إسلام ويب

قصة سيدنا سليمان عليه السلامللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من حكمة الله عز وجل أنه يؤتي الملك من يشاء من عباده ويمنعه ممن يشاء، ومن آتاه الله ملكاً عريضاً لا ينبغي لأحد من بعده نبي الله سليمان عليه السلام الذي سخر له الإنس والجن والحيوان والطير وآتاه من كل شيء، فكان شاكراً لأنعمه تعالى قائماً بحقه في كل ما آتاه. صلى الله وسلم عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وأتمها.

    1.   

    فوائد إيمانية من قصة سليمان عليه السلام

    الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، العالم بتقلبها وأحوالها، المان عليهم بتوافر آلائه، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي خلق الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وأنشأ البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير، فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بحكمته إرادته، وألهمهم حسن الإطلاق، وركب فيهم تشعب الأخلاق، فهم على طبقات أقدارهم يمشون، وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون، وكل حزب بما لديهم فرحون.

    وأشهد أن لا إله إلا الله، خالق السماوات العلى، ومنشئ الأرضين والثرى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

    وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضي والأمر المرضي على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأظهر به الإيمان، ورفع دينه على سائر الأديان، فصلى الله عليه وسلم وبارك ما دار في السماء فلك، وما سبح في الملكوت ملك، وسلم تسليماً.

    أما بعد:

    عباد الله! إن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].

    قال عز وجل: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ * وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:15-31].

    1.   

    من فضل الله عز وجل على النبيين الكريمين داود وسليمان

    إن سليمان نبي الله ابن نبي الله داود، أثنى الله عز وجل عليهما بالعلم فقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل:15]، رزقهما الله عز وجل الملك والنبوة، واشتهرا بالقضاء والعلم والحكمة، وداود هو الذي قتل جالوت كما بينا ذلك في قصة طالوت ، وكان داود شاكراً لله عز وجل، قال تعالى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، فقد كان لا تمر عليهم ساعة من ليل أو نهار إلا وفيهم جالس يسبح الله عز وجل، أو قائم أو ساجد لله عز وجل.

    ومن فضل الله عز وجل على داود: أن وهب الله له سليمان، قال تعالى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]، وهذا نوع من شكر الله عز وجل للشاكرين من عباده، وليس معنى ذلك أن داود لم يكن له من الأولاد إلا سليمان كما يشير إلى ذلك قوله عز وجل: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [النمل:16]؛ لأن داود كان له مائة امرأة من الحرائر غير ما تملك يمينه من الإماء، فكان له أولاد كثيرون، ولكن الله عز وجل وهب له سليمان وجعل فيه الملك والنبوة، وأثنى عليه بقوله: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]، والأنبياء لا يورثون ديناراً ولا درهماً، ولكن يورثون العلم، فورث سليمان داود في النبوة والعلم والحكم والقضاء، كذلك ورثه في الملك، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل:15].

    فانظروا يا عباد الله! كيف شكر سليمان ربه عز وجل على كل نعمة، وكيف تحدث بنعم الله عز وجل، وكيف أعطاه الله عز وجل من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده، إذ سخر له الريح تجري بأمره حيث أراد، فكانت الريح تحمل جنوده، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12].

    ويذكر أن سليمان عليه السلام ذبح الخيل لله عز وجل؛ لأنها شغلته عن ذكر ربه، فعوضه الله عز وجل بالريح التي تحمل جنوده بلا كلفة ولا مئونة، وسخر له الجن والإنس والطير فهم يوزعون، فكانت الشياطين والجن تعمل بين يديه الأعمال الشاقة: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:13] وكانوا يغوصون في البحر ويأتونه باللآلئ.

    ومن فضل الله عليه أن علمه لغة الطير والحيوانات، فكيف تصنع التكنولوجيا الحديثة مع قدرة الله عز وجل؟

    1.   

