إسلام ويب

ولا تهنوا ولا تحزنواللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأمة الإسلامية هي الأعلى والأعز مهما أصابها من الضعف والهوان والهزائم والنكسات؛ لأنها مرتبطة بالله عز وجل، وهذا ما ركز القرآن الكريم على غرسه في النفوس، وطبقه المصطفى صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أصحابه وقت الأزمات، فقد كان يبث في قلوبهم الأمل والتفاؤل، ويقضي على الإحباط واليأس.

    1.   

    المشاكل المنتشرة في بلاد العالم الإسلامي

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين، وأسأل الله عز وجل أن يجازي خيراً كل من ساهم وأعد وحضر في هذا اللقاء.

    إخواني في الله! لا شك أن رمضان يأتي بفرحة على جميع المسلمين، على الصغير والكبير، وعلى الرجال والنساء، وعلى الأغنياء والفقراء، ومع أنه يأتي بفرحة على كل المسلمين إلا أننا في هذا الشهر وفي شهور رمضان السابقة نشعر في أنفسنا بغصة في الحلق؛ لأننا نرى أحوال المسلمين في بلاد العالم المختلفة فيها الكثير من المشاكل والمصائب والأزمات الطاحنة القوية الشديدة المؤثرة على سير الأمة، وليست فقط المشاكل السياسية والعسكرية في فلسطين وفي العراق وفي الشيشان وفي كشمير وفي السودان وفي غيرها، ولكنها مشاكل في فروع شتى كثيرة، وهذا يصيب المسلم بنوع من الألم والأسى، فمشكلة الأمية على سبيل المثال من أكبر المشاكل فهناك أكثر من 50% من الأمة الإسلامية تعاني من الأمية التامة -عدم القراءة والكتابة-.

    وهناك مشاكل الفساد الإداري المنتشرة في كل بقاع العالم الإسلامي، ففي تقرير الأمم المتحدة سنة 2003م في قضايا الفساد الإداري والذي يعطي درجة من عشر درجات لكل دولة، أي أن الذي يحصل على عشر درجات من عشرة قد بلغ أعظم درجة في الشفافية والبعد عن الفساد الإداري جاء فيه أن العالم الإسلامي فيه دولة واحدة تعدت حاجز الخمسة من عشرة، وهي ماليزيا حصلت على 5.3 من عشرة فقط، وبقية دول العالم الإسلامي كانت خمسة أو تحت الخمسة، فتونس حصلت على خمسة، وبقية دول العالم الإسلامي أكثر من ستين دولة حصلت على تحت الخمسة، ففيها يتفشى الفساد الإداري بشكل لافت للنظر.

    وقضايا الإنجاز العلمي والتقني في العالم الإسلامي فيها ترد كبير، فالعالم الإسلامي ينفق نسبة ضئيلة من دخله على الإنجاز العلمي، وأكبر دولة عربية تنفق على الإنجاز العلمي هي الإمارات، فهي تنفق (0.6%) على الإنجاز التقني والعلمي -يعني: حوالي ستة في الألف- وهذه نسبة تعتبر مرتفعة نسبياً مقارنة ببقية دول العالم الإسلامي، إذ إن بقية دول العالم الإسلامي لا تنفق إلا (0.3%) أو (0.2%) على الإنجاز التقني والعلمي، في حين أن إسرائيل تنفق على الإنجاز التقني (2.4%) ومصر تنفق (0.2%)، أي: أن إسرائيل تنفق قدر مصر اثنا عشر مرة على الإنجاز التقني.

    وهذا كله يعطي مبررات لما نراه على الساحة، فهذه التغيرات الكبيرة جداً في العالم الإسلامي تعطي انطباعاً أن الأمة بعيدة عن القيادة والريادة. وعند النظر في كتاب الله عز وجل نجد تبايناً كبيراً بين وصف رب العالمين سبحانه وتعالى لهذه الأمة وبين الواقع الذي تعيشه أمة الإسلام، فالله عز وجل يقول في كتابه الكريم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، ويقول سبحانه وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].

    ويقول صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في الأرض).

    ويقول ربعي بن عامر رضي الله عنه وأرضاه ملخصاً مهمة المسلمين في الأرض: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

    ثم إذا نظرنا إلى واقع المسلمين في هذا الوقت نجد تبايناً كبيراً، فالمسلمون اليوم لا يتبوءون المكانة التي وضعها فيهم ربهم سبحانه وتعالى.

    والأمم المتحدة أيضاً في تقرير آخر لها تقسم العالم حسب الإمكانيات العلمية في كل قطر إلى خمس فئات:

    فئة القادة، وفئة القادة المحتملون يعني: أنه من الممكن أن تصير دول قيادية مستقبلاً، والفئة الثالثة: النشطة، والرابعة: المهمشة، والخامسة: التي ليس لها أي اهتمام بقضية الإنجاز العلمي التقني.

    وللأسف الشديد فإن طبقة القادة كانت ثماني عشرة دولة ليس فيها دولة إسلامية واحدة، مع أن إسرائيل ضمن هذه الدول الثماني عشرة القائدة.

    والقادة المحتملون ثماني عشرة دولة أخرى فيها من الدول الإسلامية ماليزيا فقط.

    ثم النشطة فيها سبع أو ثمان دول إسلامية من أصل بضع وستين دولة إسلامية.

    ثم بعد ذلك المهمشة والأخيرة ويندرج فيها معظم بلاد العالم الإسلامي.

    هذه كلها أزمات إخواني في الله! وهي تتعارض مع وصف ربنا سبحانه وتعالى لأمتنا في كتابه، وهو سبحانه وتعالى يقول الحق المطلق فهناك خلل في الأمة في داخلها، والأمة لا تهزم مطلقاً بقوة أعدائها ولكن بضعف من داخلها، فهناك أمراض تتفشى في الأمة تؤدي إلى هذه النتائج ولا شك، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] سبحانه وتعالى.

    فما حدث للأمة هو من جراء أخطاء جسيمة وقعت فيها الأمة ولا شك في ذلك.

    1.   

