إسلام ويب

سلسلة القطوف الدانية الراسخون في العلمللشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد عظم الله العلم ورفع شأن الراسخين فيه ومدحهم في أوائل سورة آل عمران، ولا يتحقق أن يكون المؤمن من الراسخين في العلم حتى يتصف بصفاتهم ويتخلق بالأخلاق الفاضلة.

    1.   

    الكلام عن نشر الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم

    الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    نبدأ اللقاء بالحديث عن تجدد نشر الرسوم المسيئة لرسولنا صلى الله عليه وسلم، وقبل أن نذكرها نبين أصلاً عظيماً، وهو الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين زكى نبيه صلى الله عليه وسلم وعصمه وأكرم مثواه وسيحسن برحمة الله منقلبه، وسيكون صلى الله عليه وسلم يوم القيامة صاحب المقام المحمود، وصاحب الوسيلة، وهي درجة في الجنة لا يجتمع عليها اثنان، قال صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي أن تكون إلا لعبد وأرجو أن أكون أنا هو).

    فنحن عندما نتحدث عن تجدد نشر الصور المسيئة له صلى الله عليه وسلم نتحدث لنتقرب إلى الله جل وعلا بالحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم حديثاً حسناً، ولنبين عوار أولئك القوم، أما هو صلى الله عليه وسلم فمحفوظ بحفظ الله تبارك وتعالى له حياً وميتاً صلوات الله وسلامه عليه:

    والله لن يصلوا إليك ولا إلى ذرات رمل من تراب خطاك

    هم كالخشاش على الثرى ومقامكم مثل السماء فمن يطول سماكا

    صلوات الله وسلامه عليه.

    هذا التجديد يفرز أموراً كثيرة من أهمها أن طريق معالجتنا الأولى لم تكن في الغالب صائبة؛ لأن هذا الحدث تجديد، وقد كان من قبل على هيئة مقتصرة في صحيفتين أو ثلاث، والآن وصل العدد إلى سبع عشرة صحيفة، منها صحف مدعومة من الدولة، ففيها أن التأييد الحكومي الدنمركي في التجديد أكثر منه في الأول، كانوا في الأول يلتزمون الصمت لكن الآن بعض الصحف تحظى بتأييد من الحكومة، والكنيسة الكاثوليكية صمتت إلى الآن عما حصل.

    إذاً: هناك ثلاثة أمور: تجدد عدد الصحف وكثرتها، التأييد الحكومي والدعم الرسمي، الصمت الكنسي.

    نحن لا نريد أن نقدح في أحد، لكن بعض الفضلاء اجتهد، وقد لا يكون موفقاً في قضية اللين، وبعض الفضلاء اجتهد ولم يكن له أن يجتهد؛ لأن التحدث باسم الأمة والدفاع عن نبيها يحتاج أولاً إلى ما يشبه التوكيل والتفويض من الأمة، فليست القضية أن فرداً واحداً يسعى إلى حل المعضلة بيننا وبينهم، يعني: ليست مناط اجتهاد فردي، وأن الإنسان يأتي بمفرده يتحدث باسم المسلمين، فهذا غير مقبول، لابد أن يكون التفويض ناجماً عن جهة لها حق التخويل رسمياً أو شعبياً من رابطة العالم الإسلامي، أو منظمة المؤتمر الإسلامي.

    فمنظمة المؤتمر الإسلامي تمثل الحكومات ورابطة العالم الإسلامي تمثل الشعوب، وينبغي على منظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي الاثنتين أن يتخذا موقفاً موحداً وهما يتخذان القرار المناسب في مثل هذه الحالة.

    قضية سب النبي صلى الله عليه وسلم جريمة عظمى تخول الحرب؛ لكن الأمة ليست بمقدورها الحرب وهذا لا يختلف عليه اثنان، لكن هناك طرائق خفية لذا أقول: بعض أهل الصناعة القانونية من المعاصرين كتب في هذا المجال، آخرهم أني اليوم قرأت في جريدة الحياة لأستاذ اسمه محمود المبارك ذكر طرائق قانونية، ونبه على أن الميثاق الأوروبي ينص في المادة (29) على أن حرية التعبير عن الأديان مقيدة بألا تضر حرية الآخرين، وهذا في دول تحكم القانون في الغرب، فينبغي الاتكاء على مثل هذه في محاكمتهم، لا أعني محاكمة الفرد لكن قضية الضغط على الحكومات من باب القوانين التي يؤمنون بها ويبثونها في الناس.

    هذا من جهة العمل الرسمي، وللأسف أن الموقف الرسمي من دول العالم الإسلامي لا يرقى إلى أدنى ما هو مطلوب تجاه تجدد نشر الصور.

    أما ما يتعلق بعامة المسلمين فيظهر أن الدعوة إلى المقاطعة الاقتصادية على الأقل وإن لم تكسر لهم شوكة في الغالب، فإنها تشفي بعض العلة، فالتجديد لها أمر محمود مطلوب في ظني؛ ولذا أنادي بالمقاطعة.

    والأمر الثاني: قضية عملية، وهو أننا نعمل جاهدين على نصرته صلى الله عليه وسلم بنشر هديه وبعث سنته في الناس وفي الغرب، ونبدأ بالعمل الفردي والجماعي في نشر سننه صلى الله عليه وسلم وهديه والدين الذي جاء به.

    وهنا كلمة قالها العلامة الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين وفقه الله وحفظه عندما حصل الحادث الأول قال: إن الدنماركيين أساءوا إلى نبيهم؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم نبي لنا ونبي لهم؛ لأن كل من جاء بعده فهم من أمة الدعوة، فالدنماركيون ليس لهم نبي إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وهم مأمورون شرعاً بالإيمان به واتباعه صلوات الله وسلامه عليه، فهم أساءوا إلى نبيهم ونبينا في آن واحد، لكن الفرق بيننا وبينهم أننا من أمة الإجابة ولله الحمد وهم من أمة الدعوة.

    وهذا أمر يجب أن ينشر في أبنائنا وبناتنا على مستوى المؤسسات وغيرها، وقلت: لابد أن يرتقي الموقف الرسمي إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، والغريب أنهم يدعون أحياناً للقاءات أو لقمم في أمور هي أدنى من هذا بكثير.

    1.   

    العمل الفردي في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم

    الملقي: أخشى أن يفهم من كلامك التقليل من الجهود الفردية، مع أنه عندما تتخلى الجهات الرسمية وعندما نفقد العمل المؤسسي لا يبقى أمامنا إلا العمل الفردي؟

    الشيخ: الجهود الفردية تنقسم إلى قسمين مثل العمل التعبدي، فالشرع لا يأمرك أن تسأذن أحداً في نافلة أو تستأذن أحداً لصلاة التراويح، لكن إقامة جمعة أو عيد لابد فيه من إذن الإمام.

