعض العلماء يقول: الرجعة إنشاء، وبعضهم يقول: استدامة، والفرق بين القولين: أننا لو قلنا الرجعة استدامة وطلق المحرم حق له أن يراجع زوجته؛ لأنها استدامة للنكاح، ومحرم على المحرم أن ينكح، وإن قلنا: إنها إنشاء فإنه لا يمتلك أن يرتجع إلا بعد أن ينتهي أو يفك إحرامه.

    التوكيل في المباحات المتملكة

    قال رحمه الله: (وتملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه).

    يقول رحمه الله: وتجوز الوكالة في تملك المباحات، والمباحات: جمع مباح، فهناك أشياء أحل الله عز وجل لعباده أن يأخذوها، والمباحات هي التي لا تكون ملكاً لواحدٍ من الناس مثل الأشجار في البراري، فإن الأشجار في البراري ملكٌ للناس ينتفعون بها، وليس لأحد أن يمتلك إلا إذا زرعها بنفسه، فإذا زرعها بنفسه كانت ملكاً له وإحياءً للموات، لكن من حيث الأصل: الماء والكلأ والنار المسلمون فيه شركاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)، فأثبت الشراكة في هذه الثلاثة الأشياء، فمعنى ذلك أن الكلأ والحطب مباح للجميع، إلا أن يكون من الحمى الذي حماه الله ورسوله، فهذا الكلأ -احتشاش الحشيش- مباح، وهكذا العيون الجارية من حقك أن تأتي في أي مكان من هذه العين وتغترف منه وتشرب، وليس لأحد أن يقول: هذه العين ملكٌ لي إلا إذا كانت في أرضه، على خلاف، إذا كان قد احتفرها أو انفجرت من تلقاء نفسها في أرضه، فالمعمول به في قضاء الصحابة رضوان الله عليهم استنباطاً من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير : أن العيون ونحوها يسقى بها الأعلى فالأعلى، لكن لا تملك، قال: (اسق يا زبير )، فجعل له أن يسقي ثم يرسل الماء: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء) فالماء لا يملكه أحد إذا كان عيناً جارية، كالكلأ والنار، وهو الحطب.

    وهذه الأشياء يرد السؤال: هل من حقي أن أوكل فيها أو ليس من حقي؟

    للعلماء وجهان:

    قال بعض العلماء: الوكالة الأصل فيها أن لا تقع إلا في شيء أملكه، فلا يستقيم أن تقول لشخص: حُش لي كذا وكذا، أنت وكيلي في الحشيش، ولا يستقيم أن تقول له: أنت وكيلي في أخذ الماء من العين؛ لأن هذا الشيء يملكه من أخذه، والوكالة يشترط فيها: أن يكون الأصيل مالكاً للشيء حتى يوكل فيه، وهذا سيملكه بعد قبضه، فمنع طائفةٌ من العلماء في هذه المسألة، وفقهاً ونظراً مذهبهم صحيح؛ لأنه لا يستقيم أن تقول هذا ملك لي، قد ذكرنا: أن الوكالة تكون فيما يملك، فقالوا من حيث النظر: إن هذا الحشيش أو هذا الماء أو هذا النار لا يملك إلا بعد الحيازة، فإذا كانت لا تملك إلا بعد الحيازة فلا تصح الوكالة بها إلا بعد أن يكون له حق التصرف فيها، فإنه سيوكل في سبب الملكية، والوكالة مفتقرة إلى حق التصرف في الذي فيه الملكية، فصار فيه شيء من الدوران، فمنعوا الوكالة في هذا النوع.

    وقال طائفة من العلماء كما درج عليه المصنف: يصح التوكيل، وقالوا: إنه -أي: الماء والكلأ والنار- في الأصل ملكٌ مشاع، ولكنه يتعين لمن أخذه، فصار التوكيل في الأخذ وأصل الاستحقاق وحق التصرف ينتزع من الشرع.

    والقول الأول في الحقيقة له قوة، أي: القول بأن التوكيل فيه لا يقع إلا في حالة واحدة، وهي: حالة التوكيل بأجرة أو بُجعل، والجعل أن تقول له: يا فلان! احتش لي من حشيش هذا الوادي ولك مائة أو لك ألفٌ، فحينئذٍ هي إجارة وتدخلها وكالةٌ في الملكية فيستقيم، وأما بالنسبة لغير الجعل والإجارة فإن القول لا يخلو من نظر كما ذكرنا.

    1.   

    الأشياء التي لا يصح فيها التوكيل

    التوكيل في الظهار

    قال رحمه الله: [لا الظهار واللعان والأيمان].

    أي: لا يصح التوكيل في الظهار؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [المجادلة:2]، والظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، وكان معروفاً في الجاهلية، وأنكر الإسلام هذا القول وعده منكراً من القول وزورا؛ وذلك لأنه يفسد ما بين الزوج وزوجته.

    ثانياً: أنه يجعل الحلال حراماً، فهو تحريم لما أحل الله، حيث يجعل منكوحته التي أحل الله له نكاحها في منزلة المحرمة عليه؛ ولذلك وصفه الله بوصفين: أنه مُنْكَر مِنَ الْقَوْلِ وأنه زور.

    وقد أجمع العلماء على تحريمه، وأن من ظاهر من امرأته فهو آثمٌ شرعا؛ ولذلك عاقبه الله بالعقوبة المغلظة وهي: أن يعتق رقبةً من قبل أن يتماسا، فمن لم يجد فيصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين فإنه يطعم ستين مسكيناً.

    وعلى هذا قالوا: لا يجوز التوكيل في الظهار؛ لأن الوكالة عقدٌ قائمٌ على المشروع لا على الممنوع، قالوا: فلو وكله أن يظاهر من امرأته وصححنا الوكالة لصححناها في السرقات والمحرمات، فلو قال رجل لرجل: اسرق لي عشرة آلاف، فلو قلنا إن الوكالة هنا صحيحة لصحت وقطعت يد الوكيل والموكل، فهذا لا يستقيم في أصل الشرع، ولذلك قالوا: الوكالة في المشروع لا في الممنوع، ولذلك إذا صححت الوكالة في المحرم ترتبت عليها أمورٌ أخرى لا يحكم بها شرعاً، مثل ما ذكرنا في الجنايات وفي المحرمات من شرب خمرٍ أو زناً أو قتل ونحوه، فإن هذا كله مما لا تدخله الوكالة، ويتفرع على القول الذي نص عليه المصنف -رحمه الله- أن الظهار لا تصح فيه الوكالة، فلو قال له: وكلتك أن تظاهر لي من امرأتي فقال: امرأتك عليك كظهر أمك؛ فإنه يكون قولاً لفظاً لا تأثيراً له، ولا تلزمه الكفارة ولا تسري عليه أحكام الظهار؛ لأن الوكالة لاغية، ففائدة إلغاء الوكالة أنه لو تلفظ بالظهار لم يحكم به.

