إسلام ويب

تفسير سورة نوح (3)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد السنين الطوال التي قضاها نوح في دعوة قومه إلى التوحيد، لم يجد منهم إلا الصدود، فرفع كفيه إلى مولاه يبتهل إليه بالدعاء، بأن يهلك الظالمين عباد الأصنام، ولا يترك على ظهر الأرض منهم عيناً تطرف، ويتوب عليه وعلى من معه من المؤمنين، فاستجاب الله له فأغرق المكذبين، ونجاه ومن معه من المؤمنين، وأورثهم جنة النعيم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال نوح رب إنهم عصوني ...)

    الحمد لله, نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه, ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: ها نحن مع خاتمة سورة نوح عليه السلام.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا * مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:21-28].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق الكريم فيما شكاه نوح عليه السلام إلى ربه تعالى مما يجد من قومه المشركين الذين يعبدون الأصنام والأوثان.

    قال تعالى: قَالَ نُوحٌ رَبِّ [نوح:21], أي: يا رب! إِنَّهُمْ عَصَوْنِي [نوح:21], وما أطاعوني، وما استجابوا لي. وقد مكث يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ليلاً نهاراً، وكما مر فقد كان يأتيهم في الليل في الاجتماعات وما استجابوا, فشكا إلى ربه فقال: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا [نوح:21]، أي: اتبعوا الأغنياء أرباب المال والأولاد، والفقراء هذا شأنهم. فهؤلاء مشوا وراء الأغنياء وأرباب المال, فمنعوهم من الدخول في الإسلام. وهذا هو الحال في مكة, فقد حصل هذا، فالفقراء اضطروا إلى أن يتبعوا الأغنياء, ويمشوا وراءهم.

    وشكوى نوح هذه ظاهرة، فقد قال: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا [نوح:21] في الدنيا وفي الآخرة. وليس هناك خسارة أعظم من أن يموتوا على الكفر, ويخلدوا في جهنم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومكروا مكراً كباراً)

    قال تعالى حاكياً قول نوح عليه السلام: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح:22], أي: عظيماً، فقد مكروا بنوح، بل والله كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وكان هذا شأنهم. فهم قد مَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح:22]. وقد يصرفون الفقراء عن الدخول في الإسلام واتباع نوح عليه السلام، ويمنعونهم من ذلك، ويخوفونهم، ويعطونهم المال، ويرفعون درجتهم عندهم؛ من أجل أن يبقوا على الكفر والشرك. والعياذ بالله تعالى. فهم مَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح:22].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ...)

    قال تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [نوح:23]. فقد قالوا لبعضهم البعض وقال الرؤساء والأغنياء وأرباب المال للفقراء والمساكين: لا تتركن آلهتكم أبداً، واثبتوا عليها، ولا تسمعوا لصوت هذا الرجل، ولا تقبلوا دعوته، فهو ضال، وهو كذا وكذا، فـ لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ [نوح:23], أي: ولا تتركن وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]. وهذه خمسة آلهة. وقد بينا في أول يوم في تفسير السورة: أن هؤلاء خمسة من أولاد آدم، وكانوا من أولياء الله وصالحي عباده، فلما مات العلماء وما بقي من يرشد الناس جاء الشيطان وزين لهم أن يضعوا لهم صوراً وتماثيل, ففعلوا, فهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر، وهذا سواع، وهذا ود. ولما مضى قرن أو أقل زين لهم الشيطان أن يعبدوهم، فاتخذوهم آلهة مع الله. ولذلك قالوا: لا تتركن آلهتكم، ولا تتركن وداً ولا سواعاً، ولا يغوث ويعوق ونسراً. فاتخذوا خمسة آلهة. وسبحان الله! تمضي القرون, وتنتقل هذه الآلهة إلى بلاد العرب، وكل قبيلة عبدت نوعاً من هذا الذي عبده قوم نوح. ولا تعجبوا, فوالله في قريتي التي ولدت فيها وعشت فيها جبلين أو تلين خارج القرية, وإذا أجدب الناس وانقطع المطر يخرجون إليهما, ويذبحون ويصيحون, حتى يمطروا. وكتبنا هذا في التفسير. حتى رزق الله البلاد بالشيخ الطيب العقبي رحمة الله عليه, وهو خريج المسجد النبوي, فقد زار تلك البلاد, وحينئذٍ انتبهوا, ومنعوا أنفسهم من هذا, وقد كانوا يعبدونهما بالذبح والنذر والحفل فيهما كل عام عندما يجدبون؛ لأن العدو إبليس ما يريد أن يرى أحداً مستقيماً، ولا يريد أن يرى أحداً طاهراً ولا طيباً، بل يريد أن يخبث الناس ويفسدهم؛ ليكونوا معه في جهنم. هذه هي الحقيقة.

