إسلام ويب

شرح كتاب الإبانة - ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه [2]للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف بترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه، لكن العجب لقوم حيارى تاهت عقولهم في بنيات الطريق، وتركوا ما قدمه الله عز وجل في وحيه، وافترضه على خلقه، وتعبدهم بطلبه، وأمرهم بالنظر فيه والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق، ولا تقدمهم فيه سلف سابق، فشغلوا به أنفسهم، وفرغوا له آراءهم، وجعلوه ديناً يدعون إليه، ويعادون من خالفهم عليه، وهؤلاء هم الزائغون الذين يجب الحذر منهم.

    1.   

    تابع باب ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه والبحث والتنقير عما لا يضر جهله ولا ينفع علمه

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

    وبعد.

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    لا يزال الكلام في الباب الذي بدأناه في الدرس الماضي موصولاً وهو: باب ترك السؤال عما لا يعني، والبحث والتنقير عما لا ينفع علمه، ولا يضر جهله، والتحذير من قوم يتعمقون في المسائل، ويتعمدون إدخال الشكوك على المسلمين.

    جلد عمر رضي الله عنه لصبيغ وأمر الناس بهجرانه

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عثمان النهدي: إن رجلاً كان من بني يربوع يقال له: صبيغ سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات، والنازعات، والمرسلات أو عن بعضهن، فقال له عمر: ضع عن رأسك -يعني: اكشف لي رأسك- فوضع عن رأسه فإذا له وفيرة -أي: لمة من الشعر- فقال: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك -أي: لقطعت رأسك- قال: ثم كتب إلى أهل البصرة: ألا تجالسوه، أو قال: كتب إلينا ألا تجالسوه، قال: فلو جلس إلينا ونحن مائة لتفرقنا عنه ].

    طاعة لولي الأمر الذي يحكم البلاد الإسلامية.

    [ وعن السائب بن يزيد أنه أتى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلاً سأل عن تأويل القرآن، فقال عمر : اللهم مكني منه، فبينما عمر ذات يوم جالساً يغدي الناس إذ جاءه رجل عليه ثياب فتغدى، حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا [الذاريات:1-2]، فقال عمر: أنت هو؟ -أي: أنت الذي يسأل عن المتشابه- فقام إليه وحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك، ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب -أي: على قتب البعير- ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلادكم، ثم ليقم خطيباً -أي: ثم ليقم هو فيكم خطيباً- ثم ليقل: إن صبيغاً كان برأيه كيت وكيت وكيت، وفعل به أمير المؤمنين كيت وكيت وكيت، فلم يزل وضيعاً -أي: صبيغ - في قومه حتى هلك، وكان سيدهم ].

    تعليق المؤلف على فعل عمر مع صبيغ

    قال الشيخ ابن بطة: [ وعسى ضعيف القلب، قليل العلم من الناس إذا سمع هذا الخبر وما فيه من صنيع عمر رضي الله عنه؛ أن يتداخله من ذلك ما لا يعرف وجه المخرج عنه ].

    هنا يجلي ابن بطة رحمه الله حقيقة أمر صبيغ ويقول: إن المستمع لما وقع في القضية من أمير المؤمنين ربما يقول: هذا ظلم، فلماذا يضرب عمر صبيغاً وصبيغ لم يعد كونه سائلاً عن آيات في كتاب الله عز وجل؟ فهل الذي يتفقه في دين الله يقابل بالإنكار والضرب والإهانة والحمل على قتب بعير بغير جرم؟! إن الذي فعله أمير المؤمنين ظلم لا يليق بمقام الخلافة، فالمؤلف يريد أن يزيل الإشكال الذي يدور في ذهن ورأس المستمع لهذه القصة، فبين رحمه الله حقيقة الأمر وأن صبيغاً لم يكن سائلاً متفقهاً، وإنما كان يسأل سؤال المتعنت، ولذلك صبيغ لم يعهد عليه أنه سأل عما ينفعه من العلم، وإنما يسأل عن المتشابهات.

    والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا سأل أحدهم عن المتشابهات -أي: في كتاب الله عز وجل- فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم).

    فقوله: ( فأولئك الذين سمى الله ) أي: الذين يسألون عن متشابه القرآن، ويتركون الفرائض والأركان التي لا يسعهم جهلها، فهؤلاء هم الزائغون الذين ذكرهم الله تعالى في مطلع سورة آل عمران، فاحذروهم.

    فـعمر لما بلغه أن صبيغاً بالبصرة إنما يسأل عن المتشابهات فحسب؛ دعا عمر الناس لتناول الطعام عنده، فقام إليه رجل بعد أن فرغ من الطعام يسأله عن المتشابهات، فقال: أنت هو؟ أي: الذي بلغني خبرك، فقام إليه عمر وضربه؛ لا لأنه يسأل عن العلم أو عن تفسير القرآن، وإنما لأنه يسأل عن المتشابهات ويترك المحكمات.

    قال ابن بطة: [ لعل أحدكم إذا سمع هذا الخبر دخل في نفسه شيء مما فعله أمير المؤمنين بـصبيغ، فيكثر هذا من فعل الإمام الهادي العاقل رحمة الله عليه، فيقول: كان جزاء من سأل عن معاني آيات من كتاب الله عز وجل أحب أن يعلم تأويلها لا أن يوجع ضرباً، وينفى ويهجر ويشهر به! ] يعني: أهذا جزاء من طلب العلم؟! هكذا ربما دخل في نفس السامع.

    ثم قال رحمه الله: [ وليس الأمر كما ظن السائل الذي لا علم عنده، ولكن الوجه فيه غير ما ذهب إليه الذاهب، وذلك أن الناس كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ويفدون إلى خلفائه من بعد وفاته رحمة الله عليهم أجمعين؛ ليتفقهوا في دينهم، ويزدادوا بصيرة في إيمانهم، ويتعلموا علم الفرائض التي فرض الله عز وجل عليهم ].

    يعني: هذه كانت رحلة الناس من أقطار الأرض إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى الخلفاء الراشدين، وإلى أئمة العلم في الدين؛ لأجل أن يتعلموا أصول الدين، وما لا يسعهم جهله؛ لأن هذا هو الذي خاطبهم الله عز وجل به في كتابه، وسار عليه سلف الأمة.

