إسلام ويب

مجاهدة النفسللشيخ : سيد حسين العفاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن العبد المؤمن القوي بحاجة إلى أن يعاتب نفسه ويحاسبها محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، ولا يمكن أن يقوى العبد على طاعة وينشط في عبادة ربه إلا إذا عرف نفسه قدرها، وخيرها بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة فاختارت النعيم الأبدي السرمدي، فعملت لما بعد الموت، وانشغلت به عن ملذات الدنيا التي لا تساوي شيئاً

    1.   

    وقفة عتاب للنفس

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    فنتكلم اليوم عن المرابطة الخامسة وهي: مجاهدة النفس، وقد تشق على الشخص ولكنها طريق فريد لشرف النفس وعلوها، وقد يطول بك الأمر فاصبر، وسبيلك في ذلك أن تسمع ما ورد في الأخبار من فضل مجاهدة النفس، ومن أنفع أسباب العلاج أن تطلب صحبة عبد من عباد الله، مجتهد في العبادة، فتلاحظ أقواله وتقتدي به.

    قال عبد الله بن المبارك : كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فأجد فيه الحزن؛ فأمقت نفسي.

    وكان بعضهم يقول: كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى أحوال محمد بن واسع وإلى اجتهاده، فعملت على ذلك أسبوعاً. إلا أن هذا العلاج قد أصبح عزيزاً؛ إذ قد فقد في هذا الزمان من يجتهد في العبادة اجتهاد الأولين، فينبغي أن يعدل من المشاهدة إلى السماع، فلا شيء أنفع من سماع أحوال الصالحين، ومن مطالعة أخبارهم، وما كانوا فيه من الجهد الجهيد، وقد انقضى تعبهم، وبقي ثوابهم ونعيمهم أبد الآباد لا ينقطع، فما أعظم ملكهم! وما أشد حسرة من لا يقتدي بهم! فيمتع نفسه أياماً قلائل بشهوات مكدرة، ثم يأتيه الموت ويحال بينه وبين كل ما يشتهيه أبد الآباد نعوذ بالله من ذلك!

    قال أبو حنيفة رحمه الله: الحكايات عن الصالحين أحب إلي من كثير من الفقه؛ لأنها أخلاق القوم وآدابهم.

    قيل لـفتح الموصلي : بالله عليك يا فتح كم بكيت الدم؟ قال: لولا أنك سألتني بالله ما أخبرتك، بكيت الدموع على تخلفي عن واجب حق الله تعالى، وبكيت الدم على الدموع؛ لئلا يكون ما صحت لي الدموع:

    والعين لها دم ودمع سح ذا يكتب شجوه وهذا يمحو

    كان الثوري رحمه الله يقول:

    عند الصباح يحمد القوم السرى وعند الممات يحمد القوم التقى

    فهكذا كانت سيرة السلف الصالحين في مجاهدة النفس وفي مراقبتها، فمهما تمردت نفسك عليك، وامتنعت من المواظبة على العبادة فطالع أحوال هؤلاء، ولو قدرت على مشاهدة من يقتدي بهم فهو أنفع، وأبعث على الاقتداء، فليس الخبر كالمعاينة، وإذا عجزت عن هذا فلا تغفل عن سماع أحوال هؤلاء، فإن لم تكن إبلاً فمعزا، وخير نفسك بين الاقتداء بهم والكون في زمرتهم وغمارهم وهم العقلاء والحكماء وذوو البصائر في دين الله، وبين الاقتداء بالجهلة الغافلين من أهل عصرك، ولا ترض لها أن تنخرط في سلك الحمقى وتقنع بالتشبه بالأغبياء، وتؤثر مخالفة العقلاء، فإن حدثتك نفسك بأن هؤلاء رجال أقوياء لا يطاق الاقتداء بهم فطالع أحوال النساء المجتهدات، وقل لها: يا نفس! ألا تستنكفي أن تكوني أقل من امرأة؟! فأخسس برجل يقصر عن امرأة في أمر دينها ودنياها:

    كذاك الفخر يا همم الرجال تعالي فانظري كيف التعالي

    أتسبقك وأنت رجل نسوة أما لك بالرجال أسوة

    كانت جارية خالد بن الوراق شديدة الاجتهاد في الطاعة والعبادة، فأخبرها خالد برفق الله وقبوله ليسير العمل؛ فبكت ثم قالت: إني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مذنب، وإني لأؤمل من الله آمالاً لو حملتها الجبال لعجزت عن حملها كما عجزت عن حمل الأمانة، ولكن قل لي يا خالد : كيف لي بحسرة السباق؟ قلت لها: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر، إذا ركب الأبرار نجائب الأعمال، وطاروا إلى مولاهم، وخلفت مع المسيئين المذنبين، ثم قالت: وعزة سيدي! لا يسبق مقصر مجداً ولو حبا المجد حبواً، ثم قالت: يا خالد ! انظر لا يقطعك عن الله قاطع، فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة مع مولاهم، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الآمال توقظه إذا نام البطالون؟!

    وكانت عمرة زوجة أبي محمد حبيب العجمي توقظه لقيام الليل وتقول: قم يا سيدي، فهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، وبين يدينا طريق طويل، وزاد قليل، وهذه قوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا.

    فعليك إن كنت من المرابطين المراقبين لنفسك أن تطالع أحوال الرجال والنساء من المجتهدين؛ لينبعث نشاطك ويزيد حرصك، وإياك أن تنظر إلى أهل عصرك! فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، إياك أن تتدلى بحبل غرورها وتنخدع بتزويرها! قل لها: أرأيت لو هجم سيل جارف يغرق أهل البلد وثبتوا على مواضعهم، ولم يأخذوا حذرهم لجهلهم بحقيقة الحال، وقدرت أنت على أن تفارقيهم وتركبي في سفينة تتخلصين بها من الغرق فهل يختلج في نفسك أن المصيبة إذا عمت طابت أم تتركين موافقتهم في صنيعهم وتأخذين حذرك مما دهاك؟

    فإن كنت تتركين موافقتهم خوفاً من الغرق، وعذاب الغرق لا يتمادى إلا ساعة فكيف لا تهربين من عذاب الأبد وأنت متعرضة له في كل حال، ومن أني تطيب المصيبة إذا عمت؟ ولأهل النار شغل شاغل عن الالتفات إلى العموم والخصوص، ولم يهلك الكفار إلا بموافقة أهل زمانهم، حيث قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، خذ قول الله عز وجل لأهل النار: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]، فعليك إذا اشتغلت بمعاتبة نفسك فاستعصت ألا تترك معاتبتها وتوبيخها، وتعريفها سوء نظرها لنفسها؛ فعساها تنزجر عن طغيانها.

    توبيخ النفس ومعاتبتها

    أما المرابطة الثانية: فهي توبيخ النفس ومعاتبتها.

    اعلم يا أخي! أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، فرارة من الخير، وأمرت بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها، ومنعها عن شهواتها، وفطامها عن لذاتها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن هزمتها بالتوبيخ والمعاتبة والملامة كانت نفسك هي النفس اللوامة التي أقسم الله بها، ورجوت أن تصير النفس المطمئنة، المدعوة إلى أن تدخل في زمرة عباد الله راضية مرضية، فلا تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها، فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحي من الله، قال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، وسبيلك أن تقبل عليها فتقرر عندها جهلها وغباوتها، وأنها أبداً تتعزز بفطنتها وهدايتها، ويشتد أنفها واستنكافها إذا نسبت إلى الجهل، فقل لها: يا نفس! ما أعظم جهلك! تدعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً، أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار؟! وأنك صايرة إلى إحداهما على القرب؟ فمالك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم؟ وعساك اليوم تخطفين أو غداً فأراك ترين الموت بعيداً، ويراه الله قريباً!

    أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن البعيد ما ليس بآت؟ أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة ومواطأه، وأنه لا يأتي في شيء دون شيء، ولا في شتاء دون صيف، ولا في صيف دون شتاء، ولا في نهار دون ليل، ولا في ليل دون نهار، ولا يأتي في الصبا دون الشباب، ولا في الشباب دون الصبا؟

    بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، فإن لم يكن الموت فجأة، فيكون المرض فجأة ثم يفضي إلى الموت، فمالك لا تستعدين للموت، وهو أقرب إليك من كل قريب؟!

    آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد ركوب نعشك، آخر العدد دخول قبرك، آخر العدد عرصات القيامة ولقاء ربك، وإن النفس قد يخرج ولا يعود، إن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:1-3].

    ويحك يا نفس! إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك! وإن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك وأقل حيائك!

    ويحك يا نفس! لو واجهك عبد من عبيدك بل أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه ومقتك له فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه وشديد عقابه؟! أفتظنين أنك تطيقين عذابه؟ هيهات هيهات! جربي نفسك إن ألهاك البطر عن أليم عذابه، فاحتبسي ساعة في الشمس أو في بيت الحمام، أو قربي أصبعك من النار لترين قدر طاقتك!

    إن كنت تغترين بكرم الله وفضله واستغنائه عن طاعتك وعبادتك فمالك لا تعولين على كرم الله في مهمات دنياك؟! إذا قصدك عدو لم تستنبطين الحيل في دفعه ولا تكلينه إلى كرم الله؟! وإن أرهقتك حاجة إلى شهوة من شهوات الدنيا مما لا تنال إلا بالدينار والدرهم فمالك تنزعين الروح في طلبها وتحصيلها من وجوه الحيل فلا تعولين على كرم الله تعالى حتى يعثر بك على كنز أو يسخر عبداً من عبيده فيحمل إليك حاجتك من غير سعي منك ولا طلب؟

    أفتحسبن أن الله كريم في الآخرة دون الدنيا، وقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها، وأن رب الآخرة والدنيا واحد، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى؟!

    ويحك يا نفس ما أعجب نفاقك ودعاويك الباطلة! إنك تدعين الإيمان بلسانك، وأثر النفاق ظاهر عليك، ألم يقل لك سيدك ومولاك: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وقال في أمر الآخرة: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة، وصرفك عن السعي فيها فكذبتيه بأفعالك وأصبحت تتكالبين على طلبها تكالب المدهوش المستهتر، ووكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر، فليس هذا من علامات الإيمان، لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟!

    توبيخ النفس وتذكيرها بيوم الحساب

    ويحك يا نفس! كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب، وتظنين أنك إذا مت تخلصت، وهيهات هيهات! أتحسبين أنك تتركين سدى؟ ألم تكوني نطفة من مني يمنى، ثم كنت علقة فخلق فسوى؟ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟!

    فإن كان هذا من إضمارك فما أكفرك وأجهلك! أما تتفكرين أنه خلقك من نطفة فقدرك، ثم السبيل يسرك، ثم أماتك فأقبرك، أفتكذبينه في قوله؟! ثم إذا شاء أنشرك فإن لم تكوني مكذبة فمالك لا تأخذين حذرك؟!

    ولو أن يهودياً أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه، ولتركته وجاهدت نفسك فيه، أفكان قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات وقول الله تعالى في كتبه المنزلة أقل عندك تأثيراً من قول يهودي يخبرك عن حدس وتخمين وظن مع نقصان عقل وقصور علم؟!

    والعجب أنه لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقرباً لرميت ثوبك في الحال من غير مطالبة له بدليل ولا برهان، أفكان قول الأنبياء والعلماء والحكماء وكافة الأولياء أقل عندك من قول الصبي من جملة الأغبياء، أم صار حر جهنم وأغلالها وأنكالها وزقومها ومقامعها وصديدها وسمومها وأفاعيها وعقاربها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها إلا يوماً أو أقل منه؟! ما هذه أفعال العقلاء، بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك، وسخروا من عقلك، فإن كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك، وآمنت به، فمالك تسوفين العمل والموت لك بالمرصاد ولعله يختطفك من غير مهلة؟ فبماذا أمنت استعجال الأجل؟! وهبك أنك وعدت بالإمهال مائة سنة أفتظنين أن من يطعم الدابة في حضيض العقبة يفلح ويقدر على قطع العقبة بها؟ إن ظننت ذلك فما أعظم جهلك! أرأيت لو سافر رجل ليتفقه في الغربة فأقام فيها سنين متعطلاً بطالاً يعد نفسه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وطنه هل كنت تضحكين من عقله؟! وظنه أن تفقيه النفس مما يطمع فيه بمدة قريبة، أو حسبانه أن مناصب الفقهاء تنال من غير تفقه، اعتماداً على كرم الله سبحانه وتعالى، ثم هبي أن الجهد في آخر العمر نافع، وأنه موصل إلى الدرجات العلى، فلعل اليوم آخر عمرك فلم لا تشتغلين فيه بذلك؟ فإن أوحي إليك بالإهمال فما المانع من المبادرة؟ وما الباعث لك على التسويف؟ هل له سبب إلا عجزك عن مخالفة شهواتك لما فيها من التعب والمشقة! أفتنتظرين يوماً يأتيك لا تعسر فيه مخالفة الشهوات؟! هذا يوم لم يخلقه الله قط ولا يخلقه.