    عظم ملك سليمان عليه السلام وشكره لله على ذلك

    قال تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [النمل:16]، أي: في الملك والنبوة، وزاده الله عز وجل من فضله، وآتاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.

    قال تعالى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل:17]، وكان سليمان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل، وكان يستعرض جنوده من الجن والإنس، تظلهم الطير فهم يوزعون، قيل: إنهم يردون أولهم إلى آخرهم، كما قيل: إن الله عز وجل يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، أي: أن الذي لا يرتدع بالقرآن يرتدع بالسلطان وبأحكام الإمام العادل.

    فقوله: (فهم يوزعون) أي: مملكة منظمة، يرد أولهم إلى آخرهم.

    قال تعالى: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18].

    هذه النملة في كلمات قليلة أمرت وحذرت واعتذرت، أمرت إخوانها ومن هم تحت رعايتها بأن (يدخلوا مساكنهم) وقدمت الأمر قبل أن تحذر وتعتذر حتى لا يدهمهم الخطب الذي تخاف عليهم منه، فقالت: ادخلوا مساكنكم، ثم حذرت فقالت: لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ، وهذا يدل على أن سليمان وجنوده لا يحطمون نملة فما فوقها وهم يشعرون، فكيف بالملوك الذين يحطمون شعوبهم؟! وكيف بالرؤساء الذين يدمرون أممهم؟! وكيف بسجون البلاد الإسلامية وقد ملئت بالذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيناً ورسولاً؟!

    فهذا سليمان عليه السلام لا يحطم نملة فما فوقها وهو يشعر، فكيف بالذين يظلمون الناس يا عباد الله؟! وكيف بالذين يعنفون المؤمنين؟! قال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عذبت امرأة في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض)، امرأة تعذب في هرة -أي: في قطة- حبستها ولم تطعمها، فكيف بالذين يحبسون المؤمنين ويعذبونهم، وليس لهم جريرة ولا ذنب إلا أنهم يقولون: ربي الله، ويريدون أن يقيموا شرع الله عز وجل ويحكموا دينه؟!

    هذه النملة أمرت وحذرت اعتذرت لسليمان وجنوده بقولها: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]، فقال تعالى: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا [النمل:19]، وهذا يدل على أنه سمع مقالتها وأعجب بحكمتها وفهم لغتها، وحمد الله عز وجل أن علمه من كل شيء حتى لغة النمل وأسمعه صوتها، فماذا تصنع التكنولوجيا الحديثة أمام مقدرة الله عز وجل؟

    قال سليمان شاكراً نعمة الله عز وجل: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ [النمل:19]، فالمؤمن كلما أنعم الله عز وجل عليه بنعمة تحدث بها وشكر الله عز وجل عليها، ومع ذلك يطلب من الله عز وجل مزيداً من النعم والخير والصلاح، وسليمان من هذا الصنف، إذ قال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].

    1.   

    ظهور بشرية سليمان في عدم إحاطته بعلم كل شيء رغم اتساع سلطانه ومملكته

    ثم قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20].

    تفقد سليمان عليه السلام مملكته، قال المفسرون: كان يأتيه من كل جنس من الطير نوع واحد، وهذا يدل على أن الطير خاضع لسلطان سليمان، مسخر لأوامره عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما تفقد أنواع الطير عرف أن الهدهد غائب، وهذا فيه دلالة على أن الملك أو الرئيس أو الأمير ينبغي له أن يتفقد رعيته.

    فقوله تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20]، أي: هل غاب عن عيني وهو من الموجودين، أم كان من الغائبين؟ ثم تهدد وتوعد: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21]، وأراد بالسلطان هنا حجة تغيبه عن هذا الموكب وعن الحضور معهم عندما كان يمر عليهم سليمان ويتفقد الرعية، وعبر القرآن بقوله: أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21]، فقد أتى بعد ذلك بسلطان بلقيس ، وإنما سميت الحجة سلطاناً؛ لأن صاحب الحجة قوي، فقال: أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21]، فيعفو عنه عند ذلك.