    إذاً: قال قوم نوح بعضهم لبعض : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقد أضلوا كثيراً ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً)

    قال تعالى حاكياً قول نوح عليه السلام: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح:24]. فهذ قالها نوح عليه السلام، فقد قال: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [نوح:24] من الأمم, ففي ألف سنة إلا خمسين عاماً والأولاد يولدون, ويولد هذا العام أربعة .. عشرة, ويوم يبلغون يكفرون, وهكذا جيلاً بعد جيل. فهم قَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا [نوح:24].

    ثم قال: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا [نوح:24]. فقد علم أنهم لا يؤمنون، وذلك بعد أن أُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36]. فلما عرف أنهم لا يؤمنون دعا عليهم, فقال: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا [نوح:24]. فما داموا ضلوا فاللهم زدهم ضلالاً، وهذا بعد أن تعب تسعمائة سنة وخمسين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً ...)

    قال تعالى وقوله الخق: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح:25]، أي: بخطيئاتهم, وهي الشرك والكفر, والظلم والإجرام والاعتداء, وعدم عبادة الله وطاعة رسوله, فلهذا أغرقهم الله بالطوفان، فالسماء تدفقت أمطارها، والأرض صارت بحراً، والتقى الماء من فوق ومن أسفل، فما بقي أحد, إلا الذين في السفينة. والسفينة صنعها نوح بإرشاد الله له وتعليمه له، وركب فيها هو والمؤمنون, وكانوا نيفاً وثمانين رجلاً وامرأة, ثم بعد ذلك غرق العالم بأسره، وما بقي أحد على وجه الأرض. ولما انتهت المحنة وهبطت السفينة إلى الأرض عاش نوح عليه السلام ستين سنة، وانتشر الأولاد وكثروا.

    هكذا يقول تعالى عنهم هنا: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ [نوح:25], أي: بخطيئتهم أُغْرِقُوا [نوح:25] في ذلك الطوفان، فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25]. فما إن تخرج روح أحدهم من بدنه بالغرق حتى تدخل جهنم في البرزخ. فهم قد أغرقوا فأدخلوا على الفور، فكل من غرق ومات فروحه إلى النار في البرزخ، فأدخلوا ناراً، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا [نوح:25]. ولن يجدوا الأنصار الذين ينصرونهم, وهم مشركون, وقد أراد الله هلاكهم ودمارهم، فلن ينصرهم أحد, فإذا دقت الساعة وجاء عذاب الانتقام -والعياذ بالله- فلن يبقى من ينصرهم، كما قال تعالى: فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا [نوح:25].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً)

    قال تعالى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]. ولا تترك منهم من يجيء ويذهب, ويروح ويدور في بيته وخارجها أبداً. وهذا لعلمه بما أوحى الله إليه أنهم لا يؤمنون، فقد قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36] فقط من تلك الجماعة المحدودة، فدعا عليهم: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]. والديار الذي يدور ويجيء ويذهب ويدخل في داره وغيرها. فقال نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً)

    علل نوح دعوته على قومه بقوله: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ [نوح:27]. فإذا تركتهم وما أهلكتهم فهؤلاء المؤمنون يضلونهم، أو من يوجد منهم في المستقبل يضلونه، ويحملونه على الشرك والكفر والذنوب والآثام، ولذلك قال: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27]. وهو قد عاش هذه القرون كلها ينظر إلى الولد وولد الولد، ووجد أنه إذا بلغ الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة أصبح مشركاً، وهكذا جيلاً بعد جيل, وكل جيل يدخل الكفر؛ لأن الرؤساء والطغاة والجبابرة هم الذين يحملونهم على الكفر والشرك -والعياذ بالله- ويقبحون لهم نوحاً ودعوته. فمن هنا عرف أنهم ما يلدون إلا الكفار، فقال: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27]، أي: كثير الكفر والشرك. والفاجر هو: من يخرج عن طاعة الله وطاعة الرسول.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً ...)

    قال تعالى حاكياً أن نوحاً قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [نوح:28]. هذه دعوة نوح لما انتهى كل شيء, وأصبح عما قريب لن يبقى أحد, فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [نوح:28]. وقد علمتم أن أباه يقال له: لامك بن متشولخ بن إدريس عليه السلام، وأمه شمخاء بنت آلوس . فسأل الله تعالى أن يغفر له ولوالديه، فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]. المراد من بيته: مسجده الذي يصلي فيه, ويعبد الله فيه, هو والمؤمنون معه. فهي مصلاه.