    فلا تكون الجنة قط إلا محفوفة بالمكاره، ولا تكون المكاره قط خفيفة على النفوس، هذا محال وجوده، أما تتأملين منذ كم تعدين نفسك وتقولين غداً غداً؟! فقد جاء الغد وصار يوماً فكيف وجدته؟ أما علمت أن الغد الذي جاء وصار يوماً كان له حكم الأمس؟! لا بل الذي تعجزين عنه اليوم فأنت غداً عنه أعجز وأعجز؛ لأن الشهوة كالشجرة الراسخة التي تعهد العبد بقلعها، فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخرها كان كمن عجز عن قلع شجرة وهو شاب قوي فأخرها إلى سنة أخرى، مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة ورسوخاً، ويزيد القالع ضعفاً ووهناً، فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قط في المشيب، بل من العناء رياضة الهرم، ومن التعذيب تهذيب الذيب، والقضيب الرطب يقبل الانحناء، فإذا دف وطال عليه الزمان لم يقبل ذلك، فإذا كنت أيتها النفس لا تفهمين هذه الأمور الجلية وتركنين إلى التسويف فما بالك تتدعين الحكمة؟ وأي حماقة تزيد على هذه الحماقة؟!

    ورحم الله من قال: أنذرتكم سوف فإنها جند من جنود إبليس.

    لعلك يا نفس تقولين ما يمنعني عن الاستقامة إلا حرصي على لذة الشهوات، وقلة صبري على الآلام والمشقات، فما أشد غبواتك! وأقبح اعتذارك إن كنت صادقة في ذلك! فاطلبي التنعم بالشهوات الصافية عن الكدورات الدائمة أبد الآباد، ولا مطمع في ذلك إلا في الجنة، فإن كنت ناظرة لشهوتك فالنظر لها في مخالفتها، فرب أكلة تمنع أكلات، وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ليصح ويهنأ بشربه طول عمره، وأخبره أنه إن شرب ذلك مرض مرضاً مزمناً، وامتنع عليه شربه طول العمر فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر أم يقضي شهوته في الحال خوفاً من ألم المخالفة ثلاثة أيام حتى يلزمه ألم المخالفة ثلاثمائة يوم وثلاثة آلاف يوم، وجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة، وعذاب النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، وإن طالت مدته، وليت شعري ألم الصبر عن الشهوات أعظم شدة وأطول مدة أو ألم النار في دركات جهنم؟! فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة كيف يطيق ألم عذاب الله؟ ما أراك تتوانين عن النظر لنفسك إلا لكفر خفي أو لحمق جلي.

    أما الكفر الخفي: فضعف إيمانك بيوم الحساب، وقلة معرفتك بعظم قدر الثواب والعقاب.

    وأما الحمق الجلي: فاعتمادك على كرم الله وعفوه، من غير التفات إلى مكره واستدراجه، واستغنائه عن عبادتك، مع أنك لا تعتمدين على كرمه في لقمة من الخبز، أو حبة من المال، أو كلمة واحدة تسمعينها من الخلق، بل تتوصلين إلى غرضك في ذلك بجميع الحيل، وبهذا الجهل تستحقين لقب الحماقة، فالأحمق: من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

    توبيخ النفس ومعاتبتها بترك الدنيا

    ويحك يا نفس لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا، ولا يغرنك بالله الغرور، فانظري لنفسك، فما أمرك بمهم لغيرك، لا تضيع أوقاتك فالأنفاس معدودة، فكلما ذهب نفس فقد ذهب بعضك، فاغتنمي الصحة قبل السقم، والفراغ قبل الشغل، والغنى قبل الفقر، والحياة قبل الموت، واستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها.