    أساليب الخطاب في القرآن الكريم

    وهذا الزمان الذي كثرت فيه الأخطاء ووقعت فيه المصائب على الأمة تعالوا ننظر إلى لغة الحوار والخطاب من الدعاة إلى المدعوين، ومن العلماء إلى من يعلمون، ومن المدرسين إلى تلامذتهم، ومن الأزواج إلى زوجاتهم، ومن الآباء إلى أبنائهم. نعلم أن هناك أخطاء كثيرة وجسيمة، ولكن هل هذا الزمان زمان التقريع وعد الأخطاء وجلد الظهور بالسياط وإبراز هذه المشاكل الضخمة بصورة قد تقعد صاحبها عن الحركة وعن العمل وعن إعادة الإصلاح من جديد؟ أم زمن مد اليد وبث الأمل والتفاؤل في النفوس وإعطاء الأمة فرصة جديدة للقيام؟ وهي لا شك ستقوم؛ لأن هذا وعد رب العالمين سبحانه وتعالى.

    كثير من الدعاة يلهبون ظهور المسلمين بالسياط قائلين لهم: أنتم فعلتم كذا وكذا، وكانوا في السابق يفعلون كذا، وأنتم تفعلون كذا وكذا، وهم كانوا يفعلون كذا، حتى يصاب المسلم بالإحباط، وإذا أحبط فمن المستحيل أن يقوم، فالمحبطون لا يغيرون؛ لأن الإنسان المحبط ليس له طاقة على التغيير، ولذلك بث الأمل في الناس أمر في غاية الأهمية.

    وتعالوا ننظر إلى كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك). فكل شيء واضح جلي في كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وفي سنة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.

    فتعالوا ننظر إلى خطاب رب العالمين للمسلمين في حال القوة، وخطابه لهم في حال الضعف، خطابه في حال النصر وخطابه في حال الهزيمة، وخطابه في حال الانتصار والتمكين، وخطابه في حال الانكسار والمصيبة.

    أسلوب الخطاب في القرآن الكريم بعد انتصار بدر

    فبعد الانتصار الكبير الذي خرج منه المسلمون وهم يشعرون بالعزة والتمكين والسيادة والفخر وقد يتسلل إلى قلوبهم كبر أو عجب أو أنهم فعلوا ذلك بأيديهم وأن النصر ليس من عند الله عز وجل، وهذا أمر خطير، ولذلك نجد أن القرآن الكريم كان شديداً جداً على المسلمين في التعليق على غزوة بدر مع أنهم خرجوا من انتصار.

    ففي السورة التي نزلت تصف غزوة بدر وتمجدها، وهي سورة الأنفال، يقول تعالى في أول آية منها: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1]، فلم يذكر موقفاً عظيماً من مواقف المسلمين، ولم يذكر ثباتاً ولا جهاداً ولا قتالاً، ولكن قال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ... [الأنفال:1-2]، إلى آخر الآيات.

    فذكر مرضاً وقع فيه المسلمون وآفة أصابتهم بعد غزوة بدر، وهي الاختلاف على تقسيم الغنيمة بين المسلمين، فذكر هذا الأمر ليلفت الأنظار إلى عيب في القلب خطير جداً، هو الاختلاف على أمور الدنيا، ولم يذكر أمراً يرفع به من قيمتهم؛ لأنهم في حالة نشوة وانتصار وفخر بهذا النصر العظيم في يوم بدر.

    وبعد هذا المقطع يأتي بمقطع آخر شديد أيضاً على المسلمين فيقول: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:5-6]، يعني: بعض المسلمين في غزوة بدر كان فيهم تردد كبير، كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال:6-7]. القافلة أو الحرب، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7]. فربنا سبحانه وتعالى يطلع المسلمين على ما في داخلهم من خبايا نفوسهم، فهو يقول لهم: كنتم تريدون القافلة، والله عز وجل يريد الحرب، ويريد يوم الفرقان سبحانه وتعالى.

    والله عز وجل لم ينسب النصر إليهم مرة واحدة في كل سورة الأنفال، بل كان دائماً ينسبه إلى نفسه سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي فعل كل شيء سبحانه وتعالى، فهو يقول سبحانه وتعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الأنفال:11]. أي: جند النعاس والمطر، ثم يقول: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، فالملائكة مع المسلمين. ونسب النصر لنفسه سبحانه وتعالى فقال: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10]، سبحانه وتعالى، حتى قال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الأنفال:17]، فسلب المسلمين خاصية القتل مع أنهم كانوا يحملون السيوف بأيديهم في موقعة بدر ونسبه إلى نفسه سبحانه وتعالى، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الأنفال:17]، فأنت أمسكت بالسيف وقاتلت في أرض القتال، والله عز وجل هو الذي منّ عليك بالثبات، وهو الذي قتل الكافرين، فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ [الأنفال:17]، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أخذ كفاً من حصى ورمى به وجوه الكافرين وقال: شاهت الوجوه، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، سبحانه وتعالى.

    وهكذا ينزع الله النصر تماماً من المسلمين وينسبه إلى نفسه سبحانه وتعالى؛ حتى لا يتكبر المسلمون بهذا النصر. هذا خطابه للمسلمين في حال القوة والسيادة والتمكين؛ حتى لا يدخلهم العجب والفخر والخيلاء والكبر، وهذه أمراض في منتهى الخطورة، (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).

    ثم يقول سبحانه وتعالى أيضاً في حق المسلمين في غزوة بدر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]. بهذا التعبير الموحي بالقلة والضعف والهوان؛ ليرتبط المسلمون دائماً بربهم، وليعلموا أنهم إن كانوا مع الله نصرهم الله عز وجل، وإن خالفوا أمره عز وجل أذلهم عز وجل، ونحن قوم أعزنا الله بالإسلام وإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. وهذا من وضوح الرؤية عند عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه.

    هذا الخطاب كله تعقيباً على غزوة بدر التي كانت انتصاراً وفخراً للإسلام والمسلمين.

    أسلوب الخطاب في القرآن الكريم في غزوة أحد

    أما موقعة أحد التي سماها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم مصيبة، قال سبحانه وتعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]. ومع ثبوت أخطاء المسلمين فيها والمسلمون يخطئوا في أحد خطأً تكتيكياً استراتيجياً فقط بترك جبل الرماة، وإنما كان خطؤهم خطأ قلبياً بحتاً، فالمسلمون أمروا أمراً صريحاً بعدم مغادرة الجبل، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام صاغ الأمر صياغة عجيبة، فقال صلى الله عليه وسلم للمسلمين الرماة فوق الجبل: (إن رأيتمونا نهزمهم فلا تعينونا، وإن رأيتموهم يظهرون علينا فلا تعينونا)، وفي رواية: (فلا تغيثونا)، حتى قال: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تغيثونا)، فهو أمر صريح جداً بعدم المفارقة والبقاء فوق الجبل، ولكن لما كثرت الغنائم وانتصر المسلمون انتصاراً مبهراً في بداية الموقعة قال أغلب الرماة: الغنيمة الغنيمة! ونزلوا وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمراً مباشراً صريحاً وليس فيه أي تأويل، وهم إنما خالفوا من أجل الغنيمة، فكانت مخالفتهم مخالفة قلبية، قال ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152].

