إسلام ويب

سلسلة الأندلس عبد الرحمن الداخل صقر قريشللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد سقوط دولة بني أمية عام (132هـ) على يد العباسيين استطاع عبد الرحمن بن معاوية الملقب بعبد الرحمن الداخل أن يفلت من العباسيين، واتجه وحده جهة المغرب حتى وصل إلى البربر، ثم إلى بلاد الأندلس، وهناك أسس إمارة إسلامية مستقلة عن الدولة العباسية.

    1.   

    فترات حكم الإسلام في الأندلس منذ 92هـ - 138هـ

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    وبعد:

    فمع الحلقة الرابعة من حلقات الأندلس من الفتح إلى السقوط.

    ذكرنا في الحلقات السابقة أن فترة الأندلس تقسم إلى عهود بحسب طريقة الحكم والإدارة.

    فالعهد الأول: وهو عهد الفتح، واستمر ثلاث سنوات وبضعة شهور، فقد بدأ من سنة (92هـ) وانتهى في أواخر (95هـ).

    العهد الثاني: عهد الولاة، وهو أن الحاكم على بلاد الأندلس يعتبر والياً يتبع الخلافة الأموية للمسلمين، والتي كان مقرها في دمشق، واستمر هذا العهد من أواخر سنة (95هـ) وأوائل (96هـ) إلى سنة (138هـ)، بمعنى أنه استمر مدة 42 سنة متصلة، وهذا العهد قسمناه إلى فترتين رئيسيتين:

    الفترة الأولى: فترة قوة وجهاد ونشر للدعوة وتعليم للإسلام، وهذه الفترة استمرت من 96هـ إلى سنة 123هـ، أي: حوالي 27 سنة متصلة.

    الفترة الثانية: فترة ضعف وانحطاط للمستوى الإيماني، والمستوى الحضاري في بلاد الأندلس، واستمرت هذه الفترة من سنة (123هـ) إلى سنة (138هـ) أي أنها استمرت (15) سنة متتالية.

    وفي الدرس السابق تحدثنا عن الفترة الأولى منذ (96هـ) إلى سنة (114هـ)، وانتهى الحديث عند موقعة بلاط الشهداء والتي كانت في منطقة تسمى بواتييه في فرنسا، ومني المسلمون فيها بهزيمة، وتوقفت الفتوح في تلك المنطقة وانسحب الجيش الإسلامي، واستشهد فيها عبد الرحمن الغافقي رحمه الله تعالى.

    1.   

    الأسئلة

    أود أن أجيب عن بعض الأسئلة التي جاءت بخصوص الحلقات الثلاث السابقة.

    سبب عدم وجود ثورات في الأندلس ضد المسلمين الفاتحين

    السؤال: لماذا لم يثر أهل الأندلس على المسلمين الفاتحين في فترة عهد الفتح وأوائل عهد الولاة، مع أن الجيش الإسلامي الموجود في بلاد الأندلس كان (12) ألف مقاتل بقيادة طارق بن زياد رحمه الله، واستشهد منه ثلاثة آلاف مقاتل في موقعة وادي برباط، ثم استشهد ثلاثة آلاف آخرون في الطريق من وادي برباط إلى طليطلة، فوصل طارق بن زياد إلى طليطلة بستة آلاف فقط من الرجال.

    ثم عبر موسى بن نصير بثمانية عشر ألفاً من الرجال، وأصبح قوام الجيش الإسلامي كله في بلاد الأندلس (24) ألف مقاتل موزعين على كل مناطق الأندلس، والأندلس بلاد واسعة جداً، وتضم الآن أسبانيا والبرتغال، بل وفتح المسلمون بعض المناطق في جنوب فرنسا، فكان في كل مدينة من المدن حامية صغيرة جداً؟ فلماذا لم يثر أهل البلاد على المسلمين والطاقة الإسلامية في هذه البلاد قليلة، والجيش لا يقارن بعدد سكان المنطقة؟

    الجواب: من العجب أن يثور أهل الأندلس، وليس من العجب ألا يثوروا.

    كان أهل الأندلس قبل دخول الإسلام يعيشون في ذل عميق، وفي ضنك شديد، تنهب أموالهم فلا يتكلمون، وتنتهك أعراضهم فلا يعترضون، يتنعم حكامهم بالقصور والثروات، وهم لا يجدون ما يسد الرمق، يباعون ويشترون مع الأرض التي زرعوها بكدهم، وأكل غيرهم ثمارها.

    أيثور شعب الأندلس من أجل هذا الذي أذاقه العذاب ألواناً؟

    أيثور من أجل ظهور لذريق جديد أو غيطشة جديد أو ألفونسو جديد؟

    إذا كان من فطرة الناس الطبيعية أنهم يحبون أوطانهم؛ لما فيها من ذكريات جميلة منذ الطفولة حتى الممات، لكن في بلاد الأندلس كانت الذكريات مليئة بالجوع والعطش والسياط والتعذيب والظلم والفساد والرشوة والجبروت والكبر والسرقة والنهب.. وما إلى ذلك من الأمور التي تكره الناس في حياتهم وأوطانهم.

    ثم إن البديل المطروح البديل هو الإسلام الذي دخل على أيدي هؤلاء الفاتحين، عندما تجد رجلاً يقول لك: تعال أعطك بدلاً من الظلم عدلاً ليس هبة مني، ولكنه حق مكتسب لك ولقومك ولأهلك ولأولادك ولذريتك من بعدك، لا فرق فيه بين حاكم ومحكوم إن حدثت لك أو عليك مظلمة، والقاضي لا يفرق بين مسلم ويهودي ونصراني في الحكم، فالدين لا يرفع من قيمة الأشخاص بقدر أموالهم، ولكن يرفع بقدر أعمالهم، والأعمال مفتوحة للجميع، للغني والفقير والحاكم والمحكوم، والحاكم في الإسلام لا يفرض الضرائب على الناس وإنما الزكاة إن كانوا من المسلمين، ومقدارها ربع العشر، أي: (2.5%) في العام إن حال الحول على المال، ووجد نصاب الزكاة، والفقير المعدم لا يدفع شيئاً، بل يأخذ من بيت مال المسلمين، كيف يكون شعورك وأنت فقير معدم تدفع عشرين أو ثلاثين أو أربعين في المائة من مالك لحاكمك أو السلطان المتولي عليك، ثم تجد من يقول لك: ليس عليك أن تدفع من مالك للحاكم، بل هو لك ولأهلك ولعشيرتك إلى أن تغتني، ويكتمل الحول على مالك وكنت غنياً فتدفع الزكاة، أما إن كنت غير ذلك فستأخذ المال من بيت مال المسلمين.