    التوكيل في اللعان

    قال رحمه الله: (واللعان).

    أي: الملاعنة وهي مفاعلة من اللعن، والمفاعلة في لغة العرب تستلزم وجود شخصين فأكثر، كالمخاصمة والمشاتمة فإن الرجل لا يخاصم نفسه ولا يشاتم نفسه، وعلى هذا قالوا: الملاعنة سميت بذلك لأن الرجل -والعياذ بالله- يلعن نفسه إن كان كاذباً: وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:7] وهي محققة: أنه إذا كان كاذباً -والعياذ بالله- فقد حلت عليه لعنة الله، ومن حلت عليه لعنة الله فإنه تلعنه الملائكة ويلعنه اللاعنون نسأل الله السلامة والعافية.

    واللعان: أيمانٌ مغلظة إذا اتهم الرجل امرأته بالحرام أو نفى الرجل ولده؛ لأن الرجل في بعض الأحيان يتهم المرأة أنها زنت والعياذ بالله، وقد يقول: هذا الولد ليس بولده دون أن يتهم المرأة بالزنا، وتارةً يجمع بين الأمرين فيقول: هي زانية وهذا الولد ليس بولدي، وتارةً يثبت زناها فيقول: هي زانية، ويثبت أن الولد ولده، فمثلاً: لو أنه جامع امرأته وحملت المرأة من مائه وقبل الولادة بفترة وقد تبين أن الحمل حمله زنت، فإنه يلاعن على زناها ولا ينفي الولد، وتارةً يلاعنها -والعياذ بالله- على الأمرين، فيغيب عنها مدة ثم يأتي فيجدها ويطلع على زناها، ويعلم بنفسه زناها فيكون اللعان على الاثنين، وتارةً يلاعن على الولد دون الزنا كأن يكون غائباً عن امرأته مدةً وغلب على ظنه بإخبار رجلٍ يثق به أنها زنت، فلا يستطيع أن يتهمها بالحرام وهو لم ير ولم يسمع، والوارد في حديث اللعان أنه قال: (والله يا رسول الله! لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني)، ولذلك شدد بعضهم -ستأتينا في مسائل اللعان- في أنه لا يقع اللعان إلا إذا رأى أو سمع، ففي هذه الحالة لو غاب عنها سنةً أو سنتين، فهل يعد الحمل بينة تحمله على اللعان، أم أن هناك احتمالات أخرى؟!

    بعض العلماء يقول: قد يحصل في بعض الأحيان أن تحمل المرأة ويعلق الولد، ثم يعتريه شيء من الضعف، فيعلق الولد ولا يظهر إلا بعد سنة!! هذا ذكره بعض العلماء وحصلت فيه قضية لـعمر رضي الله عنه وأرضاه، لكن المقصود: أنه لو غاب عنها سنةً أو سنتين أو غاب عنها أكثر مدة، وهي في قول بعض العلماء أربع سنوات، ثم بعد الأربع سنوات جاءها فوجدها حاملاً، فإنه لا يستطيع أن يحلف بالله العظيم -نسأل الله السلامة والعافية- على أنها زنت، لكن هذا الولد لا ينسبه إليه ويحلف على أن هذا الولد ليس بولده، لكن أن يحلف على أنها زنت فلم تر عينه ولم تسمع أذنه، قالوا: في هذه الحالة يلاعن على الولد دون الزنا.

    نحن ذكرنا هذه الأحوال لماذا؟ لأن مقصود الشرع أن يبين صدقه أو كذبه، فأحد الأمرين إن كان الرجل كاذباً -والعياذ بالله- فعليه لعنة الله، وإن كانت المرأة كاذبة وهي زانية فعليها غضب الله، نسأل الله السلامة والعافية، وبعد أن حلف الطرفان عويمر وزوجته وهلال بن أمية وزوجته -لأن اللعان وقع في حادثتين- قال صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم، أحدكما كاذب، حسابكما على الله)، فإذاً مقصود الشرع أن يُعلم من الصادق ومن الكاذب.

    فإذا جاء يوكل غيره أن يحلف فإنه يدفع رهبة الشرع في حلفه باليمين؛ ولو ساغ ذلك لأمكن للشخص أن يفر من تبعة اليمين بتوكيل غيره، لكن الأيمان لا تدخلها الوكالة، ولهذا أيمان اللعان لا تدخلها الوكالة، وكذلك قالوا: أيمان الخصومة لا تدخلها الوكالة، وليس لأحدٍ أن يحلف عن أحدٍ إلا في مسائل مستثناة وستأتينا -إن شاء الله- في كتاب القضاء والأيمان، مثل: أن يحلف الوارث عن مورثه، فتقع مسائل مستثناة سنبينها -إن شاء الله- متى يحلف الإنسان عن غيره؟

    التوكيل في الأيمان

    قال رحمه الله: (والأيمان).

    وكذلك الأيمان لا تدخلها الوكالة، لا الإيمان ولا الأيمان، فليس لأحدٍ أن يقول لشخص: وكلتك أن تؤمن عني؛ لأن مقصود الشرع أن يكون الإيمان من المكلف بعينه، فإذا وكل الغير فوت مقصود الشرع كما ذكرنا في اللعان؛ لأن مقصود الشرع أن يرهب فيظهر صدق الصادق وكذب الكاذب، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في يمين اللعان أنه لما شهد عويمر أربعة أيمان، أوقفه عند الخامسة وذكره النبي صلى الله عليه وسلم بربه، وقال له: (اتق الله! فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) فحلف اليمين الخامسة، فلما انتقل إلى المرأة وانتهت من اليمين الرابعة أوقفها وقال عليه الصلاة والسلام: (فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)، فكادت أن تعترف، فلما استزلها الشيطان قالت: (لا أفضح قومي سائر اليوم) فحلفت الخامسة والعياذ بالله.