    ثم كان الخطأ الأعظم والأكبر هو الفرار من الزحف، وهذا خطأ عظيم، فالفرار من الزحف كبيرة من الكبائر، وهذه وقع فيها المسلمون في غزوة أحد، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153]، فصعد المسلمون الجبال وفروا فيها، وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153].

    والأخطر من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم ويقول لهم: هلم إلي أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجيبون، قال تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ [آل عمران:153]. فلم يستمعوا لدعائه، بل منهم من بلغ به الفرار إلى المدينة المنورة، وقد كانت موقعة أحد على بعد حوالي أحد عشر كيلو متراً من المدينة المنورة ومع ذلك فمنهم من بلغ به الفرار إلى المدينة المنورة ولم يلتفت وراءه، فقد كانت كارثة ومصيبة كما سماها ربنا سبحانه وتعالى.

    ومن جراء هذه المصيبة استشهد من المسلمين سبعون، فكان هذا خسارة قوية جداً للأمة الإسلامية في بدايتها، ومن هؤلاء الشهداء: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، وعبد الله بن جحش ، وعبد الله بن حرام ، وأنس بن النضر ، ومصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه وغيرهم، فقد بلغ الشهداء سبعين من أفاضل المسلمين، ومن أكابر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وجرح الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه صلى الله عليه وسلم، وسقط في حفرة، وكاد أن يقتل صلى الله عليه وسلم، بل أشيع أنه قتل صلى الله عليه وسلم، ففر المسلمون بعد هذه الإشاعة، وكل هذه الأحداث وقعت نتيجة أخطاء مركبة، من أخطاء قلبية وعسكرية وقع فيها المسلمون، وكنا ننتظر ونتوقع أن يكون الخطاب شديداً للمسلمين؛ لأنهم أخطئوا عدة أخطاء، ولكن لم يحدث ذلك، بل جاء خطاب رب العالمين رقيقاً لطيفاً هيناً؛ لأن المسلمين في حالة انكسار.

    وأنت إذا رأيت شخصاً يمشي في الشارع فوقع على الأرض وانكسرت قدمه لخطأ ارتكبه فما هو رد فعلك؟ هل ستذهب تنهره وتزجره لماذا فعل كذا وكذا وكذا؟ أو تمد يديك له؛ لكي يقوم من الأرض، وتحاول أن تعالجه وتخفف عنه؟ وهكذا فعل ربنا سبحانه وتعالى مع عباده المؤمنين في غزوة أحد، فقد خاطبهم خطاباً جميلاً لطيفاً جداً في رقة متناهية بعد هذه المصيبة والأخطاء، ولو رجعنا إلى سورة آل عمران التي نزلت بعد موقعة أحد فإننا نجد ربنا سبحانه وتعالى يقول فيها: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122]، وهذا في أول الموقعة، ففي أول الموقعة طائفتان من المسلمين قررتا الانفصال عن الجيش والعودة إلى المدينة المنورة وعدم القتال، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ردهم إلى الموقعة وأقنعهم، والحمد لله فقد منّ الله عليهم بالثبات، ومن الخطأ الكبير أن يغادر المسلمون أرض القتال دون استئذان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا خطأ وقع فيه المسلمون ولكنهم ثابوا إلى رشدهم بسرعة، فقال ربنا: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، ثم في نفس الآية مباشرة رفع من قدرهم حتى لا يخفض من قدرهم أحد، فقال تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122].

    ثم يقول سبحانه وتعالى مهوناً من المصيبة على المسلمين: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، فأنتم انتصرتم قبل ذلك، وهم انتصروا في هذه الموقعة، ولكن لا يظنن أحد أنهم انتصروا بلا آلام وبلا جراح، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140]، فالكفار الذين قاتلوكم أصابهم مثلما أصابكم من الهم والحزن والمصيبة والإيذاء، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، فهم يألمون وآخرتهم النار، ونحن نألم ونسأل الله عز وجل أن يجعل آخرتنا الجنة، وفارق مهول بين من يألم في الدنيا وينتظر الجنة، وبين من يألم في الدنيا ومصيره في الآخرة إلى النار، فالكل يألم في الدنيا، وينال نصيبه من الألم والجراح بل والموت، قال تعالى: أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، فكل الناس يموت حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن العاقبة مختلفة بالكلية بين المؤمنين والكافرين.

    ثم يقول تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، فمع أن المسلمين بعد غزوة أحد يشعرون بالمصيبة، فقد استشهد منهم سبعون إلا أن الله يقول لهم: هذه ليست مصيبة، بل هذا اختيار من رب العالمين سبحانه وتعالى، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، والشهيد حقاً هو الذي فاز، وأما نحن فعلى خطر عظيم، فنحن ما زالت في حياتنا بقية، ونسأل الله الثبات، أما الشهيد فقد أفضى إلى ما قدم، وقد مات مقبلاً غير مدبر، فتغفر له كل ذنوبه، ويذهب من أرض القتال إلى الجنة مباشرة.

    وقد أنزل ربنا سبحانه وتعالى في أعقاب غزوة أحد ما ذكره في حق الشهداء وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:170]، ولما رأى سيدنا جابر بن عبد الله أباه عبد الله بن حرام رضي الله عنهم أجمعين ميتاً شهيداً في غزوة أحد ركبه الهم والحزن رضي الله عنه وأرضاه، فجعل يكشف عن وجهه تارة ويغطيه تارة والصحابة ينهونه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينهاه بل تركه، ثم ذهب إليه صلى الله عليه وسلم وربت على كتفيه فقال: يا رسول الله! لقد خلف عيالاً وديناً، فهو حزين مهموم فقال له صلى الله عليه وسلم: (ألا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ فقال: بلى يا رسول الله! قال: لقد خاطب الله عز وجل أباك كفاحاً دون حجاب). فانظر إلى المرتبة التي انتقل إليها عبد الله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه، فقد انتقل من كونه إنساناً يسير على الأرض مثل كل الناس إلى رجل يخاطبه ربه سبحانه وتعالى كفاحاً ويقول له: (يا عبدي! تمنى أعطك؟ قال: يا رب! أتمنى أن أحيا مرة أخرى فأموت فيك)؛ لأنه شهد من الكرامة الكثير فأراد أن يحيا حتى يقتل في الله مرة أخرى، (فقال: إني كتبت على عبادي أنهم إليها لا يرجعون) أي: لا يعودون بعد أن يموتوا إلى الدنيا مرة أخرى، فقال: (إذاً ربي فبلغ عني)، فأنزل الله عز وجل الآيات في سورة آل عمران في حق الشهداء، وهذه درجة عالية جداً.