    فالإسلام كان خلاصاً للشعوب، والناس في بلاد الأندلس لما رأوا هذا الإسلام تمسكوا به واعتنقوه اعتناقاً، ولم يرضوا عنه بديلاً، فكيف يحارب هؤلاء الناس من أجل من أذاقهم هذا العذاب السابق، ويضحون بهذا النعيم المقيم في الدنيا وفي الآخرة؟

    سبب خوف الكفار أصحاب المصالح في الأندلس

    السؤال: هل من المعقول أن أهل الأندلس جميعاً قد أعجبوا بهذا الدين ودخلوا في الإسلام راغبين، ولم يوجد فيهم رجل واحد يثور ويعترض ويحب ما كان له من السلطان والمصلحة؟

    الجواب: نعم، كان هناك كثير من الرجال أصحاب المصالح، الذين كان لهم كثير من الأعوان، يريدون أن يثوروا على حكم الإسلام، ويحققوا المصالح السابقة التي كانت لهم، وإنما لم يثر هؤلاء القوم؛ لأن رب العالمين سبحانه وتعالى يقول: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر:13]، فالمجاهد المؤمن في الفتوحات الإسلامية كانت له رهبة في قلوب النصارى واليهود والمشركين بصفة عامة، والمؤمن يلقي الله عليه جلالاً، فيخافه القريب والبعيد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر).

    ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر:2]، هذا الرعب لم يكن متولداً عن بشاعة الحرب، ولا عن إجرام منقطع النظير، ولكن هو هبة ربانية لجنده ولأوليائه ولحزبه سبحانه وتعالى، بل على العكس من ذلك تماماً، كانت حرب الإسلام رحمة للناس، ففي صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يودع الجيوش كان يقول: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا -أي: تأخذوا من الغنيمة قبل قسمتها- ولا تغدروا -أي: في عهد مع المشركين- ولا تمثلوا -أي: ولا تمثلوا بجثة بعد أن تقتل- ولا تقتلوا وليداً) وفي رواية: (ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة).

    أين هذا من حروب غير المسلمين مع المسلمين؟

    أين هذا من قتل مائتي ألف رجل من المدنيين في البوسنة والهرسك وفي كوسوفو؟

    أين هذا من فعل الروس في الشيشان، والهنود في كشمير، واليهود في فلسطين؟!

    إذاً: كانت حروب المسلمين رحمة للناس، ولكن الله سبحانه وتعالى ألقى على أعدائهم رهبة ورعباً من المسلمين، لا لبشاعة في الحرب، ولكن لجلال ألقي على المسلمين، لذلك اعتنق الناس الإسلام اعتناقاً، حتى من لم يدخل في دين الإسلام من اليهود والنصارى، فقد سعدوا في ظل الإسلام سعادة وأي سعادة، قال تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، فقد تركت لهم كنائسهم، وكان لهم قضاء خاص بهم، ولم يفرق بين مسلم ونصراني أو يهودي في مظلمة.

    والعجب كل العجب أن يرفض هؤلاء الناس الإسلام وحكم الإسلام، وقد جاء من عند حكيم خبير، فهو سبحانه وتعالى يعلم ما يصلح عبيده وكونه وأرضه.

    وجه تعلق الجيش الإسلامي في موقعة بلاط الشهداء بالغنائم ودخول العنصرية القبلية فيه

    السؤال: كيف تعلق الجيش الإسلامي في موقعة بلاط الشهداء بالغنائم، وتحدث مشاكل عنصرية وقبلية فيه، مع أنهم من التابعين أو تابعي التابعين، وهم قريبو عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين؟

    الجواب: قد حدث ذلك في غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة، وبلاط الشهداء كأنها أحد أخرى، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، هذه الآية نزلت في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقعة أحد، ألم يترك الرماة مواقعهم في موقعة أحد طلباً للغنيمة بعد أن أيقنوا بالنصر، ونزلوا وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلباً للغنيمة؟ قال عنهم ربهم سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، حتى إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كان يقول: ما كنت أحسب أن منا من يريد الدنيا حتى نزلت الآية: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152]. فهزم المسلمون بعد النصر، وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء، فقد دخل المسلمون في أول يومين أو ثلاثة أيام من أيام المعركة وكان النصر حليفاً للمسلمين، ثم انقلبت المعركة لما التف النصارى حول غنائم المسلمين وأخذوها، فحدثت الانكسارة لجيش المسلمين ثم هزموا.

    وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]، يقول ابن كثير على هذه الآية: أي: لم يستأصلكم في هذه الموقعة، بل أعطاكم الفرصة للقيام من جديد، وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء لم يستأصل الجيش الإسلامي، ولكنه عاد وانسحب ليقوم من جديد، فبلاط الشهداء كأنها أحد بل أكثر من ذلك، ففي غزوة بدر بعد أن انتصر المسلمون على الكفار اختلفوا على الغنائم، وهم الرعيل الأول والجيل المصاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سورة الأنفال بعد هذا النصر المجيد جاء تعظيم أمر الاختلاف على الغنائم، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، وهذا كلام شديد جداً على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هكذا أمر النفس البشرية.

    إذاً: هذه عيوب موجودة في الناس.