    فالمقصود: أن هذه الأيمان رهبة، فكما أن أيمان اللعان رهبة كذلك أيمان الخصومات، والمراد بالأيمان هنا: أيمان الخصومة، فلو أن رجلاً ادعى على رجل وقال: لي عند فلان مائة، فسأله القاضي: هل لفلانٍ عندك مائة؟ قال: لا. يقول للمدعي: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، إذاً إلى ماذا يتجه؟ يتجه إلى اليمين، يقول له: إذاً يحلف خصمك اليمين، لكن لو له بينة حُكِمَ بها، سواءً كانت البينة صادقة أو كاذبة، ما دام أنها وثّقت وعُدّلت عند القاضي، فالشاهد أن زيداً ادعى أن له مائةً عند عمرو فقيل لزيدٍ: ألك بينة وحجة وشهود؟

    قال: لا.

    فحينئذٍ يُطالب عمرو باليمين، وهذه اليمين تسمى: اليمين الغموس؛ لأنها تغمس صاحبها في النار والعياذ بالله، ومن حلف هذه اليمين يُقال -من السنن التي عُرِفت وشاعت وذاعت- لا تمر عليه السنة بخير، يعني: لا يحول عليه الحول ولا تمضي عليه السنة إلا وتأتيه مصيبة، وهذا معروف، حتى ولو حلف فاجراً بهذه اليمين على شيء تافهٍ يسير، فلا يحلف هذه اليمين وهو يعلم أنه كاذب إلا إنسان -والعياذ بالله- قد تقحم النار.

    وهذه خصومة وقعت بين صحابيين في بئر فقال أحدهما: (يا رسول الله! هي بئري وأنا حفرتها، فقال صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قال: لا، قال: إذاً ليس لك إلا يمينه، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر ويحلف اليمين ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه، فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر ويحلف اليمين ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين وهو فيها كاذب ليقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ لقي الله وهو عليه غضبان)، تصور من لقي الله وهو عليه غضبان نسأل الله السلامة والعافية! وقد قال الله عز وجل: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81] و(هوى) من الله ليست بهينة، فقالوا عقب هذا الوعيد الشديد: (يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ -وإن كانت اليمين على شيء يسير- قال: وإن كان قضيباً من أراك) عود السواك، وكان هذا يضرب به المثل على الشيء الحقير، فدلت هذه النصوص على أن مقصود الشرع ترهيب الخصم من الدعوى الكاذبة، وترهيب الخصوم من أكل بعضهم أموال بعض، واعتدائهم على حقوق بعض، فكأن اليمين قصد منها الشخص بنفسه، فإذا جاء يوكل آخر مكانه فوت مقصود الشرع إلا فيما يستثنى من أيمان القضاء كما سيأتي.

    1.   

    حقوق الله التي يصح فيها التوكيل

    قال رحمه الله: (وفي كل حق لله تدخله النيابة من العبادات).

    أي: وتصح الوكالةُ في كل حقٍ لله، بشرط: أن تدخله النيابة، ويشمل هذا -كما ذكرنا- الحقوق المالية، فأما الحقوق البدنية المحضة فلا تدخلها النيابة.

    وعلى هذا: الحقوق المالية التي تدخلها النيابة تنقسم إلى قسمين: الزكوات الواجبة، والكفارات ونحوها.

    فأما الزكوات الواجبة فيجوز أن توكل الغير كما ذكرنا.

    وأما الكفارات فيجوز أيضاً أن توكل فيها، كرجلٍ حلق شعر رأسه في الحج أو في العمرة لعذر من حجامةٍ ونحوها فأعطى رجلاً مائة، وقال له: يا فلان! أخرج الكفارة عني أو أخرج الفدية عني، فقد وكله في حق لله تدخله النيابة فيصح التوكيل، وهكذا لو أنه ظاهر من امرأته أو جامعها في نهار رمضان وهو صائم فوجبت عليه الكفارة فأعطى رجلاً ألف ريال وقال: يا فلان! اشتر رقبةً وكفر عني، فتصح الوكالة، فيشتري رقبة وينويها عنه كفارةً لظهاره أو جماعه في نهار رمضان، فبالإجماع يصح، هذا بالنسبة لحق الله الذي تدخله النيابة.

    ومفهوم ذلك: أن حق الله الذي لا تدخله النيابة وهي فروض الأعيان من غير الأموال، لا يصح التوكيل فيها، فلو قال: يا فلان! صم عني شهر رمضان لا يصح؛ لأن مقصود الشرع أن يصوم المكلف بنفسه، ولو قال: يا فلان! صلّ عني الصلوات الخمس لم يصح؛ لأن مقصود الشرع أن يؤديها بعينه وعلى هذا: لا يصح صومه عن الغير ولا أيضاً صلاته عن الغير، وفي الحج تدخله النيابة لكنها نيابةٌ مشروطة، ويختص الحج بأنه يصح التوكيل فيه في حال العجز، وأما في حال القدرة فلا إلا في حج النافلة، فاختلف: هل يجوز أن يوكل الغير في حج النافلة أو لا؟ على وجهين مشهورين عند العلماء رحمهم الله، والفرق بين الزكوات الواجبة والكفارات وبين الحج: أن الحج تدخله النيابة بشرط العجز، وفي الزكوات والكفارات: يستوي أن يكون المكلف عاجزاً أو قادراً.

    فتقسم حقوق الله إلى قسمين: حقوق لا تدخلها النيابة ولا تصح الوكالة فيها مثل الصلوات والصيام.

    وحقوقٌ تدخلها النيابة وتنقسم إلى قسمين:

    حقوق تدخلها النيابة بشرط العجز كالحج إذا كان فرضاً.

    وحقوقٌ تدخلها النيابة مع العجز والقدرة مثل الزكوات والكفارات.

    1.   

    التوكيل في إثبات الحدود واستيفائها

    قال رحمه الله: [والحدود في إثباتها واستيفائها].

    الحدود: جمع حد، فحد الزنا وحد شرب الخمر، وحد القذف هذه كلها حدود، وحد الشرع فيها عقوبة معينة، فهذه الحدود فيها جانبان:

    الجانب الأول: قضائي، والجانب الثاني: أثرٌ لحكم القضاء، والتوكيل إما في الجانب الأول أو في الجانب الثاني، فالجانب الأول القضائي: هو إثبات الحدود، والجانب الثاني: أثر للحكم القضائي وهو تنفيذ الحدود واستيفاؤها، فالعلماء يقولون: التوكيل يكون في إثبات الحد واستيفائه، ففي إثبات الحد: لو أن رجلاً أراد أن يقيم دعوى على شخصٍ لكي يحد حد الخمر فيجوز أن يوكل غيره في إثبات ذلك عنه، فيقوم من يدعي بدلاً عنه ويأتي بالشهود.

