إسلام ويب

حاجتنا إلى التربيةللشيخ : محمد الدويش

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تكثر الشهوات وتتوالى الفتن والمغريات، ويتكالب أعداء الدين على إتاحة الفساد والعمل المؤسسي لإضلال الشباب، ومن هنا تأتي الحاجة للعمل من أجل هذا الدين بصورة جماعية، وذلك بأن يجمع الشمل وتتكاتف الجهود على تربية الشباب وتزويدهم بالمعاني الإسلامية والقيم الأخلاقية العليا.

    1.   

    الحاجة إلى التربية

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أرسله الله منقذاً للبشرية من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، ومعلماً ومربياً للبشرية ومزكياً لها، وما عرفت البشرية معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً ولا تربية منه صلى الله عليه وسلم.

    أما بعد:

    أيها الإخوة! إن الحديث عن التربية حديث ملح، ومطلب له أهميته، ذلك أننا نشهد -ولله الحمد- في عالمنا الإسلامي صحوة إسلامية طيبة مباركة، هذه الصحوة التي تنوعت مظاهرها ومجالاتها، وعمت العالم بأسره، لا العالم الإسلامي وحده، إنها صحوة تعلن لكل متأمل وناظر لها أن الإسلام قادم؛ ليحكم حياة الناس، وأن الإسلام قادم ليتبوأ المكانة التي اختار الله سبحانه وتعالى هذه الأمة لها.

    وإننا ينبغي أن نقف وقفات طويلة مع أنفسنا، وأن نتمعن في مسيرة هذه الصحوة، وأن نراجع الحسابات بين الفينة والأخرى.

    إن العاطفة وحدها لا يمكن أن تكون مقياساً لمسيرتنا، ولا يمكن أن تكون قائداً لدعوتنا، إنها إذا لم تربط بالمنهج، والعلم الشرعي، والتربية، والاستقامة، قد تقودنا إلى مهالك.

    ومن هنا كان لزاماً علينا أن نتحدث عن التربية التي نحتاج إليها جميعاً، نحتاج إليها لأنفسنا، سواء كنا شباباً أو شيباً، رجالاً أو نساءً، يحتاج إليها المربي ليربي من ولاه الله أمانته ومسئوليته، أخاً كان أو تلميذاً أو ابناً، أو حتى هذا المجتمع العريض، إنه يتلقى تربيته من قادة هذا المجتمع خطيباً، أو متحدثاً، أو كاتباً، أو محاضراً.

    وعناصر هذه المحاضرة هي:

    مقدمة لا بد منها.

    ماذا نعني بالتربية؟

    من يمارس التربية؟

    سؤال يفرض نفسه.

    مسوغات مطالبتنا بالتربية.

    لم يكن أسلافنا بمعزل.

    نريد باختصار.

    مقدمة بين يدي هذا الموضوع:

    إنني حين أتحدث عن التربية هنا لست أتحدث حديث مختص، فلست أتحدث عن تلك التربية التي أصبحت علماً خاصاً له أصوله ونظرياته، وله قواعده ومنهجه في البحث، إنما نعني بالتربية هنا أن يسلك المرء بنفسه المنهج الشرعي، ويربيها على أوامر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى أخلاقيات هذا الدين.

    وما أطرحه هنا أيضاً ليس نظرية تربوية متكاملة، وليس حديثاً عن أبعاد التربية، وأهدافها، ومجالاتها، وجوانبها، إنني أريد أن أصل إلى نتيجة واحدة باختصار هي: أن يخرج السامع وهو على قناعة بأننا بحاجة إلى التربية.

    هذا ما أريد أن أتحدث عنه، ومن هنا فليس هذا وقت الحديث عن أهداف التربية، أو جوانبها، ومجالاتها، والأخطاء التربوية .. إلى غير ذلك، غاية ما نريد أن نصل إليه أن نقنع أنفسنا أننا بحاجة إلى التربية.

    ماذا نعني بالتربية

    إن التربية التي نتحدث عنها والتي ترد في مصطلحات الدعاة إلى الله عز وجل، ومصطلحات من يتخاطب مع جيل الصحوة هي أبعد من أن تكون نظريات فلسفية، أو مفاهيم سلوكية مجردة.

    إنها تعني الصياغة المتكاملة للفرد والمجتمع على وفق شرع الله سبحانه وتعالى، أن نصوغ الفرد بدءاً بصلته بالله سبحانه وتعالى، وأخلاقه، وسلوكه، ومهاراته، وقدراته العلمية والاجتماعية، وتعامله مع الناس، فهي تعني باختصار إعادة بناء الفرد، وإعادة بناء المجتمع بناءً مستقيماً وفق شرع الله سبحانه وتعالى.

    من يمارس التربية

    إن الإنسان أياً كان لا بد أن يتعرض للتربية، والتربية ليست بالضرورة تربية إيجابية، فقد تكون تربية سلبية، وقد تكون تربية على مفاهيم خاطئة، وقد تكون تربية منحرفة، لكن الناس كل الناس لا بد أن يتعرضوا للتربية، إما تربية ذات منهج وخطا واضحة، أياً كان هذا المنهج، قد يكون منهجاً للإصلاح والخير والاستقامة، وقد يكون منهجاً يراد به الإفساد، ويراد به الانحراف، كما نلمس الآن في المناهج التي تخاطب بها الأمة، حيث نشروا الفساد والرذيلة، وعملوا على محاصرة أبواب الخير، وهي -لاشك- جهود منظمة لإحداث إخلال تربوي في وسط هذه الأمة.

    ولعل جزءاً من الأمراض التي تعاني منها الأمة كان نتيجة لتلك التربية السلبية، أو تلك التربية السيئة المتعمدة، أقول: قد تكون التربية تربية مقصودة ذات أهداف وخطا واضحة، سواء كانت تربية إيجابية أو كانت خلاف ذلك، وقد تكون أموراً ارتجالية غير مقصودة، ولكنها تربي الإنسان شاء أم أبى.

    هذه التربية تمارسها طوائف شتى في المجتمع، وليس صحيحاً أن التربية منحصرة في إطار المؤسسات التربوية، فالمؤسسات التربوية جزء -ولاشك- ممن يمارس التربية، ولكننا حين نتأمل نجد أن الذين يمارسون التربية أصناف، الأب والأم في المنزل يمارسان التربية، أياً كانت هذه التربية، مقصودة أو غير مقصودة، فالأب أحياناً يساهم في تربية ابنه على الانحراف، وعلى عدم القيام بأوامر الله سبحانه وتعالى، وعلى أن يكون عبداً لشهواته وأهوائه، من خلال تلك القدوة السيئة التي يراها الابن من أبيه، أو من خلال ما ييسره الأب ويسخره لابنه من وسائل الإفساد، فهو هنا يمارس تربية سيئة.

    وقد يمارس الأب أيضاً تربية سيئة من جانب آخر، فيقتل شخصية الابن؛ فيخرج الابن مسحوق الشخصية، لا يمكن أن يستقل في تفكير ولا رأي ولا قرار، ويتعود الابن أن يكون مقلداً للآخرين، محاكياً للآخرين، ضعيف الشخصية، لا يستطيع أن يتخذ أي قرار في حياته.

    وقد يربي الأب أو الأم الولد على الجبن والخوف والهلع، فيحسب ألف حساب لكلمة يريد أن يقولها، أو موقف يريد أن يعمله، وحين نعود إلى حياة السلف نرى كيف كان السلف يربون أبناءهم على الشجاعة والتضحية، وكيف كان الجبن والهلع صفة ذم ينتقص بها الإنسان عندما يذم ويهجى.

    وأحياناً يربي الأب ابنه على معاني الفضيلة، والحياء، والخلق الفاضل، والعفة، وعلى طلب العلم الشرعي، والسلوك الإسلامي، المهم أن الأب يمارس تربية لابنه، سواء كان مثقفاً، أو كان غير مثقف، وسواء كانت تربية مدروسة ذات أهداف وخطط وبرامج واضحة، أو كانت تربية ارتجالية.

    والشيخ الذي يدرس العلم الشرعي هو الآخر يربي، وليس صحيحاً أن الشيخ في حلقته وفي درسه العلمي لا يزيد على أن يلقي جوانب علمية مجردة، بعيدة عن المفاهيم التربوية والسلوكية، بعيدة عن تربية المنهج العلمي عند الطالب.

    ولهذا عندما تتأمل وتقرأ في سيرة عالم من العلماء، ترى بصمات شيخه واضحة عليه، من خلال عباراته، ومن خلال ترجيحاته واختياره، ومن خلال جوانب الضعف العلمي لديه، ترى بصمات ذاك الشيخ الذي لازمه طويلاً ظاهرة عليه، سواء كانت سلباً أو إيجاباً؛ لأن الشيخ يمارس تربية مع التعليم.

    كذلك المؤسسات التربوية: المدارس، ودور الرعاية، والدور الاجتماعية، كل هذه المؤسسات التربوية أيضاً هي الأخرى تمارس التربية.

    وكذلك تجمعات الشباب، سواء كانت هذه التجمعات تجمعات خيرة، كفئة من الشباب يجتمعون على حفظ القرآن، أو على تدارس العلم الشرعي، ويكون بينهم تجمعات ولقاءات داخل المدرسة وخارجها، أو داخل الحي وخارجه، أم كانت من التجمعات الفوضوية، فتجمعات الأحياء والشوارع والسوقة هي الأخرى أيضاً تمارس تربية، فهي تربي المنتمي لهذه المجموعة على معانٍ سائدة داخل هذا الوسط الاجتماعي المصغر الذي تعيشه هذه المجموعة، وعادة ما تكون تربية مثل هذه المجتمعات -أعني مجتمعات الشوارع- تربية سلبية.

    المهم أن التجمعات أياً كانت تمارس تربية، وتصبغ الفرد من خلال هذا الجو العام السائد على هذه المجموعة، سواء كانت سلبية أو إيجابية.