    وربنا سبحانه وتعالى ذكر للمسلمين بعد موقعة أحد أن الذين قتلوا منهم هم الذين فازوا، وأن هذه ليست خسارة، فلا تعتبر الشهداء الذين يتساقطون في فلسطين والعراق وغيرهما من بلاد العالم الإسلامي خسارة منيت بها الأمة الإسلامية، ولكن هذا مكسب كبير جداً ودرجات عالية، وهذا اتخاذ من رب العالمين سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140].

    ثم يخاطب ربنا سبحانه وتعالى المسلمين في سورة آل عمران أيضاً ويقول: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، وفي نفس الآية ينزل العفو من رب العالمين سبحانه وتعالى على المسلمين؛ حتى لا يشعروا بانكسار يؤدي إلى إحباط وإلى يأس، فهم فيهم الأمل، وفيهم إن شاء الله تغيير للواقع الذي هم عليه وإن كانوا في مصيبة، وإن كانت المصيبة كبيرة، ولكن الله عز وجل عفا عن هذه المصيبة وإن كانت فراراً من الزحف ومعصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عدتم إلى الله عز وجل قبلكم سبحانه وتعالى وعفا عنكم، وهو يعلم أنكم من المؤمنين ومن الصادقين، وقد غفر لكم، وهكذا يرفع من همة المسلمين في حال المصيبة سبحانه وتعالى.

    وفي ذلك التوقيت ينزل آية عجيبة فيقول سبحانه وتعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فالمسلمون بعد مصيبة أحد يخاطبون بأنهم الأعلون، حتى في زمن الانكسار والمصيبة، فالمسلمون هم الأعلون إن كانوا مؤمنين بالله عز وجل، فهم الأعلون لأن ربهم هو الله عز وجل، أما أعداؤهم فمنهم من يعبد بشراً، ومنهم من يعبد شجراً، ومنهم من لا يعبد شيئاً، وأما نحن فربنا الله عز وجل خالق السماوات والأرض، وملك الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى، ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأما هم فهم لا يتبعون حتى رسلهم، بل إنهم على العكس يحرفون ويبدلون ويغيرون كلام رسلهم، بل قد كانوا يقتلون أنبياءهم، ونحن كتابنا القرآن، وشرعنا دين الله عز وجل وأما هم فليس لهم شرع يتبعونه.

    فديننا قال الله عنه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، والكتاب الذي بين أيدينا لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، فهذا شرعنا وهذا كتابنا، وأما هم فليس لهم دستور يتبعونه، وأما دستورنا الذي نتبعه نحن فليس فيه ضلال أو باطل أو زيغ بتاتاً، بل هو حق وصواب مطلق، وهذه منة كبيرة جداً لأمة الإسلام والمسلمين.

    ونحن نسأل الله عز وجل أن يكون مصيرنا إلى الجنة، وأما هم فإلى أين يتجهون إن ظلوا على كفرهم وعلى حربهم لله عز وجل ولأوليائه ولدينه؟

    وانظر إلى تعليق رب العالمين سبحانه وتعالى على حادثة أصحاب الأخدود الذين فتنوا المسلمين في دينهم، فقد صنعوا أخدوداً وأحرقوا فيه القرية بكاملها، وفي عرف الناس هذه خسارة كبيرة جداً، حيث إن المسلمين أحرقوا بكاملهم، ففي عرف الناس أن الكفار انتصروا انتصاراً مؤكداً مبهراً، ولكن رب العالمين سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10] وعلى الجانب الآخر: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:11]، فالفوز الحقيقي أن يعلم الإنسان أن مصيره إلى الجنة؛ لأنه مرتبط بالله عز وجل.

    وقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] هذا خطاب من رب العالمين سبحانه وتعالى للمسلمين بعد موقعة أحد بهذه الرقة المتناهية؛ لتخفيف آثار المصيبة عليهم، فكأنه يقول لهم: انهضوا، فما زال هناك أمل وفرصة للتغيير، فأنتم قادة الأرض وسادتها وروادها إلى يوم القيامة، فأمة الإسلام لا تموت أبداً، بل هي باقية إلى يوم القيامة، وهكذا وعد ربنا سبحانه وتعالى؛ لأن رسالتنا هي الرسالة الخاتمة؛ ولأن رسولنا صلى الله عليه وسلم ليس بعده رسول، فمن يحمل رسالة الله عز وجل إلى خلقه ويقيم حجته عز وجل على عباده إن فنيت أمة الإسلام؟ فأمة الإسلام باقية إلى يوم القيامة، وفناؤها من علامات الساعة؛ لأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، لكن إن كان في عمر الأرض بقية ففي عمر أمة الإسلام بقية بل وريادة وسيادة إن شاء الله رب العالمين.

    والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد غزوة أحد وهم ما زالوا في أرض الموقعة مستخفين في الجبل جاء أبو سفيان زعيم المشركين يتشفى من المسلمين، فسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعن عمر رضي الله عنهم أجمعين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه)، أي: لئلا يكتشف الكفار مكان المسلمين، فقال أبو سفيان : أما هؤلاء فقد كفيتموهم، وهنا نشط عمر رضي الله عنه وأرضاه، وأخذته الحمية والغيرة فقال: قد أبقى لك الله يا عدو الله! ما يخزيك، فأراد أبو سفيان أن يتشفى فقال: اعل هبل، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه؟ قالوا: بماذا نجيب يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، وهكذا إن ظهرت أمة على أمة الإسلام فقولوا: الله أعلى وأجل، فإن ارتباطنا بالله عز وجل أعلانا سبحانه وتعالى، وإن ارتبطنا بغيره كتب علينا الذلة والمسكنة. (فقال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم -والعزى: الصنم الذي كانوا يعبدونه- فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا تجيبوه؟ قالوا: بماذا نجيبه يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، ثم قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر، والحرب سجال -أي: انتصرتم علينا في بدر وانتصرنا عليكم في أحد- فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا تجيبوه؟ فقالوا: بماذا نجيبه يا رسول الله؟! قال: قولوا: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار)، فشتان بين الشهيد وبين من قتل كافراً. هكذا علمهم صلى الله عليه وسلم وهم في أشد حالات التعب والجراح أن يذكروا الله عز وجل ويرتبطوا به ولا ييأسوا ولا يحبطوا؛ لأن هذا ليس من شيم المؤمنين، وقد قال سبحانه وتعالى: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، فاليأس من صفات الكافرين ليس من صفات المؤمنين أبداً.