    وكذلك النصرة؛ عندما تقاطع لا يستلزم أن يوافق أحد فلا يلزم أن يوافقك الناس على أنك لا تشتري منتوجاً دنماركياً، وعندما تريد أن تحيي السنة فهذا واجب حتى لو لم يسيئوا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن عندما تريد أن تذهب إليهم لتتحدث باسم المسلمين وتناقشهم وتتفق معهم على خطوات، فهذا ليس من حقك.

    وهذا خطأ كبير وقع فيه كثير من المعاصرين في عدة جهات، منها جهة الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأحياناً في تقرير القتال، وأمور كثيرة لا تخفى.

    إن القضية الأساسية أنه لا يحق لأحد أن يتصرف باسم الأمة في أمر يهم الأمة كلها، فإما أن يأخذ إذناً شعبياً أو إذناً رسمياً، بل لابد منهما معاً حتى يمكنه أن يتحدث أما أن يأتي فلان ويأخذ معه شخصين أو ثلاثة ويقال لهم: نحن نخاطبكم باسم المسلمين فماذا تريدون وماذا نريد، هذا ليس من حقي ولا من حقك!

    أسأل الله أن يخزيهم، وهؤلاء يظهر أنهم أشباه عجول ليس لهم عقول، حتى دنيوياً وسياسياً ليس هذا تصرفاً محموداً بصرف النظر عنه دينياً.

    1.   

    أنواع فواتح سور القرآن

    السؤال: أعود إلى موضوعنا (والراسخون في العلم)، وقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ.. [آل عمران:7].

    فهذه الآية في سورة آل عمران وافتتحت بها هذه السورة، وقبل أن ندخل في تفصيلات الآية ونبين المراد بالراسخين والصفات التي لابد أن تتحقق فيهم، دعنا نقف مع فواتح السور في القرآن الكريم إذا كان من كلمة إجمالية تبين طبيعة هذه الفواتح.

    الجواب: افتتحت سورة آل عمران بقوله تعالى: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1-2]. ثم ذكر الله جل وعلا بعدها بآيات: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7].

    إذاً: هي في فواتح آل عمران، وفواتح السورة في القرآن لا تخرج كما حرر أئمة هذا الشأن عن عشر طرائق:

    النوع الأول: حروف مقطعة مثل فواتح آل عمران والبقرة (الم) ومثل فاتحة سورة مريم: كهيعص [مريم:1].

    الثاني: أن تكون قسماً: وَالطُّورِ [الطور:1]، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، وَالْفَجْرِ [الفجر:1].

    الثالث: أن تكون جملة خبرية: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1].

    الرابع: أن يكون دعاء، يقول الله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، ويقول جل ذكره: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين:1].

    الخامس: أن يكون نداء، قال جل ذكره: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1].

    السادس: أن يكون شرطاً إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1]، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1]، إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1].

    السابع: أن يكون استفهاماً، مثل قول الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان:1].

    الثامن: أن يكون تعليلاً، وهذا لم يرد إلا في موضع واحد، قال الله جل وعلا: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1].

    التاسع والعاشر: أن يكون ثناء على الله، والثناء على الله ينقسم إلى قسمين: ثناء بتمجيده وحمده، وهذا ورد في الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر، أو يكون بتنزيه الله عما لا يليق به، وهي السور التي وردت مبدوءة بسبح مثل: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ [الحشر:1] في الحشر وفي الحديد وأضرابها في القرآن.

    هذه جملة فواتح سور القرآن.

    1.   

    معنى آية الراسخين في العلم

    المقدم: إن الله عز وجل قبل أن يثني على الراسخين في العلم ابتدأ بالثناء على نفسه ثم تطرق إلى الثناء على الراسخين في العلم، نريد معنى الآية إجمالاً!

    الشيخ: قال الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7].

    إنزال الكتاب من أعظم ما تمجد الله به وامتن به على خلقه، فالكتاب هنا القرآن: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ [آل عمران:7]، هذا الكتاب منه آيات محكمات وأخر -أي: غير المحكمات- متشابهات.

    إذاً: في القرآن محكم ومتشابه، فالمحكم ما لا يمكن صرفه إلى غيره، فهو واضح الدلالة، مع خلاف العلماء في معنى المحكم لكن يفيء كله إلى هذا.

    والمتشابه هو ما لفظه أو تركيبه يحتمل معنى يوافق المحكم ويحتمل معنى لا يوافق المحكم؛ لكن هذا الاحتمال ناجم من اللفظ والتركيب لا من المراد، وهذا القيد مهم جداً في فهم القضية، أعني أن لفظ المتشابه وتركيبه يختلف عن المحكم؛ فلا يظهر المراد لك جلياً كما يظهر في المحكم.

    إذاً: المراد من المحكم ومن المتشابه واحد لكن لفظ المتشابه يختلف عن لفظ المحكم، فلفظ المتشابه يحتمل معاني أخر، لكنها غير مرادة، وهذا مهم جداً، ويتضح ذلك بمثال:

    قال الله تبارك وتعالى عن عيسى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171] فجاء النصارى وقالوا: يقول الله: إن عيسى روح من الله فلم تعارضون أن عيسى ابن الله والله يقول: (وكلمة منه)؟ هذا المتشابه المراد منه واحد، وهو إثبات شرف عيسى، وهو المقصود من المحكم، فالذي فهموه غير مراد أبداً لكن اللفظ يساعد على فهمه لكن أتوا من أنهم لم يردوا المتشابه إلى المحكم، لهذا قال الله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ.. [آل عمران:7].

    ومعنى: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أي: أصل الكتاب، أي: أصل يرجع إليه.

    وعندما نأتي لهؤلاء النصارى نقول: هذا المتشابه ردوه إلى المحكم، لأنا إذا رددناه إلى المحكم تتضح الصورة، والله يقول عن عيسى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [الزخرف:59]، فهذه آية محكمة تبين أن عيسى عبد، وقال تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75]، فهذه كلها آيات محكمات تدل على أن عيسى بن مريم عبد ورسول وبشر وابن لآدم، فنرد إليها المتشابه.

    لهذا قال الله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7]، وقبل أن نتجاوز هذه النقطة نذكر أن البعض يسمع محاضرات بعض العلماء والدعاة فيأخذ المتشابه منها ويجعلها أصلاً وينسى أن للشيخ كلاماً محكماً لو التبس عليه بعض كلامه لوجب أن يرده إليه.