    كذلك الموروثات الاجتماعية من آداب وتقاليد يرثها الناس ويتوارثها المجتمع، فتصبح جزءاً مستقراً في كيان هذا الشخص، فأنت ترى مثلاً مجتمعاً ألف الكرم والسخاء والجود، فترى مثل هذه الجوانب تظهر على كل فرد يخرج من هذا المجتمع، وترى مجتمعاً تربى على الشجاعة والإرادة فترى أفراده كذلك.

    وبالعكس، ترى مجتمعاً تربى على الجبن والخوف والبخل وبذاءة اللسان، فترى أيضاً هذه الموروثات تصبغ هذا المجتمع بصبغة معينة من خلالها يتربى الفرد، ويتأثر من خلال هذه الموروثات التي يرثها من مجتمعه.

    وكذلك وسائل الإعلام: التلفاز، الفيديو، الإذاعة، أياً كانت هذه الوسائل، فهي الأخرى تمارس تربية.

    والفرد نفسه يمارس تربية لنفسه، من خلال عبادته، وتعامله مع الناس، ومحاسبته لنفسه، ومن خلال تلك المعاني التي يغرسها في نفسه أياً كانت هذه المعاني.

    إذاً: فالتربية -كما قلنا- ليس صحيحاً أنه لا يمارسها إلا المؤسسات التربوية، أو الأساتذة، أو التربويون، فالجميع يمارس التربية، حتى الفرد نفسه، وقد تكون هذه التربية -كما قلت- مدروسة، وقد تكون غير مدروسة، المهم أنها تربية.

    1.   

    القناعة بأهمية التربية

    سؤال يفرض نفسه:

    إن الحديث عن التربية ووضع أسسها وأهدافها وبرامجها، كل ذلك فرع عن القناعة بجدواها، فما مدى قناعتنا بجدوى التربية؟ وما مدى شعورنا بأهمية التربية؟

    إننا بحاجة إلى التربية، وإن جيلنا مهما ارتقى ومهما بلغ من مستوى فهو بحاجة إلى التربية.

    أقول: إننا يجب أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال، والقضية لا يمكن أن نجيب عليها بـ (نعم) أو (لا)، فمستوى القناعة يتفاوت عند الناس، فما لم يكن لدينا قناعة تامة بأهمية التربية، وحاجتنا إليها وضرورتها؛ فإن الحديث عن أهدافها وعن أسسها وبرامجها، والحديث عن الجوانب التربوية يعتبر من فضول الحديث؛ لأن هذا -كما قلنا- إنما هو فرع عن شعورنا وقناعتنا بأهمية التربية.

    1.   

    مسوغات المطالبة بالتربية

    كثرة الفتن والمغريات

    بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الأساسية والمقصودة من خلال عرض هذا الموضوع، ألا وهي: مسوغات مطالبتنا بالتربية.

    نحن حينما نطالب بالتربية، ونرى أننا بحاجة إليها، فما المسوغات التي تدفعنا لذلك؟

    عندما نقول: إن جيل الصحوة يجب أن يعتني بالتربية، وأن توجه له التربية، وأن تقوم مؤسسات ودراسات وبحوث وجهود لتأصيل النظرية التربوية المتكاملة، ومن خلال برنامج عملي أيضاً، وألا تكون القضية مجرد كلام وطرح نظري معرفي فقط، أقول: عندما نطالب بذلك فإن لنا حججاً ومسوغات:

    أولها: كثرة الفتن والمغريات:

    إن الشاب الآن يتعرض لفتن كثيرة خاصة في مرحلة المراهقة وما يعقبها، ومن هنا فتراه يعيش صراعاً مع نفسه، وصراعاً مع شهواته، وصراعاً مع هذه الفتن والمغريات التي تؤزه أزاً للفساد وتدفعه دفعاً، ويرى أن هناك عوامل عدة تدفعه دفعاً إلى الرذيلة والفساد، فيرى وسائل الإثارة والإغراء، بدءاً بالأفلام والتلفاز.

    وها نحن أقبلنا على خطر داهم يدركه الجميع ألا وهو البث المباشر، فأصبح الشاب الذي قد لا يكون خرج من مدينته، بل قد لا يكون جاوز قريته يدير التلفاز ومحطات الاستقبال، فينقله إلى أوروبا وأمريكا ودول الكفر والإلحاد؛ ليرى الإباحية والتفسخ والانحلال.

    وهو خطر قادم أشعر أننا لم ندرك حقاً حجم خطورته، وأشعر أن تعاملنا مع هذا الخطر دون مستوى خطورته، وأخشى أيها الإخوة! أن نحصد النتيجة مرة، من خلال خسارتنا لعفاف بناتنا، وعفاف أبنائنا، وهي قضايا لسنا نتحدث عنها من خلال مبالغة، وها نحن نرى نماذج مرة من الانحلال والفساد والتفسخ والجريمة إنما تحصل من خلال هذه المغريات وهذه المثيرات التي يراها الشاب أو تراها الفتاة.

    كم جنينا وعانينا من جراء أفلام الفيديو، والتي تتعرض لمراقبة أياً كانت هذه المراقبة، لكنها تتعرض لمراقبة، وقد يصعب على الشاب الحصول على الفلم الذي يريد، ولكن الآن أصبح العالم كله يعرض بين يديه دون مراقبة، ودون استثناء، في الطعن في عقيدته وأخلاقه وسلوكه، وتعليمه أساليب الجريمة، وسائل الإثارة والإغراء والفتن تعرض أمام ناظريه، فماذا يفعل هذا الشاب؟!

    وحينما يذهب إلى أي محل تجاري يرى تلك المجلات الساقطة التي زينت أغلفتها بصور النساء تعرض أمامه، حينما يذهب يمنة ويسرة يرى هذه الفتن تدعوه وتؤزه أزاً.

    إن الشاب الملتزم المستقيم يعيش معاناة لا يعلمها ولا يدركها إلا هو، واسمحوا لي أيها الإخوة! لأقول: إن الكثير من الآباء، بل الكثير من الأساتذة، بل الكثير من أهل التوجيه يعيشون بمعزل عن عمق المعاناة التي يعاني منها الشاب، والجحيم الذي يعيشه، ومن هنا فأنت ترى أسئلة الشباب كثيرة، تدور حول الثبات، ومعاني الثبات، والخشية من الانحراف, إلى غير ذلك.

    لا شك أن هذا سؤال يبعث على الفهم، ونحن حينما نرى الشاب يشعر بعمق الخطر، لا شك أن هذه بداية لمواجهة هذا الخطر، ولكن مثل هذا التساؤل الذي يطرحه الشاب كثيراً، إنه نتيجة إفراز معين عن شعور من تلك المعاناة العميقة التي يعاني منها الشاب، والتي للأسف لا يجد الشاب من يشاركه هذه المعاناة، فيتحدث مع أبيه، ويطرح على أبيه مطالب، فيرى أنه يعيش في وادٍ ووالده يعيش في وادٍ آخر.

    إن الأب يحاكم هذا الشاب المراهق التي تتوقد الشهوة لديه، وقد أشرعت الفتن ناظريها أمام عينيه، يحاكم هذا الشاب إلى نفسه، وإلى عقليته، وإلى ظروفه، وإلى مرحلته التي عاشها، وقد تكون هذه المرحلة مضت بكل مشاعرها ومغرياتها وبكل الفتن وكأنها حلم أو رؤيا رآها، غير أنه عاش مرحلة ومجتمعاً يختلف عن هذا المجتمع، وهذه المعاناة التي يعاني منها الشاب.

    أقول أيها الإخوة: إن هذه المعاناة، وهذه الفتن والمغريات التي أصبحت تعصف بالشباب يمنة ويسرة من أهم المسوغات التي تدعونا إلى المطالبة بالتربية الجادة والعميقة، إن هذا الشاب يواجه ألواناً من الفتن والمغريات والضغوط التي تدعوه وتؤزه إلى الفساد، فحينئذٍ يحتاج إلى الثبات، ويحتاج إلى ما يعينه، ليس ثم إلا تلك التربية القوية التي تربي عند الشاب الخوف من الله سبحانه وتعالى، والتضحية لله عز وجل، والصبر، والتحمل، وضبط النفس، والإرادة، كل هذه المعاني بحاجة إلى أن تغرس عند الشاب؛ حتى تكون سلاحاً له بعد توفيق الله سبحانه وتعالى وتثبيته، حتى يقف أمام هذه المغريات وهذه الشهوات.

    ولعل قراءتنا وتأملنا السريع في السيرة تعطينا القناعة بذلك، حينما تتأمل مثلاً في حادثة الردة، ترى أن الذين ارتدوا عن الإسلام هم أولئك الذين دخلوا في الإسلام حديثاً، هم أولئك الذين قال الله عز وجل عنهم: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].

    فبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت قبائل من العرب، ولكن أهل المدينة ومكة ومن حولهم من الأعراب الذين قال الله عز وجل عنهم: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [التوبة:120].

    أولئك لم نر أحداً منهم ارتد؛ أهل بدر، وبيعة العقبة، وبيعة الرضوان، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لم نر أحداً منهم عاش هذه الردة اللهم إلا حالات نادرة جداً، لماذا؟ لأن أولئك تعرضوا لتربية قوية عميقة، أما تلك الجموع فكانت يوم أن دخلت في الإسلام حديثاً، ولم تترب التربية الكاملة، ومن هنا عندما جاءت أول فتنة هزت تلك الجموع التي كانت قناعتها غير متكاملة بعد في هذا الدين.

    ضخامة الدور المنوط بالصحوة

    الجانب الثاني أو المسوغ الثاني من مسوغات مطالبتنا بالتربية: ضخامة الدور المنوط بالصحوة:

    إن إعداد الشاب المسلم أبعد من مجرد تخريج فرد ملتزم بالإسلام بحد ذاته، إننا حينما نعد الشاب فإننا نعد الصف الأول على مستوى الأمة الذي يطلب منه أن يساهم في إنقاذ الأمة، وأن يساهم في إعادة صياغة مجتمعات المسلمين، وأن يساهم في إعادة بناء مجتمعات الأمة، وهو هدف ضخم وبعيد لا يمكن أبداً أن يقوم إلا من خلال تربية، وإعداد متكامل، لا يمكن أن يقوم به مجرد شخص يحمل عواطف جياشة، وحماسة ثائرة.