    والدرس والعبرة من بلاط الشهداء ومن أحد وبدر تدارك الأمر بسرعة بعد المعركة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تدارك الأمر بسرعة بعد غزوة أحد، وحمس المسلمين وذكرهم بالآخرة حتى واصلوا المسير خلف الكفار إلى حمراء الأسد، وهكذا أيضاً في بلاط الشهداء قام رجل من جديد يحمس المسلمين هو عقبة بن الحجاج رحمه الله، لكن هذا لم يكن في أرض بواتييه، إنما كان بعد العودة إلى أرض الأندلس، لذلك لم تحدث موقعة مثل موقعة حمراء الأسد مباشرة بعد بلاط الشهداء، والسبب في اختلاف موقعة بلاط الشهداء عن غزوة أحد أن غالب جيش المسلمين في بلاط الشهداء كانت الدنيا والغنائم في قلوبهم، ولذلك لم يعودوا مباشرة كما عادوا في أحد، أما في أحد فقد قال عنهم ربهم: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، ولما أشيع في غزوة أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، حدث الفرار والهزيمة والانكسار الكبير، وكذلك لما قتل عبد الرحمن الغافقي رحمه الله انسحب المسلمون من غزوة بلاط الشهداء.

    لذلك الشبه كبير جداً، والتكرار في التاريخ أمر طبيعي جداً، والهزائم شديدة الشبه، وعلى المسلمين أن يتعظوا ويعتبروا.

    أما ظهور العنصرية والقومية في ذلك الجيش، وفي ذلك الوقت المتقدم من الزمان، فإن العنصرية والقبلية قد ظهرت أيضاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلكم تذكرون الحادثة المشهورة بين أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه وبين بلال لما قال أبو ذر لـبلال : يا ابن السوداء! فسبه بشيء في شكله ولونه، وغضب بلال رضي الله عنه وأرضاه، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وقال لـأبي ذر : (يا أبا ذر ! طف الصاع إنك امرؤ فيك جاهلية، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى)، هكذا صلى الله عليه وسلم أخذ يذكره بالتقوى، فاستجاب أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه لذلك، فوضع رأسه على التراب، وأصر على بلال رضي الله عنه وأرضاه أن يطأ وجهه بقدمه حتى يكفر عن خطاياه، لكن لم يفعل بلال رضي الله عنه وأرضاه، بل غفر لـأبي ذر ، فكان ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم انتصاراً كبيراً.

    وأيضاً لما ثار الأوس والخزرج، فقال الأوسي: يا للأوس، وقال الخزرجي: يا للخزرج، وذلك بعد أن زرع بينهم شاس بن قيس زعيم اليهود الفتنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها فإنها منتنة).

    إذاً: حدثت العنصرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدارك الأمر بسرعة فذكر الناس بربهم سبحانه وتعالى وذكرهم بالآخرة.

    كذلك انظر إلى القبلية التي حدثت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي فتنة بني حنيفة، واجتماع الناس حول مسيلمة الكذاب ، فسئل رجل من جند مسيلمة الكذاب: أتعلم أن محمداً صادق وأن مسيلمة كاذب؟ قال: والله إني لأعلم أن محمداً صادق، وأن مسيلمة كذاب، ولكن كاذب ربيعة أحب إلي من صادق مضر.

    هكذا كانت القبلية تماماً في نظر هذا الرجل وأمثاله، ولو لامس الإيمان قلبه ما قال مثل هذا الكلام، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفز الناس بالإيمان، ويذكرهم بالآخرة، قال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].

    وروى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي: ألا إني جعلت نسباً، وجعلتم نسباً، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم).

    ويقول سبحانه وتعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:101-103].

    1.   

    حال المسلمين في الأندلس في آخر الفترة الأولى من عهد الولاة

    بعد موقعة بلاط الشهداء وانسحاب الجيش الإسلامي وعودته إلى الأندلس، قامت للمسلمين قائمة جديدة، فقد قام فيهم عقبة بن الحجاج السلولي رحمه الله، وتولى الولاية من سنة (116هـ) إلى سنة (123هـ)، وكان عقبة بن الحجاج السلولي رحمه الله آخر المجاهدين بحق في فترة عهد الولاة الأول، ولقد خير بين إمارة الشمال الإفريقي كله وبين إمارة الأندلس، فاختار إمارة الأندلس؛ لأنها الملاصقة لبلاد النصارى، فهي أرض جهاد، فاختار أرض الأندلس، وقاد المعارك في بلاد فرنسا في خلال سبع سنوات أكثر من سبع حملات، ثم كان ينزل إلى الأسرى بنفسه ويعلمهم الإسلام، حتى إنه أسلم على يديه ألفان من الأسرى بصورة مباشرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فكيف بألفين من الرجال الذين أسلموا على يد هذا المجاهد عقبة بن الحجاج السلولي رحمه الله؟!

    ثم استشهد في سنة (123هـ)، وباستشهاده انتهت الفترة الأولى من عهد الولاة.

    1.   

    حال المسلمين في الأندلس في الفترة الثانية من عهد الولاة

    في الفترة الثانية من عهد الولاة من سنة (123هـ - 138هـ) يبدأ عهد جديد، وبذور هذه الفترة بدأت في موقعة بلاط الشهداء من حب للغنائم، ومن تفضيل للعنصرية والقبلية.

    وفي أول هذا العهد كانت الأموال كثيرة جداً، والغنائم ضخمة جداً، فقد فتحت الدنيا وكثرت الأموال، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)، فحين فتحت زهرة الدنيا على المسلمين وانخرطوا فيها تأثر الإيمان، وتبعاً لتأثر الإيمان ظهرت العنصرية بصورة كبيرة جداً، وحدثت انقسامات كثيرة في الأندلس، فحدثت انقسامات بين العرب والبربر، وهذه البذور كانت موجودة منذ بلاط الشهداء، ثم حدثت انقسامات بين العرب أنفسهم، فحدثت انقسامات بين المضريين والحجازيين، وحدثت انقسامات بين العدنانيين والقحطانيين، فالعدنانيون هم أهل الحجاز، والقحطانيون هم أهل اليمن، فكانت هناك حروب وخلافات وشقاقات كثيرة بين أهل اليمن وبين أهل الحجاز، ثم حدثت انقسامات أخرى بين أهل الحجاز أنفسهم، أي: بين الفهريين والأمويين، وبين بني قيس وبني ساعدة، وهكذا انقسم أهل الحجاز أنفسهم بعضهم على بعض، وكخطوة لاحقة لأمر حب الدنيا وظهور العصبية ظهر أمر جديد وهو تولي ولاة ظلموا الناس، وألهبوا ظهورهم بالسياط.