    وقال طائفةٌ من العلماء: لا يجوز التوكيل في إثبات الحدود، فعلى الوجه الأول يكون الحق لله عز وجل وتدخله النيابة في إثبات الحدود واستيفائها كذلك، فالقاضي إذا حكم بأن زيداً يجلد ثمانين جلدة حد القذف فله أن يأمر وكيلاً أن يقف حتى ينفذ هذا الحكم، وهذا يسمى توكيل في الاستيفاء، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اختصم إليه رجلان، فقال أحدهما: (يا رسول الله! أناشدك الله إلا قضيت بيننا بالحق -وكان فيه جهل- وقال الثاني -وهو أعلم منه وأعقل منه-: نعم يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني: أجيراً- وقد زنا بامرأته فأخبرت أنه يجب عليّ أن أفتدي منه، فافتدى منه بالمال، فقال صلى الله عليه وسلم: الغنم والوليدة ردٌ عليك وعلى ابنك الجلد، واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، -فاعترفت فرجمها-)، فوكل النبي صلى الله عليه وسلم أنيساً في الجانبين:

    أولاً: إثبات الحد فقال: (إن اعترفت)؛ لأنه جعله مكانه يحل محل النبي صلى الله عليه وسلم في البت في هذه القضية، فقال له عليه الصلاة والسلام: (واغد يا أنيس -امضِ واذهب- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) هذا شرط: إن اعترفت فوكله في إثبات الاعتراف.

    ثم وكله بالرجم: (فإن اعترفت فارجمها) فصار التوكيل في جانبين في إثبات الحدود، وفي استيفائها، هذا بالنسبة لما اختاره المصنف رحمه الله، ونازع الحنفية -رحمهم الله- في بعض الحدود، وفرق بين حد الحسبة وبين حد العباد كالقذف، فإن القذف فيه شبهة حق للمخلوق. ولذلك لا تكون الدعوى فيه -في قول جمهور العلماء- إلا من الشخص المقذوف ولا تقبل حسبةً على القول بأنه حقٌ للمخلوق.

    1.   

    الأسئلة

    التفصيل في التوكيل في صدقة الفطر

    السؤال: رجلٌ وكلني أن أدفع زكاة الفطر للفقراء، فلما أخرجتها في وقتها المعتبر طلب مني بعض الفقراء أن أضعها عندي إلى أن يأتي لأخذها في يوم العيد، فهل العبرة بنية دفعها وإخراجها، أم بقبض الفقير لها؟ نرجو التوضيح.

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فإخراج زكاة الفطر ينبغي أن ينظر فيه إلى الأداء، وتوضيح هذه المسألة يستلزم بيان مسألة الظاهر والباطن، فمن نوى إخراج زكاة الفطر فقد تحقق فيه الباطن، ومن أخرجها بالفعل فقد تحقق فيه الظاهر والباطن، فاجتمعت نيته مع فعله، والشرع قصد الأمرين، ولذلك قال: (وأمر أن تؤدى قبل الصلاة) كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان طُعمةً للمساكين، وطُهرة للصائم من اللغو والرفث، وأمر أن تؤدى قبل الصلاة، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاةٌ مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات) فدل هذا الحديث على أن العبرة بالأداء.

    وبناءً على ذلك: إذا أردت أن تُخرج زكاة الفطر فإن كان الفقير جاء وأخذها منك فلا إشكال، أو وكل من يأخذها منك فلا إشكال، فلو قال للفقير: يا فلان! خُذ عني زكاة الفطر من فلان، فإنه إذا قبضها منك وكيله صح ذلك إذا كان القبض قبل صلاة عيد الفطر.

    وعلى هذا: فلو وكل الفقير شخصاً فدفعتها إليه صح ذلك الأداء وهي زكاة، لكن لو أنك نويت إعطاءها له وأخرجتها وفرزتها عن مالك، بل حتى لو أعطيتها لشخص وقلت له: اذهب وأعطها للفقير، فالعبرة بالقبض وليس العبرة بمجرد النية وصورة الأداء؛ لأن المراد وصولها إلى الفقير، فإذا وصلت إلى الفقير فإنه حينئذ يحكم بحسب ذلك: إن كان قبل الصلاة أجزأت وإن كان بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات، فإذا وكل الفقير شخصا وقبضها عنه فإنه بمثابة قبض الفقير نفسه للقاعدة: إن الوكيل ينزل منزلة الأصيل.

    وعلى هذا فلو قبض الوكيل زكاة الفطر قبل صلاة عيد الفطر، فلا يخلو من صور: إما أن يقبضها قبل صلاة عيد الفطر ويذهب ويعطيها للمسكين قبل صلاة عيد الفطر فلا إشكال، حيث أُعطيت ووصلت إلى الفقير في الوقت، وإما أن يقبضها ويؤخرها إلى ما بعد الصلاة أو يعطيها أثناء الصلاة ففي كلتا الصورتين لا تأثير لتأخيره في الإعطاء، بل حتى ولو أعطاها للفقير بعد شهر، ما دام أن الفقير قد وكله فإنه ينزل منزلة الفقير وهي صدقةٌ من الصدقات والله تعالى أعلم.

    حكم الوكالة العامة في الأموال والتجارة

    السؤال: هل يصح توكيل شخصٍ لشخص في وكالةٍ عامة دون تخصيص بأمرٍ معين، كأن يقول له: وكلتك على القيام بجميع شئوني ومتطلباتي من بيع وشراءٍ وتجارةٍ وغيرها دون تخصيص بأمرٍ معين؟

    الجواب: لا، هو إذا قال: من بيع وإجارةٍ ما، (من) هذه بيانية وفيها شبهة التقييد، لكن إذا قال: وكلتك في كل شيء تدخله الوكالة، فهذا فيه وجهان مشهوران للعلماء:

    شدد بعض العلماء في الوكالة المطلقة أو العامة وقالوا: لا يصح حتى يبين عمومها، وهذا موجود في مذهب الشافعية والحنابلة أيضاً، والسبب في هذا: قالوا: الغرر؛ لأنه يدخل على نفسه الخطر، فقد يدخل الرجل عليه أموراً لا تحمد عقباها، فقالوا: مثل هذا فيه غرر، ولا يصح التوكيل في مثل هذا، وقال بعض العلماء: يجوز أن يوكله وكالةً مطلقة، ويفوض إليه التصرف في الأمور، وهذا قوي من حيث الأصل، وكلا القولين له وجهه، لكن الاحتياط يرجع إلى قول القائل بأن الوكالة إذا كانت مفوضة ومطلقة من كل وجه فالغرر فيها قوي، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرر، وحديث ابن عمر في الصحيح في ذلك واضح، فكل الإشكال: خوف الضرر، وأياً ما كان فالاحتياط والأولى والأفضل أن يحدد له العموم، يقول له: وكلتك في البيع والشراء عن المرفقات تبيع وتشتري، أو وكلتك في الإجارات، ويحدد له ما وكله فيه، فهذا هو الأشبه وخاصةً في هذه الأزمنة؛ فإن الأزمنة المتأخرة ضعفت فيها أمانة الناس، وأصبح الغرر أكثر، والضرر أكثر، وكم وقعت من الحوادث والمصائب في الوكالة الخاصة فضلاً عن الوكالة العامة.