    قال تعالى: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل:22]، أي: ما غاب الهدهد طويلاً، وهذا يدل على إحكام هذه المملكة، وأنهم خاضعون لحكم سليمان وأمره، فلم يختف الهدهد طويلاً، بل جاء يعتذر إلى سليمان ويقول: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:22-24].

    فهذا الهدهد أتى سليمان عليه السلام، وأخبره بما خفي عليه من العلم، وهذا يدل على أن فوق كل ذي علم عليم، وأن الصغير قد يكتشف ما لا يعلمه الكبير، فهذا عمر رضي الله عنه كان ذا علم غزير، حتى أنه لما مات قالوا: ذهب تسعة أعشار العلم، لكن مع علمه الغزير غاب عنه سنة الاستئذان، وذلك لما أتى أبو موسى الأشعري إلى عمر رضي الله عنه فاستأذن عليه ثلاثاً فلم يؤذن له، فقال عمر : ألم أسمع عبد الله بن قيس ؟ فطلبه عمر ، فلما جيء به قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن لك وإلا فارجع)، فقال: البينة وإلا حد ظهرك، أي: لا بد أن تأتيني ببينة وبمن يشهد معك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فذهب أبو موسى الأشعري يلتمس من يشهد له، فأخبر جماعة من الصحابة ما قاله له عمر ، فقالوا: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، وكان أصغرهم أبا سعيد الخدري ، فذهب مع أبي موسى الأشعري ، وشهد عند عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن لك وإلا فارجع).

    وغاب عن أبي بكر ميراث الجدة، حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس.

    فالكبير قد يغيب عنه ما علمه الصغير، فهذا الهدهد أتى إلى نبي الله سليمان الذي علمه الله من كل شيء حتى لغة الطير ولغة النمل، وقال له: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22]، والحكمة من ذلك حتى لا يعجب العالم بعلمه، فالله عز وجل يقدر له ما يعرفه قصور علمه حتى يرجع إلى الله عز وجل، ويعترف بقصوره في العلم، يعرف أن فوق كل ذي علم عليم.

    فأتى الهدهد بصولة العلم يقول: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22]، أي: أتيتك بما لم تعلم به من الأخبار، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22].

    ثم قال الهدهد: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [النمل:23]، فكان أول ما أنكره هذا الهدهد الذي كان يعيش في مملكة سليمان الموحدة لله عز وجل أن تكون امرأة ملكة لدولة فقال: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [النمل:23]، وهو يعلم أن المرأة لا يمكن أن تكون ملكة ولا خليفة ولا قاضية.

    ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الفرس أمروا عليهم ابنة كسرى، فقال: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).

    فكان هذا أول ما أنكره الهدهد، إذ قال: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]، قيل: إنها أوتيت من كل شيء يحتاج إليه الملك؛ لأنها لم تؤت شيئاً من النبوة ولا الإيمان ولا العلوم الشرعية، فقال المفسرون: أوتيت من كل شيء يحتاجه الملك، ثم قال: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23].

    ثم أنكر الهدهد شيئاً عظيماً أيضاً، قال: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النمل:24-25]، وهذا المنكر هو توجيه العبادات لغير الله عز وجل، كيف يسجدون للشمس وهي خلق من خلق الله، مسخرة بتسخير الله عز وجل؟! أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:25-26]. فرد عليه سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقال: قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27]، وكان رد سليمان بهذا القول حينما قال له: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22]، وهذا يدل على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

    قال تعالى: اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ [النمل:28]، علمه أدب الدخول على الملوك وعلى الأمراء، وهو أن يلقي الكتاب ويتأخر قليلاً، وذلك أيضاً من أجل أن يسمع ما تراجع به قومها، فيوصل قولهم إليه، وإنما اختار سليمان الهدهد؛ لأنه هو الذي جاء بخبرهم؛ ولأن مقالته تدل على علمه وذكائه، فقد أنكر الهدهد أن تكون الملكة امرأة، وأنكر شركهم بالله عز وجل، وقال: كان ينبغي أن يسجدوا لله وأن يعبدوه، فرأى سليمان من فطنته أن يرسله إليهم، فقال: اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ [النمل:28-29].