    إن ذاك التفكير الذي كنا نفكر به سابقاً، وتلك النظرية التي كنا نطرحها أحياناً كنوع من التخدير، والتي تعني أن القضية ببساطة أن يصلح الفرد، وتصلح الأسرة، ويصلح المجتمع، وتصلح الأمة، إنه تفكير ساذج، وتفكير غير واقعي، ولماذا لا تتحول النظرة إلى أسلوب آخر، إننا حين نفكر بهذه العقلية نحتاج إلى مدى وإلى قرون متطاولة؛ لأنك أنت تعمل وتملك وسائل محدودة في حين إن تيارات الفساد تملك وسائل وأبواب لا تملك أنت واحداً، أو جهدك ووسائلك ومجالاتك لا توازي واحداً فقط من تلك الأبواب التي يملكها دعاة الفساد وأهل الفساد.

    فماذا تصنع مع هذا الزخم الهائل؟

    إذاً: لماذا لا نفكر بعقلية أخرى؟! ولماذا لا يكون هدفنا هدفاً آخر؟! لا أن نعد مجرد الفرد الملتزم بالإسلام، بل نعد الفرد العامل للإسلام، نعد الفرد الذي يرى أنه ينبغي أن يصلح، فبدلاً من أن نعد فرداً يتخلى عن تقصيره وإهماله ومعصيته، ويقتصر على التزامه الشخصي، ينبغي أن يتحول هدفنا إلى أن نعد فرداً يدعو إلى الله عز وجل، أن نعد فرداً عاملاً، فرداً مصلحاً يساهم معنا في دفع العجلة، وأن الجهد المنوط بالدعوة والصحوة جهد ضخم، لا يمكن أبداً أن يقتصر على فئة من الناس وفئة من البشر.

    مع عدم إهمالنا للإصلاح المجرد، لا شك أن إنقاذ مسلم واحد من الضلال والانحراف يعتبر إنجازاً، ويعتبر هدفاً بحد ذاته، وأنت ترى النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى عمه أبي طالب وهو عند الموت، فيدعوه إلى الإسلام ويلح، وماذا سيحصل الإسلام وتحصل الأمة من إسلام أبي طالب مثلاً في تلك اللحظة، إنه رجل على فراش الموت، ولكن إنقاذ فرد من النار يعتبر مكسباً وهدفاً.

    جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى شاب يهودي يحتضر فعاده صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام وأسلم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).

    لا شك -كما قلت- أن إنقاذ الفرد المسلم أياً كان من النار، بل إنقاذه من معصية واحدة عمل وإنجاز، ولكن ينبغي ألا يكون هذا هو الهدف الوحيد، وأن نتجاوزه إلى هدف أبعد مدى، فبدلاً من أن يكون الهدف مجرد تخريج إنسان ملتزم بالإسلام بسلوكياته وأخلاقه أن نهدف إلى أن نخرج رجلاً عاملاً للإسلام، داعياً إلى الله سبحانه وتعالى، أن نخرج الصف الأول الذي يقود الأمة.

    المعاني الكبيرة التي يحتاج المسلم إلى أن يتربى عليها

    المسوغ الثالث: هناك معانٍ كبيرة يحتاج إليها الإنسان في حياته العادية، فضلاً عن مسلم، فضلاً عمن يراد منه أن يساهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويساهم في قيادة الأمة.

    الصبر: يسهل أن تتحدث عن الصبر في خطبة، في درس، في كتاب، في مقالة، في أي مكان يمكن أن تتحدث عن الصبر، ولكن أيها الإخوة! الصبر معنىً عميق يجب أن تتربى عليه النفوس، الصبر الذي نريد يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى جهد وتربية، وليست قضية تقف عند مجرد طرح معان معرفية، يقول الله عز وجل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

    فالصبر إذاً معنىً يحتاج إلى أن يتواصى على تحقيقه والوصول إليه.

    التأني والروية، وعدم الاستعجال، الكرم، الشجاعة، المبادرة، الثقة بالنفس، أدب الحوار، معانٍ كثيرة يمكن أن نطرحها طرحاً نظرياً مجرداً، ونتحدث عن هذه المعاني، ونتذكر الصور من التاريخ من القديم والحديث، ولكن لا تتصور أن هذا وحده كافٍ بأن تغرس هذه المعاني عند النفوس أبداً، إن هذه المعاني بحاجة إلى تربية من الفرد نفسه، ومن الأستاذ، ومن الأب، ومن الجميع أن يتربى الفرد على الصبر، ويتربى على الكرم، ويتربى على الشجاعة، ويتربى على المبادرة والثقة في النفس.

    هذه المعاني -كما قلت- يحتاجها الإنسان العادي؛ حتى يعيش حياة سوية، فضلاً عن المسلم، فضلاً عمن نريد منه دوراً أعظم من ذلك كله، نريد منه أن يساهم في قيادة الأمة.

    من السذاجة أيها الإخوة! أن نتصور أننا يمكن أن نصل إلى هذه المعاني وأن نحققها من خلال الطرح النظري المجرد، ومن خلال الحديث العاطفي، الجميع يجيد الحديث عن ذلك، ولو طلبت من أحد الإخوة الحضور أن يتحدث عن جانب من هذه الجوانب لأشبعه حديثاً، ولكن هذا شيء والتربية عليه شيء آخر، مع عدم إهمالنا أيضاً للطرح المعرفي والنظري، فهو خطوة أولى في طريق التربية.

    هذه المعاني -كما قلت- لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال التربية.

    تأمل مثلاً في السيرة النبوية مرة أخرى، فهناك معانٍ تربى عليها الجيل الأول من خلال الميدان، من خلال العمل والواقع، ولم تكن تعرض هكذا عرضاً أجوف، اقرأ في القرآن مثلاً لترى أن القرآن يربي الأمة من خلال الأحداث والمواقف.

    كانت حادثة الإفك حدثاً هز المجتمع كله، وصار حديث الناس كلهم، فانظر كيف تربت الأمة من خلال هذا الحدث على معاني التثبت، والتأني، وحسن الظن بالمؤمنين، إلى غير ذلك من تلك المعاني العميقة التي لو طرحت طرحاً مجرداً لم يكن أثرها في النفوس مثلما كان من خلال التربية بالحدث.

    معاني النصر والهزيمة التي تراها تطرح مثلاً في سورة الأنفال بعد أحداث غزوة بدر، ولا يزال رنين السيوف في آذان المسلمين، في ذلك الوقت سمعوا الحديث عن معاني النصر والهزيمة، وحقيقة الحياة الدنيا، وسمعوها بعد غزوة أحد، وجراحهم لا تزال تنزف، وقتلاهم لم يدفنوا بعد، تنزلت تلك الآيات التي تتحدث عن معاني النصر والهزيمة، والتمحيص، والحياة الدنيا، والتعلق بها .. إلى غير ذلك.

    تلك المعاني التي تربى عليها الجيل الأول من خلال الحدث، من خلال الميدان، لم تكن معاني مجردة تطرح على الناس وهم في بيوتهم، أو في المساجد أو في المدارس.

    عمق الخلل التربوي في المجتمع

    المسوغ الرابع لمطالبتنا بالتربية: عمق الخلل التربوي في المجتمع:

    لو نحينا جانباً الانحرافات والخلل الشرعي الموجود في المجتمع من خلال التقصير في الأوامر الشرعية، ومن خلال ارتكاب المعاصي، وحرمات الله عز وجل، مع أننا نعتبر أن هذا أكبر خلل، لكن نريد جانباً آخر نغفل عنه له أهميته، وهو جانب المعاني التربوية التي يحتاج إليها الإنسان.

    مثلاً: مجتمعاتنا تربي الفرد على الاتكال على الآخرين، وغياب الروح الجماعية، فأنت ترى مثلاً مؤسسة أياً كانت هذه المؤسسة أهلية أو حكومية تفكر بعقلية الرجل الواحد، فالمدير هو كل شيء في هذه المؤسسة، هو الذي يفكر، وهو الذي يتخذ القرار، وهو الذي يعمل، وكل عامل في هذه المؤسسة لا يرى أن عليه أي مسئولية تجاه مثل هذه المؤسسة.

    حتى داخل قطاع الصحوة عندما تأتي مثلاً إلى الجهود الدعوية، وترى المؤسسات الدعوية، تراها أيضاً هي تقاد من خلال الرجل الواحد.

    فالفرد يشعر باتكالية، ولا يشعر بأي مسئولية، يرى أن المسئولية تقع على فلان.

    عندما تأتي إلى الأسرة ترى أن كل شيء على الأب، ولا تكاد ترى من يشعر بالمسئولية المشتركة والمسئولية الجماعية.

    ونتج عن ذلك خلل في معان شرعية مهمة، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح، فهذا الآخر كنتيجة من نتائج هذه التربية، حيث يشعر كل إنسان أنه غير مسئول عن هذا المنكر فينهى عنه، ولا عن هذا المعروف والأمر به، إنما المسئول فلان.

    الفردية: فلا نحسن العمل الجماعي مطلقاً، قد ترى عملاً جباراً من خلال فرد وشخص نشيط وقوي ومفكر وعامل، أما عمل جماعي فعلاً فتكاد تراه، وإذا رأيت عملاً جماعياً منتجاً ترى وراءه فرداً واحداً.

    أما أن تكون هناك جهود متكاتفة ومجتمعة فهذه حالات نادرة، هذا مرض من الأمراض التي تعاني منها مجتمعات المسلمين.

    التعصب: التعصب مرض ترثه الأمة، التعصب لإقليم، لقطر، لبلد، لحزب، وأياً كان هذا التعصب فهو مرض من أمراض الأمة، ونادراً ما ترى أحداً يخلو منه.