    ونحن نقول كلمة أحرى بنا أن نقف عندها مرات ومرات، خاصة في زمن كادت أن تهدم فيه الثوابت، وتزعزع فيه المحكمات، وتصير في قلوب العامة من المتشابهات، بل بعض المحرمات.

    نقول: إننا نؤمن بما آمن به النبي عليه الصلاة والسلام، وأصحابه الكرام، على فهم السلف، وكلمة: (على فهم السلف) هي كلمة تحتاج منا إلى وقفه، فهي كلمة عظيمة جداً، ولذلك لا يسعنا قط أن نقول بشيء أو أن نعمل شيئاً، أو أن نعتقد في دين الله شيئاً إلا وقد آمن به واعتقده السلف، وعمل به السلف، ومن عمل بغير ذلك أو اعتقد غير ذلك فإنما يعتقد ويعمل على غير ما كان عليه سلف هذه الأمة.

    فتمسك السلف بشيء إنما هو عصمة لمن أتى بعدهم، فالسلف لم يسألوا عن هذه المتشابهات، وإنما آمنوا بها وأمروها كما جاءت بغير سؤال، وإن بدا منهم سؤال فإنما سألوا عنه للتعلم والتفقه في كلام الله عز وجل، وفي كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وأما أن يسأل الشخص عن شيء على سبيل التعنت والإحراج.. وغير ذلك؛ فهذا الشخص لا بد أنه مريض لا يصلح لطلب العلم.

    ولذلك خشي الأئمة من السلف ومن أتى بعدهم من وجود أمثال هؤلاء في وسط العامة؛ لأنهم بإشاعة هذه المتشابهات لا بد أنهم يفسدون دين العامة، ولذلك عمل السلف رضي الله عنهم على استئصال شأفة هؤلاء، فـصبيغ كان يسأل عن هذه المتشابهات، فضربه عمر بالجريد على رأسه حتى سال منه الدم، حتى قال صبيغ يعلنها صراحة: يا أمير المؤمنين والذي نفس صبيغ بيده لقد ذهب الذي كان في رأسي.

    فهذا صبيغ يعترف أنه لم يكن يسأل تعلماً، وإنما سأل من باب إشاعة الشبهات، وزعزعة الثوابت في قلوب العامة، وجعل ما هو ركن ركين في دين الله ليس ركناً في قلوب العامة.

    قال: [ فلما بلغ عمر رضي الله عنه قدوم هذا الرجل المدينة، وعرف أنه سأل عن متشابه القرآن، وعن غير ما يلزمه طلبه مما لا يضره جهله، ولا يعود عليه نفعه، وإنما كان الواجب عليه حين وفد على إمامه -أي: أمير المؤمنين عمر- أن يشتغل بعلم الفرائض والواجبات، والتفقه في الدين من الحلال والحرام، فلما بلغ عمر رضي الله عنه أن مسائله غير هذا علم من قبل أن يلقاه أنه رجل بطال القلب، خالي الذمة عن ما افترضه الله عليه، مصروف العناية إلى ما لا ينفعه، ولم يأمن عليه أن يشتغل بمتشابه القرآن، والتنقير عما لا يهتدي عقله إلى فهمه، فيزيغ قلبه فيهلك، فأراد عمر رضي الله عنه أن يكسره عن ذلك ويذله، ويشغله عن المعاودة إلى مثل ذلك ].

    فانظر إلى الغرض النبيل الشريف الذي كان هو الداعي إلى تحريك عمر وضربه لـصبيغ.

    سبب قول عمر: (لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك)

    ثم قال: [ فإن قلت: فإنه قال: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك ] أي: لقطعت رأسك، وهذا بلا شك قتل، وأنتم تعلمون أن القتل محرم، وأن المرء لا يزال في فسحة من دينه ما لم يسفك دماً حراماً، فلماذا عمر رضي الله عنه هم بذلك؟ ولما حجم عن قتله؟ هل لأنه ذو شعر؟

    [ أومن حلق رأسه يجب عليه ضرب العنق؟ ] الجواب: لا، ولكن هذا كلام له مغزى وله أدلة سمعها عمر رضي الله عنه من النبي عليه الصلاة والسلام.

    قال: [ فإني أقول لك: من مثل هذا أتي الزائغون، وبمثل هذا بلي المنقرون، الذين قصرت هممهم، وضاقت أعطانهم عن فهم أقوال الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين، فلم يحسوا بموضع العجز من أنفسهم، فنسبوا النقص والتقصير إلى غيرهم ].

    وهذا موجود في كل زمان ومكان، تجد الواحد منا إذا عجز عن فهم نص نسب النقص إلى النص، وإذا عجز عن فهم فعل إمام من أئمة العلم والهدى والدين أو قوله سارع وبادر إلى الإنكار عليه، وذم قوله وفعله، بل ربما نسبه إلى الجهل، وتطاول عليه بما هو أبعد وأكثر من ذلك، وليس الأمر كذلك.

    ثم قال: [ وذلك أن عمر رضي الله عنه كان قد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج قوم أحداث الأسنان -أي: صغار السن- سفهاء الأحلام) ].

    يعني: يتصدرون الناس زعماً منهم أنهم ذوو أحلام، وذوو أسنان، وهم في الحقيقة ليسوا كذلك.

    ثم قال: [ (يقولون من خير قول الناس) ] يعني: يتكلمون بأحسن الكلام وأجمله.

    ثم قال: [ (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) ] أي: لا يؤمنون بالقرآن، وإلا لو آمنوا بكتاب الله عز وجل لآمنوا به كله محكمه ومتشابهه.

    ثم قال: [ (يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية) ] يعني: يخرجون من الإسلام بعد أن دخلوا فيه كما يخرج السهم من الرمية.

    ثم قال: [ (من لقيهم فليقتلهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله) ] فالذي حكم عليهم بالقتل هو النبي عليه الصلاة والسلام، قال: من لقي هؤلاء الذين ذكرت علامتهم فليقتلهم، ومن قتلهم فأجره على الله عز وجل.

    قال رحمه الله: [ وفي حديث آخر: قال عليه الصلاة والسلام: (طوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه) ].

    (طوبى لمن قتلهم) لأنه من أعظم الجهاد، (وطوبى لمن قتلوه) لأنه جاهدهم، فتمكنوا منه فقتلوه، فهو عند الله شهيد.