    لأن المحاضر والمدرس عرضة لأن يخطئ عرضة لأنه لا يحسن التركيب وإن كان مراده صحيحاً، وسأقول لك قصة حصلت لي شخصياً:

    أنا كنت أتكلم في مسجد عن آية: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28]، وأنها وردت في القرآن حكاية عن عزيز مصر ولم ترد في القرآن مسندة إلى الله، وهي من كلام الله.

    فأنا أشرح الآية ولا أتكلم عن أسماء الله ولا عن صفاته، فما أحسنت اللفظ والتركيب فقلت: هذه جاءت على لسان العزيز وليست على لسان الله.

    في اللفظ عندما قلت: (على لسان الله)، لكن ليس المراد من كلامي أن أثبت أن لله لساناً؛ لأن الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي إنسان في قلبه مرض ويقول: هذا لا عقيدة له.

    1.   

    الرسائل النصية بالأذكار المجربة

    السؤال: في الآونة الأخيرة انتشر استخدام الرسائل النصية بالأذكار وبطريقة مجربة ونحو ذلك؟

    الجواب: توسع الناس في هذا وبعضه لا أصل له، وقد يقول قائل: أنت ذكرت في هذا البرنامج قضية رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89]، فأقول: لكن قلنا: إن رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89] قلناها لأنها مبنية على نفس المسألة، أعني: أن زكريا عليه السلام ابتلي بأنه لا ينجب.

    فنحن لم نأت بشيء من عندنا فإن الله قال: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، ذكرت في آل عمران وذكرت في الأنبياء.

    المقصود أن الآية بنفس السياق، لكن هناك توسع عددي وتوسع رقمي ما أنزل الله به من سلطان بدأ ينتشر.

    أما التحديد بأربعين فقد نازعني فيها كثير من الفضلاء، وحق لهم ذلك وقولهم قوي، لكن يقول الله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15]، والأنبياء بعثوا على رأس الأربعين والله جل وعلا واعد موسى أربعين، ثم التجربة التي حصلت أولاً كانت أربعين، ومع ذلك أقول: أنا لا ألزم التقيد بالأربعين، قد تأتي أكثر، قد تأتي أقل، وقد تكون مرة واحدة، يعني: ليس نفعها ملتصقاً بعدد أربعين.

    فيدعو الإنسان ولا يحدد، لكن لو حدد بأربعين لا أجد فيها حرجاً؛ لأن هذا مبني على التجربة.

    أما أن يقاس عليها مسائل أخرى في كل موضوع فأقول: لابد أن يفرق بين المسألة التعبدية والمسألة الطبية، فهناك فرق كبير بين القضيتين.

    1.   

    التعامل مع الذين أعادوا نشر الرسوم المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

    المقاطعة الأبدية لبضائع الدنمارك

    السؤال: هل المقاطعة للدنمارك تكون مؤقتة، أي: كلما جددوا الإساءة جددنا المقاطعة أو تكون أبدية؟

    الجواب: أنا أرى أنها تبقى إلى الأبد، مثل هؤلاء لا يتركون فتطلب مقاطعتهم حتى يعتذروا جميعاً وهم صاغرون.

    حكم الرد على الدنمارك برسوم تسيء إليهم

    السؤال: سائلة تقول: هل يمكن ممارسة نفس الأسلوب يعني: أن نعيد لهم الرسوم؟

    الجواب: هذا طرحه بعض الكتاب المعاصرين الأقوياء، وأظنه جيداً لكن السؤال: ماذا ينشر؟ لأنه لا يمكن أن ينشر صورة عيسى؛ فإنه كفر.

    إعادة الرسوم المسيئة بقصد توعية المسلمين بما حدث

    الملقي: بعض الغيورين عندما أراد أن يهاجم الدنمارك ويرد عليهم حاول أن ينشر هذه المسألة بين المسلمين بأن يوعي المسلمين بأن هناك إساءة في الدنمارك؛ لكن هذه التوعية كانت مصحوبة بإعادة الرسوم مرة أخرى، فما رأيكم؟

    الشيخ: لا يعيد أبداً، والمسلم يكفيه مجرد إخباره أن النبي صلى الله عليه وسلم تعرض للإساءة.

    1.   

    الكلام على آية الراسخين في العلم

    الحكمة من ورود المتشابه في القرآن

    الملقي: ما الحكمة من ورود الآيات المتشابهات، وكيفية التعامل مع هذه الآيات؟

    الشيخ: الحكمة منها أولاً: لو كان القرآن كله محكماً لصار حال الناس في التسليم واحداً؛ لكن المتشابه يقصد منه في المقام الأول أن المؤمن يؤمن به فيعلن بذلك استسلامه لربه تبارك وتعالى وخضوع قلبه لخالقه، قال الله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، أي: المحكم والمتشابه، فأول حكمة من إيجاد المتشابه أن تخضع القلوب لعلام الغيوب جل جلاله.

    الأمر الثاني: الله جل وعلا كرم الإنسان بالعقل، والعقل إذا لم يعمل مات، فعندما يكون في القرآن متشابه يكون مضماراً تجري في أقدام العلماء فيبحثون في القرآن، والعلماء لا يزالون يستنبطون منه ويأخذون ويقتبسون من سناه، فدراسة المتشابه وكيفية رده للمحكم مجال عظيم لأهل العلم، وهذا المجال العظيم فيه إذكاء لعقولهم، فعندما يكون إذكاء لعقولهم يكون معناه أن الرب جل وعلا كرَّم عقل المؤمن بهذا.

    الأمر الثالث: أن القرآن عربي، كلام العرب جاء على ضربين: كلام موجز يفهمه كل أحد، وكلام يحمل كنايات وإشارات وتلويحات لا تدل على المعنى المراد مباشرة، فالقرآن جاء بطريقتهم وأسلوبهم، فجاء بالمحكم وجاء بالمتشابه، فالمحكم يوافق كلامهم الموجز الذي لا يختلف عليه اثنان، والمتشابه يوافق كلامهم الذي يحمل عدة معان؛ فكأن الله جل وعلا يتحداهم بجنس كلامهم، أي أن الله يقول لهم: جئتكم بقرآن يحمل الضربين اللذين تتفوقون فيهما، أي: فأنتم لا تقدرون على مجاراة محكمه ولا على مجاراة متشابهه.

    فهو إمعان في التحدي وإمعان في الإعجاز اللغوي.

    موضع الوقف في الآية

    الملقي: هل نقف على قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، أو نصل فنقول: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ [آل عمران:7]؟

    الشيخ: هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم والأئمة رحمة الله تعالى عليهم أحياء وأمواتاً من قبل، يقول الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7].