    النظرة العاطفية المجردة: أي: أن تقييمنا للأمور تقييم عاطفي، فعندما يحصل حدث من الأحداث التي تمر بها الأمة فإننا نحلل الحدث تحليلاً عاطفياً، ونطرح حلولاً عاطفية، ويكون تعاملنا مع الأحداث بعاطفة، فليس عندنا عمق للتفكير، ولا عمق في الحلول، ولا في العمل، كل أمورنا دائماً تسير وراء العاطفة.

    الثقة بالنفس، المبادرة، الكرم، الشجاعة، معانٍ كثيرة نرى أن هناك خللاً تربوياً في المجتمع، وأن هذه المعاني بحاجة إلى تصحيح، وبحاجة إلى تربية أيضاً هي الأخرى، فكلما ازداد هذا الخلل في المجتمع ازدادت ضرورة المطالبة بالتربية والحاجة إليها.

    الخلل في واقع الصحوة

    المسوغ الخامس: الخلل في واقع الصحوة:

    إن الصحوة قطعت خطوات طيبة مباركة، ولكنها لا تزال تعاني من أمراض، وتعاني من مشاكل كثيرة، فحدث واحد يمكن أن يهز قطاع الصحوة، كأن يأتي إنسان ويطرح كلمة تشكك الكثير بقناعات تربو عليها فترة طويلة، يمكن أن يأتي إنسان يشكك في قيادات الصحوة، ويشكك في منطلقات، ويشكك في بدهيات، وفي قضايا كثيرة، ويجب أن يستجيب له، ويسمع له، فهذه الاستجابة والسماع مظهر من مظاهر المرض الذي تعاني منه الصحوة.

    أمراض كثيرة تعاني منها الصحوة لست بحاجة إلى الحديث عنها، ويجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، نعم نحن نرى آثار الصحوة طيبة وظاهرة، ولا ينكرها إلا مكابر، ولكن هناك أمراض، وهناك خلل يجب أن نعترف به، ويجب أن نكون صرحاء، وألا ننتظر الحديث من أعدائنا، ولا ننتظر النقد من الآخرين.

    هذا المرض وهذا الخلل الموجود داخل الصحوة لا يمكن أن نصححه إلا من خلال التربية العميقة والتربية التي تكون عن قناعة تامة، أما إذا كانت الأمور مجرد عاطفة ومجرد حماسة ثائرة، وأعمال مرتجلة فلا يمكن أبداً أن نعالج مثل هذا الخلل وهذا الخطأ، بل سيزيد الخلل عمقاً، بل هذا الخلل إنما هو نتيجة إهمال التربية ابتداءً.

    الانفصام الواقع في المؤسسات التربوية بين النظرية والتطبيق

    ومن المسوغات الانفصام الواقع في المؤسسات التربوية بين الأهداف النظرية والتطبيق العملي، فأنت مثلاً عندما تأتي إلى المؤسسات التربوية، وتقيم المنهج والخطة النظرية ترى أنها خطة عالية وأهداف عالية.

    خذ على سبيل المثال أهداف التعليم في المرحلة الثانوية، أو في المرحلة المتوسطة، تراها أهدافاً عالية، وهي تربية الشاب على الجهاد، وعلى المعاني الإسلامية، والأخلاق الفاضلة، وارجعوا إلى سياسة التعليم وخطة التعليم؛ لتروا كيف أنها أهداف متميزة؛ لكن عندما تأتي إلى الواقع العملي ترى أن هناك مسافة شاسعة بين تلك الأهداف النظرية وبين الواقع العملي.

    مثلاً: قد لا أبالغ إذا قلت: إنك يمكن أن تجد أستاذاً يدرس منهجاً من المناهج سنوات عديدة وهو لا يعرف أهداف المنهج، ولم يطلع على أهداف المنهج وخططه.

    قد ترى مثلاً موجهاً تربوياً، أو ترى شخصاً يقوم بالتخطيط التربوي، فتجد أنه يعيش في واقع نظري بحت بعيداً عن الواقع العملي، وترى العزلة بين الأستاذ والموجه، وبين من يقوم بالتخطيط، ترى أن الأستاذ أصبح يتصور أن عمله مجرد مهنة يتقاضى عليها راتباً، والموجه هو الآخر كذلك، ومن يقوم بالتخطيط التربوي، ومن يتولى المؤسسات التربوية أياً كانت فإن قطاعاً عريضاً من هؤلاء يتعامل مع هذا العمل على أنه مهنة مجردة يتقاضى عليها راتباً، فلا تسأل بعد ذلك عن نتيجة تربية مثل هذا الإنسان الذي ينظر هذه النظرة التربوية.

    أقول: إن هناك خللاً في المؤسسات التربوية من خلال جوانب عدة، من خلال المسافة الشاسعة بين النظرية والتطبيق، فقد يكون التأصيل النظري جيداً ورائعاً، ولكن الخلل في العمل والتطبيق، بل قد ترى أستاذاً له سنوات طويلة في المرحلة الثانوية لو تسأله عن أهداف التعليم في المرحلة الثانوية لا يعرف الأهداف.

    إذاً: لماذا نضع نحن هذه الأهداف حبراً على ورق، تسأله عن أهداف المنهج لا يعرف أهداف المنهج، فضلاً عن تطبيقه لها وسعيه إليها.

    توسع مجالات الدعوة

    المسوغ الأخير: توسع مجالات الدعوة وجوانبها:

    هذا التوسع أدى إلى نتائج منها:

    النتيجة الأولى: التوسع الأفقي لجيل الصحوة، وازدياد قوافل التائبين، الذين يمثلون خلفيات تربوية متناثرة، فهذا رجل كان مدمن مخدرات، هذا رجل كان صاحب فساد أخلاقي، هذا رجل جاء من الشارع.

    المهم أننا نرى أفواجاً من التائبين والعائدين والمنخرطين في سلك الصحوة، والذين يمثلون خلفيات تربوية متناثرة، هذا الجيل وهذه الأفواج أليست بحاجة إلى التربية؟ أليست بحاجة إلى جهد يغسل عنها غبار الماضي؟

    لا ينبغي أن نفْرط في السذاجة، ونتصور أن هذا الشاب الذي عاش سنوات طويلة في الفساد وفي تلك التربية السيئة أنه من خلال قناعة عاجلة وقناعة سريعة تحول إلى إنسان مصلح، وإلى شاب مستقيم لمجرد ذلك التغير في مظهره، لا.

    أقول: ازدياد قوافل التائبين، وازدياد التوسع الأفقي لجيل الصحوة، مع أنه أمر يبعث على الفأل، فإنني أشعر أننا لا نتعامل معه إلا من خلال نظرة واحدة فقط، وهي نظرة التفاؤل، ونظرة الحديث بإفراط عن هذه القوافل العائدة إلى الله، وهذه نظرة سليمة وإن كانت تحتاج إلى نوع من التوازن، أعني: هل فكرنا تفكيراً آخر، وهل طرأ يوم من الأيام على ذهننا أن هذه الأفواج المتقاطرة والوافدة بحاجة إلى تربية، بحاجة إلى غسل أوضار الماضي، بحاجة إلى إعداد؛ حتى لا تكوِّن بعد ذلك خللاً من الداخل، وحتى لا تمارس بعد ذلك الفساد وتمارس الخلل في الصحوة من الداخل، فتضرب الصحوة من خلال هؤلاء الذين لا يملكون إلا مجرد العاطفة فقط؟

    كذلك النتيجة الثانية لسعة مجالات الدعوة وجوانبها:

    كثير من الطاقات الدعوية والعاملة انشغلت في هذه البرامج العامة التي تخاطب الجماهير، وتتحدث مع الجماهير، مما أدى إلى فقدان جهودها التربوية، كانت هناك طاقات كثيرة موظفة في الميدان التربوي والعمل التربوي، وكانت تمارس التربية للشباب أياً كان ميدان هؤلاء، ولكن مع سعة مجالات الدعوة انفتحت أبواب، فتفرغت وانشغلت كثير من هذه الطاقات لملء ذاك الجانب وذاك الجانب العام، ونحن لا نهمل هذا الجانب، ولكن نحن الآن فقدنا طاقات.

    والمفترض مع زيادة قوافل التائبين والعائدين، ومع التوسع الأفقي للصحوة أنا نحتاج إلى عدد أكثر ممن يمارس التربية، فأصبحنا نجد أننا نعاني من النقص والقصور في هذه الطاقات، ونعاني أيضاً من ازدياد الحاجة التي لا تفي بها تلك الطاقات السابقة.

    كذلك الكثير من الجوانب والمجالات العامة لها نتائج مغرية وبريق عاجل يغري الشباب، مثلاً قد ترى بعض جوانب الدعوة الجماهيرية التي تتم عن طريق مخاطبة الجماهير، وتحريك عواطف الناس، لها نتائج عاجلة، ولها بريق عاجل قد يغري، فيتوجه الكثير إلى مثل هذه المجالات.

    إنها مجالات مهمة لا ينبغي أن تهمل، ولكن لا ينبغي أن تكون هي المجال الوحيد، ولا ينبغي أن ننخدع بها ونترك المواقع المهمة، ونهمل التربية والعناية بالإعداد؛ لأجل الانخداع والسير وراء مثل هذا البريق العاجل، والبريق اللامع.

    وذلك أن الجهد التربوي يحتاج إلى عمل طويل وبعيد ونتائج، ثم نتائجه مع ذلك غير منظورة، فمثلاً: أستطيع أن أصور لك التربية مثل الطفل في البيت، كل يوم ينمو، لكنك لا تشعر بهذا النمو ولا تقيسه، لكن الإنسان البعيد عندما يرى ابنك بعد سنة يقول: لقد تغير ابنك.

    الآن لو قلت لإنسان: نريدك أن تحمل بقرة من الدور الأسفل إلى الدور العلوي لم يقدر؛ لكن لو كان يحملها كل يوم منذ أن ولدت، يحملها اليوم، وعندما يأتي من الغد سيحملها وهكذا، فسيجد أنه بعد فترة يحمل تلك البقرة الكبيرة.

