إسلام ويب

تفسير سورة فصلت [13 - 16]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أهلك الله عز وجل الأمم السابقة التي كذبت رسلها بأنواع شتى من العذاب، فمنهم من أهلكه الله بالريح كعاد، ومنهم من أهلكه الله بالصيحة كثمود، ولقد هدد الله كفار مكة إن أعرضوا عن دينه بعذاب كعذاب عاد وثمود.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    أما بعد:

    قال الله عز وجل في سورة فصلت: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ [فصلت:13-16].

    يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات عن قدرته العظيمة على تعذيب من كفر بالله، وجحد بآيات الله، وكذب رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, وقبل هذه الآيات ذكر لنا قدرته العظيمة في الخلق والرزق والإبداع سبحانه تبارك وتعالى، فقد خلق السماوات والأرض، وبث في الأرض الدواب، وبارك فيها وقدر فيها أقواتها وجعل فيها الرواسي، وكان هذا الخلق في ستة أيام، فأرنا الله عز وجل قدرته على الإيجاد، وعلى الخلق، وعلى رزق عباده، وأنه رب العالمين سبحانه، وأخبرنا أن الذي يقدر ذلك هو الله العزيز الغالب، الذي قال للسماوات والأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]. فهو العزيز الغالب، الذي لا يمانع سبحانه تبارك وتعالى، إذا قضى شيئاً فلابد أن يكون، وهو العليم سبحانه الذي يعلم كل شيء مما ظهر وما خفي، ويعلم ما في قلوب العباد ونياتهم، وما لم يعملوه ولم ينووه، وقد علم الله عز وجل ما هم فاعلون.

    وهنا يقول لنا: إن أعرض هؤلاء الكفار عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ينذرهم بصاعقة وبعذاب شديد من عنده عز وجل، وكأن الصاعقة هي: الصيحة التي يكون من ورائها رجفة عظيمة تهد الناس، وتهزهم في أماكنهم فيغشى عليهم فيموتون بسببها.

    قال تعالى: فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13] أي: خوفتكم الهلاك كما أهلكنا عاداً وثمود. قال تعالى: إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [فصلت:14] أي: جاءتهم الرسل أمامهم، فأرسل الله عز وجل إلى عاد أخاهم هوداً.

    وقوله تعالى: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [فصلت:14] أي: من قبل هؤلاء أرسل إلى قوم نوح نبيهم نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكانت الرسل من قبلهم وقد علموا ذلك، ومن ورائهم أرسل الرسل، فكأنه يقول: بلغهم نبأ ما كان قبلهم، أي: أخبار قوم نوح من قبل، وجاءهم رسول إليهم.

    ولما أهلك الله عاداً جاءت ثمود بعد ذلك، وجاءهم خبر من كان قبلهم، أي: قوم نوح وقوم عاد، وكيف أهلكهم الله، ثم جاءهم رسولهم صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يدعوهم إلى الله، وكل قوم يهلكهم الله يحذرهم ما صنع بالذين من قبلهم.

    قال سبحانه: إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [فصلت:14]، وما بين اليدين هو ما يراه الإنسان، وما خلفه ما لا يراه، فكأن المقصود بمن خلفهم أي: قبلهم من الرسل الذين سمعوا عنهم ولم يروهم، وأما الذين من بين أيديهم فكأنهم من يرونهم من رسل الله سبحانه.

    فسمعوا أخبار الرسل السابقين، وعرفوا أنهم دعوا إلى الله، وإلى توحيده سبحانه، فكذبوا فأهلك الله عز وجل قومهم. وكذلك هؤلاء جاءتهم العظة والعبرة على لسان رسلهم، فإن الرسول الذي يرسله الله عز وجل إلى قومه يخبرهم بأنباء من كانوا قبلهم، فكأن السابقين أنذروا قومهم، وتركوا النذارة لمن بعدهم أيضاً.