    ويقول سبحانه وتعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، فمن صفات الضالين اليأس والقنوط والإحباط والكسل والفتور، وأما المسلم فهو يتحرك إلى آخر لحظة من لحظات حياته، وإلى أن يخرج آخر نفس في سبيل الله عز وجل، والموت في سبيل الله كان أمنية عند هؤلاء.

    ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا الشهادة في سبيله مقبلين غير مدبرين.

    1.   

    الإسلام لا يعترف بالإحباط واليأس

    ولقد نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الأزمات التي مرت بالمسلمين هذا النهج فقد كان يبث الأمل في قلوب المسلمين، وكان يغضب كثيراً إذا رأى إحباطاً أو يأساً في قلب مسلم مهما كانت المسببات التي تؤدي إلى ذلك، ولا يعترف بأي مسبب، فلا يجوز للمسلم أن يحبط أبداً؛ لأنه مرتبط برب العالمين سبحانه وتعالى، فالإحباط علامة على ضعف في العقيدة، وهذا لا يقبل من المسلم أبداً.

    وفي الفترة المكية التي كانت فترة الاستضعاف والقهر والتعذيب والبطش، والتي أصيب فيها المسلمون وقتلوا جاء خباب بن الأرت وقد كال له الكفار العذاب ألواناً رضي الله عنه وأرضاه، حتى كانوا يكوونه بالنار، فقد كانوا يحمون السيوف في النار ثم يضعونها على رأسه رضي الله عنه وأرضاه، وكانوا يحمون الفحم على الأرض حتى يحمر ويصير جمراً ثم يؤتى بـخباب بن الأرت فيوضع فوق هذا الجمر رضي الله عنه وأرضاه، ثم يأتون بصخرة عظيمة لا يحملها إلا رجال ويضعونها فوق بطنه وصدره وظهره على الجمر رضي الله عنه وأرضاه، وتحمل كل هذا رضي الله عنه وأرضاه وقد سأله سيدنا عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين وقال له: ما رأيت في الله يا خباب ؟! أو ما أشد ما رأيت في الله يا خباب ؟! فكشف له عن ظهره، فصرخ عمر بن الخطاب قائلاً: ما رأيت مثل هذا، فقد رأى ظهره وفيه حفر من هذه الجمرات التي كوي بها رضي الله عنه وأرضاه ومن جراء هذا التعذيب والبطش والقهر ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم متوسداً بردة متكئاً في الكعبة، فقال له: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقام صلى الله عليه وسلم -كما في البخاري - وهو محمر الوجه، فقد غضب صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اشتم في كلام خباب رائحة اليأس، وإلا فنحن مأمورون بالدعاء وباستنصار رب العالمين سبحانه وتعالى، وبالإلحاح على رب العالمين سبحانه وتعالى بالدعاء. فالكوي بالنار ليس مبرراً لليأس، فإن وصلت إلى ما وصل إليه خباب لا تيأس، ولا تحبط أبداً، فليس ذلك مبرراً للإحباط، وما نراه اليوم في بقاع العالم الإسلامي أهون بكثير مما فعل بـخباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: هذا الذي أصابك من الآلام لا يساوي شيئاً بالنسبة لمن سبق، فذكر له مثلاً من التاريخ، والتاريخ فيه العبر والعظات والتربية والمثل الواقعي، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إنه كان يؤتى بالرجل من قبلكم فيحفر له في الأرض حفرة ثم يوضع فيها، ثم يؤتى بالمنشار)، وتخيلوا واحداً وضع في هذا الوضع، (ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق اثنين وما يصده ذلك عن دينه)، فلو وصل الأمر إلى أن يأتي أحد بمنشار فيضعه على رأسك ليشقك اثنتين فلا تيأس، فأنت إلى الجنة صاعد بإذن الله رب العالمين إن ثبت، ومن حولك سينصرهم رب العالمين سبحانه وتعالى.

    وأحد المجاهدين في فتح فارس عربي بسيط لا نعرف اسمه ولكن الله عز وجل يعلمه أسره رستم قائد الفرس وقال له: ما الذي دعاكم إلى الولوغ في بلادنا؟ فقال الرجل في ثبات -وهذه الرواية ينقلها أحد الفرس الذين أسلموا-: جئنا نبحث عن موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: أرضكم ودياركم وأموالكم إن لم تؤمنوا بالله عز وجل. فقال رستم : إذاً تقتلون دون ذلك، فقال الرجل في يقين: من مات منا دخل الجنة، ومن بقي منا ظفر عليكم. فهذا وعد رب العالمين سبحانه وتعالى إما النصر وإما الشهادة، وهذا واضح في كتاب ربنا وفي أحاديث حبيبنا صلى الله عليه وسلم. فقال له رستم : إذا وضعنا في أيديكم -يسخر منه- يعني: نحن في كلا الحالين ضائعون، فقال: أعمالكم وضعتكم في أيدينا. فقتله رستم ومات رضي الله عنه وأرضاه، نسأل الله عز وجل أن يجعله في أعلى عليين.

    ثم يقول له صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت الذي يعذب فيه المسلمون في مكة وقد حصروا في قرية صغيرة لا ترى على خارطة الأرض في ذلك الوقت: (والله)، وهو لا يحتاج إلى قسم صلى الله عليه وسلم، فهو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ ولكن من أجل أن يزرع هذا المعنى زرعاً في قلوب المسلمين في كل زمان ومكان وإلى يوم القيامة، (والله ليتمّن الله هذا الأمر)، فهذا الدين لا بد أن يتم وينتشر ويسود ويقود الأرض بكاملها، (والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). يا ألله! خباب بن الأرت بعد كل هذا العذاب يستعجل! ما بالك بالذي يستعجل قبل كذا بآلاف الخطوات ماذا يكون؟!

    فلا تستعجلوا فالعاقبة للمتقين، وهذا لا شك فيه، فهو وعد رب العالمين سبحانه وتعالى، فثبت خباب رضي الله عنه وأرضاه، فقد ذكّره بالتاريخ وبثّ في قلبه الأمل، وربطه برب العالمين سبحانه وتعالى، فهو الذي سينصره فيثبت خباب رضي الله عنه وأرضاه ولا يبدل ولا يغير.