    فكم من أخت وثقت في أخيها الذي هو من لحمها ودمها ومن أقرب الناس إليها، ومع ذلك أكل أموالها وابتز حقوقها، بل وصل الأمر إلى ابن مع أمه أن يبيع عنها ويشتري، ويؤجر عنها ويوقعها في الغرر العظيم الذي لا تعلم به، وإذا بها تفاجأ في يومٍ من الأيام أنه ليس لها من مالها شيئاً، بل لربما فوجئت في يومٍ من الأيام بأنها مطالبة بحقوق، وقد ضاع عليها ما ضاع، وهذا وقع، فتجد المرأة يموت عنها قريبها أو زوجها ويترك لها مئات الألوف، وتثق في ابنٍ من أبنائها وتعطيه وكالة على بيع، بل في بعض الأحيان على عقار مخصوص ويبيعه دون علمها، ويتصرف فيه ويأكل المال، ويفعل فيه ما يشاء والأم جاهلة لا تعلم بشيء، حتى تفاجأ يوماً من الأيام وقد توجهت إليها دعوى في قضاء أو نحوه أنها مطالبة؛ وقد أنها مطالبة بحقٍ ما، فتسأل وإذا بوكيلها قد خانها في أمانتها -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا من علامات الساعة: أنه -والعياذ بالله- تنزع الأمانة من الناس حتى لا يبقى إلا الأثر كجمر، يقول صلى الله عليه وسلم: (كجمر دحرجته على قدمك) أي: لما تنزل الجمرة تدحرج على القدم ما يبقى إلا الأثر الذي تحدثه الجمرة، لكن لو استقرت أحرقت، فهذا فيه إشارة إلى ضعف الأمانة وقلتها في الناس حتى قال صلى الله عليه وسلم: (حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً) أي: القبيلة بكاملها لا يجدون إلا رجلاً واحداً يتميز بينهم بالأمانة، نسأل الله السلامة والعافية، فيرفع من الناس الأمانة والخشوع، وعلى هذا فالقول الذي يقول بعدم فتح باب الوكالات المطلقة خاصة في هذه الأزمنة من القوة بمكان، فيحدد له محل الوكالة، وهذا أفضل وأحوط وهو مقصود الشرع من فتح باب الوكالة، والله تعالى أعلم.

    حكم الشهادة على شهادة الشهود

    السؤال: هل تجوز الشهادة على شهادة الشهود كأن يقول: أشهد أن فلاناً يشهد بكذا وكذا؟

    الجواب: هذه مسألة تعرف بالشهادة على الشهادة، والشهادة على الشهادة في الأصل لا تصح، في الأصل: لا يشهد إلا الشاهد نفسه، ولا يتوكل الغير عنه إلا في مسائل مستثناة، سيأتي -إن شاء الله- بيانها في باب الشهادات، ومن هذه المسائل: أن يموت الأصيل.

    مثال ذلك: عندنا وقف عمره ثلاثمائة سنة، وهذا الوقف فيه حقوق شهد بها أناس وعمروا حتى بلغوها لطبقةٍ بعد طبقتهم، فشهدت الطبقة الثانية في المائة الثانية على الطبقة الأولى أن هذا الوقف يختص بآل فلان من بني فلان، ثم بقي الوقف يقسم على هذا النوع من الناس، ثم توفيت الطبقة الثانية فنقلت إلى الطبقة الثالثة التي بعدها أن هذا المال وقفٌ على آل فلانٍ من بني فلان، ففوجئوا في يوم من الأيام وإذا آل فلان الذي هو الفخذ العام يدعي أن له حقاً في هذا الوقف، فلما رُفع إلى القاضي أقيم الشهود على الشهود، فحينئذ لا يمكن أن نأتي بالشهود الأصليين الذين شهدوا على الواقع، فتثبت الشهادة على الشهادة في إثبات الأموال إذا تعذر هذا الشرط، وهو: وجود الشاهد الأصل، والشهادة على الشهادة، قيل: تتركب من حجةٍ على حجة، فيصبح كل شاهدين يشهدان على شاهد، فيكونون أربعة مقام الاثنين، فاثنان يشهدان على واحد، واثنان يشهدان على واحد، وعلى هذا يكون الشهود في الحقوق المالية أربعةً، وعليه يستقيم الحكم لوجود الحاجة، وهذه يسمونها: الشهادة على الشهادة، وقد حكم بها جماهير العلماء رحمهم الله، لكن لا تقبل الشهادة على شهادة الحدود؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولا تقبل الشهادة إلا على رؤية كالزنا ونحوه، فلو شهد ثمانية على أربعة من الشهود بزنا فلانٍ أو فلانة لم يحكم بهذه الشهادة، وأيضاً: لو شهد ثمانية على شهادة أربعة أو على شهادة شاهدين مركبةً بعضها على بعض في قتلٍ لم يحكم به؛ لأن الدماء والأعراض والحدود هذه كلها تتوقف على شهادة الأصل، ولا بد فيها من شهادة الأصل لثبوت الحد، والله تعالى أعلم.