    يا نفس! أما تستعدين للشتاء بقدر طول مدته تجمعين له القوت والكسوة والحطب وجميع الأسباب، ولا تتكلين في ذلك على فضل الله حتى يدفع عنك البرد في غير جبة وحطب وغير ذلك فإنه قادر على ذلك؟!

    أفتظنين أيتها النفس أن زمهرير جهنم أخف برداً وأقصر مدة من زمهرير الشتاء، أم تظنين أن ذلك دون هذا؟ كلا، لا مقارنة في الشدة والبرودة بينهما، أفتظنين أن العبد ينجو منها بغير سعي؟ هيهات! كما لا يندفع برد الشتاء إلا بالحطب والنار وسائر الأسباب فلا يندفع حر النار وبردها إلا بحسن التوحيد، وخندق الطاعات، وإنما كرم الله في أن عرفك طريق التحصن، ويسر لك أسبابه، لا في أن يندفع عنك العذاب دون حصنه، كما أن كرم الله عز وجل في دفع برد الشتاء أن خلق النار وهداك لطريق استخراجها.

    ويحك يا نفس! انزعي عن جهلك، وقيسي آخرتك بدنياك: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28]، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29] وسنة الله لا تجدين لها تبديلاً، ولا تحويلاً.

    ويحك يا نفس! ما أراك إلا ألفت الدنيا وأنست بها، فعسر عليك مفارقتها، وأنت مقبلة على مقاربتها، تؤكدين في نفسك مودتها، فاحسبي أنك غافلة عن عقاب الله وثوابه، وعن أهوال القيامة وأحوالها، فما أنت مؤمنة بالموت المفرق بينك وبين محابك، أفترين أن من يدخل دار ملك ليخرج من الجانب الآخر فرد بصره إلى وجه مليح يعلم أنه يستغرق ذلك قلبه؟! ثم يضطر لا محالة إلى مفارقته أهو معدود من العقلاء أم من الحمقى؟

    أما تعلمين أن الدنيا دار لملك الملوك وما لك فيها إلا مجاز، وكل ما فيها لا يصحب المجتازين بها بعد الموت، ولذلك قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه)؟!

    ويحك يا نفس! أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها -مع أن الموت من ورائه- إنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة، وإنما يتزود من السم المهلك وهو لا يدري؟! أو ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا؟! وكيف أورث الله أرضهم وديارهم أعداءهم؟

    أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤملون ما لا يدركون، يبني كل واحد قصراً مرفوعاً إلى جهة السماء، ومقره قبر محفور تحت الأرض؟ فهل في الدنيا حمق وانتكاس أعظم من هذا؟! يعمر الواحد دنياه وهو مرتحل عنها يقيناً، ويخرب آخرته وهو صائر إليها قطعاً!

    أما تستحين يا نفس! من مساعدة هؤلاء الحمقى على حماقتهم؟! احسبي أنك لست ذات بصيرة تهتدي إلى هذه الأمور، وإنما تميلين بالطبع إلى التشبه، فقيسي عقل الأنبياء والعلماء والحكماء بعقل هؤلاء المنكبين على الدنيا، واقتدي من الفريقين بمن هو أعقل عندك إن كنت تعتقدين في نفسك العقل والذكاء.

    يا نفس! ما أعجب أمرك وأشد جهلك وأظهر طغيانك! عجباً لك كيف تعمين عن هذه الأمور الواضحة الجليلة، ولعلك يا نفس أسكرك حب الجاه، وأدهشك عن فهمها، أو ما تتفكرين أن الجاه لا معنى له إلا ميل القلوب من بعض الناس إليك؟! فاحسبي أن كل من على وجه الأرض سجد لك وأطاعك، أفما تعرفين أنه بعد خمسين سنة لا تبقين أنت ولا أحد ممن على وجه الأرض ممن عبدك وسجد لك؟! وسيأتي زمان لا يبقى ذكرك، ولا ذكر من ذكرك كما أتى على الملوك الذين كانوا من قبلك: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم:98].

    كيف تبيعين يا نفس! ما يبقى أبد الآباد بما لا يبقى أكثر من خمسين سنة إن بقي؟! هذا إن كنت ملكاً من ملوك الأرض سلم لك الشرق والغرب، حتى أذعنت لك الرقاب، وانتظمت لك الأسباب، كيف ويأبى إدبارك وشقاوتك أن يسلم لك أمر محلتك بل أمر دارك فضلاً عن محلتك!