    [ (قيل: يا رسول الله! ما علامتهم؟ قال: سيماهم التحليق) ] يعني: هم يحلقون رءوسهم، وهذه علامة لهم.

    ثم قال: [ فلما سمع عمر رضي الله عنه مسائله -أي مسائل صبيغ- فيما لا يعنيه كشف رأسه ] أي: كشف عمر رأس صبيغ؛ ليهتدي عمر أهو من الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بتلك العلامات: أنهم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، سيماهم حلق الرءوس.

    فقوله: صلى الله عليه وسلم: (سيماهم التحليق) هذه هي العلامة الوحيدة الظاهرة، أي: أمارتهم بين الناس أنهم يحافظون على حلق رءوسهم بالموسى.

    فلما جيء بـصبيغ بين يدي عمر، وكان يسأل عن متشابه القرآن، قال عمر : لعله ممن حذرنا النبي عليه الصلاة والسلام منهم، وبين لنا أماراتهم وعلاماتهم، فلما ضربه كشف عن رأسه، فلو وجده محلوق الرأس لقتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لمن قتلهم)، ولو قتله عمر فإنه يكون مأجوراً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن في قتلهم أجراً عند الله عز وجل)، لكنه رأى أنه لم يكن ممن وصف النبي عليه الصلاة والسلام.

    انتفاع صبيغ بتأديب عمر رضي الله عنه له فلم يلتحق بالخوارج حين ظهروا

    قال: [ فلما سمع عمر رضي الله عنه مسائله فيما لا يعنيه كشف رأسه؛ لينظر هل يرى العلامة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصفة التي وصفها، فلما لم يجدها أحسن تأديبه؛ لئلا يتغالى به في المسائل إلى ما يضيق صدره عن فهمه، فيصير من أهل العلامة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، فحقن دمه -أي: لم يقتله؛ لأنه ليس بصاحب علامة- وحفظ دينه بأدبه، رحمة الله عليه ورضوانه.

    ولقد نفع الله صبيغاً بما كتب له عمر في نفيه ].

    لأن عمر نفاه إلى البصرة، وقال: هذا صبيغ يا أهل البصرة لا بد أن يقوم فيكم خطيباً، فيفضح نفسه على الملأ، ويقول: كان برأسي كيت وكيت وكيت، حتى أدبني أمير المؤمنين وفعل بي كذا وكذا وكذا، ولا زال صبيغ وضيعاً حتى مات بعد أن كان شريفاً.

    ثم قال: [ فلما خرجت الحرورية -وهي فرقة عظيمة من فرق الضلالة- قالوا لـصبيغ : إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا ].

    يعني: ذهب أصحاب السوء إلى صبيغ وقالوا: يا صبيغ لقد ظهرت فرقة تسمى: الحرورية -نسبة إلى مكان يسمى: حروراء، وهم خوارج، فهل لك يا صبيغ أن تلحق بهم، وأن تصير رأساً فيهم كما كنت رأساً من قبل؟ فانظر إلى رد صبيغ ماذا قال.

    قال: [ فقال: هيهات، نفعني الله بموعظة الرجل الصالح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ] يعني: نفعه الله تعالى بما أدبه به أمير المؤمنين؛ ولذلك قال: هيهات هيهات لقد نفعني الله بموعظة الرجل الصالح أمير المؤمنين.

    قال: [ وكان عمر قد ضربه حتى سالت الدماء على وجهه، أو رجليه أو على عقبيه.

    ولقد صار صبيغ لمن بعده مثلاً وتردعة لمن نقر وألحف في السؤال ].

    تحذير أبناء الصحوة من الاهتمام بالمتشابهات

    اعلم أن الصحوة الإسلامية فيها مئات من مثل صبيغ ، ولذلك هذا الكلام إن لم نستفد منه فلا قيمة له إذاً، فكثير من أبناء الصحوة يسألون ويلحفون في المسألة، وهذه المسألة الجهل بها لا يضر، والعلم بها لا ينفع، وإذا سألته في أصول دينه علماً وعملاً ستجده صفر اليدين، وإنما أدخل نفسه في مسألة لا تعنيه، وهذا كمن أراد أن يقفز النهر قفزة واحدة فسقط فيه، أو من أراد أن يقفز من الأرض إلى السطح فوقع على أم رأسه، فاندك في الأرض فمات؛ لأنه رام شيئاً وسلك له سبيلاً غير السبيل المستقيم، وأما سبيل طلاب العلم فإنهم يصلون إلى العلم شيئاً فشيئاً، حتى يصلوا في نهاية المطاف إلى دراسة المتشابهات بعد الإيمان بها، حتى يردوا ويذبوا عن دين الله عز وجل.

    وأما أن يأتي إنسان في أول الطريق فيسأل عن المتشابه ولا علم له بالمحكم، فمن يكون هذا؟ أو يأتي طالب علم مبتدئ فيسأل عن مسائل الخلاف والفروع المختلف فيها، وهو بعد لم يعرف مسائل الإجماع، والمسائل المجمع عليها ينكر أهل العلم أشد الإنكار على من لا يعرفها، ومن تصدى لغيرها قبل بحثها، وقبل الوقوف عليها، ومعرفة أصلها وأدلتها، فهو يسأل عن الفروع وهو بعد لم يتعلم الأصول، ويسأل عن الخلاف وهو بعد لم يتعرف على محل الاتفاق عند أهل العلم، كل هذا خلط وخبط عشواء في طريق الطلب، فينبغي أن يتنزه عنه طالب العلم.

    وبعض الطلاب يسألون عن مسائل كثيرة، وإذا لقيته هذا العام تجده يسأل عن مسائل كان يسأل عنها منذ أربع أو خمس سنوات، ففي أول دروسنا في مسجد التوحيد كان بعض الطلاب لا يحلو له إلا أن يسأل عن المتشابهات، أو عن الخلافيات، أو عن الفرعيات الدقيقة جداً، فإذا سئل عن مسائل في أصول العلم والأمور المتفق عليها والمجمع عليها بين أهل العلم تجده لا يعرف عنها شيئاً، ولا يعرف أصلاً هل هي من دين الله أو ليست من دين الله؟

    أقول: إذا كان البحث في هذه المسائل واجباً فإنما هو واجب على أهل العلم المتبحرين فيه، وأما أنت كطالب علم مبتدئ فإن هذا لا يسعك، وليس من أمرك.