    فهذه تداعيات يوصل بعضها إلى بعض، فظهر على سبيل المثال رجل اسمه عبد الملك بن قطن ، ملأ الأرض ظلماً وجوراً، فقسم الناس بحسب العنصرية والقبلية، وأذاق الآخرين ألواناً من العذاب، ولم يعط من الغنائم للبربر، ولم يعط لغير المضريين، فانقسم الناس عليه وانقلبوا، وظهر يوسف بن عبد الرحمن الفهري ، وتولى الحكم من سنة (130 هـ - 138هـ) يعني: آخر ثمان سنوات في عهد الولاة، فانفصل بالكلية عن الخلافة الأموية، وادعى أن الإمارة في الأندلس إمارة مستقلة، وأذاق الناس العذاب ألواناً، فحدثت انكسارات كثيرة جداً، وثورات عديدة في أرض الأندلس، وتفككت إلى أكثر من عشرين أو ثلاثين ثورة في داخل بلاد الأندلس.

    وسبحان الله! فقد كنت منذ قليل أتحدث عن الانتصارات الإسلامية والتاريخ المجيد، وفتح الأندلس وفرنسا، ثم ها هي العنصرية وها هو ظلم الولاة يسلم الناس إلى هذه الثورات، وكرد فعل طبيعي جداً ترك الناس الجهاد، وتوقفت الفتوحات في فرنسا، وتوقفت الحروب ضد النصارى في الشمال الغربي في منطقة الصخرة، والتي كان فيها مجموعة من النصارى متمركزين منذ الفتح الأول لبلاد الأندلس، وهذه قاعدة وسنة من سنن الله سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا).

    وجاء في حديث أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).

    وهكذا لما ترك المسلمون الجهاد سلط الله عليهم ذلاً، فانقسموا على أنفسهم وانشغلوا بأنفسهم، وتركوا الجهاد في فرنسا، والأندلس.

    وباختصار شديد فإن خلاصة النصف الثاني من عهد الولاة، ونظراً لتفاعل أمور الدنيا والقبلية وظلم الولاة وترك الجهاد كان الوضع في سنة (138هـ) كما يلي:

    أولاً: فقدان كل الأراضي الإسلامية في فرنسا باستثناء مقاطعة سبتمانيا، والتي فتحت بسرية من سرايا موسى بن نصير أول الفتح.

    ثانياً: ظهور مملكة نصرانية اسمها مملكة ليون في المنطقة الشمالية الغربية عند منطقة الصخرة.

    ثالثاً: ظهور يوسف بن عبد الله الفهري الذي أعلن انفصال الأندلس عن الخلافة العباسية القائمة في ذلك الوقت.

    رابعاً: انقسام الأندلس إلى فرق عديدة متناحرة وثورات لا نهائية، كل يريد التملك والتقسيم بحسب العنصر والقبيلة.

    خامساً: ظهور فكر الخوارج عن طريق الذين جاءوا من الشام، وانضم إليهم البربر، فالبربر كانوا يعانون من الظلم الشديد من يوسف بن عبد الرحمن الفهري؛ بسبب العنصرية بين العرب والبربر، فاضطروا إلى اتباع هذا الفكر الخارج عن المنهج الإسلامي الصحيح، فأجمع المؤرخون نتيجة هذه العوامل جميعاً أن الإسلام بالفعل كاد أن ينتهي من الأندلس، وذلك في عام (138هـ).

    1.   

    قصة دخول عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس

    مما زاد من خطورة الموقف الحدث الجسيم الذي حدث في الأمة الإسلامية في سنة (132هـ) وهو سقوط الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية، وكان قيام الخلافة العباسية قياماً دموياً رهيباً، وانشغل العباسيون بحرب الأمويين، وضاعت قضية الأندلس تماماً من الأذهان، وهكذا أصبح أمر الأندلس يحتاج إلى معجزة حتى ينصلح الحال، ومن فضل الله ومنّه وجوده وكرمه على المسلمين أن حدثت المعجزة بالفعل في ذي الحجة من سنة (138هـ)، والتي منّ الله بها على المسلمين، وهي دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك رحمه الله إلى أرض الأندلس.

    لقد دخل إلى أرض الأندلس حين سقوط خلافة بني أمية سنة (132هـ) كما ذكرنا، فقد حدث في ذلك العام قتل لكل مرشحي الخلافة من الأمراء وأبنائهم وأحفادهم من قبل العباسيين إلا قليلاً، ومن هؤلاء القليل عبد الرحمن بن معاوية حفيد هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي المشهور، الذي حكم من سنة (105هـ - 125هـ)، كان عمر عبد الرحمن بن معاوية في ذلك الوقت 19 سنة فقط، وكان يعيش في منطقة العراق، وكان لديه أخ صغير يبلغ من العمر (13) سنة، وكان عبد الرحمن بن معاوية وأخوه الوليد بن معاوية مطلوبين للقتل.