    أنا أقول: إنه يجب أن نحرر معنى كلمة (تأويل)، لأنه لا سبيل إلى معرفة مكان الوقف في الآية حتى نعرف معنى كلمة (تأويل)، وأنا سأسرد أقوال العلماء:

    قال بعض العلماء وهو قول ينسب إلى الجمهور: إن الوقوف على لفظ الجلالة: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، والواو بعد ذلك استئنافية، أي: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7].

    وقال مجاهد وبعض أئمة التفسير: إن الواو عاطفة فيقرأ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، فيكون قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7]، جملة حالية من الراسخين.

    والصواب عندي والعلم عند الله أن الحق يعرف بعد معرفة معنى كلمة تأويل، وكلمة (تأويل) في القرآن وردت بمعنيين: وردت بمعنى تفسير، ووردت بمعنى حقيقة الشيء وكنهه ومآله.

    فإذا عبرناها بأنها حقيقة الشيء وكنهه ومآله وجب الوقف على لفظ الجلالة؛ لأن هذا لا يمكن أن يعلمه إلا الله، ومنه قول الله جل وعلا: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف:52-53]، أي: يأتي مآله، فهذا لا يمكن أن يعلمه إلا الله.

    أما إذا قلنا: (تأويل) هنا بمعنى التفسير وبيانه للناس بياناً لا يصل إلى معرفة حقيقته وكنهه، فهنا الصواب عندي أن يوقف على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، يصبح الراسخون في العلم يعلمون تفسيره للناس، الفخر الرازي رحمه الله وعفا عنه لا يرى الوقف على الراسخون في العلم ويرى الوقف على لفظ الجلالة، فيقول: لو كان الراسخون في العلم يعلمون تأويله لما بقيت لهم مزية؛ لأن المحكم والمتشابه صار عندهم شيئاً واحداً، فانتفى الأمر القلبي؛ لأنهم أصلاً عرفوا تأويلها بالعلم، هذا رأيه، وعندي أن هذا القول حجة عليه لا حجة له؛ لأن الله لو أراد القضية القلبية لقال: والراسخون في الدين، في الإيمان، في اليقين يقولون آمنا به، لكن الله قال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7].

    أعني لأن الثناء بالإيمان القلبي يأتي في الأمور التي يسلم الإنسان فيها، ولا يعرف حكمتها، أما الإيمان العلمي فيأتي في الأشياء التي يعرف الإنسان حقيقتها ويعرف المراد منها.

    فأقول: إذا كان المقصود بالتأويل هو إدراك حقيقة الشيء وكنهه فهذا لا يعلمه إلا الله، ونقف على لفظ الجلالة، وإذا كان التأويل تفسيره وبيانه للناس فهذا يوقف على وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، وأظن أن الآية إلى الثاني أقرب، والعلم عند الله.

    الملقي: لكن بالنسبة للقارئ هل يختار أن يحمل المعنى على ما يريد ويقف في الموقف الذي يراه؟

    الشيخ: بالنسبة للقارئ فإنه يقف حسب ما يعتقده؛ لكن كما قلت إنه ممكن أن يقف على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، ثم يقول: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7] يصير كأنه جمع بين القولين.

    1.   

    الأذكار التي تقال في الركوع والسجود

    السؤال: سائل يسأل عن صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم سواء في الركوع والسجود هل يجب على الإمام أن يلتزم بجميع الأذكار الواردة؟

    الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم خير من صلى وصام وأفطر، شافع مشفع في عرصات يوم المحشر، وقد نقلت عنه صلى الله عليه وسلم أذكار، هذه الأذكار تنقسم إلى قسمين في الركوع والسجود: فأذكار لابد من الإتيان بها، وهي قول: سبحان ربي العظيم في الركوع، وسبحان ربي الأعلى في السجود.

    فما زاد على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم في الركوع: (خشع سمعي وبصري وعظمي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين، سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، لا يغفر الذنوب إلا أنت)، وأضرابها فهذا يقال حيناً ويترك أحياناً، ويفرق الإنسان ما بين حاله وهو إمام وما بين حاله وهو منفرد.

    فإن كان مأموماً فلا شك أنه تبع لإمامه، لكنه إن كان إماماً يتحرى عدم الإطالة، وكذلك لا يتوخى التقصير المخل، وإنما لابد أن يكون هناك طمأنينة في الركوع والسجود ولا تكون هناك إطالة تجعل الناس ينفردون.

    ومعلوم حديث معاذ في القضية، إلا أنني أود أن أعطي فائدة، وهي أن معاذاً كان يصلي بقومه فكان يصلي وراءه شاب فالشاب عندما كان معاذ يطيل ترك الصلاة وانصرف، فغضب معاذ وتفرس فيه أنه منافق فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلاهما قال ما عنده، هذا يشتكي معاذاً أنه يطيل ومعاذ يشتكي أن هذا يترك الصلاة ويخرج، فقال صلى الله عليه وسلم: (أفتان أنت يا معاذ ؟)، قال هذا الشاب: وسيعلم معاذ إذا قيل أقبل العدو من الذي يثبت؟

    فحدثت غزوة بعدها فتقدم الشاب الصفوف ومات شهيداً، فقابل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً ومعاذ رضي الله عنه وأرضاه من أجلاء الصحابة فقال له صلى الله عليه وسلم: (ما فعل صاحبك أو ما فعل خصمك؟ قال: يا رسول الله! صدق الله وكذبت!معاذ يقول: (كذبت) بمعنى أخطأت، وليست كذبت بمعنى أني قلت خلاف ما أعتقد، وهذا وارد من كلام السلف.

    وأيضاً: الرجل صدق الله في نيته فصدقه الله، فعندما كان يقول: سيعلم معاذ إذا أقبل العدو من الذي يثبت؟ كان صادقاً في دعواه، فهنا انظر إلى فقه رجل لم يتحمل الإطالة ومع ذلك ثبت في مواطن عظيمة جليلة.

    1.   

    تعليق على قوله: (فما ظنكم برب العالمين)

    السؤال: سائل يطلب تعليقاً منك على قوله تعالى: فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:87]؟

    الجواب: هذا من محاورة نبي الله لقومه، والمقصود من كلام الله هنا جملة تسفيه آراء القوم كيف أنهم يعظمون أصناماً ويعبدون أوثاناً ثم يغفلون عن تعظيم رب العالمين جل جلاله.

    1.   