    فمثلاً: الطفل الرضيع لو أطعمته أمه لحماً -وهو طعام، ولا يختلف أحد أنه طعام- فإنه يقتله، وكذلك هذه المسائل المتشابهات التي لا علم لك بها، ولست أهلاً لها إنما تقتلك ولا تنفعك، مع أنها علم، لكن الله عز وجل جعل لكل شيء قدراً، فهذه المسائل إنما يهتم بها أهل العلم الكبار، وأما أنت فلا.

    والدفاع عن دين الله عز وجل واجب على كل مسلم، لكن كل على قدره، فهل أنت مطالب الآن أن تتصدى لفرقة من فرق الضلالة دفاعاً عن دين الله عز وجل؟

    الجواب: لا، وأنك إذا فعلت ذلك أفسدت في دين الله عز وجل، بل ربما تكون سبباً قوياً في ظلم الظالمين، وأنا على يقين أنك ستنهزم أمام أصحاب الضلالة؛ لأنك لا تعرف مواطن الشبه التي يثيرونها عليك، وبالتالي إذا ألقيت عليك شبهة واثنتان وثلاث وأربع ولم يأت منك جواب مقنع، أو لم يأت منك جواب أصلاً على هذه الضلالات والانحرافات والشبه؛ اغتر العامة بكلام زعيم المبتدعة، فصدقوا كلامه، ووقع في قلوبهم أنه على الحق، فكنت فتنة للعامة بسبب الجهل، أو بسبب أنك تصديت لمسألة لم تتأهب لها بعد.

    إذاً: فاعلموا أن العلم مراتب، ولكل مرتبة أهلها.

    [ وعن القاسم بن محمد : أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فسأله عن الأنفال، فقال ابن عباس : كان الرجل ينفل الفرس وسرجه، فأعاد عليه السائل، فأجابه ابن عباس بنفس الجواب، فأعاد عليه ثالثة، فأعاد ابن عباس الجواب عليه ثالثة، فقال ابن عباس : تدرون ما مثل هذا؟ هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر رضي الله عنه، أما لو عاش عمر لما سأل أحد عما لا يعنيه ].

    والآن تجد الواحد لأول مرة يدخل المسجد، ولا يعرف عن دينه أي شيء، ثم يتوجه إلى المحاضر ويقول له: أنا أريد أن أعرف الفرق بين الإخوان المسلمون والجماعة الإسلامية والجهاد، والتوقف والتبين، والسلفيين.. وغير ذلك .

    نقول لهذا: أنت لا تعرف كيف تصلي، والأصل أن تتعلم كيف تصلي، وكيف تتوضأ، فتجد كثيراً ممن يتوضأ يقدم ويؤخر، ويزيد وينقص، ويخبط في أصل العبادة، وهذا الأمر وجدناه وأنتم تجدونه هنا، وهو كثير جداً في بلاد الغرب، فمثلاً: في أمريكا وأوروبا تجد المسلم لا يعرف كيف يتوضأ، ولا يعرف كيف يصلي، ويتعثر في أصول دينه، ومع ذلك تجد لحيته طولها ربع متر، وتراه يلبس العمامة، ويمشي في الشارع ومعه دفتر وقلم، وكلما قابل شخصاً ملتحياً أخرج القلم وفتح الصفحة وسأله، وهو لا يعرف أن الذي يسأله هو أيضاً أجهل منه، يقول له: أنا أريد أن أعرف ما هو الفرق بين الجماعة الفلانية وبين الجماعة العلانية؟ وما هي أخطاؤهم؟ وما هو الصواب الذي عندهم؟

    فهو يقلب في الصفحات ويكتب الملاحظات، وفي الأخير يقول له: بعد أن استفدنا منك الفوائد العظيمة هذه اكتب لنا كلمة في هذا الدفتر من أجلي، فالمسئول مجهول، والسائل أجهل منه، فالقضية كلها ليس فيها ضابط شرعي.

    وبعد ذلك يأتي إليك في المسجد وتكون قد أتيت من مصر، أو أتيت من أي بلاد العرب فيسألك نفس الأسئلة، ويقول لك: يا شيخ أنا الحمد لله جمعت تجميعات غريبة جداً في هذه القضية، جمعت أكثر من سبعين قولاً عن سبعين عالماً، تقول له: أنت باعتبارك من أهل العلم تعال فأنت بالنسبة إلي غنيمة؛ لأني أريد أن أعرف هذه الفروق، فما دام أن لديك قول سبعين عالماً فأنت بالنسبة إليّ فرصة، فاقرأ عليّ آراء السبعين عالماً، مع أنهم سبعين جاهلاً من جهال أوروبا.

    فهذا بلاء عظيم جداً ابتليت به الصحوة في هذا الزمان.

    موقف الصحابة والسلف ممن يسألون فيما لا ينفع

    قال: [ قال علي بن أبي طالب يوماً:سلوني عما شئتم ].

    ويجوز للعالم المتبحر أن يصدر منه ذلك إذا تفرس في وجه الحاضرين أسئلة أو رسالة.

    قال: [ سلوني عما شئتم، فقال ابن الكواء -وهو رأس من رءوس البدعة-: ما السواد الذي في القمر؟ قال علي : فإن تلك لله -أي: لا يعلمه إلا الله- ألا سألت عما ينفعك في دينك وآخرتك؟! ذاك محو الليل.

    وفي رواية: أنه سأله عن الحاملات وقراً؟ قال علي رضي الله عنه: ثكلتك أمك! سل تفقهاً ولا تسل تعنتاً، سل عما يعنيك ودع ما لا يعنيك ].

    قال الشيخ ابن بطة: [ وهكذا مكان العلماء والعقلاء إذا سئلوا عما لا ينفع السائل علمه، ولا يضره جهله، فربما كان الجواب أيضاً مما لا يدركه السائل، ولا يبلغه فهمه منعوه الجواب، وربما زجروه وعنفوه ].

    وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يستطيع أن يتكلم في القدر، ويحسن الكلام في القدر، ومع ذلك لم يجب في القدر بشيء.

    وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما يحسن ذلك، ومع هذا ما كان يجيب في القدر بشيء؛ لأن من منهج السلف أنه إذا ذكر القدر أمسكوا عن الجواب؛ لأن هذا باب عظيم وباب شائك، وإذا تحدث فيه متحدث فلابد أن يمكث فيه الساعات الطوال حتى يبين أصل الإيمان بهذا الأمر، ثم يبين مراتبه ومسائله وأحواله للعامة، لكن إذا كان المقام لا يسمح فإن قطع الكلام فيه أنجى للعامة في اعتقادهم، وقد كان السلف يأمرون بالإيمان بالقدر؛ لأن الله أمر بذلك، وانتهت القضية عند هذا الحد.

    وكذلك يستطيع السلف أن يتكلموا في النجوم، ولكنهم كانوا إذا سئلوا في النجوم ومنازلها ومساكنها أمسكوا، ويستطيع السلف أن يتكلموا في الصحابة، أي: في منزلتهم وفي فضلهم، وفي الفتنة التي دارت بينهم، لكنهم كانوا إذا سئلوا عن الفتنة أمسكوا.

    فإذا كنا نحن نعرف أن نتكلم في الفتنة فهم أولى بذلك منا، لكنهم أمسكوا.

    وهذا عمر بن عبد العزيز الإمام الراشد، إمام الهدى، لما سئل عن الفتنة التي دارت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما قال: فتنة نجى الله تعالى منها سيوفنا، فلم لا ننزه عنها ألسنتنا؟!

    وكان سيقطع كل فتنة يمكن أن تدار إذا أجاب بغير هذا الجواب، ولكنه تكلم بهذا الكلام الوجيز في المبنى العظيم جداً في المعنى، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، فعبر رحمه الله بكلمات يسيرات عن معتقد أهل السنة والجماعة في الخلاف الذي دار بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

    آثار عن السلف في ترك السؤال عما لا يعني، وذم الآرائيين

    قال: [ قال ابن شبرمة : من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسئول أن يجيب عنها ] يعني: ليس لكل سائل أن يسأل عما دار في رأسه من محكم ومتشابه، ومن غث وسمين، وإذا فعل فيحرم على المجيب أن يجيب في كل شيء، وإنما يجيب في شيء ينفع السائل، وأما في كل ما يسأل عنه السائل فلا.

    ثم قال: [ وقال ابن مسعود : من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون.

    وقال أيضاً: إذا أراد الله بعبد خيراً سدده، وجعل سؤاله عما يعنيه، وعلمه ما ينفعه.

    وقال أيضاً: إياكم والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق ] أي: الأمر الأول.

    ثم قال: [ وقال أبو يوسف : العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم ].

    وهناك أناس لا يهدأ لهم بال إلا إذا انطلقت ألسنتهم بالكلام والفلسفة والمنطق، ومعرفة المقدمات والنتائج.. وغير ذلك، ويظنون أنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً عظيماً، وليس الأمر كذلك، بل هذا هو الجهل بعينه إذا لم يكن مضبوطاً بضوابط الشرع.

    ثم قال: [ وقال زيد بن علي لابنه: يا بني! اطلب ما يعنيك بترك ما لا يعنيك ].

    يعني: أن الوقت والعمر لا يسع إلا لشيء واحد للنافع أو الضار، فإن انشغلت بالضار شغلك عما ينفعك، وإذا انشغلت بما ينفعك لم يبق وقت للسؤال عما يضرك، فإما هذا وإما ذاك.

    ثم قال: [ فإن في تركك ما لا يعنيك دركاً لما يعنيك، واعلم أنك تقدم على ما قدمت لنفسك، ولست تقدم على ما أخرت، فآثر -أي: فقدم- ما تلقاه غداً على ما لا تراه أبداً.

    وقال يحيى بن معاذ الرازي : إن ربنا تعالى أبدى شيئاً وأخفى أشياء ] أي: أظهر لنا شيئاً وأخفى عنا أشياء، والعاقل من انشغل بما أبداه الله تعالى، وترك ما أخفاه الله عز وجل، فإن خالف هذا الناموس الكوني فلا بد أنه هالك.

    ثم قال: [ وبلغني عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول: سؤال العبد عما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل له ].

    وقد جاءني سائل ومعه دفتر قد كتب فيه عدة أسئلة تصل إلى واحد وخمسين سؤالاً، ولا يمكن أن ينتفع بسؤال واحد منها.

    فقال: السؤال الأول: ما اسم أم موسى عليه السلام؟ فقلت له: هل ستستفيد من هذا السؤال؟ هل أنت مطالب به ومتعبد به؟ وهل سيسألك الله عنه يوم القيامة؟

    وتعبت معه كثيراً حتى أقنعته أن هذا السؤال لا ينبني عليه عمل العبد.

    ثم أخرج الدفتر ووجه إلي السؤال الثاني: ما اسم كلب أهل الكهف؟!

    فالذين انشغلوا بأسماء وصفات الله عز وجل أنظف وأشرف منك بألف مرة مع انحرافهم؛ لأنهم انشغلوا بباب من أعظم أبواب الاعتقاد، وضلوا فيه، ولكن الأبعد انشغل بأسماء الحيوانات والنساء والطيور.. وغير ذلك، وذكر حوالي اثني عشر اسماً توجد في القرآن لا يلزمه معرفتها.

    وتلك الأسئلة فيها عجائب، لكنه أخذ مني الدفتر عنوة لما ضحكت ضحكاً شديداً على بعض الأسئلة، وكان هذا قديماً، وليتني لم أضحك حتى آتي بالباقي.

    إذاً: فهذا علمه لا ينفعني، وجهله لا يضرني، وهذا الشخص اتهمني بأنني أصد عن الله عز وجل، وعن ذكر الله، وقال: أليست هذه أشياء ورد ذكرها في القرآن، ونحن مطالبون بالتدبر والتفكر في القرآن ومعرفة آياته؟

    فأقول: نعم، ولكن كان ينبغي أن يعلم الحلال والحرام، ومع ذلك لو سألته عن الكبائر والصغائر فإنه لا يعرف شيئاً؛ لأنه أخذ هذه المتشابهات التي لا تعنيه أصلاً وجعلها دينه فحسب.

    ثم قال: [ وقال طاوس : إني لأرحم الذين يسألون عما لم يكن؛ مما أسمع منهم.