    ضابط الغبن الذي يثبت به الخيار في البيع

    السؤال: ذكرتم أن في حديث عروة البارقي دليلاً على جواز أن يربح الإنسان بأضعاف ما اشترى به، فأشكل عليّ ذلك مع خيار الغبن، والذي يتضمن منع البائع من الزيادة الفاحشة، فما هو التوضيح في ذلك؟

    الجواب: إشكالٌ جيد، ولكنه وفق السائل، أولاً: لكي يتضح الإشكال: خيار الغبن: أن تأتي إلى السوق وتسأل عن كتاب، بكم قيمة هذا الكتاب؟ قال: هذا الكتاب قيمته مائتان، فدفعت له المائتين وأخذته، فلما فارقت الرجل وتم البيع سألت عن الكتاب فإذا قيمته خمسون، هذا غبنٌ فاحش، أي: أن الرجل ظلمك بالاسترسال، والاسترسال: أنك قبلت كلامه واسترسلت معه في البيع دون أن تكاسره، فلما باعه لك غبنك غبناً فاحشاً، فبعض العلماء يقول: البيع صحيح ولا خيار لك؛ لأنك قد رضيت أن تدفع المائتين مقابل الكتاب، والبيع وقع عن تراض، وقال بعض العلماء: لك الخيار؛ لأنك حينما سكتّ كأنك قلت له: قبلت هذا الكتاب بالعرف، وقد ائتمنتك على العرف في بيع هذا الكتاب، فصار غشاً وتدليساً؛ لأنك سكت بناءً على أن العرف أن يباع بمائتين، فإذا تبين أنه يباع بخمسين فقد ظلمك، وهذا الوجه الثاني رجحه غير واحدٍ من العلماء، وقد بينا هذا في الخيارات، وإذا ثبت هذا فنحن قلنا: يجوز الربح أضعاف القيمة، وقد اشترى عروة شاتين بدينار، معنى ذلك أن قيمة الشاة نصف دينار، وباع إحدى الشاتين بدينار، فمعناه أنه ربح (100%) يعني: ربح الضعف، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكيف نقول بخيار الغبن مع أن عروة البارقي اشترى الشاة بنصف دينار وباعها بدينار؟!

    والجواب في هذا: أن الشاة تباع بدينار وتباع بدينارين على حسب العرف، أي: أن الغبن في الدينار ليس بفاحش، ومحل خيار الغبن في الغبن الفاحش، فعلى هذا: يستقيم أن يجاب بأن الدينار والدينارين قد يكون غبناً غير فاحش، فمثلاً في السوق يباع الكتاب بخمسين ويباع بستين ويباع بسبعين ويباع بثمانين ويباع بمائة، على حسب قوة المشتري في المكاسرة، فأنت إذا جئت واشتريت بستين فقد اشتريت بعرف، ولو اشتريت بمائة فقد اشتريت بعرف، فـعروة البارقي اشترى الشاة من الجلب، والجلب أرخص من السوق، ثم باعها في السوق، وعلى هذا: لا يمنع أن تكون قيمة الشاة جلباً خمسين، وقيمتها في السوق مائة أو تكون قيمتها في الجلب نصف دينار وقيمتها في السوق ديناراً، وعلى هذا لا يستقيم الاعتراض، ويكون من باب بيعه بالعرف، فيجوز أخذ الأرباح الكثيرة إذا لم يكن في ذلك الغبن الفاحش، كذلك يمكن أن تقول: إنه يجوز أن يقول له: يا فلان! السيارة قيمتها في السوق عشرة آلاف، وأنا لا أبيعها إلا بثلاثين ألفاً، وهذا من حقه، فإنه لو كشف له الأمر وقال: قيمتها بالسوق عشرة وأريد أن أبيعها بثلاثين فحينئذٍ يستقم لنا أن نحتج بحديث عروة البارقي ؛ لأن الشرع لم يحد ربحاً معيناً، فإذا قال له: رضيت أن أشتريها منك بثلاثين ألفاً فإن الله تعالى يقول: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] وهذا قد رضي دفع الثلاثين فصح البيع ولا يحكم بالفساد، والله تعالى أعلم.

    أحكام الجاهلية مردودة بحكم الشرع

    السؤال: ورد أثناء الدرس قوله صلى الله عليه وسلم: (الوليدة والمال ردٌ عليك) فما المراد بقوله: (الوليدة)؟

    الجواب: هذا من حكم الجاهلية، حيث كان في الجاهلية إذا زنى الرجل بامرأة الرجل يعطيه وليدة وهي الجارية، يعطيه وليدة أو يعطيه غلاماً، فقال له: (الوليدة والغنم رد عليك)؛ لأنه افتدى، فيصير كأنه حق للزوج الذي أفسد عليه فراشه، فيدفع له مالاً كالغنم، ويدفع له الوليدة الأمة الحامل أو بدون حمل على حسب ما يتفقان، فهذا من حكم الجاهلية، وهي الأعراف التي كانت في الجاهلية مثل ما يقولون: الحقوق والسلوم، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكم ورده وقال: (على ابنك جلد مائة، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها -فاعترفت فرجمها-)، فرد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المال، وفيه دليل على أنه: إذا أُلزم الشخص في خصومة وقيل: عليك الحق وتذبح شاة أو عليك الحق وتدفع مالاً، أنه من حكم الجاهلية، ويكون من أكل المال بالباطل؛ لأن الله لا يحكم بذلك، وأموال الناس لا تستحق إلا بحكم الله سبحانه وتعالى، فهذا الحديث أصل من الأصول في رد هذه الأحكام والأعراف ونحوها، والله تعالى أعلم.

    بطلان الوكالة في الرضاع

    السؤال: ذكر العلماء -رحمهم الله- عدم جواز الوكالة في الرضاع فما صورة ذلك؟

    الجواب: معناه: لو أن امرأةً قالت لامرأةٍ: أرضعي عني فلاناً، فالابن رضيعٌ لمن ارتضع منه، فلو قلنا: إن الوكالة صحيحة فمعنى ذلك: أنه يكون ابنأ للأصيلة، وهي المرأة التي أمرت بالرضاع، وعليه فيقال: الوكالة باطلة، ويثبت أنه ابنٌ للمرأة الموكَلة لا المرأة الموكِلة، وعلى هذا لا تصح الوكالة كحكم، أي: لا يترتب عليها أثر الرضاع، وإنما يكون الولد ولداً للمرأة التي أرضعت لقوله تعالى: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء:23] فخص الحكم بالأم التي أرضعت، فكما لا يصح في النسب أن يثبت وكالةً، كذلك لا يصح في الرضاع أن يثبت وكالةً، والله تعالى أعلم.