    الصفات السلوكية للراسخين في العلم

    الملقي: ما هي الصفات التي لابد أن تتحقق في الراسخين في العلم، فإن طلبة العلم والعلماء كثر لكن من هو الذي نقول: هذا راسخ في العلم؟

    الشيخ: يقولون عن مالك رحمه الله: كان إذا حدث بالحديث يتوضأ ويعتدل في جلسته، وإذا تكلم في الفقه رحمه الله قعد كيفما اتفق.

    الكلام في الراسخين في العلم كلام مهيب مخيف وأرجو أن أكون أهلاً لأن أتكلم فيه وأنقله للناس، فيعرف الراسخ في العلم بأربعة أشياء سلوكية: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الناس، والزهد في الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.

    وتحرير ذلك: أنه لا يمكن أن نصف أحداً بأنه عالم راسخ في العلم وقلبه خال من التقوى لا في السر ولا في العلانية، ولا يمكن أن يوصف هذا بأنه عالم أصلاً؛ لكن التقوى درجات، فينبغي أن يكون الراسخ في العلم في أعلى درجات التقوى بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، أن ينظر الناس إليه كقدوة فلا يجدون فيه إلا تقوى الله، وليس الأمر بالتمني والتحلي ولكنه تطبيق عملي، وهذا مضمار أو شرف كل يدعيه والناجون فيه قليل، والحاصلون عليه أقل.

    فينبغي للعالم الحق الراسخ في العلم أن يكون تقياً، وهذا أشرف المواطن وما بعده مندرج فيه.

    فإذا قلنا التواضع بينه وبين الناس فمن أخطائنا أن الشيطان يغلبنا أحياناً فيجعل تلقينا للعلم لينظر إلينا الناس، لنتصدر في المجالس، وهذه أمور تبقى في النفس سيأتي الحديث عنها، وعندما يشاهده الناس عالماً مبجلاً، إذا وجد هذا التبجيل تبعاً فلا يمكن للإنسان أن يمنع الناس منه إلا إذا رآهم يغالون، ولا يضره عندما لا يكون مطلوباً له، وكيف يعرف أنه غير مطلوب له؟ يعرفه حين لا يبقى في قلبه شيء على من لم يبجله، ولا يسعى لمكان يرى أنه يبجل فيه ويترك مكاناً لا يبجل فيه، اللهم إلا مكاناً لا يريد منه الناس أن يتكلم فيه، فهذه مسألة أخرى.

    فهذا الأمر الفاصل في قضية أن الإنسان يكون فيه تواضع مع المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد العلماء كما هو سيد الأنبياء، والقدوة في تواضعه.

    أما إذا كان العالم يترفع على الناس بعلمه ويطلب من الناس ثمن علمه اجتماعياً بأن يتكبر عليهم ويرى أن له الحق عليهم والتقدير والتبجيل فهذا قد يقال إنه أخذ حقه في الدنيا، فلا يأتي يوم القيامة وهو يؤمل أن يجد شيئاً عند الله، والله جل وعلا كلما عظمت محبته لعبد عظم ما ادخره له.

    ولهذا أقول والعلم عند الله: لأمر ما قال الله عن خليله إبراهيم: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ [العنكبوت:27]، وذلك حتى لا يفهم أحد أن إبراهيم عندما أخذ أجره في الدنيا ليس له شيء يوم القيامة، أعني: أن الأصل أن من أخذ أجره وافياً في الدنيا ليس له شيء يوم القيامة، فيقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [الأحقاف:20]، لكن لأن إبراهيم كان لا يريد بعلمه ودعوته إلا الله وفاه الله أجره في الدنيا وقال: وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ [العنكبوت:27].

    فالمقصود أن التواضع للناس هو السمة العظمى للعلماء.

    الصفة الثالثة: الزهد في الدنيا في تعامله، والدنيا لا يكون الزهد فيها في ملبس أو هيئة الإنسان، يعني: لو أني أتيت إلى هذا البرنامج بشماغ مخرق ولا ألبس عباءة سيقول الناس: ما شاء الله، هذا الشيخ زاهد متواضع، هذا الشيخ لا يملك شماغاً، فكأني حصلت على الدنيا من وجه آخر، فثناء الناس من متاع الدنيا، ولو أتيت أرفل في الحرير وفي أمور عظام لقالوا: هذا متكبر على الناس.

    لكن يكون الإنسان كما كان النبي صلى الله عليه وسلم لما رزق النبوة منع الحرير وقصر الإزار وبقي يلبس كما يلبس قومه فلم يأت بجديد، ولهذا جاء النهي عن لباس الشهرة.

    يعيش مع الناس كما يعيشون في حياتهم العادية، فعندما يأتي إنسان يركب سيارة كامبرس وراتبه 10000 أو 12000 مثلاً فهناك توافق بين مركوبه وراتبه، فهذا أمر يجري على الناس كلهم، فهذا نوع من الزهد في الدنيا، أحياناً يأتي أناس لا سبيل لهم إلى جمع المال فيظنون أن هذا زهد وهو متشوف في قلبه لأمور عظيمة يريد الوصول إلى تلك الأمور لكن أقعده أنه لا يستطيع الوصول إليها.

    إنما الشأن كل الشأن من يستطيع أن يصل إليها ثم لا يأخذ منها إلا الكفاف والقناعة، هذا هو الزاهد في الدنيا حقاً، وهو من كانت الدنيا في يده ولم تكن في قلبه، وهذا أمر يقع فيه خطر عظيم، فأول فتنة وقعت في الأمة فتنة المال وفتنة الدنيا، فالخوارج أول الفرق ظهوراً ورأسهم الذي خرج من ضئضئه الخوارج ذو الخويصرة ، لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين قال: اعدل! فقال صلى الله عليه وسلم: (ويلك! إن لم أعدل فمن يعدل؟ ثم قال: سيخرج من ضئضئ هذا أقوام تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم ...).

    ولهذا قال العلماء إن أول فتنة كانت بسبب الدنيا فالدنيا لما ذكر الله زينتها قسمها فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14]، فأعظم ما يمكن أن يبتلى به طالب العلم قضية النساء، فقد يسرف الإنسان في الدخول في أمور نسوية تقوده عياذاً بالله من حيث لا يشعر وسط فتنة النساء فلا يستطيع الانفكاك منها؛ لأن المرأة غاية مرغوبة وزينة.

    وهذا ليس فيه تنقص للنساء؛ لكن من حق الرجل أن يحافظ على دينه.

    بعد ذكر النساء الله قال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران:14]، الإنسان يحب أن يرى الناس أبناءه في أبهى حلة، فيبحث عن المال بأي طريقة ليظهر أبناءه منعمين، وهذا يخالف الرسوخ في العلم.