    فإن كنت يا نفس لا تتركين الدنيا رغبة في الآخرة لجهلك وعمى بصيرتك فمالك لا تتركينها ترفعاً عن خسة شركائها، وتنزهاً عن كثرة عنائها، وتوقياً من سرعة فنائها؟! ما لك لا تزهدين في قليلها بعد أن زهد فيك كثيرها؟ وما لك تفرحين بدنيا إن ساعدتك فلا تخلو بلدك من جماعة من اليهود والمجوس يسبقونك بها، ويزيدون عليك في نعيمها وزينتها؟! فأف لدنيا يسبقك بها هؤلاء الأخساء! ما أجهلك، وأخس همتك، وأسقط رأيك! إذ رغبت في أن تكوني في زمرة المقربين من النبيين والصديقين في جوار رب العالمين أبد الآبادين، لتكوني في صف النعال من جملة الحمقى الجاهلين أياماً قلائل، فيا حسرة عليك إن خسرت الدنيا والدين فبادري!

    ويحك يا نفس! قد أشرفت على الهلاك واقترب الموت، وورد النذير! فمن ذا يصلي عنك بعد الموت؟! من ذا يصوم عنك بعد الموت؟! من ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟! من يتقرب إلى الله بالأعمال بعدك؟

    ويحك يا نفس! ما لك إلا أيام معدودة هي بضاعتك إن اتجرت فيها، وقد ضيعت أكثرها فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك، فكيف إذا ضيعت البقية وأصررت على عادتك؟ أما تعلمين يا نفس! أن الموت موعدك، والقبر بيتك، والتراب فراشك، والدود أنيسك، والفزع الأكبر بين يديك؟ أما علمت يا نفس! أن أكثر الموتى عندك على باب البلد ينتظرونك وقد آلوا على أنفسهم كلهم بالأيمان الغليظة أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يأخذوك معهم؟

    أما تعلمين يا نفس أنهم يتمنون الرجعة إلى الدنيا يوماً ليشتغلوا بتدارك ما فرط منهم وأنت في أمنيتهم ويوم من عمرك لو بيع منهم بالدنيا بحذافيرها لاشتروه لو قدروا عليه، وأنت تضيعين أيامك في الغفلة والبطالة:

    سألت الدار تخبرني عن الأحباب ما فعلوا

    فقالت لي أقام القوم أياماً وقد رحلوا

    فقلت أين أطلبهم وأي منازل نزلوا

    فقالت في القبور ثووا رهاناً بالذي فعلوا

    وقال آخر:

    يا أيها الناس سيروا إن غايتكم أن تصبحوا يوماً لا تسيروا

    حثوا المطايا وأرخوا من أزمتها قبل الممات وقضوا ما تقضونا

    كنا أناساً كما كنتم فغيرنا دار فسوف كما كنا تكونونا

    وقال آخر:

    فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر

    وكأنهم قد قلبوك على ظهر السرير وأنت لا تدري

    وكأنهم قد زودوك بما يتزود الهلكى من العطر

    يا ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر

    يا ليت شعري كيف أنت على نبش الضريح وظلمة القبر

    ويحك يا نفس أما تستحين؟ تزينين ظاهرك للخلق، وتبارزين الله في السر بالعظائم؟! أفتستحين من الخلق ولا تستحيين من الخالق؟! ويحك أهو أهون الناظرين عليك؟! أتأمرين الناس بالخير وأنت متلطخة بالرذائل، تدعين إلى الله وأنت عنه فارة، تذكرين بالله وأنت له ناسية!