    حكم من أدرك الإمام في الركعة الرابعة ثم قام الإمام للخامسة

    السؤال: رجل أدرك الإمام في الرابعة ثم قام الإمام للخامسة فسبح المأمومون فلم يعد، وقام معهم، فهل يعتد بهذه الركعة بالنسبة للرجل فتكون ثانية له؟

    الجواب: إذا زاد الإمام ركعةً في الصلاة كالثالثة في الفجر، والخامسة في الظهر والعصر والعشاء، والرابعة في المغرب فتسبح له، فإن كان فقيهاً وطالب علم يعلم الأحكام وأشار إليك: أن قم، وخاصةً إذا كانت سرية فتقوم؛ لأن الغالب أنه نسي ركناً كالفاتحة فيريد أن يخبرك لتقوم معه وتتابع؛ لأن فيه شبهة الأمر بالمتابعة، أما إذا لم يشر، ولم يكن من طلاب العلم، فسبحت له فإن كنت على يقين أنه مخطئ فلا تتابعه ولا تستمر معه في هذه الركعة، فمن تابع الإمام في ثالثة في الفجر أو خامسةٍ في الظهر والعصر والعشاء فإنه تبطل صلاته، ويلزم بالإعادة؛ لأنه زاد في صلاته عالماً متعمداً، وأما إذا كان مسبوقاً كما ورد في السؤال أو جئت في الركعة الثانية من الظهر فقام الإمام واستحدث بعدها ركعة فإنه يجوز لك أن تتابع الإمام؛ لأن الإمام معذور في هذه الزيادة لحكم الشرع له أن يعمل بظنه، وأن يترك ظن غيره إذا استيقن، فحينئذٍ إذا كنت قد أتممت صلاتك فإنك تجلس في التشهد، ولا تسلم حتى ينتهي الإمام من الخامسة ويتشهد ويسلم بك؛ لأنه يجوز أن تفارقه لعذر فتتقيد بوجود العذر، وهو الزيادة، وأما التشهد فتشاركه فيه وتطول في الدعاء وتنتظر حتى ينتهي من خامسته، ثم يدعو ويتشهد، ويدعو ويسلم بك إلحاقاً بصلاة الخوف كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، حيث تشهد بالطائفتين وسلم، وانتظرته الطائفة الأولى وسلمت بسلامه فدل على أنه لا ينقطع الاقتداء.

    وأما بالنسبة لك أنت كمسبوق، فإنك تصلي معه الخامسة، وتصبح صلاتك صحيحة على قول من قال: يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل، فهو في الخامسة متنفل، وأنت فيها مفترض، ويجوز اقتداء المفترض بالمتنفل في هذه المسألة ونحوها، وعلى هذا فصلاتك صحيحة، وصلاة الإمام على هذا الوجه صحيحة، والله تعالى أعلم.

    دخول ربا النسيئة في الصرف عند عدم التقابض

    السؤال: لو اشتريت وبقي لي مبلغ عند البائع، ولم يوجد عنده الباقي ونويت أنه دين، ثم أتيت وأخذت بهذا الدين شيئاً، فهل هذا صحيح؟

    الجواب:

    إذا اشتريت شيئاً بثمنٍ ودفعت أكثر منه، فحينئذٍ يكون العقد مشتملاً على عقدين، مثاله: اشتريت بعشرة ودفعت خمسين، فحينئذٍ إذا اشتريت الكتاب بعشرة، فالعشرة مقابل الكتاب بيع، والأربعون الباقية من الخمسين صرف، فأصبح عقد بيعٍ وعقد صرف، وعقد الصرف: مبادلة المال بالمال في أحد النقدين الذهب أو الفضة، والأوراق النقدية مُنزلة منزلة أصولها، ولذلك وجبت فيها الزكاة، فهي إما ذهب وإما فضة على حسب رصيدها، فإذا جئت تدفع العشرة مقابل الكتاب فهذا بيعٌ لا إشكال فيه، لكن الأربعين الباقية يجري عليها حكم الصرف الشرعي، فيجب عليك كما لو صرفت الخمسين بخمسين: أن يكون يداً بيد، فتعطيه الخمسين وتستلم، قال صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء)، فدل على لزوم التقابض، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإذا اختلفت -أي في الصرف- هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، وعلى هذا فلا يجوز أن تبقي الباقي عنده، فإن أبقيت الباقي عنده فإنه صرفٌ بنسيئة، ومتى افترق المتصارفان دون أن يحصل القبض للثمنين أو لأحدهما فهو ربا النسيئة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)، وعلى هذا فأنت بالخيار بين أمور:

    الأمر الأول: إذا كان عندك خمسين وليس عنده صرفها فإنك تقول له: اذهب واصرف، فيذهب وكيلاً عنك بالصرف فيصرف الخمسين ويعطيك صرفها، فتعطيه حقه وتستلم حقك، هذا توكيل بالصرف ولا إشكال فيه.

    الحالة الثانية: أن تقول له: إني لا مال عندي أعطيك الآن إلا هذه الخمسين فإن شئت فاصرفها وإن شئت فاجعل مالك ديناً عندي أي: قيمة الكتاب وهي العشرة، فتفارقه ثم تجعل العشرة ديناً عليك فتذهب وتعطيه إياها متى ما صرفت، على حسب ما تتفقان عليه من الوقت، أو تقول له: انتظر حتى أصرف الخمسين وتذهب بنفسك وتصرف الخمسين ثم تأتي وتعطيه ماله، أما إذا بقي عنده شيء فيسمى: بيع وصرف، والصرف هنا ليس فيه تقابض، وهو عين النسيئة التي أجمع العلماء -رحمهم الله- على تحريمها، وهي أشد أنواع الربا الذي: (لعن الله آخذه وآكله وموكله وكاتبه وشاهديه) فأمرها عظيم، ولذلك يقول العلماء: إنه قد يشيب عارض الرجل في الإسلام وهو يُعلن الربا صباحاً ومساءً، يعني: يتعامل بالربا وهو لا يعلم، حيث يقصر في السؤال والاستبيان، فلا بد وأن تأخذ يداً بيد، فإذا صرفتما ووقع التقابض فلا نسيئة وإلا فهو النسيئة التي حرم الله، والله تعالى أعلم.