    أقول: التربية تمتاز بميزتين:

    أولاً: أنها تحتاج إلى عمل طويل، وجهد مضن، ثم نتائجها غير منظورة ولا قريبة، فليست مثل العمل العام والجماهيري الذي نتائجه واضحة وسريعة، ومن هنا فإذا كانت التربية تحتاج إلى جهد، وعمل طويل، ونتائجها غير سريعة ولا مغرية فإن الإنسان الذي تربى على الاستعجال، ويريد الثمرة عاجلة، تغريه النتائج العاجلة، ومن هنا فسينصرف الكثير عن الميدان التربوي؛ نظراً لأنهم يخدعون ببريق العمل الجماهيري، والأعمال العامة التي يجد أن الآلاف والجميع يهتدون ويصيرون وراء هذا العمل، فيهمل ذاك الجانب المهم.

    مرة أخرى: أنا لا أهمل هذه الأعمال، وأرى أنها كلها مهمة، لكن أن تكون هي النظرة التي ننظر إليها، وألا ننظر إلا بهذه العين، وأن نحتقر العمل التربوي من خلال الانخداع ببريق العمل الجماهيري أيضاً، فهذا خطأ.

    كذلك أيضاً النتيجة الرابعة من نتائج توسع مجالات الدعوة: قيادات المستقبل لابد أن تكون من قواعد وجيل الحاضر:

    فنحن نحتاج إلى قيادات تقود الدعوة على كافة المستويات، قيادات علمية، قيادات دعوية، قيادات فكرية، قيادات على المستويات العليا، قيادات وسيطة، لابد أن تقود هذه الصحوة قيادات، وليس صحيحاً أن القيادات هي القيادات العليا من شخص أو شخصين فقط قيادة علمية وقيادة فكرية، لا، فإننا سنحتاج إلى قيادات على مستويات أقل، إلى أن نصل إلى آخر حد.

    هذه القيادات لابد لها من تربية، والجيل الذي نراه الآن سيكون هو القيادات في المستقبل، فإما أن يكون قيادة قوية متربية، أو يكون قيادة متخلفة لا تملك إلا العاطفة، ولا تملك إلا الحماسة المجردة.

    بعد هذه المسوغات أتصور أننا وصلنا إلى نوع من القناعة في أهمية التربية والحاجة إليها.

    1.   

    لم يكن أسلافنا بمعزل

    ننتقل بعد ذلك إلى عنصر آخر بعنوان: لم يكن أسلافنا بمعزل:

    أتصور أن قضية الحديث عن التربية والحاجة إليها والضرورة إليها قضية بدهية

    وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

    ولسنا بحاجة إلى الاستشهاد والاستدلال، لكننا أصبحنا نجد من يشغب علينا كثيراً عندما نطرح مثل هذه القضايا، ويفاجئك بأن هذه قضية فيها نظر، وهذه قضية فيها كذا، وهذه قضية فيها كذا، فنحتاج إلى التأصيل والاستشهاد العلمي للقضايا البدهية التي لا تحتاج إلى استدلال، فنقول مثلاً:

    الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل عنه: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، هذه التزكية هي تربية النبي صلى الله عليه وسلم.

    النبي صلى الله عليه وسلم له وظائف: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، مناقشة التعليم والكتاب والحكمة وتلاوة القرآن معروفة، لكن التزكية ما معناها وما المقصود بالتزكية؟ المقصود بها التربية.

    فإذاً: وظيفة من وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم تربية الأمة، وإلا كان يمكن أن ينزل بالقرآن ملك، ولكن أنزل الله عز وجل رسولاً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق حتى يربي الناس، ويعيش مع الناس في عواطفهم ومشاعرهم، وأنت عندما ترى تربية النبي صلى الله عليه وسلم العلمية على سبيل المثال، تراه صلى الله عليه وسلم ما كان مجرد إنسان يعطي معلومات علمية مجردة، بل كان صلى الله عليه وسلم يربي عند أصحابه الاستنباط، يربي عند أصحابه منهج التلقي، عند أصحابه المنهج العلمي، منهج السؤال، أدب السؤال.

    ما نريد أن نستطرد، لكن أعطيكم أمثلة سريعة على تربيته العلمية صلى الله عليه وسلم، فهو مثلاً كان يربي التفكير عند أصحابه والاستنباط، فيسأل يوماً من الأيام يقول: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، ومثلها مثل المسلم، فأخبروني ما هي؟)، يقول ابن عمر : فوقع الناس في شجر البوادي. يعني: كل إنسان يقول: الشجرة الفلانية، فذهب وهلي إلى أنها النخلة، وكنت أصغر القوم فاستحيت.

    الآن هنا النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكن أن يقول: مثل المسلم مثل النخلة، لكنه يضرب لهم مثلاً ما هي هذه الشجرة؛ حتى يتربون على التفكير، على الاستنباط، على الاستدلال، وهكذا يربي أصحابه على منهج التلقي، على منهج السؤال، على أدب السؤال.

    المهم أن تربية النبي صلى الله عليه وسلم العلمية هذه بحد ذاتها بحاجة إلى حديث مستقل، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذاً لم يكن مجرد إنسان وبشر مجرد يعطي معلومات جافة ومجردة، بل كان رسولاً معصوماً، وكان بشراً يعيش مشاعر البشر، ويربي الناس كما قال الله عز وجل: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2].

    مجالس العلماء: كانوا يقولون ويوصون طالب العلم:

    أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد

    فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد

    ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد

    فهو يقول: اكتسب علماً وحلماً، القضية ليست العلم وحده.

    ويقول ابن سيرين رحمه الله: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.

    ويقول الحسن : إن كان الرجل ليخرج في أدب واحد السنة والسنتين.

    وأوصى حبيب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال: يا بني! اصحب الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم، فإنه أحب إلي من كثير من الحديث.

    وروى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن أنه قال: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث.

    والآثار عن السلف في ذلك كثيرة، كان أحدهم يقول: صحبت فلاناً لا لأتعلم منه، ولكن لأعرف سمته وهديه ودله.

    فما كانت مجالس العلماء مجالس مجردة تعطي معلومات جافة، إنما كانت تعلم وتؤدب وتربي.

    ولعل أيضاً مما يدلنا على ذلك الكتب التي صنفها العلماء في أدب العالم والمتعلم، وهي كتب كثيرة، منها مثلاً ما صنفه الخطيب ، منها كتاب ابن جماعة تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وهي كتب كثيرة ترى أن علماء السنة وعلماء الحديث دائماً إما أن يضمنوها باباً من أبواب كتبهم التي تتحدث عن العلم وفضله، أو أن يفردوا لها تصنيفاً مستقلاً وكتاباً مستقلاً في أدب العالم والمتعلم، ويعلمون طالب العلم أدب الطلب، وترى أن هذه الآداب تحمل أبواباً شتى، من العبادة، وحسن الخلق، والتعامل مع الشيخ، وليست حتى مجرد آداب تقتصر على آداب التلقي العلمي المجرد، بل هي آداب سلوكية، آداب في عبادة الإنسان، وهذا جزء من التربية، وعناية السلف بالتربية.

    كذلك الكتب التي تعنى بالمدارس، وآداب معلم الأطفال، وما يحتاج إليه معلم الأطفال، وأهل المدارس وآدابها، وهي كتب كثيرة أيضاً يعرفها أهل الشأن في ذلك.

    المهم أن السلف لم يكونوا بمعزل، قد تختلف الأساليب، وقد تختلف الوسائل، وقد تختلف المؤسسات، لكن الهدف واحد، ومع تطور المجتمعات، وتطور العلوم، وتوسع مجالات الحياة، نحتاج إلى أن نتعامل مع هذا التطور بما لا يخالف الشرع، وهذه أمور من أمور الوسائل التي مبناها على الاجتهاد بشرط ألا تخالف نصاً شرعياً، وألا تتضمن ابتداعاً في الدين، وألا تتضمن ارتكاب محظور ظاهر ومحرم ظاهر، وما سوى ذلك فالأصل للمسلم أن يستعمل أي وسيلة متاحة للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ما دامت هذه الوسيلة مباحة وليست محرمة.

    1.   

    متطلبات في طريق التربية

    العناية بموضوع التربية

    بعد ذلك أقول: نريد باختصار.

    وبعد هذا العرض المختصر والمقتضب لهذا الموضوع نريد العناية بموضوع التربية، دراسة وحديثاً وتأصيلاً وعملاً، فنريد أن نعتني بهذا الموضوع، وأن نتحدث كثيراً عن التربية، ونحرص على أن نتعرف على أهداف التربية، وعلى خطط التربية، وعلى برامجها ووسائلها.

    وضع أهداف تربوية واضحة

    الجانب الثاني: ضرورة وضع أهداف تربوية واضحة محددة يسير عليها جيل الصحوة:

    ترى الكثير يتساءل: علام يتربى الشباب؟

    للأسف أتصور أنه مع هذه المرحلة الزمنية الطويلة التي قطعناها الآن ليست هناك أهداف واضحة محددة أمام الشباب ليعرفوا على ماذا يتربون.

    ولهذا تجد الأستاذ المربي يتساءل: ما هي الأولويات التربوية؟ وما هي الأهداف التي أريد أن أحققها؟

    إن هذا التساؤل إنما هو إفراز لإهمال هذا الجانب وعدم العناية به، ونحن نرى الآن المكتبة الإسلامية تزخر بالكثير من الكتب التي تنم عن الترف والتكرار، وترى الموضوع الواحد يؤلف فيه أكثر من كتاب، أحياناً تجد عشرين كتاباً في قضية.

    لماذا نهمل الجوانب المهمة التي نحتاج إليها؟

    سوهناك تساؤلات تربوية كثيرة يحتاج إليها الشباب، وبالذات عن الأهداف التربوية التي تعتبر حجر الأساس وحجر الزاوية في العملية التربوية، فالتربية إنما هي عبارة عن الأهداف.