    بعد ذلك جمع المال، وقد جاء في زماننا هذا الانفتاح الإعلامي، والانفتاح الإعلامي الحق أنه شهرة؛ لأن الإنسان يمجد ويبجل ويوسع له الطريق، فلا يجوز لمؤمن ينتسب إلى العلم أن يشتري بعلمه ثمناً قليلاً من الدنيا، لكن ما جاء عرضاً يحاول رده قدر الإمكان، ويقبله إن لم يكن فيه كبر في نفسه ولا ضرر على غيره، أما غير ذلك فلا يجوز لعاقل أن يأخذ حقه قبل أن يلقى الله.

    الصفة الرابعة: بعد الزهد في الدنيا مجاهدة النفس: فنحن بشر ضعفاء مركب فينا النقص، مركب فينا الحسد، مركب فينا الحقد، مركب فينا حب المال، مركب فينا حب النساء، مركب فينا حب الظهور؛ هذه أمور لا يمكن أن نسلم منها فيسعى المؤمن الراسخ في العلم حقاً إلى مجاهدة نفسه فمرة يغلب ومرة يغلب، فإذا غلب استغفر الله وآب وتاب، وإذا غلب حمد الله جل وعلا وأثنى على ربه حتى تبقى النعمة.

    هذه الأربع صفات سلوكية عظيمة في كل من يدعي رسوخاً في العلم.

    1.   

    الداعيات إلى الله

    حياء المرأة في تبليغ الدعوة

    الملقي: سائلة تقول: الشخص إذا كان لديه علم لكن لا يستطيع إخراجه إلا لبعض الإخوان إما لحياء أو تهيب من الجمهور، فهل يعتبر هذا من كتمان العلم؟

    الشيخ: أرجو ألا يكون من كتمان العلم، لكن تحاول أن تعود نفسها على أن تذهب الهيبة من قلبها، والحياء أمر محمود في النساء خاصة، لكن تجتهد قدر الإمكان فيمن تستطيع أن توصل العلم إليه.

    تعليم الكبار أمور العقيدة

    الملقي: من له أبوان أميان هل يعلمهم أمور العقيدة؟

    الشيخ: لا يدخل في التفاصيل المعروفة فهذه صعبة عليهما، أعني خلافات العلماء وما إلى ذلك وإنما يعلمها معرفة الله وتبجيله وإجلاله، وذكر بعض الأذكار التي تظهر فيها العقيدة الصحيحة بجلاء كالاستعانة بالله وقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأذكار الصباح والمساء وأضراب ذلك.

    هيئة المرأة الداعية

    الملقي: الأخت سلمى تتكلم عن وضع دور تحفيظ القرآن تقول: بعض الداعيات تتهم بالمنظر سواء من الداعية أو من المتلقية، والبعض تهمل هذا الجانب؟

    الشيخ: تلبس ما يلبسه النساء إذا كانت في الدور وجرت العادة فيها، العبرة فيما يقال للنساء ألا يحملن التشديد والغلظة في الإلقاء ولا يكون هناك نوع من التساهل، الدين مضمونه واحد، لكن كيف نبلغه؟ هذا الذي يختلف الناس فيه، فلابد أن نراعي حال من نخاطبه، فمن كان محسناً يحاول أن يزداد، ومن كان مسيئاً نحاول أن نترفق به ونصل به إلى درجة أعلى.

    1.   

    الصفات الأخرى التي يجب تحققها في الراسخين في العلم

    الملقي: أعود إلى الأمور الأربعة التي ذكرت أنها يجب أن تتوافر فيمن يكون راسخاً في العلم، لعلك تلاحظ -يا شيخ- أنها كلها أمور سلوكية، فهل يضاف إليها غيرها؟

    الشيخ: نعم، هي أمور سلوكية لكنها فيصل عظيم، صحيح لابد من أمور مصاحبة أخر لكن هذه الأربع هي التي تكون فيصلاً في معرفة العالم الحق.

    ومما يضاف إليها: أن يعلم أن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده، فهو فضل وفهم يؤتيه الله من يشاء، قال مالك رحمه الله: ليس العلم بكثرة الرواية ولكنه فهم ونور يؤتيه الله من يشاء.

    هذا القول تلقاه أهل العلم بالقبول؛ لأن السنة دلت عليه، فقد دل عليه حديث علي رضي الله عنه كما في البخاري : (هل خصكم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يؤتيه الله من يشاء بكتابه).

    قال الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه في الفتح معلقاً على هذا: وهذا القول يؤيد قول مالك رحمه الله أن العلم نور وفهم يؤتيه الله جل وعلا من يشاء، قال بعض المالكية يمدح مالكاً على قوله هذا:

    ومن قوله المفيد غاية ليس العلم بكثرة الرواية

    لكنه نور في القلوب يضعه رب السموات لمن يشاء ر فعه

    البيت قريب من هذا!

    المقصود أن العلم نور يقذفه الله جل وعلا في قلب من يشاء هذا أمر يجب أن يتنبه الناس إليه عندما يريدون أن يتعاملوا مع العلماء أو أن يسلكوا طلب العلم، وهذا أمر ملحوظ، فكم من إنسان ثنى ركباً وقرأ أوراقاً ولم يبلغ فيه مبلغاً، وكم من إنسان فتح الله عليه بسرعة، ولا يعني ذلك أنه لم يطلب؛ لأن الحقيقية الثانية هي: كثرة الطلب.

    فلابد من الطلب، لكن متى يكون الطلب؟ كان بعض العلماء يقول: الطلب دون الأربعين، وبعد الأربعين يتفرغ للعبادة، لكن رد هذا بأنه عرف في الأمة علماء طلبوا العلم بعد الأربعين مثل حسن بن زياد اللؤلؤي أحد علماء الحنفية طلب العلم السبعين وفاق فيه وأصبح مفتياً وهو لم يبدأ الطلب إلا بعد السبعين، وكان أول ذلك كله عابداً.

    فكثرة الطلب والعناية الهامة جداً بعلم الآلة؛ لأن الإنسان إذا فقد علم الآلة لا يمكن أن يصل.

    وقد يكون وقت البرنامج داهمنا، لكن حتى يستفيد الناس أنصح نصائح عامة من خلال التجربة فأقول:

    العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء، ولابد أن تستصحب ذلك، فتسأل الله من فضله، ولا تبدأ حياتك العلمية بنقد الكبار ولا بالرد على مسائل اختلفوا فيها؛ لأنك تكشف بذلك عورتك.

    لا تطير قبل أن تريش، فليكن قبل الأربعين جمع ثم بعد الأربعين غربلة لذلك الجمع، ولا تبدأ بنقاش الكبار حتى لو أخطئوا؛ لأنك لا تملك الآلة إلى مناقشتهم.