    الطريقة المثلى لضبط مسائل العلم

    السؤال: إذا كان لطالب العلم أكثر من درسٍ يواظب عليه فعند الضبط والمراجعة تتداخلُ عليه الدروس، وتكثر عليه المسائل، فما الطريقة المثلى لضبط مسائل العلم؟

    الجواب: أما بالنسبة لتعدد العلوم، واختلاف المشايخ في الطلب فهذا يؤثر كثيراً على طالب العلم، ولا يضبط العلم مثل الانحصار والتقيد وكثرة المراجعة، وهذا معروف حتى في زمان السلف، فإنك لم تجد صحابياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا وله طلاب يأخذون عنه؛ لأن الخلاف وقع في الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأما في حياته عليه الصلاة والسلام فالصحابة كانوا آخذين عنه العلم، لكن بالنسبة للصحابة تجد لكل صحابي أصحاباً، فتجد لـابن عمر أصحاباً كـنافع وسالم ابنه ونحوهم من تلامذة ابن عمر ، وتجد أصحاب ابن عباس كـمجاهد وعطاء وعكرمة ونحوهم من تلامذته، وتجد لـابن مسعود علقمة وغيره من أصحابه رضي الله عنه.

    فهذا التنوع الذي كان عند الصحابة رضوان الله عليهم لما بذلوا علمهم انحصر التابعون، فأخذوا عن كل واحد؛ ولذلك ابن عباس رضي الله عنهما لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم زيد بن ثابت وأخذ عنه ونبغ في علم التفسير؛ لأن زيد بن ثابت كان من أعلم الصحابة بالقرآن؛ لأنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي زيد رضي الله عنه بكى أبو هريرة بكاءً شديداً، وقال: ( لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً ولعل الله أن يجعل لنا ابن عباس خلفاً عنه) فكان ابن عباس منحصراً في زيد ؛ لأنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ابن عباس حدثاً صغير السن مقارباً للبلوغ، فأراد أن يطلب العلم فانحصر في زيد وأخذ عنه، فقال أبو هريرة : (لعل الله أن يجعل لنا ابن عباس خلفاً عنه) يعني: عن زيد فالانحصار ليس المراد به التعصب، إنما المراد أن تبحث عن من تثق بدينه وعلمه وأمانته ممن أخذ العلم -هذا الشرط- عن أهله واتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ممن أخذ العلم عن الكتب فأخذ علماً لا يوثق به؛ لأنه إذا أخذ عن كتب تشتت وتعددت أصوله، وتفرقت إشكالاته واختلفت، فالذي أخذ العلم وطلبه عن أهله ممكن أن ينحصر فيه طالب العلم.

    فإذا نظرت أنك تستطيع أن تجمع بين درسين في الأسبوع أو ثلاثة بالأكثر، وتضبطها فحيّ هلا! أما إذا كان العلم الذي تأخذه في الدرس يحتاج إلى ضبط وتكرار فلا تضبط العلم إلا بالانحصار، فإذا انحصرت في العالم وأخذت عنه وارتويت من علمه وضبطت ما عنده انتقلت إلى غيره، وهذا هو الذي كان عليه العلماء رحمهم الله والأجلاء؛ ولذلك انظروا إلى أصحاب ابن عباس فإنك إذا جئت إلى المسائل الخلافية -بالاستقراء والتتبع- تجد القول عن عبد الله بن عمر وعن عبد الله بن عباس ، تجدهم يقولون: وبه قال نافع وسالم بن عبد الله ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير ، فيعدد أصحاب الصحابيين؛ لأنهم أخذوا الفقه وضبطوه عنهم، المهم أن تأخذ بالدليل، والمهم أن لا تتعصب لشيخك إذا خالف الدليل، ولكن إذا أخذت عن شيخٍ يوثق بعلمه بدليل وحجة فاستمسك بالحجة والدليل، فإن خالفه أحد وعارضه أحد يقول لك: هذا معارضٌ للسنة؛ فلربما جاءك الغير بدليل يتوهم أنه حجة وأنه سنة، والواقع أنه دليل مطعون في سنده، أو مجاب بدليل عنه أقوى منه، وعلى هذا تقول بقول العالم، وتنحصر في علمه وتأخذ عنه وتضبط، حتى تصل إلى ما وصل إليه، كمثل مشايخنا الكبار -حفظهم الله وأدام الله عليهم العفو والعافية، وأبقاهم للإسلام والمسلمين- هؤلاء العلماء الأجلاء الأتقياء الذين عُرِفوا بالخير والصلاح وزكتهم الأمة، حينما يأخذ طالب علم عن عالم منهم، ويأخذ هذا العلم بدليله وحجته يلقى الله عز وجل يوم القيامة وقد أخذ العلم بالاتباع، وما جاء بعلم من عنده فشذ، وجاء بالآراء الغريبة، فمثل هؤلاء العلماء الذين عُرِفوا بالأمانة لا يأتون بالأهواء ولا يخبطون خبط عشواء، وإنما يأخذون العلم بحجة، ويسلكون السبيل والمحجة، لهم قدمٌ راسخة من سلفٍ صالح، وأئمة يهتدى ويقتدى بهم، فمثل هؤلاء يعض على علمهم بالنواجذ، فإن وجد قولٌ يخالف قولهم بدليل، وظهرت قوته، وأثرت أنواره وحجته، فإننا نعدل عن هذا القول بحجة هي أقوى وسبيل أبلغ في الرضا، ونعتذر لعلمائنا ومشايخنا بما يليق به الاعتبار، وهذا هو مسلك العلماء والأئمة، أما تعدد الدروس واختلافها فإنه يحدث عند طالب العلم ربكة، ويحدث عند طالب العلم الاضطراب، خاصةً فيما يشترط فيه اتحاد في الأصول، فالفقه إذا قرأته على شيخ ينبغي أن لا تقرأ أصول الفقه إلا بهذا الضابط؛ لأنه لا يستقيم أن تقرأ الفقه على عامل يرجح أن المفهوم حجة، وتقرأ أصول الفقه على يد عالم لا يرى أن المفهوم حجة، فأنت في الأصول تصحح قولاً تخالفه في الفروع والتطبيق وهذا هو الذي جعل العلماء في المذاهب الأربعة يهتمون بتقعيدها وبيان أصولها، حتى يكون استنباطك للنصوص وعملك بالأدلة على قاعدة صحيحة، وعلى هذا درج سواد الأمة الأعظم، فلن تجد عالماً إلا وقد أخذ الفقه من أصل ومذهب بالدليل ولم يتعصب ألا للدليل، فنحن نريد علماً صحيحاً موروثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مأخوذاً عن الأئمة، لكن بدون شتات وفرقة حتى يستطيع طالب العلم أن يصل إلى الحق بأقرب سبيل، وأوضح معنى.

    نسأل الله العظيم الجليل أن يرزقنا الصواب والرشاد، وأن يجعلنا من أهل الصبر، وأن يثبتنا عليه إلى أن نلقاه، وأن يحشرنا في زمرة نبيه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756249587