    نستطيع أن نقول: إننا إذا رسمنا الأهداف التربوية قطعنا الخطوة المهمة والأساس في التربية، ومع ذلك أشعر أنه ليس هناك أهداف متفق عليها، وليس هناك أهداف على الأقل ذات وضوح ظاهر عند الكثير من الشباب، ولهذا تراهم يتساءلون عن ذلك.

    فلابد من السعي إلى رسم أهداف واضحة، والمناقشة فيها، والحديث عن مثل هذه الأمور، وأن نملأ مدارسنا بالحديث عن مثل هذه الجوانب.

    سلوك طريق التربية الجادة

    الجانب الثالث: ضرورة التربية الجادة، والتربية العميقة، ولا مكان اليوم للضعفاء، ولا مكان لأصحاب العواطف، ولا مكان للإنسان صاحب القناعة الهشة، هذا لا يمكن أن يستمر، ولا يمكن أن يسير، فنحن بحاجة إلى تربية جادة، تربية عميقة تخرج لنا رجال يحملون الرسالة، يحملون هذا الدين، يحملون هذا الحق، لا لمجتمعهم بل للأمة كلها جمعاء، بل للبشرية أجمع.

    بذل الجهود في التربية

    الجانب الرابع: التربية تستحق منا أن تبذل لها الجهود، وأن تفرغ لها الطاقات، وألا يشغلنا بريق الدعوة العامة والخطاب الجماهيري عن العناية بالتربية، مع عدم إهمالنا -كما قلت- لخطاب الجماهير، والدعوة العامة، والأمور العامة، لابد أن تتفرغ طاقات للعناية بالتربية، تأصيلاً وبحثاً وكتابة وحديثاً وعملاً وترتيباً وتطبيقاً.

    ولابد أن تضحي هذه الطاقات بكثير مما يفوتها، والقضية ليست ميادين نتسابق عليها، بقدر ما هي ثغور بحاجة إلى أن نسدها، وفضيلة العمل والجهد الذي نريده ليس بكثرة الأتباع، وليس بكثرة من يسمع لك، بل نرى أننا بحاجة إلى أن نتفحص المواقع التي نحتاج إليها، ونوزع الطاقات توزيعاً متوازناً، ونريد الرجل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الميمنة كان في الميمنة).

    الإنسان الذي تضعه في موضع فيبقى في هذا الموضع، ويحرص على هذا الموضع، ولو كان يرى أن نتائجه محدودة وقليلة؛ لأنه يرى أنه موضع لابد أن يملأ، وميدان لابد أن يسد، وثغر لابد أن يقام به، وليس صحيحاً أن يكون هناك ميدان واحد، ومجال واحد هو الذي يسعى إليه الجميع.

    بعد الحديث عن هذا الموضوع المهم -كما قلت- نخرج بعد بالنتيجة التي نريد أن نصل إليها، وهي أننا نحتاج لأن نربي أنفسنا، وإلى أن نربي جيلاً، وإلى أن نعتني بالتربية ونوليها عناية وأهمية.

    ولك الحق بعدما سمعت هذه بضاعتي وهذه حججي وهذه مسوغاتي، فإذا كنت قد وصلت إلى قناعة تامة، وشاركتنا القناعة بضرورة التربية والحاجة إليها، فبعد ذلك ننتقل إلى الخطوة الأخرى، وإذا كان لك قناعة أخرى فأنت وشأنك، فهذا ما أريد أن أقوله في هذا الميدان.

    أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ونترك بقية الوقت للإجابة على ما ورد من أسئلة الإخوة.

    1.   

    الأسئلة

    نصيحة تربوية لمن في سن المراهقة

    السؤال: ما هي نصيحتك إلى الشباب في سن المراهقة من الناحية التربوية؟

    الجواب: يعتبر سن المراهقة من أخطر المراحل التي يعاني منها الشاب، ومن هنا فهو بحاجة ماسة إلى أن يعتني بتربية نفسه، وأن يسير من خلال جهدين متوازيين: التربية الفردية لنفسه والعناية بنفسه، ومن خلال وسط ومجموعة مستقيمة يعينونه على طاعة الله سبحانه وتعالى.

    فهو لا يستطيع أن يعيش وحده، وأيضاً حتى إذا كان معه إخوة ورفقة ينبغي أن لا يوكل إلى هؤلاء أمر تربيته ويهمل نفسه، فأنت ترى بعض الشباب مثلاً يسير مع الشباب ويذهب معهم، ويشاركهم في برامجهم، ولكنه لا يعتني بتربية نفسه وإعداد نفسه.

    وأستطيع أن أقول باختصار: إن من أهم الأشياء التي يحتاج إليها الشاب المراهق أن يقوي في نفسه الصلة بالله سبحانه وتعالى، فيحرص على عبادة الله عز وجل، ورعاية الفرائض، واجتناب المعاصي، وأن يستكثر من عبادة السر، والنوافل، وتلاوة القرآن، وذكر الله سبحانه وتعالى، والصيام، وقيام الليل، إلى غير ذلك من العبادات.

    كذلك يملأ وقته فهو يعاني من فراغ، بحيث يعتني بالعلم الشرعي، والقراءة، والمطالعة، والأعمال النافعة التي تحفظ عليه وقته وجهده.

    نصيحة لشخص مسئول عن مجموعة من الشباب وكيف يربي من هو حديث الاستقامة

    السؤال: ما هي نصيحتك التربوية لشخص مسئول عن مجموعة من الشباب، وما هي أهم الدروس التي ينبغي للجديد في طريق الاستقامة أن يتربى عليها جزاك الله خيراً؟

    الجواب: هنا يختلف الحديث، والشباب يختلفون، فهم في المرحلة المتوسطة مثلاً بحاجة إلى التركيز على الجوانب الإيمانية، وتربية الصلة بالله سبحانه وتعالى، وتقوى الله عز وجل، وتربية الجوانب الأخلاقية والسلوكية، وتربية المبادرة عندهم، والقدرة على الكلام والحديث مع الناس، ثم التزود بجوانب علمية محدودة على قدر مستواهم العلمي.

    لكن في المرحلة الثانوية قد انتقل نقلة أخرى، وعاش أمام فتن وشهوات أكثر، فهو بحاجة إلى أن نركز فيه الجوانب الأخرى، مع إعطائه دفعة للجوانب العلمية، ومفاهيم قد لا يمكن أن يتحملها في المراحل المتوسطة.

    وإذا انتقل إلى المرحلة الجامعية فهو بحاجة إلى مفاهيم دعوية أوسع، وبحاجة إلى جوانب علمية أدق، وهكذا نرى أنه من كلما ارتفع مستواه العلمي والعقلي والدراسي كلما تغير مستوى التربية.

    لكن أقول باختصار: إن الشاب الذي يتولى مسئولية تربوية يجب أن يتقي الله سبحانه وتعالى، ويشعر أن هؤلاء أمانة في عنقه، ويشعر أنه سيعد قيادات المستقبل، وسيعد قيادات الأمة، وإذا وقع في خلل في تربية هذا الشخص؛ فإن هذا الخلل سينعكس على غيره، عندما يكون هذا الإنسان مربياً، عندما يكون مفكراً، عندما يكون عالماً ومتحدثاً، سينعكس هذا الخلل التربوي بعد ذلك على عمله وجهده، ومن هنا يجب أن يتقي الله سبحانه وتعالى، ويحرص على أن يراقب نفسه، ويحرص على أن يستفيد من أخطائه، ويراجع نفسه فترة بعد أخرى.

    أما الشاب الجديد في طريق الاستقامة، فينبغي أن يركز على الجوانب الإيمانية والتوبة وما يتعلق بها، ويحرص أن يبتعد عن الماضي وما يتعلق به، ويحرص على ألا يتذكر الماضي كثيراً، كذلك يُملأ فراغه الذهني؛ لأنه يعيش نقلة جديدة، فيحاول أن يعطى بعض الأعمال التي تشغله والتي تعيد له الأمل، فهو مع أنه تاب يشعر بمعاناة وضغط الوضع والانحراف الذي كان يعيشه في الماضي، فيحتاج إلى مثل هذه الجوانب.

    كيفية التعامل مع الضعف الموجود عند القادة المربين

    السؤال: نرى أن بعض القيادات الإسلامية في الوقت الحاضر ينقصها الكثير من التحصيل العلمي أو التربية الإسلامية، ونجد أنفسنا محرجين في انتقادهم أو تصحيح بعض مواقفهم، وذلك لكبر سنهم، أو حداثة عهدهم بالعلم الإسلامي، فما توجيهكم في ذلك؟

    الجواب: القضية تحتاج إلى توازن، فنحن بين إنسان يكون همه الانتقاد أصلاً، فهو يسمع لينتقد، ويقرأ لينتقد، هذا إنسان يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته).

    هذه عقلية لا يجوز أن نفكر بها، كذلك أيضاً الاحتقار أن فلاناً ما عنده علم شرعي، فلان ما عنده كذا وكذا، قد يكون فعلاً عنده نوع من الضعف في العلم الشرعي، لكن عنده جوانب أخرى يمكن أن نستفيد منها، كذلك أن تكون هذه الأخطاء ميداناً للتندر والحديث بها في المجالس، وأنه عندما يأتي فيرى اسمه على كتاب يذكر هذا الخطأ، يرى شريط له يذكر هذا الخطأ، هذه الأخطاء يجب أن تذكر في موقعها الذي تحتاج إليه.

    أقول: يجب أن نتوازن في النقد، فلا نفرط فيتحول النقد إلى هدف، أو إلى مادة للتسلية، أو تجد أحياناً شاباً -مع الاعتذار الشديد- لا يزال في المرحلة المتوسطة أو المرحلة الثانوية، أو حتى في المرحلة الجامعية تراه يقيم العمل الإسلامي كله، فيقيم الجماعات الإسلامية، والدعاة، والعلماء، والناس كلهم، وينصب نفسه إماماً في الجرح والتعديل، وحكماً على الناس.