    1.   

    بث الرسول صلى الله عليه وسلم للأمل في قلوب أصحابه في الأزمات

    بث الرسول صلى الله عليه وسلم للأمل في قلوب أصحابه في الفترة المكية

    كان صلى الله عليه وسلم يمر على مجالس قريش ويقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا (كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم)، فكان يخاطبهم بذلك في الفترة المكة ويبشر المسلمين المحصورين في الفترة المكية بسيادة الأرض وملك العرب والعجم، أي: فارس والروم أكبر دولتين في الأرض في ذلك الزمن، وكانتا تقتسمان العالم في ذلك الزمن، النصف الشرقي فارس، والنصف الغربي الروم، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم في زمان الاستضعاف والقهر والتعذيب والبطش والإحاطة من الكفار للمسلمين كالسوار حول المعصم الفترة المكية يبشر ويبث الأمل في قلوب المسلمين. ثم مكن الله عز وجل الذي قال: لا إله إلا الله من أهل مكة من فتح هذه البلاد ومن نشر دين الله في ربوع الدنيا، وأما الذي لم يقلها فقد سحب في قليب بدر بعد ذلك مشركاً كافراً، وقد كان الفارق بين هذه الكلمات وبين معركة بدر ثلاثة عشر أو أربعة عشر سنة فقط، وليس بشيء في عمر الأمم إخواني في الله، فمن الممكن في الوقت الحاضر بعد ثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة فقط -وليس ذلك على الله بعزيز- أن تكون أمة الإسلام هي الأمة الرائدة في الأرض، وهذا بيد الله عز وجل، ولكن إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]. و(قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا). والقول لا يكون فقط باللسان ولكن بالفعل، أن تعرف معنى لا إله إلا الله، وترتبط بالله عز وجل، فلا تلجأ إلا إليه، ولا تطلب إلا منه، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه وتعالى. هذه هي لا إله إلا الله الحقيقية التي أرادها منا ربنا سبحانه وتعالى، فإن قلناها بهذا المفهوم فتح الله علينا بلاد الأرض جميعاً، وملكنا الأرض في الدنيا، وأعطانا في الآخرة الجنة.

    وفي أشد لحظات المعاناة خرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف بعد أن أغلقت أمامه أبواب الدعوة تماماً في مكة، وكانت أول مرة يخرج فيها صلى الله عليه وسلم من مكة إلى غيرها؛ لأنه في السابق كان هناك مجال للدعوة داخل مكة، وأما الآن فلا يوجد مجال الدعوة، فقد أغلقت القلوب تماماً بعد موت أبي طالب وبعد موت السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وسمي ذلك العام بعام الحزن، ولم يدخل في ذلك العام رجل واحد في دين الله عز وجل من أهل مكة.

    ودعا صلى الله عليه وسلم في مكة قبل أن يخرج إلى الطائف بدعاء ما دعا به مطلقاً قبل ذلك في مكة؛ تعبيراً عن عدم توقعه لإيمان أي أحد من هؤلاء الذين ذكرهم في الدعاء، ففي العام العاشر من البعثة وقف صلى الله عليه وسلم في وسط الكعبة ورفع يده إلى السماء وقال: (اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بـعتبة بن ربيعة ، اللهم عليك بـشيبة بن ربيعة ، اللهم عليك بـأبي جهل ، اللهم عليك بـأمية بن خلف، اللهم عليك بـعقبة بن أبي معيط ، اللهم عليك بـالوليد بن المغيرة ...)، وعد السابع فلم يحفظ، وفي رواية أنه: (عمارة بن الوليد) وقبل هذا كان يقول: (اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام)، ثم خرج صلى الله عليه وسلم في هذا الجو الصعب إلى الطائف، وفي الطائف وجد ما نعرفه جميعاً من صد عن سبيل الله ومن إلقاء الحجارة عليه وعلى زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، ومن إلقاء التراب فوق رأسه الكريم صلى الله عليه وسلم، وما آمن رجل واحد داخل الطائف، وظلوا يتابعونه صلى الله عليه وسلم خمسة كيلو خارج الطائف، ويجرون وراءه صلى الله عليه وسلم وهو يسرع الخطى ومعه زيد بن حارثة رضي الله عنه، ثم دخل حائطاً لـعتبة بن ربيعة الذي دعا عليه، وكانت الحالة التي أصابته صلى الله عليه وسلم قد جعلت قلب الكافر يرق له وتحرك فيه عاطفة الرحم، فبعث له عنقود عنب صلى الله عليه وسلم، ولم يخرج من كل هذه الزيارة إلا بـعداس رضي الله عنه وأرضاه، فقد آمن عداس الغلام النصراني، ثم خرج من الحديقة متجهاً نحو مكة، والمسافة بين مكة والطائفة مائة كيلو متر مشاها صلى الله عليه وسلم على الأقدام، قال صلى الله عليه وسلم: (فانطلقت مهموماً على وجهي)، أي: أنه في قمة الألم، (فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب). والمسافة بين قرن الثعالب وبين الطائف 35 كيلو متراً، فكل هذه المسافة لم يشعر بها صلى الله عليه وسلم، فقد كان في شبه إغماء، ومع كل هذه المعاناة فقد رجع مرة أخرى إلى مكة وهو في حالة من الضيق؛ إذ كيف سيدخل مكة وقد ذهب إلى الطائف يطلب النصرة منها على أهل مكة، وقد رآه عتبة بن ربيعة فهذا أمر صعب جداً. حتى قال له زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه: كيف تدخل مكة وقد أخرجوك؟ إلا أنه صلى الله عليه وسلم وهو في هذا الموقف ولا يعرف ما هو الحل يقول في ثقة وفي ثبات وفي يقين: (إني الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه) صلى الله عليه وسلم. وهذا لا بد أن يحدث، وهذا كما قال موسى عليه السلام لما وجد جيش فرعون خلفه والبحر أمامه، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62] ولم يكن يعرف الطريقة التي سينقذه الله بها. فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، أي: كالجبل وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ [الشعراء:64-65]. فنجا جيش موسى عليه السلام بدون خسارة واحدة، ولا بنسبة ولا واحد في الألف. وهذا فعل رب العالمين سبحانه وتعالى. فهذا يقين موسى عليه السلام.

    وكان هذا يقين رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي تحلى به وهو داخل على مكة بعد زيارة الطائف، وبثه في قلب زيد . وهذا اليقين هو الذي أكمل به المسلمون المشوار، وهو الذي قادهم إلى التمكين والسيادة فاليأس ليس له مكان في قلوب المسلمين أبداً.