    وقال الشعبي : لو أدرك هؤلاء الآرائيون النبي صلى الله عليه وسلم لنزل القرآن كله: يسألونك، يسألونك، يسألونك! ].

    إكثار الأحناف من الرأي والقياس

    وهناك أناس كثيرون يقول أحدهم: يا شيخ أنا وضعت أموالي في البنك الفلاني، فهل الأرباح هذه حلال أم حرام؟ لو قلت له: حلال، قال: افرض لو أني وضعتها في بنك آخر؟ وندخل بعد ذلك في دوامة كبيرة كلها افتراضات، أرأيت لو كان كذا لكان كذا وكذا، أرأيت لو كان كذا لكان كذا وكذا.. افتراضات.

    ولذلك عيب على أهل الرأي وأصحاب المذهب الحنفي كثرة الآراء، فعندما تقرأ في أي كتاب من كتب الأحناف ستجد أن معظم الفقه افتراضات، فمثلاً: الساجد عليه أن يسجد على سبعة أعضاء: الوجه مع الأنف هذا عضو واحد، واليدين والركبتين وأطراف القدمين؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أمرنا أن نسجد على سبعة آراب) أي: على سبعة أعضاء، لكن المذهب الحنفي حينما وقف على هذا الحديث قال: افرض أنه سجد على خمسة أعضاء فقط، رجل سجد ورفع أطراف القدمين، فيظل يفرض الافتراضات إلى أن قال: افرض أنه سجد على جبهته فقط دون أنفه، فهذا افتراض ليس له أي قيمة، بل هو مضيعة للوقت، وعبء وثقل في كتب الفقه، وكلام بلا فائدة، ولا يمكن أن يحدث قط، ولذلك من كثرة الافتراضات هناك افتراضات الواقع الآن يكذبها، ويقول: إنه لا أساس لها، كما قالوا أيضاً: افرض أن إنساناً صلى في أرجوحة لا هي معلقة في السماء ولا متصلة بالأرض، هل تصح صلاته؟ قالوا: لا، لا تصح؛ لأن الصلاة يلزمها السجود، والسجود لا بد فيه من المكان، وهذه أرجوحة معلقة في الهواء، والمفترض أنه يسجد على الأرض؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إنما جعلت لي الأرض مسجداً) يعني: يسجد فيها (وتربتها طهوراً، فأيما مسلم أدركته الصلاة فعنده طهوره وسجوده) أي: المكان الذي يسجد فيه، قالوا: وهذه ليست أرضاً وإنما هذه أرجوحة.

    ثم قالوا: وهذا محال لا يتحقق، فإذا بهذا المحال الذي لا يتحقق تحقق الآن، فالطائرة مثل الأرجوحة، فهي تطير في السماء في هذا الوقت، فهم قالوا: ببطلان الصلاة في الأرجوحة، والآن الأحناف المتعصبون يلتزمون مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة، فيقولون: إن الصلاة في الطائرة غير صحيحة، وإنما يجمع جمع تقديم قبل ركوب الطائرة أو جمع تأخير بعد النزول، فإذا كان السفر فوق الطائرة مقدار عشرين ساعة فهل أجمع خمسة فروض أم عشرة؟! هذا لا يصح.

    وانعقد الإجماع من أهل العلم بعد ظهور الطائرات على أن الصلاة فيها صحيحة كالصلاة في السفينة سواءً بسواء، لكن المتعصبون الآن من الأحناف يقولون بالبطلان، وغيرهم يقولون بصحة الصلاة فيها مع الكراهة، ونحن نقول ليس بإمكاننا أن نتخلص من هذه الكراهة، لذلك فهي صحيحة مطلقاً.

    تعقيب ابن بطة على آثار السلف المتعلقة بترك السؤال عما لا يعني

    قال: [ فالعجب يا إخواني رحمكم الله! لقوم حيارى تاهت عقولهم عن طرقات الهدى، فذهبت تلج محاضرهم في أودية الردى، تركوا ما قدمه الله عز وجل في وحيه، وافترضه على خلقه، وتعبدهم بطلبه، وأمرهم بالنظر والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق، ولا تقدمهم فيه سلف سابق، فشغلوا به أنفسهم، وفرغوا له آراءهم وأوقاتهم، وجعلوه ديناً يدعون إليه، ويعادون من خالفهم عليه، أما علم الزائغون أن مفاتيح أبواب الكفر، ومعالم أسباب الشرك هو التكلف لما لم تحط الخلائق علماً به، ولم يأت القرآن بتأويله، ولا أباحت السنة النظر فيه، فتزيد الناقص الحقير، والأحمق الصغير، بقوته الضعيفة وعقله القصير أن يهجم على سر الله المحجوب، ويتناول علمه بالغيوب التي أرادها لنفسه سبحانه وتعالى، وطوى عليها علمها دون خلقه، فلم يحيطوا من علمها إلا بما شاء، ولا يعلمون منها إلا ما يريد، فكل ما لم ينزل الوحي بذكره، ولم تأت السنة بشرحه من مكنون علم الله، ومخزون غيبه، وخفي أقداره، فليس للعباد أن يتكلفوا من علمه ما لا يعلمون، ولا يتحملوا من نقله ما لا يطيقون، فإنه لن يعدو رجل كلف ذلك نظره، وقّلب فيه فكره، أن يكون كالناظرين في عين الشمس ليعرف قدرها، أو كالمرتمي في ظلمات البحور؛ ليدرك قعرها، فليس يزداد على المضي في ذلك إلا بعداً، ولا على دوام النظر في ذلك إلا تحيراً، فليقبل المؤمن العاقل ما يعود عليه نفعه، ويترك إشغال نظره وإعمال فكره في محاولة الإحاطة بما لم يكلفه، ومرام الظفر بما لم يطوقه، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم الحجة الواضحة، والجادة السابلة، والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به، والمخالفة إلى ما ينهى عنه؛ يقع -والله- في بحور المنازعة، وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه، والمخالفة لأمره، والتعدي لحدوده، والعجب كل العجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين، فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه؟! أما تعلمون أن الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب ألا تقولوا على الله إلا الحق؟ فسبحان الله أنى تؤفكون!

    قال ابن الصواف: سمعت أبي يقول: سمعت بعض العلماء يقول: لو كلف الله هؤلاء ما كلفوه أنفسهم من البحث والتنقير؛ لكان من أعظم ما افترضه عليهم.