    وعادة عندما ترى الشاب في مثل هذه المرحلة يحكم على أمثال هؤلاء فاحكم عليه بالتلف العاجل، والانتهاء العاجل؛ لأنه عندما يتحول الإنسان إلى حاكم على الآخرين، سيغفل عن عيوب نفسه، وينشغل عن عيوب نفسه، وهذا مظهر من مظاهر الغرور والإعجاب بالنفس.

    أيضاً الجانب الآخر: عندما يكون فلان له قيمته ومجاله وشهرته لا ينبغي أن نعتقد فيه العصمة، فالإنسان أياً كان يخطئ، ويقع في الخطأ، وقد يكون خطأً كبيراً، وقد تكون زلة، ولا تكاد ترى أحداً لا يقع منه خطأ، والعصمة ليست لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نتوازن.

    ثم إذا وقع فلان في خطأ أو خطأين أو ثلاثة فهذا لا يعني أن نلغيه، ولا يعني أن نقضي عليه، ولا يعني ألا نحكم عليه إلا من خلال هذا الخطأ، وأنت ترى هذا الإنسان عنده جوانب كثيرة من الخير، وعنده خطأ أو خلل أو ضعف في هذا الجانب فترى أن الكثير لا ينظر إلا من خلال هذه الزاوية، ولا ينظر إلا بعين واحدة، فأقول: يجب أن نتوازن في مثل هذا النقد.

    كيفية التعامل تربوياً مع القوافل الكثيرة من التائبين

    السؤال: لقد أشرت في حديثك إلى وجود الأعداد الكبيرة من التائبين، وأن هؤلاء بحاجة إلى التربية، فما هو الحل لإعداد التربية الكافية لهذه القوافل، مع قلة عدد المربين، ألا ترون أن هذا بحاجة إلى توحيد جهود العلماء والدعاة وطلبة العلم والمربين لإعداد هذه التربية؟

    الجواب: نعم، أقول: إنها مشكلة يجب أن نعتني بها، لكن هنا سؤال يفرض نفسه: ما مدى الآن شعورنا بهذه المشكلة والحديث عنها؟

    نحن نتحدث كثيراً عن التائبين والمقبلين على الله عز وجل، لكن هل نسمع الحديث عن كيف نتعامل مع هؤلاء؟ كيف نربي هؤلاء؟ قلما نسمع الحديث عن ذلك، ولو اعتنينا به وتحدثنا عنه، وبحثنا مثل هذه القضايا؛ لوصلنا إلى بعض النتائج.

    أستطيع أن أقول باختصار: أولاً: لابد من إيجاد محاضن تربوية للشباب، من خلال المدارس، ومن خلال الأحياء، ومن خلال حلقات القرآن، ومكتبات المساجد، وحلقات العلم، محاضن تربوية تأخذ وقتاً طويلاً من الشاب وتربيه من كافة الجوانب، فتحتضن عدداً من هؤلاء.

    أيضاً لابد من الارتقاء في المستوى التربوي من خلال خطبة الجمعة، فلابد أن تكون خطبة الجمعة خطبة مدروسة، ويسعى فيها الخطيب إلى أن يربي المجتمع، فلا تكون مجرد خطبة مرتجلة، ومن خلال الفصل والأستاذ في الفصل أيضاً يجب أن يمارس التربية، ومن خلال المحاضرات والدروس، فلا يسوغ أن يكون خطابنا للناس في هذه القنوات من المحاضرات والدروس والخطب مجرد خطاب عاطفي، أو تكراراً لقضايا معينة، بل يجب أن نرتقي بمستوى أسلوبنا، فعلى الأقل هذه تختصر لنا بعض الخطوات، ويمكن أن تسد قدر من الخلل الذي نعاني منه مع مثل هذا التيار.

    وأقول: إن القضية تحتاج إلى دراسة، وتحتاج إلى عناية، وتحتاج إلى أن يتحدث عنها الكثير، ولا يمكن أن يكون مثلي يضع الحل الناجع لمثل هذه القضية في مثل هذه العجالة.

    التوفيق بين القيم الدينية والتعليم المؤسسي المنحل

    السؤال: توجد كثير من المؤسسات العلمية مثل الجامعات في كثير من الدول الإسلامية بعيدة كل البعد عن القيم الدينية والتربية الإسلامية، فكيف توفق الأسرة المسلمة في التربية بينها وبين هذه المؤسسات العلمية؟

    الجواب: أنت ترى للأسف أن المؤسسات التربوية في العالم الإسلامي تمارس الهدم للمعاني التربوية، من خلال الاختلاط، والتبرج، ومحاربة الحجاب، بل ترى أنه في كثير من الدول الإسلامية يمنع على الفتاة أن تدخل وهي متحجبة، ناهيك عن المناهج وما فيها، ناهيك عن أخلاق الأساتذة وأساليبهم.

    أقول: إن هذا مما يزيد في صعوبة دور المربي، سواء كان أستاذاً في وسط هذا العفن، أو كان أباً، أو كان أخاً، أو غيره؛ وهذا مما يزيدنا مسئولية، لأنه كما ذكر أحد المربين يصف هذا الوضع يقول: إن الذي يربي في خلال هذا المجتمع مثل الذي يسبح ضد التيار.

    فأقول: هذا مما يزيد الصعوبة، لكن ليس مستحيلاً، فقد عاش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الفترة المكية في وسط المجتمع الجاهلي بكل مؤسساته وكل ضغوطه، ومع ذلك استطاعوا أن يتجاوزوا كثيراً من السلبيات والضغوط التي كانوا يجدونها من خلال ذاك المجتمع.

    أهمية الثقافة التربوية لمن يمارس التربية

    السؤال: يذكر البعض أن التربية لا يستطيع العمل بها إلا الذين درسوا التخصصات التربوية، وأنها صعبة، ويعملون أعمالاً كثيرة مستغربة، ويقولون: أنتم لا تفهمون، وفي اعتقادي أن أي إنسان يقرأ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعنده فهم يستطيع أن يؤدي التربية، أي أنها ليست محصورة، فما رأيك؟

    الجواب: القضية تحتاج إلى توازن، فأن نقول: إن كل إنسان يربي لابد أن يكون متخصصاً في التربية هذا مستحيل، وهذا خطأ، وأيضاً أن نهمل هذا الجانب هذا هو الآخر خطأ، فنحتاج نحن إلى من يتخصص بالتربية كعلم مستقل، ليؤصل لنا، ويحل لنا مشاكل تربوية، ويطرح لنا نظريات تربوية.

    ونحتاج إلى من يمارس التربية وأن يكون عنده على الأقل وعي تربوي، وعنده ما يمكن أن نسميه بالثقافة التربوية أو القراءة التربوية، فلا يسوغ أن نهمل أيضاً العلم التربوي الذي قام وله أصوله فنقول: لسنا بحاجة إليه مطلقاً، وكذلك أيضاً لا يسوغ أن نبالغ ونرى أن كل إنسان يربي لابد أن يكون متخصصاً بالتربية، فالتوسط في ذلك مطلوب.

    لكن أنا أؤكد أن الذين يمارسون التربية يجب أن يكون عندهم على الأقل ثقافة تربوية، أن يكون عندهم قراءة في بعض كتب علم النفس، وبعض كتب التربية، ويكون عندهم تصور لبعض النظريات التربوية التي تساعدهم على تحقيق هذه الأهداف، وعلى الاستفادة المثلى من قراءة السيرة النبوية وسير السلف، حتى قراءة السيرة وسير السلف إذا لم يكن عندك عقلية تربوية قد لا تستطيع أن تستنبط منها المعاني التربوية التي تحتاج إليها.

    مشكلة قلة المربين

    السؤال: ألا ترى بارك الله فيك أنه بسبب قلة المربين في المجتمع يساهم في سلبية هذه الصحوة، فما البديل؟

    الجواب: البديل أن نعتني بالتربية، ونخرج المربين، ولا نجلس لنشتكي، ومشكلتنا أننا نجيد الحديث عن المشاكل والشكوى، فهذه مشكلة أمامنا من سيحلها؟ يحلها الغرب، المؤسسات التربوية الغربية، أو المعاهد التربوية الغربية؟ لا، لا يحلها إلا نحن، فمشاكلنا يجب أن نفكر فيها، ونحل هذه المشاكل ولو على مدى أبعد.

    فما دمنا الآن نشتكي من قلة المربين فيجب أن نعد المربين من الآن، ونربي الشاب من الصغر؛ حتى يكون مربياً ناجحاً يحل لنا هذا النقص وهذا الخلل.

    إهمال تربية الأبناء

    السؤال: أب لم يحسن تربيتي منذ صغري، ومنذ طفولتي أهملني، وتركني حتى بلوغي إلى السن المتميز والإدراك الواضح، وبدأت أعمل الحرام والسرقة، وجلب المصائب لبيت أهلي وغيرهم، هل يأثم والدي ووالدتي على هذا الشيء، إذا كان الجواب نعم، فما نصيحتكم إليهم؟

    الجواب: لا شك أنه يأثم، لكن أيضاً هذا ليس إهمال والدك عذراً لك، بل لو تعمد والدك أنه يربيك التربية السيئة لم يكن ذلك عذراً لك، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95].

    وسائل التربية ليست توقيفية

    السؤال: هل وسائل التربية توقيفية، أم أنها خاضعة للجهد البشري، واختيار الوسيلة المناسبة؟

    الجواب: وسائل التربية والدعوة ليست توقيفية، وسبق أن عرض هذا السؤال في المحاضرة الماضية التي كانت بعنوان: همسة إلى شاب، وذكرت لكم أن الكثير من العلماء والمشايخ أفتوا بأنها ليست توقيفية، ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فقد سألته بنفسي، وأجابني بذلك، وأيضاً الشيخ ابن عثيمين والشيخ عبد الله بن قعود وغيرهم قرروا أن وسائل الدعوة ليست توقيفية.