    وأيضاً: لابد من الصبر وتقصي الحق في المسائل العلمية.

    محمد الأمين الشنقيطي لما جاء يناقش هل الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع وذلك في تفسيره للقرآن ذكر بحثاً مجملاً، ثم قال حتى يبين أنه يلم بشتات القضية: والقضية من حيث المنهج العلمي يمكن مناقشتها من ثلاثة أوجه: النص الصريح القولي أو الفعلي من حيث صناعة الحديث والأصول من حيث أقوال العلماء ثم بعد هذا أخذ يبين رأيه وترجيحه.

    المقصود من هذا ليس رأيه وترجيحه، المقصود من هذا أن ننظر كيف جمع النظر في صناعة الحديث وعلم الأصول والنظر في النص الصريح والنص الفعلي والنظر في أقوال العلماء، وهذا كله مفقود.

    ويأتيك أحياناً من طلبة العلم من لا يعرف إلا النتيجة ويظن أن الوصول إلى النتيجة هو العلم، والنتيجة قد ينالها الإنسان من فتوى، ولو كان هذا المسلك صحيحاً لكان آباؤنا وأمهاتنا علماء؛ لأنهم يقابلون المذياع ويسمعون فتاوى العلماء لكنهم لا يعلمون على أي أساس ركبت تلك الفتوى، وهؤلاء لا يمكن أن يسموا علماء ولا يمكن أن يسموا مفتين.

    وأنت تريد أن تكون عالماً مفتياً، وهذا أمر جداتنا في البيوت يسمعن قول فلان من العلماء أن هذا حرام، فعلمها أنه حرام ينفعها في دينها لكن لا يدل على أنها عالمة؛ لأنها لا تعلم لم حرم ولا تدري الآلة التي توصل بها الشيخ إلى العلم، ولا الطريقة العلمية التي توصل بها الشيخ إلى أن الفتوى صحيحة أو غير صحيحة.

    وهنا بعض الناشئة يبدأ بأخذ فتاوى العلماء ثم يأتيك يناقشك بناء على النتيجة، وهو لا يدري كيف وصل الشيخ إلى هذه النتيجة، وهذا كله قصور في الفهم وقصور في الطلب، ولا يمكن أن يكون به إنسان راسخاً في العلم.

    ثم لابد أن يجمع الإنسان إلى هذا النصح لدين الله ولرسوله، فالنصح هو الذي من الله به على أنبيائه ورسله وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68] من أراد أن يطلب العلم ليظهر جماعة أو حزباً أو ينال مالاً أو يحيي أمراً شخصياً أو ما إلى ذلك فليترك العلم لأهله، وحتى لو وصل لا يمكنه أن يكون في دين الله ذا شأن، ولا يمكن أن يعطى إمامة دينية وفق المنظور الشرعي.

    المنظور الشرعي يعطي الإمامة في الدين لمن يستحقها، لمن لا يريد بتعليمه للناس إلا وجه الله، ولا يريد بعلمه ولا بفتواه أن ينتصر لقول زيد أو قول عمرو أو الحزب الفلاني أو الجماعة الفلانية أو السلطان أو العامة، فكل هؤلاء يتجرد منهم.

    ثم مما ابتلينا به في زماننا أنه يأتيك النشأ فيقول: أنا أدين الله بهذا. وهو صادق في كلمة (أنا أدين الله بهذا) لكن السؤال: هل أنت تملك الأهلية لأن تصل إلى هذا الحكم قبل أن تدين الله فيه؟

    فالآن لابد من آلية، ثم الوصول إلى الحكم، ثم الديانة بهذا الحكم تأتي في الأخير، فهو يقرأ كتباً فإذا وصل إلى قول عالم من العلماء قال: هذا ما أدين الله به.

    أو يأتي عالم نحرير فيقول بعد كلام طويل: هذا ما أدين الله به، فيأتي هذا الغر في مجلس تعجبه هذه الكلمة فيضع رجلاً على رجل ويقول في مسألة لا يعرف ما الأقوال فيها ولا يعرف الصناعة النحوية ولا الصناعة الحديثية ولا الصناعة الأصولية، ثم يقول لك: هذا ما أدين الله به! أنت صادق في قولك لكن ارفق بنفسك يا بني فليس هذا هو العلم، تعلم كيف وصل هؤلاء الأكابر حتى قالوا هذه الكلمة، ثم قالوا ديانة: هذا ما أدين الله به.

    هذا وإن كان في قولنا بعض القسوة؛ لكن

    فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم

    إننا لأن يبغضنا الناس خير لنا من أن يحبنا الناس ونحن ننشئ جيلاً غير صحيح، هذه أمة محمد صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم).

    فمن حق عامة المسلمين علينا أن يبين لهم الدين، ولذلك أنت ترى الآن القنوات أفرزت أقواماً تصدروا الفتوى وليسوا أهلاً للعلم.

    قد يقول إنسان: إن هذه غيبة. أقول: هذه ليست بغيبة؛ لأن الحفاظ على الدين أهم من الحفاظ على الأشخاص، وحرمة الدين أعظم من حرمة الأفراد، ثم إن القضية تتضح في أنه أحياناً يأتي شيخ يتكلم بالعامية، الكلام بالعامية لا نمنعه حسب حال المخاطب؛ لأن المقصود نشل الناس من الضياع، لكن هناك فرق كبير بين رجل ذي علم جم يدرك المسألة حقاً ثم يريد أن يقرب الأمر للعوام فينزل لهم بلغتهم، هذا لا ضير فيه؛ لكن يأتينا من لا يدرك المسألة ويقولها بالعامية ويظهر من كلامه أنه أصلاً لا يفقه المسألة، فهذه مصيبة على مصيبة، العامية ليست عيباً، لكن يظهر من كلامه أنه لا يفقه المسألة، فينجم عنه أن العوام يحبونه؛ لأن لغته قريبة من لغتهم، لكن حب العوام ليس شهادة على أنه عالم.

    وأنا كنت في القاهرة قبل أيام فوضع لي أحد الإخوة في السيارة شريطاً لعالم أعلمه يتكلم باللهجة المصرية؛ لكن الرجل من كلامه ومن محاضرته يظهر لك أنه متمكن علمياً إلى حد كبير، مع أنه كان وقتها يتكلم باللغة العامية، فهذا الرجل العالم هو أبو إسحاق الحويني وفقه الله، وهو محدث كلامه كلام علمي وإن كان يقوله باللهجة المصرية لينفع الناس؛ لكن الرجل يتكلم كلاماً علمياً؛ لكن قد يأتي إنسان من أي بلد كان -سواء من بلادنا أو من غيرها- فيتكلم بالعامية ويسمع فتوى ثم يردد هذه الفتوى متكئاً عليها؛ لأن هذه الفتوى قالها عالم مشهور، وهو ليس له مستند إلا هذه الفتوى.