    وفي يوم من الأيام يجلس عبد الرحمن بن معاوية في بيته في العراق، فدخل عليه ابنه وكان عمره أربع سنوات، وهو يبكي فزعاً وكان عبد الرحمن بن معاوية في عينه رمد، وكان معتزلاً في غرفة داخل البيت، فأبعد الطفل عنه وأخذ يسكنه فلم يسكن الطفل بما يسكن به الأطفال، ولكنه ظل فزعاً مرعوباً، فقام معه عبد الرحمن بن معاوية فوجد في خارج البيت رايات الدولة العباسية السود تعم القرية جميعاً، فعلم أنه مطلوب، فأخذ معه النقود وأخذ الوليد بن معاوية ، وترك النساء والأطفال وكل شيء وراء ظهره؛ لأن العباسيين لم يقتلوا نساء ولا أطفالاً، إنما كانوا يقتلون كل من بلغ وكان مؤهلاً للخلافة، ثم هرب عبد الرحمن بن معاوية وأخوه حتى وصلا إلى نهر الفرات، فوجدوا القوات العباسية تحاصر النهر، فألقيا بأنفسهما في النهر وأخذا يسبحان، فناداهما العباسيون أن ارجعا ولكما الأمان، فـالوليد بن معاوية أخو عبد الرحمن بن معاوية كان قد تعب من السباحة في نهر الفرات، فقال له عبد الرحمن بن معاوية : لا تعد يا أخي! أخشى أن يقتلوك، فقال: قد أعطونا الأمان، فعاد إليهم، فأمسك به العباسيون وقتلوه أمام أخيه عبد الرحمن بن معاوية ، فعبر عبد الرحمن بن معاوية النهر وهو لا يستطيع أن يتكلم أو يفكر من شدة الحزن، ثم اتجه نحو المغرب إلى بلاد القيروان؛ لأن أخواله كانوا من البربر، فهرب إلى أخواله، وقصة هروبه طويلة جداً، فقد عبر بلاد الحجاز ومصر ثم ليبيا ثم القيروان، ولما وصل إلى القيروان وهو يبلغ من العمر (19) عاماً، وجد هناك ثورة كبيرة جداً للخوارج على رأسها عبد الرحمن بن حبيب في الشمال الإفريقي كله، وقد استقل بالشمال الإفريقي عن الدولة العباسية التي قامت في سنة (132هـ)، وكان عبد الرحمن بن حبيب أيضاً يسعى للقضاء على عبد الرحمن بن معاوية ؛ لأن هناك كراهية شديدة بين الخوارج وبين الأمويين، لأن أصل ظهور الخوارج هو خلاف بين سيدنا علي بن أبي طالب وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما؛ لأن علي بن أبي طالب ارتضى أن يحكم كتاب الله سبحانه وتعالى بينه وبين معاوية بن أبي سفيان في موقعة صفين المشهورة، فظهر فكر الخوارج من ساعتها، فهم يكرهون بني أمية بشدة، فبمجرد أن وصل عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان اجتمع عليه الخوارج وكادوا أن يقتلوه، فهرب من جديد إلى برقة في ليبيا، ومكث هناك أربع سنوات كاملة مختبئاً عند بعض أخواله، حتى سنة (136هـ)، وكان عمره آنذاك (23) سنة، فجلس يفكر: ماذا أعمل؟ هل أظل مختفياً طيلة العمر، أم ظهر من جديد؟

    وإن ظهر في أي قطر من أقطار المسلمين فهو مطلوب الرأس، إن ظهر في الشام قتله العباسيون، وإن ظهر في الشمال الإفريقي قتله عبد الرحمن بن حبيب .

    أيظل مختبئاً في مكانه وهو سليل الخلفاء والأمراء؟!

    أيظل مختبئاً في مكانه والأمويون في كل مكان يقتلون ويذبحون إن عرف بمكانهم، أم يحاول أن يقيم للأمويين مجداً من جديد؟!

    أسباب اختيار عبد الرحمن بن معاوية لبلاد الأندلس

    لقد خطر في ذهن عبد الرحمن بن معاوية أن يذهب إلى الأندلس، لأنها أصلح الأماكن لاستقباله وذلك لعدة أسباب:

    أولاً: أن الأندلس أبعد رقعة في بلاد المسلمين عن الدولة العباسية.

    ثانياً: أنه يفصل بين الأندلس وبين العباسيين مضيق جبل طارق والبحر الأبيض المتوسط، وهي في قارة مختلفة تماماً، فمن الصعب أن يصل إليها العباسيون إلا بعد فترة من الزمان.

    ثالثاً: أن الوضع في الأندلس ملتهب جداً، وقد تحدثنا عنه في الفترة الثانية من عهد الولاة، وهي الفترة التي هرب فيها عبد الرحمن بن معاوية إلى برقة في ليبيا، ففي هذه الفترة كانت ثورات كبيرة جداً في أرض الأندلس، وخلافات كبيرة جداً بين كل القبائل، والناس تكره بشدة يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي يحكم هذه البلاد مستقلاً بها عن الدولة الأموية ثم عن الدولة العباسية بعد قيام الدولة العباسية، ثم ظهرت مملكة ليون في الشمال، وهي أيضاً تحارب المسلمين، ثم ظهر الخوارج في الشمال الإفريقي وهم يحاربون الأندلس، وهكذا أصبحت أرض الأندلس أرضاً ملتهبة تماماً، وفي هذا الجو استطاع عبد الرحمن بن معاوية أن يدخل هذه البلاد، فلو كانت البلاد تبايع الخلافة العباسية أو الخوارج ما استطاع أن يدخلها.

    إذاً: الأندلس أنسب الأماكن لاستقبال عبد الرحمن بن معاوية على وعورتها.

    خطة عبد الرحمن بن معاوية لدخول الأندلس

    بدأ عبد الرحمن بن معاوية يخطط لدخول الأندلس في سنة (136هـ) بما يلي:

    أولاً: أرسل مولاه بدر إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثرة في الحكم في بلاد الأندلس.

    ثانياً: راسل كل محبي الدولة الأموية في أرض الأندلس عن طريق مولاه بدر .

    والحق أن كثيراً من الناس كانوا يحبون الدولة الأموية منذ عهد ولاية معاوية بن أبي سفيان على الشام في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب ، وخلافة عثمان بن عفان وخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، فقد كان أهل الشام جميعاً، وكان المسلمون في أقطار العالم الإسلامي المختلفة يحبون بني أمية حباً شديداً على مر العصور، فقد اشتهر بنو أمية بالسخاء الشديد، والسياسة والحكمة واكتساب الناس، وحسن معاملتهم والجهاد في سبيل الله، ونشر الدين، وفتح البلاد.. وما إلى ذلك من الأمور، فكان لبني أمية في داخل بلاد الأندلس كثير من المريدين والمحبين من القبائل الأخرى المختلفة.

    ثالثاً: في ذكاء شديد راسل البربر يطلب معونتهم ومساعدتهم.