    وفي طريق هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وهو مطارد وقد جعلوا جائزة لمن يأتي به وبـأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وكان في حال شديدة جداً وقد لقيه سراقة بن مالك واكتشف طريقه صلى الله عليه وسلم والوضع كان في منتهى الخطورة إلا أنه صلى الله عليه وسلم في هذا الوضع الذي يطارد فيه وبعد أن ساخت أقدام الفرس يقول صلى الله عليه وسلم لـسراقة كلمة عجيبة جداً، يقول له: (كأني بك يا سراقة ! تلبس سواري كسرى). وكأنه يقول له: أنا سأصل إلى المدينة وسينتشر فيها الإسلام، وستكون الجزيرة بكاملها دولة إسلامية، ثم بعد ذلك نغزو فارس وننتصر عليها ونغنم الغنائم ومنها سواري كسرى، وتأخذهما أنت يا سراقة بن مالك ! وكان يقول هذا في يقين وأبو بكر يقف ويسمع ويصدق في يقين، ولذلك جهز أبو بكر جيشاً لغزو فارس في وقت من المستحيل على أي عقل أن يقبل أن يخرج جيش الدولة الإسلامية لفتح فارس، لكنه كان قد سمع بأذنيه بشرى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بتمكين ذلك الدين وبفتح فارس، وبأن سراقة يلبس سواري كسرى، فعرف أن هذا الأمر قريب، فأخرج جيشاً عدده ثمانية عشر ألفاً ليحارب دولة مجموع جيوشها أكثر من مليوني مقاتل، وانتصر المسلمون على الفرس في عشرات المواقع إلى أن سقطت فارس بكاملها، تصديقاً لوعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومرت الأيام وغنم المسلمون غنائم كسرى وأتي بها إلى المدينة المنورة وفيها سوارا كسرى، وجاء سراقة بن مالك -وكان قد أسلم بعد غزوة حنين- بالكتاب الذي كتبه له صلى الله عليه وسلم يعده فيه بسواري كسرى وأعطاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فألبسه عمر سواري كسرى، هذا وعد المصطفى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

    بث الرسول صلى الله عليه وسلم للأمل في قلوب أصحابه في غزوة الأحزاب

    وفي غزوة الأحزاب لما حوصرت المدينة المنورة بعشرة آلاف، ووصل الموقف إلى درجة من الشدة حتى قال بعض المحاصرين: كان الرجل فينا لا يأمن على قضاء حاجته، فقد كانوا في حصار ومصائب وكوارث وحروب ومع ذلك لما عرضت لهم صخرة شديدة وذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء إليهم وأمسك بالمعول وضرب الحجر ضربة فانكسر ثلث الحجر، وتطاير الشرر، فقال صلى الله عليه وسلم لصحابته: (الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء من مكاني هذا). فبشرهم بفتح الشام وهم محصورون في المدينة المنورة، وعجيب جداً أن يذكر ذلك الكلام في ذلك الموضع، (ثم قال: باسم الله وضرب الضربة الثانية فتكسر ثلث الحجر وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم ضرب الضربة الثالثة فقلع بقية الحجر فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر صنعاء من مكاني هذا). فبشرهم بفتح اليمن وفارس والشام وهم في ذلك الحصار، والمسلمون يسمعون ويصدقون، والمنافقون يقولون: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، وأما المؤمنون فلما رأوا الأحزاب قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، وهذا الإيمان والتسليم واليقين هو الذي قادهم إلى فتح هذه البلاد.

    1.   

    أساس دعوة الإسلام تغيير القلوب

    وعندما جلس صلى الله عليه وسلم يحادث بني شيبان وكان رأسهم أربعة منهم: المثنى بن حارثة رضي الله عنه وكان لا يزال مشركاً، وقد كانوا وفداً في منتهى الأدب، فاستمع المثنى إلى كلام الرسول عليه الصلاة والسلام واقتنع به ولكنه كان خائفاً خوفاً شديداً لأنهم بجانب العراق التابعة لفارس، فقال المثنى : نحن ننصرك من العرب، لكن فارس لا نستطيع، فإنا نزلنا على عهد مع ملك فارس أن لا نحدث حدثاً ولا نؤي محدثاً، أي: لا نعمل شيئاً جديداً ولا ندافع عن أحد أتى بشيء جديد، وإنا نرى أن ما أنت عليه مما تكرهه الملوك، فلا نستطيع أن ندافع عنك ضد فارس، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق). ورفض صلى الله عليه وسلم هذا العرض المغري بأن تدافع عنه بنو شيبان ضد كل العرب دون فارس؛ لأنهم يشترطون شرطاً يدل على غياب العقيدة في النفوس، ثم قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة في منتهى الدقة والأهمية، فقال: (إن هذا الدين لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه)، أي: من أخذه كاملاً وأما غير ذلك فلا ينفع، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]. فهل ستدافع عني ضد قريش وثقيف وبني أسد ولا تدافع عني ضد فارس؟ فهل أنت تقاتل من أجل الله عز وجل أو من أجل نفسك؟ فإن خلصت النوايا فأنت لله في أي مكان، (إن هذا الدين لن ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه)، ثم قال لهم كلمة في غاية الأهمية، قال لهم: (هل رأيتم إن تلبثون إلا قليلاً حتى يفرشكم الله أرضهم وديارهم ونساءهم أتسبحون الله وتقدسونه؟)، أي: سيأتي يوم يعطينا ربنا سبحانه وتعالى كل فارس فهل ستدخلون حينها في هذا الدين؟ فقال النعمان بن شريك : اللهم لك ذلك. أي: لو حصل ذلك فسندخل معك حينها، وهذا تعبير يدل على أنه ليس مقتنعاً، وتمر الأيام ويتحقق وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. وبعد أن كان الذي يدخل إيوان كسرى ولجلس على بعد خمسة عشر متراً منه يعتبر ذلك شرفاً له أبد الدهر، بمجرد أنه دخل عليه ولو لم يقعد بجانبه ولم يتكلم معه، بل كان يدخل إيوان كسرى يضع على وجهه غلالة من القماش الأبيض حتى لا تلوث أنفاسه الحضرة الملكية فقد كانت مكانة كسرى عندهم مكانة عظيمة، وكبيرة جداً، ولا يمكن أن يتصوروا أن يغزوا فارس ولا يخطر على بالهم ذلك أبداً. وتمر الأيام ويسلم المثنى بن حارثة الذي كان يخشى فارس وكان صاحب حزب بني شيبان، فكان من قواد المسلمين في فتح فارس، وكان الذراع الأيمن لـخالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه في كل مواقع العراق فـالمثنى بن حارثة لم تختلف مهارة العسكرية ولا قوته الجسدية، وإنما الذي اختلف أن قلبه ارتبط برب العالمين سبحانه وتعالى فتغير تماماً، وأصبح ملك فارس عنده هيناً حقيراً بسيطاً؛ لأنه يرتبط برب العالمين سبحانه وتعالى. وهذه هي النفسية التي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه، كان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه ويقول لهم كما روى الإمام مسلم رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها).