    ثم يدخل مع هذه الفتوى أمور يريد أن يوصلها للناس، ولا يجوز شرعاً أن يتصدر مثل هؤلاء.

    وينبغي الاعتناء بحرمة الدين والعلم، وهذا ناجم عما قلنا في الأول إنه لا يوجد تقوى ويوجد حب للدنيا، وهذان كفى بهما هلاكاً.

    فحب الدنيا مهلكة، لكن الناس يفهمون أن حب الدنيا ألا تمشي مع السلطان، مع أنه قد يأتي إنسان يمشي مع الأمراء وليس في قلبه من دنياهم شيء إنما يريد النصح لله ورسوله، ويأتي إنسان يمشي مع الضعفاء والبسطاء وهو لا يريد إلا يسلط الأضواء عليه، ثم إذا سلط الأضواء عليها نال من وراء ذلك ما الله به عليم.

    فالله جل وعلا أجل من أن يخادع، ويجب الإبقاء على حرمة العلم وحرمة الدين، والنظر الحق في كتب الأئمة من قبل، وإلا فإذا كان العلم أن يأتي الإنسان إلى الشاشات أو ما يسمى بالشبكة العنكبوتية ثم يضع اسماً ثم يفرز الأوراق التي جاءت على هذا الاسم ثم يحفظها ثم يقولها للناس: هذا علم؛ فعلى هذا يكون الناس كلهم علماء.

    أنا أغلظت في هذا لكنها والله رحمة بنفسي وبمن يسمعني!

    1.   

    وقفة مع دعاء الراسخين (ربنا لا تزغ قلوبنا...)

    الملقي: جزاك الله خيراً، وأنت كنت تتكلم بحرقة دعوة لصغار العلم أن يتمكنوا في العلم، ودعوة لمن تصدر للفتيا -ولاسيما في وسائل الإعلام- أن يكون أهلاً لذلك.

    دعني أعود إلى قوله تعالى بالنسبة للراسخين في العلم: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] إلى آخره رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [آل عمران:8]، نريد أن نقف مع هذه الدعوة وقفة إيمانية قصيرة.

    الشيخ: يقول الله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:7-8].

    الله تعالى وصفهم بأنهم راسخون في العلم، ثم هنا يعلمهم أدب الدعاء؛ لأن هذه الدعوة من طرائق القرآن في تعليم أوليائه، فقال الله: إنهم يقولون: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]، كأن هذا العلم الذي أصبحوا راسخين فيه ليس هو سبب هدايتهم وأنهم مسلمون أمرهم إلى الله وأن الهداية بيد الله، ولهذا يقولون: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8].

    الإنسان إذا كان جائعاً ويملك رغيفاً واحداً ويعلم أنه محال أن يصل إلى رغيف بعده إلا بشق الأنفس تراه متشبثاً بهذا الرغيف حتى عن زوجته وبنيه، ولا شيء أمام الهداية التي في القلب، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم يا مقلب القلوب صرف قلبي إلى طاعتك)، ولا يوجد شيء نسعى للحفاظ عليه أعظم من الهداية، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [آل عمران:8].

    هذه الرحمة تنفعنا في حياتنا، تنفعنا في ظلمة القبر، تنفعنا إذا قام الأشهاد وحشر العباد ووقف الناس بين يدي رب العالمين رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

    ثم جاء التخويف بيوم الحساب الذي تذكره فينبت في القلب الخشية من الله: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران:9]، وقد قلنا مراراً في دروس سلفت وأيام خلت: ليست الفضيحة أن تفضح بين زوجتك وأبنائك وأولادك ومحبيك وجيرانك؛ لكن البلاء كل البلاء أن يفضح الإنسان بين يدي رب العالمين، رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران:9].

    فالأصل أن من طلب العلم وسلكه يكون همه الأول ألا يفضح بين يدي الله، فماذا سيقول عالم إذا وقف بين يدي رب العالمين جل جلاله، وفضح بأنه كان يطلب العلم وينشده ويتنقل في القنوات ويأتي في الإذاعات وهو يريد ما عند الناس، كيف سيكون حاله عياذاً بالله إذا قام الأشهاد وحشر العباد؟ معاذ الله أن نزكي أنفسنا لكن على الأقل أن الإنسان على الأقل يستغفر الله، لكن من جعله وراء ظهره لا يمكن أن يصل إلى مقصوده، لا يمكن أن يصل إلى مراده.

    رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]، هذا من أعظم الدعاء الذي علمه الله جل وعلا عباده، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، والله المستعان.

    1.   

    كلمة عن وفاة الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله

    الملقي: فقد العلماء الراسخين يعتبر ثلمة في الدين ومصيبة كبيرة، وفي الأيام الماضية فقدنا الشيخ الراسخ في العلم بكر أبو زيد ، نختم لقاءنا بكلمة حول هذا.

    الشيخ: نسأل الله أولاً أن يغفر له ويرحمه وأن ينور له في قبره، ويكتب له الأجر والمثوبة، وسأقول خصيصتين في هذا الرجل العظيم:

    الأولى: البحوث العلمية الجادة التي لا يراد بها الدرجة العلمية.

    مشكلتنا أن جميع بحوثنا درجات علمية، فلذلك حتى صاحبها يفعلها ويريد أن يترقى بها من أستاذ مساعد إلى أستاذ مشارك، ثم تركها ورماها ولا يعنى بتخريجها؛ لأنه أصلاً حصل بها المقصود، ثم ينتقل إلى درجة أخرى، لكن هذا الرجل رحمة الله تعالى عليه -العلامة بكر أبو زيد - كان يخرج بحوثاً علمية جادة رصينة في فقه النوازل، وبعضها في الأجزاء الحديثية، فينتفع بها الناس وليس المقصود من ورائها الدنيا فلذلك انتشر علمه.

    والأمر الثاني: وهو أن الله جل وعلا كان قد آتاه تمكناً لغوياً، ولئن قال الناس عن الفرزدق : إنه لولا الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب فإنني أقول: لولا الله ثم بكر أبو زيد في عصرنا لذهب ثلث لغة العلم.

    فلغة العلم القوية الرصينة المتينة حافظ عليها الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في بحوثه العلمية التي تدل على علو كعبه في شأن اللغة.

    هاتان خصيصتان عظيمتان كانتا فيه رحمه الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755972647