    أما تعلمين يا نفس! أن المذنب أنتن من العذرة، وأن العذرة لا تطهر غيرها؟ فلم تطمعين في تطهير غيرك وأنت غير طيبة في نفسك؟! ويحك يا نفس لو عرفت نفسك حق معرفتها لظننت أن الناس ما يصيبهم بلاء إلا بشؤمك، ويحك يا نفس قد جعلت نفسك حماراً لإبليس يقودك إلى حيث يريد، ويسخر بك، ومع هذا فتعجبين بعملك وفيه من الآفات ما لو نجوت منه رأساً برأس لكان الربح في يديك! وكيف تعجبين بعملك مع كثرة خطاياك وزللك، وقد لعن الله إبليس بخطيئة واحدة مع عبادته له قبل ذلك، وأخرج آدم من الجنة بخطيئة واحدة مع كونه نبيه وصفيه؟

    ويحك يا نفس ما أغدرك! ويحك يا نفس ما أوقحك! ويحك يا نفس ما أجهلك وما أجرأك على المعاصي! ويحك كم تعقدين فتنقضين؟! ويحك كم تعهدين فتغدرين؟! ويحك يا نفس أتشتغلين مع هذه الخطايا بعمارة دنياك كأنك غير مرتحلة عنها؟! أما تنظرين إلى أهل القبور كيف كانوا، جمعوا كثيراً، وبنوا مشيداً، وأملوا بعيداً، فأصبح دمعهم بوراً، وبنيانهم قبوراً، وعملهم غروراً؟!

    ويحك يا نفس! أما لك بهم عبرة؟ أما لك إليهم نظرة؟ أتظنين أنهم دعوا إلى الآخرة وأنت من المخلدين؟ هيهات هيهات! ساء ما تتوهمين، ما أنت إلا في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فابني على وجه الأرض قصرك فإن بطنها عن قليل سيكون قبرك، أما تخافين إذا بلغت النفس منك التراقي، أن تبدو رسل ربك منحدرة إليك بسواد الألوان، وكلح الوجوه، وبشرى بالعذاب؟ فهل ينفعك حينئذ الندم أو يقبل منك الحزن أو يرحم منك البكاء؟! والعجب كل العجب يا نفس أنك مع هذا تدعين البصيرة والفطنة، ومن فطنتك أنك تفرحين كل يوم بزيادة مالك، ولا تحزنين بنقصان عمرك، وما نفع مال يزيد وعمر ينقص!

    معاتبة النفس بلزوم العمل للآخرة

    ويحك يا نفس! تعرضين عن الآخرة وهي مقبلة عليك، وتقبلين على الدنيا وهي معرضة عنك، كم من مستقبل يوماً لا يستكمله! وكم من مؤمل لغد لا يبلغه! أنت تشاهدين ذلك في إخوانك وأقاربك وجيرانك فترين تحسرهم عند الموت ثم لا ترجعين عن جهالتك.