    ومن الخطورة أن تشك أن ملك أمة الإسلام سيصل إلى مشارق الأرض ومغاربها؛ لأن الحرب في حقيقتها بين الله عز وجل وبين من خرج ومرق عن دينه سبحانه وتعالى، وليس لأحد بحرب الله طاقة. والله سبحانه وتعالى دائماً ينسب إلى نفسه المكر والكيد والنصر، كما قال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16]، فينسب إلى نفسه سبحانه وتعالى وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:16].

    وقال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [النمل:50]، هكذا ينسب إليه سبحانه وتعالى.

    وقال تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الأنفال:17]، فالذي يشك في نصر الله عز وجل كأنه يشك في قدرته عز وجل، والذي يقول: إن الحرب الآن مختلفة عن الأزمان السابقة، فهي الآن حرب ذرية وحرب صواريخ وأقمار صناعية، وفي الماضي كانت الأمور بسيطة كأنه يقول: إن الله عز وجل كان قادراً على فارس والروم وهو ليس بقادر على غيرهم، وحاشا لله.

    فالحرب في حقيقتها هي بين الله عز وجل وبين من مرق عن دينه من عباده الضعفاء، وكل الأرض بكاملها في قبضته سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].

    هو المعنى الذي زرعه صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه، وهو الذي كان يغلب على لغة الحوار والخطاب من رب العالمين للمؤمنين في حال المصيبة والكوارث، وليس معنى ذلك أن نركن إلى هذا الأمر وأن النصر سيأتي لا محالة.

    1.   

    ركون الأمة إلى الدنيا سبب في ضعفها وهوانها

    واحذروا من قاعدة في منتهى الخطورة، وسنة من سنن الله اسمها سنة الاستبدال، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:38-39]، فإن تولى المسلمون استبدلهم الله عز وجل، ويكون الاستبدال على مستوى الفرد والجماعة والأمة بكاملها، فلا بد أن ينتصر دين الله عز وجل، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]، بشرط: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].

    وهذا وعد من الله عز وجل، والذي يشك في هذا الوعد فهو يشك في قدرة رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو القائل سبحانه وتعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].

    وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، فهذه كلها دلائل على أن نصر الله عز وجل لا بد أن يتحقق لمن يعمل لله عز وجل؟

    والله عز وجل مع أنه رفع الهمة وبث الأمل ونشط المسلمين فقد علم المسلمين المنهج الواقعي في معالجة الأمور، فليس معنى رفع الهمة الغفلة عن الأخطاء وعدم ذكر العيوب، لا، فلابد أن نذكر ولكن بصيغة لطيفة، ولنرفع الهمة ونصلح الأوضاع، ولنكن إيجابيين نكتشف الأخطاء ونصلحها ونرفع الهمة عند المسلمين، ولا نقرع الأبدان، ولا نلهب الظهور بالسياط، ولكن بلطف وبرقة وببث الأمل.

    يقول الله سبحانه وتعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152]، فهو يضع أمام المسلمين السبب الرئيسي للهزائم في الدنيا، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152].

    وأول آية بعد معركة بدر هي قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ [الأنفال:1].

    يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أبو داود رحمه الله عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه واصفاً داء الأمة الخطير: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)، أي: أن أهل الأرض يجتمعون على أمة الإسلام ليأكلوا منها، بل ويدعو بعضهم بعضاً للأكل منها، فلا تكتفي أمة بالأكل من أمة الإسلام ولكن تدعو غيرها للأكل من أمة الإسلام. (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    يقول في عون المعبود شرح سنن أبي داود : الغثاء: هو الوسخ الذي يعلو السيل، إذا شرّق السيل شرّق، وإذا غرّب السيل غرّب، وليس له إرادة، فهو لا يتحرك بإرادته، ولكن يتحرك بإرادة السيل، أينما ذهب السيل فهو معه.

    (ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب أعدائكم). فالأعداء يرون المسلمين ملياراً وثلث المليار ولا يكترثون بهم. (ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب أعدائكم، وليلقين في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال صلى الله عليه وسلم: حب الدنيا وكراهية الموت)، وحب الدنيا: أن يتمسك الإنسان بالدنيا ويحبها ويرتبط بها، ويكره أن يموت، ويكره لقاء الله عز وجل والموت والشهادة في سبيله الله عز وجل، فإذا وصلت الأمة إلى هذه الحالة كانت النكبات والكوارث والمصائب على رأسها، فالدنيا خطيرة، ولما فقه المسلمون قيمة الدنيا وعلموا أنها فانية زائلة، وأن الفائز حقاً هو من انتصر على نفسه وغلب دنياه وعاش لله عز وجل فقط فتح الله عليهم الدنيا بكاملها، وأعطاهم إياها وهم يزهدون فيها.

    ولقد فسر لنا خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه كيف كان ينتصر عندما بعث رسالة إلى هرمز يقول له فيها: أسلم تسلم، أو اختر لنفسك ولقومك الجزية، وإلا أتيتك برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.

    فالجيش والشعب الذي يحب الموت في سبيل الله، والأمة التي تحب الموت في سبيل الله هي الأمة التي يكتب لها الله عز وجل النصر، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

    وختاماً:

    يا من سيناديك الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! بلسان الحال أو المقال -بكليهما نؤمن ونصدق- ارفع رأسك واجبر كسرك واعلم أن الأيام القادمة لك لا عليك، وأن المستقبل لدينك لا لدين غيرك، وأن العاقبة للمتقين، واعلم أن مع الصبر نصراً، وأن مع العسر يسراً، وأن أنوار الفجر لا تأتي إلا بعد أحلك ساعات الليل، واعلم أن الله ناصرك ما دمت ناصره، ومعك ما دمت معه، وهاديك إلى سبيله ما دمت مجاهداً في سبيله، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

    فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767085924