    وقد كانت هذه الملكة عاقلة، ولكن صدها عن سبيل الله عز وجل أنها كانت من قوم كافرين، فلما رأت آيات النبوة وعلامات الصدق على سليمان أسلمت لله رب العالمين.

    جمعت الملكة بلقيس وجهاء قومها وقالت: يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ [النمل:29]، فوصفته بأنه كتاب كريم، وفي هذا دلالة على رجاحة عقلها، قالت: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]؛ لأن سليمان نبي الله وكان يفتتح كتبه بالبسملة، قال في كتابه: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:31]، وهذا كلام موجز فيه عزة الإيمان وقوته وعظمته.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    ذكر قصة الملكة بلقيس مع قومها في شأن رسالة سليمان

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    قال الله تعالى: قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل:32-44].

    إنها لعزة وقوة عندما تكون الدولة مسلمة، فيخضع الناس للإسلام وتفتح البلاد، ويدخل العباد في دين الله عز وجل، قال تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، فمع وجود الخلافة الإسلامية يلزم الخليفة أن يغزو الناس، وأن يغزو البلاد الكافرة من أجل أن يخضع الكل لله عز وجل، ومن أجل أن يكون الدين كله له سبحانه.

    ولما استشارت الملكة قومها في كتاب سليمان قالوا: نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ [النمل:33]، وهم بذلك يغترون بقوتهم ويظنون أن هذه الأسباب الأرضية تستطيع أن تواجه أمر الله عز وجل، ولكن المرأة كانت عاقلة، إذ قالت: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34]، كأنها تقول لهم: لو كان سليمان نبياً لنصره الله عز وجل، ولا بد أن يفتح هذه البلاد، وإن فتح هذه البلاد فإنه لا يخلص الشر إلا إلي ولا يكون الذل إلا علي؛ لأن الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34]، ثم قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34].

    وهذه المرأة كانت كافرة، لكن هذا يدلنا على أن الحق يخرج من كل من جاء به كائناً من كان، ثبت في الصحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه أمسك بشيطان كان يسرق من تمر الصدقة، وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكا الفقر وكثرة العيال فتركه أبو هريرة ، فتكرر ذلك منه فأصر أبو هريرة أن يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فطلب من أبي هريرة أن يتركه على أن يعلمه شيئاً، فعلمه أن يقرأ آية الكرسي عند نومه، وقال: لا يقربك شيطان، ولا يزال عليك من الله عز وجل حافظ، فلما أخبر أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: (صدقك وهو كذوب)، فمن أذكار النوم أن نقرأ آية الكرسي عند النوم، لكن المقصود: هل قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة : هذا الشيطان لا تقبل منه شيئاً، ولا تصدقه في شيء؟ لا، لم يقل له ذلك، وهذا يدل على أن الحق يقبل من كل من جاء به.

    قال الله عز وجل على لسان الملكة بلقيس : وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل:35]، أرادت هذه المرأة أن تختبر سليمان، فإن كان ملكاً دنيوياً يريد الملك فإنه يفرح بهذه الهدية، وإذا كان ملكاً نبياً يريد شرع الله ويريد دينه، فليس لها إلا أن تسلم وتخضع لسلطانه.

    قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36].