    وهنا لطيفة, وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: ( أن العبد إذا صلى في مكان وجلس فيه الملائكة تقول له: اللهم اغفر له وارحمه حتى يقوم, ما لم يحدث ). إذا أحدث وانتقض وضوءه سقط هذا, ولا يبقى، لكن ما دام متطهراً وجالساً في مصلاه فوالله إن الملائكة تصلي عليه, فتقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى يغادر ذلك المكان، سواء في المسجد أو في غير المسجد.

    إذاً: نوح سأل ربه: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا [نوح:28]، أي: مصلاه الذي كان يصلي فيه، ولا يدخل بيته إلا مؤمن، وكان المؤمنون أقلية معدودين, وكانوا يأتونه إلى بيته؛ يعلمهم ويعبدون الله معه. فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ [نوح:28]. وأما إذا دخل بيته كافر فما يدعو له بالمغفرة، بل إذا كان مؤمناً ودخل مصلاه أو مسجده أو بيته, هذا الذي دعا له, فقال: اللهم اغفر له. وكذلك المؤمنين والمؤمنات عامة. فهذه الدعوة تشملنا جميعاً إلى يوم الدين.

    ثم قال: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:28]، أي هلاكاً يا رب! فلا تزد الظالمين إلا هلاكاً. فدعا للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة، ودعا للظالمين بزيادة الإهلاك والدمار الكامل، فقال: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:28]. والظالمون هم: كل من صرف عبادة الله وأعطاها لغير الله, فمن فعل هذا فهو والله ظالم. وكذلك كل من أخذ مال مؤمن وأعطاه لغيره فهو ظالم، وكل من سبّ مؤمناً أو شتمه ظلماً وعدواناً فهو ظالم. وأبشع أنواع الظلم وأقبحها الشرك بالله؛ لقول الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. وهذا في كتاب الله، فهو يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وما هو سهل أبداً.

    وبيان ذلك: أن الذي خلقك هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، والذي خلق لك كل ما في هذه الحياة, فمن أجلك خلق الشمس والقمر، ومن أجلك خلق الأرض والجبال, والأنهار والأمطار, والنباتات والحيوانات, فهذه كلها مخلوقة من أجلك، وذلك من أجل أن تذكر الله وتشكره، فإذا بك تعمى وتنساه وتأخذ حقه وتعطيه لحجر أو لصنم. وليس هناك أفظع من هذا الظلم؛ لأنك تأخذ حق الله وتعطيه للمخلوقين. فليس هناك ظلم أفظع من هذا. فلذلك دعا نوح بقول: ولا تزد الظالمين إلا هلاكاً ودماراً وتباراً. والظلم هنا هو: الشرك بالله. ووجه الظلم: أنه خلقك ورزقك لتعبده، فإذا بك تتركه وتعبد غيره. فليس هناك ظلم أفظع من هذا الظلم. وكذلك شرع لك عبادات لتعبده بها، فإذا بك تصرف بعضها لغيره من مخلوقاته. وهذا هو الشرك, والعياذ بالله. ونحن نبرأ إلى الله منه ومن أهله.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات:

    [ من هداية ] هذه [ الآيات:

    أولاً: مشروعية الشكوى إلى الله تعالى، ولكن بدون صخبٍ ولا نصب ] فنستفيد من هذه الآيات: مشروعية الدعاء ورفع اليدين إلى الله عز وجل بدون صخبٍ ولا صياحٍ ولا ضجيج، وعلى الداعي أن يبكي, وأن يكون صوته منخفضاً، ويدعو كما ينبغي. والدعاء مشروع، وهو من أفضل العبادات, وليكن في خشوع وخضوع وبينك وبين ربك, ولا أحد بينكما، فهو يبلغه كلامك ويسمعه، ويستجيب لك.

    ففي هذه الآيات: مشروعية الشكوى إلى الله، وقد شكا نوح إلى ربه, فالشكوى إلى الله محمودة. فعلينا كلنا أن نشكو إلى ربنا إذا ظلمنا أو إذا اعتدي علينا. فنرفع أيدينا إلى الله ونشكو إليه، كما شكا نوح إليه.

    [ ثانياً: بيان أن السفلة والفقراء يتبعون الرؤساء والأغنياء وأصحاب الحظ ] فمن سنن الله في الخلق: أن الفقراء يتبعون الأغنياء، ويمشون وراءهم، وأن الأغنياء وأرباب المال والأولاد هم الظلمة، وهم الذين يدعون إلى الشر والفساد في كل زمان ومكان.

    [ ثالثاً: بيان ] وتوضيح [ أن المكر ] والخداع والغش [ من شأن الكافرين والظالمين ] فهم الذين يغشون ويخدعون، والعياذ بالله. فالظلمة المشركون هم أهل المكر والخدعة، كما أعلن ذلك نوح عليه السلام في قوله: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح:22].