    وما معنى أنها ليست توقيفية؟

    يعني: إذا قلنا إنها توقيفية فمعناه أنه لا يجوز أن ندعو بأي أسلوب أو وسيلة إلا إذا كانت واردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا قلنا: إنها ليست توقيفية، فيعني هذا أن عندنا حرية أن ندعو بأي أسلوب بشرط أن يكون جائزاً شرعاً، وألا يكون فيه مخالفة شرعية.

    وأنت ترى الذي يقولون: إن وسائل الدعوة توقيفية يضطرون إلى نوع من خرق القاعدة، فمثلاً طلب العلم مثل الدعوة فما الفرق بينه وبين الدعوة؟ إذا قلنا: إن وسائل الدعوة توقيفية، إذاً وسائل تلقي العلم يجب أن تكون توقيفية، فالمدارس النظامية الآن ما كانت موجودة في السابق، الكتب بطريقتها الآن والتصنيف وطريقة التبويب لم تكن موجودة في السابق، الوسائل المعاصرة أجهزة الحاسب الآلي، وأجهزة الناسوخ والاتصال، أجهزة الاتصالات الحديثة، ومراكز المعلومات وكل هذه ما كانت موجودة.

    إذاً هذه بدعة، والتعليم الرسمي بدعة لأنه ما كان موجوداً، وخذ كل الوسائل الموجودة في التعليم هي الأخرى بدعة إذا قررنا أن وسائل الدعوة توقيفية.

    فعلى كل حال ليس ذلك صحيحاً، فوسائل التربية ووسائل الدعوة وسائل اجتهادية، ولو تمعنا في التاريخ لوجدنا أن الأمة ابتكرت وسائل في الجهاد، ووسائل في العلم، ووسائل في الدعوة، ووسائل في إدارة شئون حياة الأمة كلها ابتكرت واستفادت من العصر الذي تعيشه.

    فالميدان مفتوح والمجال مفتوح لأي وسيلة بشرط ألا يكون فيها مخالفة شرعية، وأن نرى أنها تحقق المصلحة الشرعية.

    الاكتفاء بالخطب والمحاضرات في التربية

    السؤال: هل الخطب والمحاضرات كافية للتربية؟

    الجواب: لا، التربية تحتاج إلى عمل، وهي تربية من خلال العمل، والخطب والمحاضرات لا شك أنها تقدم خطوات تربوية، وتعطي دفعات لكنها وحدها ليست كافية.

    الجوانب التربوية المطلوبة

    السؤال: لا يخفى عليكم أن المكتبات الخيرية الموجودة في المساجد تعتبر من المحاضن التربوية لإخراج شباب يؤهل فيه أن يخدم هذا الدين؟ هل هناك أسس تربوية أو بمعنى آخر مفاهيم أساسية تغرس في نفوس رواد مثل هذه المحاضن؟

    الجواب: هي الأسس التي نريدها من المسلم، نريد أن نربي الإنسان على الإسلام، على أن ينضبط أولاً بالضوابط الشرعية، فنربيه على أن يلتزم أوامر الله سبحانه وتعالى، على أن يتجنب المعاصي، على أن يكون عنده ورع وخوف من الله سبحانه وتعالى، نربيه على أن يكون قلبه متوجهاً إلى الله سبحانه وتعالى.

    جانب آخر: العلم الشرعي، فنعطيه المنهج العلمي، وأن نربي ونغرس عنده حب العلم والتوجه إليه.

    جانب آخر: السلوك والتعامل مع الناس.

    جانب آخر: أن نربيه على الدعوة من خلال العمل ومن خلال الميدان.

    أقول باختصار: هذه الجوانب التربوية هي الجوانب المطلوبة من المسلم، تصور أنت ما هي الصورة التي تتطلع إليها، وترى أن يكون المسلم عليها، هي التي نريد أن نصل بالإنسان إليها من خلال هذه المحاضن التربوية، سواء كانت من خلال مدارس، من خلال مؤسسات تربوية، من خلال مكتبات مساجد، أياً كانت هذه المؤسسات، أو هذه المحاضن التربوية.

    أهمية رفع مستوى التربية عند المربين

    السؤال: هناك مقولة تقول: حتى تصل التربية إلى الحد المقبول يجب أولاً النظر في تربية المربين، هل من تعليق على هذه العبارة أو توضيح؟

    الجواب: نعم، لابد من رفع مستوى المربي، قد يكون عند المربين قصور تبعاً للتربية التي تلقوها هم، فيسعى المربي إلى أن يرفع مستواه، ويسعى إلى أن يزيد من تحصيله، سواءً العلم الشرعي أو صلته بالله سبحانه وتعالى، أو القدرات والمفاهيم التربوية.

    التكامل بين الجوانب التربوية والجهادية والدعوية

    السؤال: في ظل واقع هذه الصحوة، هناك من يدعو إلى التربية الجهادية والذهاب إلى ساحة الجهاد، وهناك من يدعو إلى التربية على العلم الشرعي وغيرها من أمور التربية التي نحن بحاجة إليها، فما هي الأولويات التي يتربى عليها في ظل هذه الظروف، وجزاك الله خيراً؟

    الجواب: هذا سؤال مهم، وكثيراً ما يرد السؤال والنقاش والجدل حوله، فنقول:

    أولاً: هناك أشياء لا بد منها للمسلمين جميعاً، كقدر من العلم الشرعي، وقدر من إنكار المنكر، وقدر من الصلة بالله سبحانه وتعالى.

    ثم يبقى جانب التخصص المهم، فمن الخطأ أن نتصور أن الأمة كلها يجب أن تذهب إلى ساحات الجهاد، فمن سيبقى هنا؟ ومن سيحمي الجيل؟ وتخيلوا مثلاً أن كل الناس ذهبوا إلى الجهاد، فمن سينكر المنكرات كلها؟ من سيربي؟ من سيبقى لأهل الفساد في مجتمعات المسلمين كله على مستوى الأمة؟

    جانب آخر: جانب العلم الشرعي، فليس كل الناس مؤهلين أن يتوسعوا ويتبحروا في العلم الشرعي، وكذلك جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكافة الجوانب التي نريدها، فلماذا نحن نفترض التناقض، ونتصور أنه ليس هناك إلا ميدان واحد؟

    أقول: هناك قدر مشترك مطلوب من الجميع، ثم بعد ذلك يبقى جانب التخصص، ولا ينبغي أن يشغب أحد على أحد، فنحن نحتاج إلى من يشارك الأمة في ميادين الجهاد، نحتاج إلى من يتبنى أمور الأمة الاجتماعية، إنقاذ أصحاب الفقر وقضاء حوائجهم، وأن يوفر وقته وجهده لمثل هذه المشاكل الاجتماعية.

    نحتاج إلى إنسان يتفرغ للعلم الشرعي وتعليمه، نحتاج إلى إنسان يتفرغ لدعوة الشباب المعرضين، نحتاج إلى إنسان يتفرغ لتربية الشباب المستقيمين، نحتاج إلى جوانب كثيرة وجهود كثيرة ليس واحداً منها هو المطلوب دون غيره، وليس واحداً منها هو الأولى دون غيره، بل كل هذه الأمور مطلوبة، ويجب أن تسير معاً في خط متوازٍ.

    ومن الخطأ أن نفترض أولويات أو تناقضاً أو تضارباً، وأنه ما دام هذا الميدان مهماً فالآخر غير مهم، ولا يجوز أن يسخر صاحب ميدان من الميدان الآخر، بل يجب أن نشعر أننا جميعاً في خندق واحد، مثال: مثل الجيش الذي يحارب، فهو يحتاج إلى قائد، إلى رجل متفرغ في غرفة عمليات يدير الاتصال وينظمه، يحتاج إلى إنسان يشارك في القتال، إلى إنسان يحمي الخلف ويحرس، إلى إنسان يعد الطعام، يحتاج إلى فني عمله فقط إصلاح السيارات والمعدات، يحتاج إلى معالجة الجرحى وإخلاء طبي، نحتاج إلى أدوار كثيرة.

    لو جاءنا الإنسان الذي يعد الطعام للجيش، وقال: والله أنا أحتاج للقتال، فإن الناس يقاتلون ويتعرضون للاستشهاد، وأنا جالس أعد الطعام! إذاً: من سيعد الطعام للجيش؟ ومن سيقوم بهذا الدور؟ فهي أدوار قد تتصور أن هذا أهم، وهذا أولى، وهذا ثانوي، لكنها هي كلها مهمة ومطلوبة، ولابد منها جميعاً، ولا يجوز أن نفترض التناقض وأن يشغب بعضنا على بعض في مثل ذلك.

    التربية والتأديب بالضرب

    السؤال: ما رأيك في الضرب أثناء التربية لتعليم الطفل والشاب أو حرمانه من شيء يحبه؟

    الجواب: الضرب ورد أنه وسيلة تربوية قال الله عز وجل: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، فأمر بضرب المرأة إذا احتاجت إلى الضرب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اضربوهن ضرباً غير مبرح).

    لكن هذا لا يعني أن يتحول الزوج إلى جلاد، بل النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرب وقال: (أولئك ليسوا بخياركم)، وقال: (خيركم خيركم لأهله).

    وكذلك أيضاً شرع ضرب الصغير للصلاة: (واضربوهم عليها لعشر).

    وشرع التعزير عموماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)، واختلف العلماء في معنى حد من حدود الله، ومن أقوى الأقوال أن المقصود أي أمر محرم، يعني أن عشرة أسواط في قضية غير محرمة مما يحتاج الأب والمربي إلى أن يؤدب ابنه عليه، أما حدود الله فالمقصود بها المعاصي، فالمعاصي من حدود الله، ولذلك يقول الله عز وجل: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229].

    لكن أيضاً لا ينبغي أن يكون هذا الضرب هدفاً ووسيلة، وأن يتحول الإنسان إلى رجل باطش وجلاد، ولنا قدوة في النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه معاوية بن الحكم رضي الله عنه: (فما رأيت معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً منه).

    نكتفي بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيما قلنا الخير والبركة، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، هذا والله أعلم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756433675