    قال الشيخ: فالزموا رحمكم الله! الطريق الأقصد، والسبيل الأرشد، والمنهاج الأعظم من معالم دينكم، وشرائع توحيدكم، التي اجتمع عليها المختلفون، واعتدل عليها المعترفون، كما قال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].

    مناظرة ابن عباس مع رجل يحاول معرفة أسرار الله في خلقه

    قال: [ قال أبو اليقظان : خرج رجل من أسلاف المسلمين يطلب علم السماء، ومبتدأ الأشياء، ومجاري القضاء، وموقع القدر المجهول، وما قد احتجبه الله عز وجل من علم الغيوب، التي لم ينزل الكتاب بها، ولم تتسع العقول لها].

    قال: [حتى انتهى إلى بحر العلوم، ومعدن الفقه، وينبوع الحكمة عبد الله بن عباس ، فلما انتهى بالأمر الذي ارتحل إليه، وأقدمه عليه؛ قال له: اقرأ آية الكرسي، فقرأها حتى بلغ قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، قال ابن عباس: أمسك؛ فقد بلغت ما تريد، فقد أنبأك الله أنه لا يحاط بشيء من علمه، قال له الرجل: يرحمك الله! إن الله قد استثنى فقال: إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، فقال ابن عباس: صدقت، ولكن أخبرني عن الأمر الذي استثناه من علمه، وشاء أن يظهره لخلقه: أين يوجد؟ ومن أين يعلم؟

    قال: لا يوجد إلا في وحيه، ولا يعلم إلا من نبيه، قال ابن عباس : فأخبرني عن الذي لا يوجد في حديث مأثور، ولا في كتاب مسطور، أليس هو الذي نبأ الله: لا يدركه عقل، ولا يحيط به علم؟ قال الرجل: بلى، قال ابن عباس فإن الذي تسأل عنه ليس محفوظاً في الكتب، ولا محفوظاً عن الرسل، فقام الرجل -وانتفع بكلام ابن عباس - وهو يقول: لقد جمع الله لي علم الدنيا والآخرة، فانصرف شاكراً لـابن عباس ].

    قال الشيخ: [ فاتقوا الله يا معشر المسلمين! وانتهوا عن السؤال والتنقير، والبحث عما يشكك في اليقين، وليس هو من فرائض الدين، ولا من شريعة رب العالمين، ولا تثقل به الموازين، ولا تثق نفوسكم إلى استماع كلام المتنطعين، الذين اتهموا أئمة المسلمين، وردوا ما جاءوا به عن رب العالمين، وحكموا آراءهم وأهواءهم في الدين، ودعوا الناس إلى ما استحسنوه دون كتاب الله وسنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم ].

    فقد تقدم عن ابن مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا هلك المتنطعون ثلاثاً).

    آثار عن السلف في كراهة القول في المسائل بآرائهم، وتعقيب المصنف عليها

    قال: [ سئل عطاء عن شيء؟ فقال: لا أدري، فقيل له: قل فيها برأيك، قال: إني لأستحي من الله أن يدان في أرضه برأيي.

    وعن ابن سيرين أنه سئل عن شيء، فقال: أكره أن أقول برأيي، ثم يبدو لي بعد ذلك رأي آخر فأطلبك فلا أجدك.

    وسئل ابن سيرين أيضاً عن شيء، فقيل له: ألا تقول فيه برأيك؟! فقال: إني أكره أن أجرب السم على نفسي.

    وقال الأعمش : إنما مثل أصحاب هذا الرأي مثل رجل خرج بالليل فرأى سواداً، فظن أنها تمرة فإذا بها عقرب، فلما التقطها لدغته ].

    قال الشيخ: [ الله الله يا إخواني يا أهل القرآن، ويا حملة الحديث! لا تنظروا فيما لا سبيل لعقولكم إليه، ولا تسألوا عما لم يتقدمكم السلف الصالح من علمائكم إليه، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا قوة بأبدانكم الضعيفة، ولا تنقروا ولا تبحثوا عن مصون الغيب، ومكنون العلوم؛ فإن الله جعل للعقول غاية تنتهي إليها، ونهاية تقصر عندها، فما نطق به الكتاب وجاء به الأثر فقولوه، وما أشكل عليكم فَكِلُوه إلى عالمه ].

    يعني: أوكلوا أمره إلى أهل العلم المتبحرين المتخصصين فيه، ولا تنشغلوا به أنتم.

    [ ولا تحيطوا الأمور بحيط العشواء، حنادس الظلماء، بلا دليل هاد، ولا ناقد بصير، أتراكم أرجح أحلاماً، وأوفر عقولاً من الملائكة المقربين حين قالوا: لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32]؟! ] أي: أنهم أوكلوا أمر العلم فيما لا يعلمون إلى الله عز وجل.

    ثم قال: [ إخواني! فمن كان بالله مؤمناً فليردد إلى الله العلم بغيوبه، وليجعل الحكم إليه في أمره، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم المحجة الواضحة، والجادة السابلة -أي: المسلوكة- والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به، والمخالفة إلى ما نهي عنه؛ يقع -والله- في بحور المنازعة، وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه، والمخالفة لأمره، والتعدي لحدوده.

    والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين، فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه؟ أما تعلمون أن الله قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب ألا تقولوا على الله إلا الحق؟! فسبحان الله أنى يؤفكون ].

    أقول: والعجب أن هذا الباب لم يذكر في كتب الأدب، وإنما ذكر في باب الاعتقاد، وفي أبواب أصول الدين؛ لأن الأمر فيه جدل خطير، ففيه التحذير من قوم يتعمقون، وينقبون ويبحثون عما لا يعنيهم، والتحذير من صحبتهم، والاستماع إليهم.. وغير ذلك.

    والناظر لأول وهلة إلى هذا الباب يرى أن كتب الأدب التي تذكر أدب طالب العلم؛ أولى بهذا الباب من كتب الاعتقاد، لكن لما كان هذا الأمر متعلقاً بالمتشابهات من كتاب الله عز وجل، وأننا لم نكلف بالبحث عنها، وإنما كلفنا بالإيمان بها، وإمرارها كما جاءت، وإن غاب عنا علمها لكن لا يغيب علمها عامة عن الأمة كلها، بل لابد أن يتكلم فيها أهل العلم، ويقولون فيها قولتهم بما يفتح الله عز وجل به عليهم.