    قال تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً [فصلت:13] أي: يأتيكم عذاب يصعقكم على أي شكل من الأشكال، فقد تأتي صاعقة من السماء، وقد تأتي ريح شديدة فيها صرصر، أي: ذات صوت عاصف شديد تهد الناس وتميتهم ويغشى عليهم بسببها، أو يكون عذاب من نار من السماء يحرقهم، كما في هذه الآيات.

    قال تعالى: فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:13]، فعاد: أخذتهم الصيحة، وثمود: أخذتهم الرجفة من عند الله سبحانه تبارك وتعالى. وكلهم كذبوا واستكبروا على رسل الله. فأما عاد فقالوا باستكبارهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، فأراهم الله عز وجل بهذا العذاب هل هم أقوى أم هذه الصاعقة التي أرسلها الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ...)

    قال تعالى: إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت:14] دعوة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام الدعوة إلى عبادة الله وحده، والمنع من عبادة أي شيء غيره.

    وهذا المعنى هو نفسه معنى: لا إله إلا الله أي: لا يستحق العبادة إلا إله واحد. لصفة الألوهية الحقة لأي أحد ولأي شيء، وإثباتها للإله الواحد سبحانه تبارك وتعالى.

    قال تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [فصلت:14] أي: لا تتوجهوا بعبادتكم لأحد إلا لمن يستحق أن يكون إلهاً وهو الله سبحانه تبارك وتعالى.

    فهو نفس معنى لا إله إلا الله، وكل الأنبياء والرسل قد دعوا أقوامهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، يعني: لا نعبد إلا الله. وكل الأقوام كانوا يقرون بأن الخالق هو الله، وبأن الرب هو الله، وأن الله هو الرب الذي يخلق ويرزق، سبحانه تبارك وتعالى.

    وقد كانوا يعبدون غيره سبحانه تبارك وتعالى، قال الله سبحانه: قَالُوا [فصلت:14]، أي: الأقوام، لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً [فصلت:14] أي: ألم يجد الله غيركم؟ فلو أراد الله أن يرسل أحداً لأنزل ملائكة علينا. ولو شاهد الناس الملائكة لآمنوا، فيكون الإيمان قسراً وقهراً، ويجبرون على الإيمان. وهذا ما لا يريده الله عز وجل، وإنما يريد من عباده أن يختاروا هذا الدين العظيم الذي أرسل به الأنبياء.

    فقد كلفهم الله وهداهم النجدين، وبين لهم سبيل السعادة وسبيل الشقاء، وليختر كل منهم ما يريد، ولا يحاسب إلا على اختياره، وإن كنا نؤمن أنهم لا يشاءون إلا أن يشاء الله، ولن يفعل أحد شيئاً إلا وقد علمه الله وقدره قبل ذلك وكتبه عنده سبحانه تبارك وتعالى، ولكن أمرنا أن نفكر وأن نختار، فاختار هؤلاء طريق الشقاوة، فقالوا: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت:14] أي: لن نؤمن بكم فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ . فاستكبروا هؤلاء على الرسل الذين بعثهم الله، فقالوا: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً [فصلت:14]، فأعرضوا عن رسلهم، وأعرضوا عن دين الله، ولم يعملوا عقولهم في ذلك، واستكبروا في الأرض.

    قال الله سبحانه تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ [الفجر:6-13]. فأنزل عليهم عذاباً صبه عليهم من السماء، وكانوا يتوقعون من السماء الرحمة والمطر، فصبه عليهم من السماء، فمن حيث كانوا يأمنون وينتظرون الرحمة جاءهم العذاب، وصُب عليهم العذاب صباً. قال تعالى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:13-14] أي: ليس هؤلاء فقط الذين أهلكوا، وإنما كل من سار على نهجهم ومن فعل فعلهم وكفر كفرهم فله الهلاك، قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14] أي: يرصد كل إنسان يطغى على أمر الله سبحانه ويظلم الخلق، ويعطيه من العذاب ما يستحقه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق)

    قال سبحانه: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15]، وقال سبحانه: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [الأعراف:65]. فالرسول الذي أرسل إلى عاد كان أخاهم هوداً، وقد كانت عاد من العرب، وكانوا في اليمن، وكانت عاد قبل ثمود، وهي عاد الأولى، وقد أهلكها الله سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65]. فدعاهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنكر عليهم ما هم فيه من باطل ومن لعب. فقال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [الشعراء:128-131].