    وقد كان البربر على خلاف كبير جداً مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري ؛ لأنه فرق بين العرب والبربر، فالبربر يريدون أن يتخلصوا من حكم يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي عاملهم بهذه العنصرية.

    رابعاً: بدأ يراسل كل الأمويين في الحجاز وفي مصر وفي السودان وفي أماكن كثيرة جداً من الأرض التي هربوا إليها، ويعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول بلاد الأندلس، ويطلب معونتهم ومددهم .. وهكذا بدأ يجمع الناس ويجمع الأفكار معه لتنفيذ فكرة عجيبة جداً، وهي أن يدخل وهو وحيد بمفرده مستصحباً لعزمه فقط إلى أرض الأندلس، وهذا أمر في منتهى الغرابة جداً، وهذا كان في سنة (136هـ) وكان قد بلغ من العمر (23) عاماً.

    وبالفعل بدأ في تجميع الأعوان حتى سنة (138هـ) أي: أن مدة التجميع استغرقت سنتين.

    وفي سنة (138هـ) يأتي له رسول من عند مولاه بدر من الأندلس يقول له: إن الوضع قد تجهز لاستقبالك هناك في بلاد الأندلس، فيقول له: ما اسمك؟ فيقول: اسمي غالب التميمي ، فاستبشر باسمه فقال: الحمد لله! غلبنا وتم أمرنا.

    وبدأ يعد العدة ويجهز السفينة التي تأخذه منفرداً إلى بلاد الأندلس، فركب السفينة ونزل على ساحل الأندلس بمفرده، فاستقبله مولاه بدر ، وانطلق معه إلى قرطبة، وكان يحكم هذه البلاد في هذه الآونة يوسف بن عبد الرحمن الفهري .

    موقعة المسارة بين عبد الرحمن بن معاوية ويوسف بن عبد الرحمن الفهري

    لما دخل عبد الرحمن بن معاوية أخذ في تجميع الناس من حوله من محبي الدولة الأموية من البربر وكثير من القبائل المعارضة لـيوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقد جاءه بعض الأمويين من بقاع الأرض المختلفة، ومع ذلك لم يكن العدد كافياً يستطيع به أن يغير من الأوضاع، ففكر في اليمنيين؛ لأنهم كانوا على خلاف مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري، فـيوسف بن عبد الرحمن الفهري من مضر من الحجاز، وعبد الرحمن بن معاوية أيضاً من مضر من بني أمية، أي: أن كلاهما من الحجاز.

    فبدأ يراسل اليمنيين، فقبلوا أن يتحدوا مع عبد الرحمن بن معاوية ، وكان على رئاسة اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي، وكان المقر الرئيسي لهم إشبيلية، وكانت إشبيلية مدينة كبيرة جداً من حواضر الإسلام في ذلك الوقت، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى إشبيلية، واجتمع طويلاً مع أبي الصباح اليحصبي ، واتفقا على أن يقاتلا سوياً ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقبل القتال أرسل عبد الرحمن بن معاوية رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب وده، ويطلب منه أن يسلِّم له الإمارة؛ لأنه حفيد هشام بن عبد الملك أصل الخلافة الأموية، ويكون رجلاً من رجاله في بلاد الأندلس، ولكن يوسف بن عبد الرحمن الفهري رفض ذلك كلياً، وجمع جيشاً له، وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية ، فاجتمع عبد الرحمن بن معاوية مع اليمنيين ومن معه من القبائل المختلفة في حرب يوسف بن عبد الرحمن الفهري وذلك في موقعة كبيرة عرفت في التاريخ باسم موقعة المسارة، وفي لفظ: موقعة المصارة، (بالسين أو بالصاد)، وقد كان هذا في ذي الحجة سنة (138هـ).

    وكان من المؤسف جداً أن يلتقي المسلمون بسيوفهم، لكن كثرة الثورات والفتن والانقلابات جعل الحل العسكري والحل بالسيف هو الحل الحتمي في ذلك الوقت.

    دارت موقعة كبيرة بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري ومعه جيش كبير، وجيش عبد الرحمن بن معاوية ويعتمد في الأساس على اليمنيين، فسمع أبو الصباح اليحصبي بعض المقالات من اليمنيين أن عبد الرحمن بن معاوية غريب على البلاد، وهو على فرس أشهب وعظيم، وإن حدثت هزيمة هرب من ساحة القتال وتركنا للفهريين، فبلغ عبد الرحمن بن معاوية هذا الكلام، وكان عمره آنذاك (25) عاماً، فذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي وقال له: إن هذا الجواد سريع الحركة ولا يمكنني من الرمي، فإن أردت أن تأخذه وتعطيني بغلتك فعلت، فأعطى الجواد السريع إليه وأخذ البغلة يقاتل عليها، فقال اليمنيون: هذا ليس بمسلك رجل يريد الهرب، هذا رجل يريد أن يموت في ساحة المعركة، فبقي معه اليمنيون وقاتلوا قتالاً شديداً، ودارت موقعة عظيمة جداً، وانتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية ومن معه، وهزم يوسف بن عبد الرحمن الفهري من أرض المعركة بجيشه الكبير، وفر يوسف بن عبد الرحمن الفهري ، وكعادة الناس في ذلك الزمن أن يتابع المنتصرون المنهزمين حتى يقتلوهم ويقضوا على الثورة، فبدأ اليمنيون يجهزون أنفسهم حتى يتتبعوا الجيش الفار، لكن عبد الرحمن بن معاوية يقف لهم ويمنعهم من تتبع الفارين ويقول قولة خالدة: لا تتبعوهم، اتركوهم، لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوة منهم.

    يقصد أن يستبقوهم للنصارى، فإن الموقعة الرئيسية ستكون مع النصارى، فإن هؤلاء الذين قاتلوننا في يوم من الأيام سيصبحون من جنودنا، وسيصبحون أعواننا على غيرنا من النصارى في ليون وفي فرنسا.. وما إلى ذلك.