    وأما نحن صغار طلاب العلم، أو صغار أهل العلم فإننا لم نكلف بذلك، وحذرنا أيما تحذير من التدخل فيما لا يعنينا؛ لأن هذا أمر يؤدي في نهاية الأمر إلى التشكيك والحيرة في كتاب الله عز وجل، وهذا باب عظيم من أبواب الكفر، فلما كان هذا الأمر يؤدي بنا إلى الكفر أراد أهل العلم أن يحافظوا على هذا الأمر، فأوردوه ضمن كتب الاعتقاد؛ لعلاقته بالإيمان والكفر.

    أسأل الله تعالى أن يحفظني وإياكم من التنطع والجدل والتعمق، وأن يرزقنا وإياكم التمسك بالدين.

    1.   

    الأسئلة

    حكم وكيفية صلاة الفريضة في الطائرة

    السؤال: ما حكم صلاة الفريضة في الطائرة؟

    الجواب: تصح صلاة الفرد في الطائرة إذا لم يتمكن من الصلاة على الأرض؛ وإن كانت لغير القبلة، والأصل في صلاة الفريضة أنها تؤدى باتجاه القبلة، وعلى الأرض، لكن ذلك في الطائرة غير ممكن، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي النافلة على الدابة يوجهها تجاه القبلة حتى يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يدعها بعد ذلك تسير حيث شاءت، فحتى لو انحرفت عن القبلة في النافلة فإن هذا أمر لا يضره، وأما انحراف الدابة عن القبلة في الفريضة فإن هذا أمر لا يجزئ صاحبه، والله تعالى أعلم.

    حكم أخذ نسبة معينة من الآكلين في المطاعم زيادة في القيمة وتوزيعها على العاملين

    السؤال: ما حكم العشرة في المائة أو الاثنين في المائة، أياً كانت النسبة التي تفرض على الآكلين في المطاعم زيادة في القيمة، ثم توزع بعد ذلك على العاملين؟

    الجواب: جائز وحلال لا شيء فيه، ولا يستوي من أكل طعامه وانصرف ليأكل في بيته أو في سيارته، ومن جلس في المطعم فقدمت له زيادات في الخدمة من طعام وشراب.. وغير ذلك، فهذه النسبة ليس فيها حرج، والبقشيش إذا قدم بطيب خاطر من صاحبه -أي: من الآكل- وبغير أساليب ملتوية من العامل فإنه لا شيء فيه.

    وأما إذا فعل العامل أفعالاً وتحرك بحركات يفهم منها انتزاع المال من جيب الآكل، فأعطاه المال بسبب هذا الطلب إما بقوله أو فعله؛ فإن الحرج كل الحرج فيه؛ لأنه ما أعطاه بطيب خاطر منه.

    معنى قوله صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم)

    السؤال: كثير من الناس يسأل عن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم) ويقول: إذا كنا مأمورين بمخالفة المشركين، أو مخالفة غيرنا من سائر ملل الكفر ولا نقتدي بهم، ولا نتشبه بهم في الهدي الظاهر ولا الباطن؛ فاليهود والنصارى الآن يطلقون لحاهم فهل يجب علينا أن نحلق لحانا؟

    الجواب: لا، وإنما ضبط هذا الدليل الذي يستدل به السائل: من تشبه بقوم في أصل عادتهم وديانتهم، وليس هو من ديننا، فيكون المعنى: من تشبه بهم في أصل دينهم، أو في أصل عاداتهم المخصوصة بهم وليس من ديننا فليس منا، أي: ليس ذلك من أخلاق المسلمين، وأما إذا قام النصارى في الصباح يصلون معنا في المسجد، ويقومون معنا شهر رمضان فهل نخالفهم حتى لا نتشبه بهم؟! لا؛ لأن هذا من أصول ديننا، فمن أراد أن يتشبه بنا فله ذلك، ولا ينفعه ذلك إلا بعد الإيمان بالله عز وجل، وأما إذا تشبه بنا قبل أن يؤمن فإن ذلك لا ينفعه؛ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65].

    فلو أن شخصاً صلى أسبوعاً أو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع ونحن نعرف أنه نصراني، وقلنا له: هل أسلمت؟ فقال: لا، إذاً فلماذا أنت تصلي؟ قال: أنا أتدرب على الصلاة، وأتعرف عليها، وأرى أحوال المسلمين في المساجد، فهذا لا ينفعه فعله ذلك، وهذه أفعال أهل الشبهات، فهو أتى يجربنا، فلو أن النصارى كلهم اجتمعوا واتفقوا في الكنيسة في كل حي أنهم ينطلقون إلى المساجد يصلون مع الناس، فهل نقوم نحن نخالفهم حينما نرى المسجد مليء بالنصارى ونترك الصلاة، ونقول: ما داموا يصلون فنحن مأمورون بمخالفتهم ولن نصلي؟! هل يصح هذا الكلام؟! لا.

    إذاً فالأحاديث التي حذرت من التشبه بغير المسلم إنما ذلك فيما يخصه هو من أصل دينه، أو من أصل عادته، والله تعالى أعلم.

    وكذلك الشارب؛ فقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث في الصحيحين وغيرهما بمخالفة المشركين بإعفاء اللحية، وحف الشارب، وأما حلق الشارب فلا، وأما حلق اللحية فحرام معلوم حرمته، وأجمع على حرمة حلق اللحية فقهاء الإسلام، ولم يخالف في ذلك أحد، حتى نقل غير واحد من أهل العلم إجماع الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل على وجوب إطلاق اللحية، وحرمة حلقها.

    وهذا أمر لا يحتاج إلى إجماع؛ لأن هذا أمر معلوم علماً يقينياً عند أهل العلم.

    فإذا كان النصارى قد أطلقوا لحاهم، وحفوا شواربهم، فهل يجوز أن نحلق لحانا، أو أن نحلق شواربنا؟! لا يجوز ذلك؛ لأن هذا من ديننا، فمن أراد أن يتشبه بنا فله ذلك، وإلا فنحن لا نتشبه بأحد من سائر ملل الكفر بما هو من عادتهم ودينهم، والله تعالى أعلم.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    سبحانك اللهم بحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756469472