    وهذا بعض صنيعهم، فكانوا قد استكبروا عندما وجدوا في أنفسهم القوة، قال تعالى: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ [الفجر:7] يعني: بيوتهم عالية عظيمة، فقد نحتوا الجبال نحتاً، وصنعوا قصوراً بداخل هذه الجبال، فأعطاهم الله عز وجل قوة لم يعطها لأحد من بعدهم من العالمين، فاستكبروا بقوتهم، واستطالوا على رسولهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما فعلوا ذلك قال الله سبحانه تبارك وتعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ [فصلت:15] أي: على الخلق، قال تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشعراء:128] أي: تلعبون، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ [الشعراء:129]، أي: أماكن لجمع المياه على هيئات فيها افتخار، وظلم للخلق، وأنتم غير محتاجين إلى ذلك، وإنما كانوا يصنعونها ليروا الناس أنهم أقوياء بصنعها، فكانوا يصنعون هذه المصانع التي هي موارد للمياه على هيئات عظيمة -أحواض ونحوها- يجمعون فيها المياه، ويُروا من أنفسهم أنهم أقوياء قادرون، ويفاخرون الخلق بذلك. ويقولون لهم: هذه بيوتنا شققناها في الجبال وصنعناها فيها، وهذه عمداننا عالية طويلة؛ لأننا طوال الأجسام عريضها لا نسكن في بيوت مثلكم، وإنما ننحتها في الجبال. استكباراً على الخلق، وتعالياً عليهم.

    قال أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ [الشعراء:128-130] أي: بأقوام، بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130] أي: وأنتم قاهرون لهم مستكبرون عليهم، ولم يكن في قلوبهم رحمة، قال: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130] أي: قاهرين غالبين لهم لا رحمة في قلوبكم فانتظروا جزاء صنيعكم وعملكم.

    قال الله عز وجل هنا: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، وهذا هو الاستكبار في الأرض، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15] فهم معترفون بالرب سبحانه، ومعترفون بأن الرب أقوى منهم، ودليل اعترافهم بالرب أنهم بعثوا وافدهم إلى مكة يستسقي هنالك فهم يعرفون أن الرب القادر هو الذي يرزقهم ويسقيهم.

    بعث عاد وافدهم للاستسقاء لهم

    جاء في الحديث كما في سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث الحارث بن يزيد البكري أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في قصة طويلة، وذكر الرجل: (أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم كانت معه امرأة من بني تميم حملها في الطريق معه، -وهذا الرجل كان من بني بكر، وكان بين قومه وقومها عداوة، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! اجعل الدهناء حاجزاً بيننا وبين بني تميم، -وكأنه يريد أن يأخذ الدهناء لبني بكر الذي هو منهم، ويجعلها حاجزاً بينهم وبين بني تميم، فاستوفزت المرأة، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إلى أين تضطر مدركة؟ -أي: إذا أعطيتهم هذه الأرض التي فيها المياه ولنا فيها حاجة، فأين نذهب؟- فنظر إليها الرجل وقال: أعوذ بالله أن أكون كوافد عاد. وقال: إنما مثلي ومثلك كما قال الأول ماعز حملت حتفها يعني: أخذتك معي ولا أعلم ما الذي ستفعلينه معي؟ فأنت تهاجميني بعد أن عملت فيك هذا الجميل؟ فقد وضحت هي للنبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الدهناء أرض تحتاجها بنو تميم، أي: قومها، وفيها إبلهم ترعى، فعندما تجعلها لهؤلاء فأين نذهب نحن؟ وكلامها صدق، ولذلك صدقها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وامتنع من أن يعطيه هذا الذي طلبه.