    [ رابعاً: بيان أن المشركين لضلالهم يطلقون لفظ الآلهة على من يعبدونهم من الأصنام والأوثان ] والإله هو: المعبود. والإله الحق هو الله، وعبادته من أجلها خلقنا، وبها نكمل ونسعد، وليس عبادة الأولياء والصالحين, والأغنياء والأموات, والعياذ بالله. ولكنهم ألهوهم وجعلوهم آلهة وعبدوهم، كما فعل المشركون في مكة، فقد عبدوا هبل وغيره, وكما عبد المؤمنون أيام الجهل الأولياء، وما هم بأولياء, بل أغلبهم ضلال، وكانوا يبنون عليهم القباب، ويضعون الستائر والشموع وكذا، ويلتفون حولهم، ويحلفون بهم، ويذبحون لهم، وينذرون لهم النذور، ويقولون: يا سيدي فلان! إن تحقق كذا فسنفعل كذا من إندونيسيا إلى موريتانيا. اللهم إلا في هذه الخمسين سنة, فقد انتشر العلم بوسائطه المعروفة, فخفت هذه المحنة، وإن كانت ما زالت إلى اليوم.

    [ خامساً: مشروعية الدعاء على الظالمين عند اليأس من هدايتهم ] فمن هداية الآيات: أنه يجوز لك أن تدعو على الظالم إذا أيست من هدايته؛ لأن نوحاً دعا عليهم لما أيس منهم, وما أصبح يؤمن أن هناك من يسلم منهم أو يدخل في الإيمان. فالظالم إذا أيست من هدايته ادع عليه بالهلاك، وإذا كنت ترجو أن يؤمن ويسلم فلا تدع عليه. أو ادع بدعوة عامة، مثل أن تقول: اللهم أهلك الظالمين، اللهم أغرق الفاسدين. فهذا لا بأس. وأما شخص واحد بعينه فلا تدع عليه بالهلاك، إلا إذا أيست من هدايته.

    [ سادساً: هلاك قوم نوح ] وهم البشر كلهم في ذلك اليوم [ كان بخطاياهم، فالخطايا إذاً موجبة للهلاك ] فقد أهلكهم الله بدعوة نوح عليه السلام؛ بخطاياهم, أي: بسبب ذنوبهم وخطاياهم بشركهم وكفرهم، والعياذ بالله.

    [ سابعاً: تقرير عذاب القبر ] وأنه حق والله العظيم [ فقوم نوح ما إن اغرقوا حتى ادخلوا ناراً ] كما أن نعيمه والله حق، فما إن تؤخذ الروح حتى يعرج بها؛ لتكتب في عليين أو ينزل بها إلى أسفل السافلين، ولما يوضع الإنسان في قبره تأتي الروح من جديد، ويسأل ويحاسب, ويعذب أو يعطى ويكرم, والدليل هذه الآية في قوم نوح عليه السلام, فقد قال تعالى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25] على الفور. فهم أغرقوا بالماء, ثم دخلوا النار. والذي دخل النار أرواحهم. ففي هذا دليل على أن عذاب القبر حق والله، وقد أخبر بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم مئات المرات.

    [ ثامناً: مشروعية ] أي: جواز [ الدعاء ] بالهلاك والدمار والخسران [ على الظلمة والكافرين, والمجرمين ] والمشركين بالمجموع, وليس أن تدعو على فرد, إلا إذا أيست من هدايته، وأما اللفظ العام الذي هو: اللهم أهلك الظالمين .. اللهم دمرهم .. اللهم أغرقهم، فهذا يجوز، اقتداء بنوح عليه السلام.

    [ تاسعاً: مشروعية الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ] فقد قال نوح: رب! اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات. فهذا مشروع، ولهذا ندعو دائماً ربنا ونسأله لنا ولكل مؤمن ومؤمنة، وقد ذكرت لكم حديث: ( من صلى فريضة أو نافلة وجلس في مصلاه يذكر الله ويعبده فالملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه, حتى يحدث فينتقض وضوءه أو يقوم من مكانه ).

    ففي هذه الآيات: مشروعية الدعاء على الظالمين بصورة عامة، ومشروعية الدعاء للمؤمنين والمؤمنات بصورة عامة، فيقول: رب! اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات، أو ربنا اغفر لنا وارحمنا, وعافنا واعف عنا. فهذا مشروع لهذه الآية.

    [ عاشراً ] وأخيراً: [ يستحب البدء في الدعاء بنفس الداعي، ثم يعطف من ] يريد أن [ يدعو لهم ] وقد أخذنا هذا من قوله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [نوح:28], أي: أمي وأبي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]. فعلى كل داعٍ أن يقول: يا رب! اغفر لي وارحمني, واغفر وارحم كل مؤمن ومؤمنة. فيدعو أولاً لنفسه، ثم يدعو لغيره. فهذا مشروع في الدعاء. والله تعالى نسأل أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755980894