    فإن قال قائل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا)، وكذلك الأنبياء يقبلون الهدايا، فالجواب: أن هذه لم تكن في الواقع هدية، ولكنها كانت رشوة؛ لأنها تطلب منه أن يدعها في بلدها على الكفر، وهو يدعوها إلى الإسلام، وإلى الخضوع لدين الملك العلام، فلو قبل سليمان هدية في مقابل التنازل عن ذلك فإنها رشوة؛ لأنه يتنازل عن الحق مقابل عرض من الدنيا، قال: فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا [النمل:36-37] أي: يرسل إليهم من الجن والإنس والطير والوحوش ما لا قبل لهم بها، فكيف تصنع التكنولوجيا الحديثة أمام ما يؤتيه الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه؟ فإن الله عز وجل غالب على أمره، فمهما كان عند أمريكا من أدوات وتكنولوجيا ومعدات وعَدَد وعُدَد، إذا جاء أمر الله عز وجل وكنا نستحق النصر، وصار المسلمون أهلاً للتمكين؛ لا بد أن يمكننا الله عز وجل مع قلة الأسباب الأرضية.

    فهذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان في قلة عَدَد وعُدَد يوم بدر. قال عز وجل: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، إذ نزلت الملائكة تقاتل مع المؤمنين يوم بدر، أمدهم الله عز وجل بخمسة آلاف من الملائكة مردفين، وأعزهم الله عز وجل، وكانوا من قبل فقراء وضعفاء ومع قلة في العَدَد والعُدَد، وهكذا المسلمون على مر العصور والدهور، مع قلة عَدَدهم وعُدَدهم ينتصرون على جيوش الكفر المتكاثرة، فقد يكون عدد المسلمين عشرين ألفاً، ويغلبون مائتي ألف من الروم، وينتصرون عليهم كما انتصروا في اليرموك، وانتصروا كذلك في فتح إفريقية، وغير ذلك من الوقائع التي كان فيها عدد المشركين أضعاف أضعاف عدد المسلمين، فالله عز وجل ينصر المسلمين بأسباب لا تخطر على بالهم.

    نعود لقوله تعالى: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:37]، هذه هي صولة الملك مع الإيمان، فإن الإسلام يكون له صولة وجولة عندما يكون الحاكم يحكم بشرع الله، ويتعزز بدين الله عز وجل، وينصر دين الله عز وجل، فلو أن المسلمين عملوا بدين الله، وحكموا شرع الله، وأعزوا دين الله عز وجل لصاروا سادات الدنيا وحكام العالم، ولكنهم لما خذلوا دين الله عز وجل، وتهاونوا في العمل بشرع الله عز وجل سلطت عليهم الأمة الغربية شرذمة من الخلق لا عدد معهم ولا عزة لهم، هذه الشرذمة كتبت عليها الذلة والصغار، ولكنهم سلطوا على المسلمين مع كثرة عَدَدهم وعُدَدهم، وما ذلك إلا لأنهم لم يعزوا دين الله، ولم يرفعوه.

    ذكر ما أيد الله به سليمان من معجزات وبينات

    ثم أراد سليمان أن يظهر آية من آيات نبوته، ومعجزة من معجزات نبوته، قال تعالى: قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:38]، فقد علم سليمان أنهم سيأتون مسلمين، وذلك لقوة الإسلام ولقوة الحاكم المسلم ولقوة نبي الله سليمان، وهو الذي مات متكئاً على منسأته، أي: على عصاه، وظلت الجن مسخرة بين يديه في الأعمال الشاقة، وقيل: كانوا يبنون بيت المقدس، وكان قد أمر أهله ألا يخبروهم بموته حتى يستكملوا بناء بيت المقدس، قال تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14]، فظلوا مسخرين بين يدي سليمان وهو ميت متكئ على عصاه حتى أكلت الأرضة منسأته وسقط على الأرض، عند ذلك علموا أنه قد مات، وعندئذ علمت الجن أنهم لا يعلمون الغيب، فهذه بينة واضحة من الله عز وجل، إذا أراد الله عز وجل أن يرفع عبداً من عباده، أيده بالمعجزات والبينات الواضحات.

    قال تعالى: قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ [النمل:38-39]، أي: وأنت في مجلسك قبل أن ينتهي مجلس القضاء، قيل: وكان مجلس القضاء من الصبح إلى الزوال، أي: إلى وقت الظهر.