    كان عنده فكر واسع وجديد جداً، ونظرة متسعة تشمل كل بلاد الأندلس، وتشمل كل أوروبا، بل وفي نظري أنه ينوي إعادة بلاد الشام بعد ذلك إلى أملاك الأمويين، وقد امتاز في حربه ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري بما يلي:

    أولاً: ليس في قلبه غل ولا حقد على من كان حريصاً على قتله منذ دقائق معدودات.

    ثانياً: الفهم العميق للعدو الحقيقي وهم النصارى في الشمال.

    ثالثاً: إذا جاز له شرعاً أن يقاتلهم لتجميع الناس حول راية واحدة، فلا يجوز له شرعاً أن يتتبعهم وأن يقتل الفار منهم، أو يجهز على جريحهم، أو يقتل أسيرهم؛ لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام، وليس لهم حكم المشركين، والباغي في الإسلام لا يتتبع الفار منه، ولا يقتل أسيره، ولا يجهز على جريحه، بل ولا تؤخذ منه الغنائم.. وهكذا، فقد كان عنده فقه وعلم وسعة اطلاع وفهم عميق جداً، وهو لم يبلغ من العمر إلا خمسة وعشرين سنة.

    وبعد انتهاء موقعة المسارة، قام أبو الصباح اليحصبي في قومه من اليمنيين وقال: الآن قد انتصرنا على يوسف بن عبد الرحمن الفهري ، وجاء وقت النصر على غيره، يعرض بـعبد الرحمن بن معاوية لكن اليمنيين لم يوافقوه على ذلك، وقالوا: إن هذا الرجل ليس بالبسيط، وتصل هذه الأنباء إلى عبد الرحمن بن معاوية ، فأسرها في نفسه ولم يبدها لهم، لم يعلمهم أنه علم أنهم يفكرون في قتله، بل أخفاها وأصبح على حذر شديد من أبي الصباح اليحصبي ؛ لأنه لا يريد أن يحدث خللاً في الصف في هذه الأوقات، لا يريد أن يحدث خللاً بين الأمويين وبين محبي الدولة الأموية من اليمنيين، فهو يريد أن يجمع الناس لحرب النصارى وبعد إحدى عشرة سنة من هذه الأحداث عزل أبا الصباح اليحصبي من مكانه، واستطاع أن يتملك الأمور.

    وبعد موقعة المسارة والسيطرة على منطقة قرطبة والجنوب الأندلسي، لقب عبد الرحمن بن معاوية بـعبد الرحمن الداخل ؛ لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكماً، فعرف في التاريخ بـعبد الرحمن الداخل رحمه الله، وله كثير من الأيادي البيضاء على الإسلام كما سنرى.

    ومنذ أن استلم عبد الرحمن بن معاوية الأمور في بلاد الأندلس عرفت هذه الفترة بفترة الإمارة الأموية، وسميت إمارة؛ لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية، سواء في عصر الخلافة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.

    بدأ عبد الرحمن الداخل ينظم الأمور في بلاد الأندلس، بعد أن استولى على منطقة قرطبة ومنطقة الجنوب الأندلسي، وكما ذكرنا أن هناك ثورات كثيرة جداً في أرض الأندلس، وفي أماكن كثيرة ومتعددة، سواء في الشرق أو في الغرب أو في الشمال، فأخذ عبد الرحمن الداخل رحمه الله بصبر شديد وبأناة عجيبة يراود الثورات واحدة تلو الأخرى، يستميل بعض القلوب ويحارب الآخرين بحسب الظروف، فقد قامت عليه في فترة حكمه أكثر من خمس وعشرين ثورة، وهو يقمع هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى بنجاح عجيب، بدأ في حكم البلاد من سنة (138هـ) حتى عام (172هـ) أي: حوالي 34 سنة متصلة، وتركها وهي من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفة عامة.

    1.   

    موقف العباسيين من الإمارة الأموية بالأندلس

    لن نستفيض في شرح الثورات ضد عبد الرحمن الداخل وماذا حصل في كل ثورة؟ فالكتب فيها تفصيلات كثيرة، لكن أقف عند ثورة واحدة لأهميتها في فهم هذا الانفصال الذي حصل للأندلس عن الخلافة العباسية، هذه الثورة حدثت في سنة (146هـ)، أي: بعد حوالي ثمان سنوات من استلام عبد الرحمن بن معاوية للحكم في بلاد الأندلس، قام بها رجل اسمه العلاء بن مغيث الحضرمي ، أرسله أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي كي يقتل عبد الرحمن بن معاوية ويضم الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية، وهذا بالنسبة لـأبي جعفر المنصور أمر طبيعي، يريد أن يضم بلاد الأندلس؛ لأنها البلاد الوحيدة من بلاد المسلمين التي هي منشقة عن الخلافة العباسية الكبيرة.

    جاء العلاء بن المغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي، وعبر إلى الأندلس، وقام فيها بثورة ينادي بدعوة العباسيين، ويرفع الراية السوداء التي أرسلها الخليفة أبو جعفر المنصور الذي يعتبر الخليفة العباسي الثاني، أو المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح .

    دارت حرب كبيرة بين العلاء بن مغيث الحضرمي وبين عبد الرحمن بن معاوية ، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية ، ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي أن العلاء بن المغيث الحضرمي قد قتل، وأن جيشه قد هزم هزيمة منكرة، فقال أبو جعفر المنصور : قتلنا هذا البائس، بتكليفه بحرب عبد الرحمن بن معاوية ، ثم قال: ما لنا في هذا الفتى من مطمح، ويقصد به عبد الرحمن بن معاوية ، وليس لنا أمل في حربه، والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر.

    ومنذ هذه اللحظة والدولة العباسية لم تفكر ولا مرة واحدة في استعادة بلاد الأندلس، بل إن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمى عبد الرحمن بن معاوية بـصقر قريش، وقد اشتهر في التاريخ بـصقر قريش، كان أبو جعفر المنصور جالساً مع أصحابه فسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟ فقالوا له: أنت، فقال: لا. فعددوا له أسماء حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان وأسماء من بني أمية. فقال: لا، بل عبد الرحمن بن معاوية ، دخل الأندلس منفرداً بنفسه مؤيداً برأيه مستصحباً لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلداً أعجمياً، فجمع الأنصار وجند الأجناد، وأقام ملكاً بحسن تدبيره وشدة عزمه.