    وهذا الحديث حديث حسن، وقال الحارث في حديثه: أعوذ بالله أن أكون كوافد عاد. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم منه بالقصة، ولكنه لما لم يعطه الذي يريده قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما وافد عاد؟)، وهو أعلم منه صلوات الله وسلامه عليه، (فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عاداً لما أقحطوا أرسلوا وافدهم، إلى مكة)، فكأن هذا الموضع معروف من القديم أنه موضع بركة، وإن كان الذي رفع البيت فيه هو إبراهيم بعدهم بآلاف السنين، ولكن الغرض أن هذا المكان من عهد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام معلوم أنه مكان البركة في الأرض.

    فكان من أصابه شيء يذهبون به إلى هذا المكان، ويسألون الله سبحانه تبارك وتعالى له، فإذاً: كانوا يطلبون الرزق من الله، ويؤمنون بأن الذي خلق هو الله، ولا ينكرون هذا، وإنما يصدقون به، ويعلمون أن الخالق والرازق هو الله، وهذا هو إيمان الربوبية، وليس هو المطلوب من العباد؛ لأن الكل يعرف ذلك، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وإنما المطلوب هو التوجه بالعبادة إلى هذا الخالق العظيم سبحانه، وتوحيده في العبادة كما قال تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:23]، وقد أرسلت عاد وافدهم إلى هذا المكان، واسمه قيل .

    ولما توجه إلى مكان مكة في ذلك الزمان ذهب إلى رجل هنالك اسمه معاوية بن بكر ومكث عنده شهراً، يسقيه الخمر وتغنيه الجرادتان، ولما مر شهر سأله معاوية : إلى أين بعثك قومك؟ فتذكر أن قومه أقحطوا ثلاث سنوات، ويطلبون الطعام والماء والمطر، فذهب إلى موضع مكة، ودعا ربه هنالك وقال: اللهم إني لم آتك لأسير لأفاديه، ولا لمريض لأداويه، ولكن اسق عاداً ما كنت تسقيه، فأنشأ الله عز وجل ثلاث سحابات سوداء، ونودي منها: اختر، فنظر إلى أشدهن سواداً وقال: هذه، فهي في نظره سوداء مظلمة، فهي مليئة بالماء، فكان فيها العذاب فقيل له: خذها رماداً رمدداً، لا تبق من عاد أحداً، فكانت عليهم ريحاً من السماء فأهلكهم الله عز وجل بها. قال تعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، ونسوا الله سبحانه تبارك وتعالى الذي لما منع عنهم المطر رجعوا يطلبون منه الغيث، ولم يعبدوه سبحانه تبارك وتعالى، ولكن استكبروا عن العبادة وطلبوا منه الرزق والماء.

    قال الله سبحانه: وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً ...)

    قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ [فصلت:16] أي: أرسل الله عز وجل عليهم الريح في: سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ[الحاقة:7] فنزلت عليهم هذه السحابة بالعذاب من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وكانت ريحاً شديدة ليس فيها مطر، وكانت أصواتها عالية، وكانت ريحاً صرصراً، أي: عظيمة البرودة، شديدة الهبوب، وفيها أصوات عالية منكرة من جنس كفرهم واستكبارهم، فقد استكبروا على الخلق، ورفعوا أصواتهم على نبيهم عليه الصلاة والسلام، وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت:15] فجاءتهم هذه الريح شديدة الهبوب سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ[الحاقة:7]، فكانت الريح تأتي على أحدهم فتقلعه من الأرض، وترفعه فينزل على الأرض ميتاً، قال تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ أي: كجذوع النخل الفارغة، فانظر إلى الريح وصنعها، وانظر إلى هؤلاء الذين شبههم الله بالنخل، فقد كانوا طوال الأجساد أقوياء، فصاروا صرعى على الأرض كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:7-8] أي: هل ترى أحداً منهم موجوداً الآن؟ لقد ذهبوا كما ذهب من كان قبلهم؛ لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله، فكان هذا العذاب في أيام نحسات في الدنيا، وبعد ذلك عذاب الآخرة.

    نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756002198