    قال تعالى: وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39]، أي: قوي على إحضاره في هذه المدة، أمين على ما فيه من الجواهر والنفائس، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ [النمل:40]، قيل: من العلماء، أي: من علماء الجن، وقيل: كان يعلم الاسم الأعظم لله عز وجل، أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:40]، هل تستطيع التكنولوجيا الحديثة أن تفعل ذلك؟! أتى بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه، فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [النمل:40]، لم يقل: هذا بقوتي وبحولي وشجاعتي، بل قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]، فكان كلما أعطاه الله عز وجل نعمة شكره على هذه النعمة؛ لأنه يعلم أن الله عز وجل هو الذي سخر له الجن، وهو الذي أعطاه هذه الأسباب العظيمة، قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [النمل:40]؛ لأن الله عز وجل في غنىً عن شكر العباد، ولا ينفعه شيء من طاعات العباد، من أحسن فإنما يحسن لنفسه، ومن أساء فإنما يسيء عليها، ومن ظلم فإنما يظلم نفسه، والله عز وجل غني عن العباد وعن طاعاتهم، قال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].

    قال تعالى: فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [النمل:40] أي: رأى سرير ملكها مستقراً عنده في طرفة عين، قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40]؛ لأنه لا يحتاج إلى طاعات العباد، قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8].

    قال تعالى: قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ [النمل:41]، أي: غيروا شيئاً من صفات عرشها لنختبر عقلها هل تعرف أنه سرير عرشها أم لا، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ [النمل:42]، قيل: إنهم غيروا فيه بعض التغيير، فلم يقولوا: هل هذا عرشك؟ بل قالوا: أهكذا عرشك؟ ولرجاحة عقلها قالت: كأنه هو، لم تقل: هو؛ لأنها وجدت فيه تغييراً، وقيل: لأنها تعجبت كيف أوتي به في هذه السرعة، وقد تركته تحت الأغلال وتحت القيود، فقالت: كأنه هو، ولما شبهوا لها بقولهم: أهكذا شبهت لهم بقولها: كأنه، قال تعالى: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ [النمل:42]، قيل: هذا من كلام الملكة، إذ إنها أسلمت قبل أن ترى هذه الآية، وقيل: هذا من كلام سليمان، أو من كلام من هم مع سليمان في مملكته، فقوله تعالى: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا [النمل:42]، أي: صدق سليمان ونبوته؛ لكثرة المعجزات التي رأوها الدالة على صدقه.

    قال تعالى: وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل:43]، أي: أنها لم تهتد إلى الإسلام مع كمال عقلها ورجاحته؛ وذلك لأنها نشأت في قوم كافرين، فلم تجد سبل الهداية ولا أسبابها، فعندما رأت هذه المعجزات أسلمت لله رب العالمين، واتبعت سليمان النبي الكريم.

    قال تعالى: قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ [النمل:44]، أراد سليمان أن يريها شيئاً من عظمة مملكته، فأمر بإقامة قصر من قوارير أي: من زجاج، وأجرى تحته الأنهار، فلما أرادت الملكة بلقيس أن تدخل الصرح ظنت أنها سوف تخوض في الماء؛ لأن القصر كان من قوارير.

    قال تعالى: فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً [النمل:44]، أي: ماء، وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَاَ [النمل:44]، وقيل: سمي الزجاج ماء من صفائه فكشفت عن ساقيها، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل:44].

    هذه هي عظمة الإسلام وقوة الإسلام إذا كان السلطان يدي به.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام بكيد فكده يا رب العالمين! ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه.

    اللهم نصرك الذي وعدت يا رب العالمين! وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، وانصرنا على من عادانا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

    اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والأمريكان المعتدين، ومن والاهم من المنافقين والعلمانيين، والذين يشيعون الفواحش في بلاد المسلمين، اللهم أحصهم عدداً، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، واجعلهم لسائر خلقك عبرة وآية، اللهم زلزل الأرض من تحتهم.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755898161