    هكذا كان أبو جعفر المنصور معجباً بـعبد الرحمن بن معاوية ، لكنه إعجاب اضطرار، لا بد أن في نفوسنا وفي نفوس جميع المسلمين أشياء وأشياء على هذا الانفصال الطويل بين دولة الأندلس وبين الخلافة العباسية على مر العصور، لماذا يحارب عبد الرحمن بن معاوية الرجل الورع التقي الزاهد الذي أقام دولة قوية جداً في بلاد الأندلس؟ ولماذا ينفصل عن الخلافة العباسية؟

    والتحليل الصادق هو أن الدولة العباسية هي التي أخطأت خطأ فاحشاً في حق الأمويين بقتلهم، وتتبعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية، إذا كان الأمويون في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقوا الاستبدال، فليكن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من المفترض أن تحتوي الدولة العباسية هذه الطاقات الأموية وتوظفها لخدمة الإسلام والمسلمين، بدلاً من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب في صقع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس.. أو غيرها من بلاد المسلمين، وكان من المفترض ألا تفرط في قتل المسلمين من بني أمية، وهي تعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

    ما المانع أن تقيم الحد على من يستحق أن يقتل من بني أمية، ثم تترك وتستوعب الآخرين؟!

    ما المانع أن تعطي بني أمية بعضاً من الملك، كإمارة مدينة أو إمارة ولاية، فقد كانوا خلفاء وأبناء الخلفاء، حتى يستوعبوهم في داخل الصف؟

    انظر إلى عبد الرحمن الداخل في موقعة المسارة وهو يقول للناس: اتركوهم لا تتبعوهم؛ لأنه كان يريد أن يضمهم إلى جيشه بعد ذلك، هكذا كان يجب على العباسيين أن يتركوا الأمويين تحت عباءتهم، حتى يستطيعوا أن يكونوا جنداً لهم، تخيل أن شخصاً مثل عبد الرحمن بن معاوية بهذا الفكر وهذا النضوج وهذا الجهاد يكون عوناً للخلافة العباسية، لكنه أصبح ضد الخلافة العباسية؛ بسبب هذا القتل المفرط من الدولة العباسية في بدء نشأتها، بل انظر إلى المثل الأعلى والقدوة الخالدة والأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، بعد أن طرده كفار مكة وشردوه وآذوه لمدة سنوات، فيقول عن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه: (من دخل دارأبي سفيان فهو آمن)، وأبو سفيان هذا هو الذي كان زعيماً للمشركين في أحد وفي الأحزاب؟

    وإنما يقول هذا الكلام، ليضمه إلى صفه صلى الله عليه وسلم، ثم انظر إليه لما قابل رءوس الكفر في مكة، وقال لهم: (ما تظنون أني فاعل بكم؟! قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).

    وليس هذا فقط من كرم الأخلاق، ولكن أيضاً من حسن السياسة.

    تخيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع رءوس هؤلاء الذين حاربوا دين الله لمدة سنوات، كان سيحدث خللاً وانشقاقاً في داخل مكة، وكان أهل مكة سينتهزون الفرصة تلو الفرصة للانقلاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللانفلات من الخلافة الإسلامية.

    وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت جزيرة العرب جميعاً، ولم يبق على الإسلام إلا ثلاث مدن وقرية، المدينة المنورة والطائف ومكة وقرية هجر.

    مكة ثبتت على الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تدخل في الإسلام إلا منذ أقل من ثلاث سنوات، لكن الفعل الذي فعله صلى الله عليه وسلم فيهم ترك أثراً لا ينسى، فقد استوعبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في داخل الدولة الإسلامية، ولو فعل العباسيون ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لاستوعبوا الأمويين في داخل الخلافة العباسية، لكن لم يفعلوا، فاضطر الأمويون للذهاب إلى الأندلس، والانشقاق بها عن دولة المسلمين.

    ماذا يحدث لو سلم عبد الرحمن بن معاوية للعلاء بن مغيث الحضرمي ؟ لو كان يضمن أنه سوف يعفى عنه ويعطى إمارة الأندلس أو غيرها من الإمارات تحت لواء الدولة العباسية لفعل، لكنه كان يعلم أنه لو قبض عليه قتل في الحال، وقتل من معه من الأمويين الذين كانوا مرشحين للخلافة، وهذا بالطبع جعله يحاول مرة وثانية وثالثة أن يبقى جهاده ضد الدولة العباسية وهذا أمر مؤلم، وحلقة مفرغة دخل فيها المسلمون، نتيجة العنف الشديد من الدولة العباسية في بدء عهدها.

    والدولة العباسية بعد هذا البدء غيرت كثيراً من طباعها، وتولى الأمور بعد ذلك رجال كثيرون حافظوا على النهج الإسلامي في التغيير، بل إن أبا جعفر المنصور نفسه في آخر عهوده كان قد غير ما بدأ بالمرة، فقد كانت هناك قسوة شديدة؛ من أجل أن يستتب لهم الأمر في البلاد، فمن خرج عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ستكون العاقبة دائماً الخسران، هكذا فقد المسلمون دماءً كثيرة، وطاقات كثيرة، وفقدوا الأندلس، ولم تعد مدداً للمسلمين طيلة عهودها.

    والعنف في غير محله لا يورث إلا عنفاً، وطريق الدماء لا يورث إلا الدماء، والسبل كثيرة، ولكن ليس إلا سبيل واحد مستقيم، قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].

    كان هذا هو موقف عبد الرحمن الداخل رحمه الله من الخلافة العباسية، وموقفه من الثائرين، لكن يا ترى ما هو موقفه من بلاد الأندلس بصفة عامة؟ وكيف غير من الأوضاع في بلاد الأندلس، بعد التفكك الشديد الذي حدث فيها في آخر عهد الولاة؟ ثم كيف كان موقفه مع بلاد النصارى في الشمال، سواء مملكة ليون أو مملكة فرنسا؟

    هذا حديث قد يطول نؤخره إن شاء الله للدرس القادم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755969038