    احذري أيتها النفس المسكينة! يوماً آلى الله فيه على نفسه ألا يترك عبداً أمره في الدنيا ونهاه حتى يسأله عن عمله دقيقه وجليله، سره وعلانيته، فانظري يا نفس بأي موقف تقفين بين يدي الله، وبأي لسان تجيبين، فأعدي للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، اعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مقامة، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود، اعملي قبل ألا تعملي، اخرجي من الدنيا اختياراً خروج الأحرار قبل أن تخرجي منها على الاضطرار، لا تفرحي بما يساعدك من زهرات الدنيا، فرب مسرور مغبون، ورب مغبون لا يشعر! فويل لمن له الويل ثم لا يشعر! يضحك ويفرح، ويلهو ويمرح، ويأكل ويشرب وقد حق له في كتاب الله أنه من وقود النار، فليكن نظرك يا نفس إلى الدنيا اعتباراً، وسعيك لها اضطراراً، وردك لها اختياراً، وطلبك للآخرة ابتداراً، ولا تكوني ممن يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، واعلمي يا نفس أنه ليس للدين عوض، ولا للإيمان بدل، ولا للجسد خلف، ومن كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن لم يسر، فاتعظي يا نفس بهذه الموعظة، واقبلي هذه النصيحة، فإن من أعرض عن الموعظة فقد رضي بالنار، وما أراك بها راضية، ولا لهذه الموعظة واعية، فإن كانت القساوة تمنعك عن قبول الموعظة فاستعيني عليها بدوام التهجد والقيام، فإن لم تزل فبالمواظبة على الصيام، فإن لم يزل فبقلة المخالطة والكلام، فإن لم تزل فبصلة الأرحام واللطف بالأيتام، فإن لم تزل فاعلمي أن الله قد طبع على قلبك وأقفل عليه، وأنه قد تراكمت ظلمة الذنوب على ظاهره وباطنه، فوطني نفسك على النار، وقد خلق الله الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وكل ميسر لما خلق له، فإن لم يبق فيك مجال للوعظ فاقنطي من نفسك، والقنوط كبيرة من الكبائر نعوذ بالله من ذلك، فلا سبيل لك إلى القنوط، ولا سبيل لك إلى الرجاء، مع انسداد طرق الخير عليك، إن ذلك اغتراراً وليس برجاء، انظري الآن هل يأخذك حزن على هذه المصيبة التي ابتليت بها؟! وهل تسمح عينك بدمعة رحمة منك على نفسك؟! فإن سمحت فمستقى الدمع من بحر الرحمة، فقد بقي فيك موضع للرجاء، فواظبي على النياحة والبكاء، واستعيني بأرحم الراحمين، واشتكي إلى أكرم الأكرمين، وأدمني الاستغاثة، ولا تملي طول الشكاية؛ لعله أن يرحم ضعفك، وأن يغيثك، فإن مصيبتك قد عظمت، وبليتك قد تفاقمت، وتماديك قد طال، وقد انقطعت منك الحيل، وراحت عنك العلل، فلا مذهب ولا مطلب، ولا مستغاث ولا مهرب، ولا ملجأ ولا منجى إلا إلى مولاك، فافزعي إليه بالتضرع، واخشعي في تضرعك على قدر عظم جهلك، وكثرة ذنوبك، فإنه يرحم المتضرع الذليل، ويغيث الطالب المتلهف، يجيب دعوة المضطر، وقد أصبحت إليه اليوم مضطرة، وإلى رحمته محتاجة، قد ضاقت بك السبل، وامتدت عليك الطرق، وانقطعت منك الحيل، ولم تنجح فيك العظات، ولم ينفع التوبيخ، فالمطلوب منه كريم، والمسئول جواد، والمستغاث به بر رءوف، والرحمة واسعة، والكرم فائض، والعفو شامل، قولي: يا أرحم الراحمين! يا رحمان يا رحيم! يا حليم يا عظيم يا كريم! أنا المذنب المصر، أنا الجريء الذي لا أقلع، أنا المتمادي الذي لا أستحي، هذا مقام المتضرع المسكين، والبائس الفقير، والضعيف الحقير، والهالك الغريق، فعجل إغاثتي وفرجي، وأرني آثار رحمتك، أذقني برد عفوك ومغفرتك، ارزقني من عظمتك يا أرحم الراحمين!

    1.   

    معاتبة عون بن عبد الله لنفسه

    قال منصور بن عمار : سمعت في بعض الليالي بالكوفة عابداً يناجي ربه ويقول: يا رب! وعزتك ما أردت بمعصيتك مخالفتك، ولا عصيتك إذ عصيتك وأنا بمكانك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي، وأعانني على ذلك شقوتي، وغرني سترك المرخى علي، فعصيتك بجهلي، وخالفتك بفعلي، فمن عذابك الآن من يستنقذني؟! وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ واسوأتاه من الوقوف بين يديك غداً إذا قيل للمخفين: جوزوا، وقيل للمثقلين: حطوا، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما كبرت سني كثرت ذنوبي! ويلي كلما طال عمري كثرت معاصي! فإلى متى أتوب؟ وإلى متى أعود؟ أما آن لي أن أستحي من ربي؟!

    انظر يا أخي! هذه معاتبة نفس، زفرات صدر، وأشجان قلب يمم وجهه شطر الدار الآخرة مستراح العابدين يبثها في خشوع، تابعي جليل من القرون الخيرية، من تلامذة الصحابة، ربي وصنع على أيديهم، شرب من سلسبيل القرآن والسنة، وكحل أجفان قلبه بهما، فانظر إليه كيف يستنصر الدمع في مناجاته، إنه عون بن عبد الله بن عتبة ، يقول: ويحي لم أعصي ربي؟! ويحي إنما عصيته بنعمته عندي! ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها عندي في كتاب كتبه كتاب لم يغيبوا عني! واسوأتاه لم أستحيهم ولم أراقب ربي! ويحي نسيت ما لم ينسوا مني! ويحي غفلت ولم يغلفوا عني! لم أستحيهم ولم أراقبه، ويحي حفظوا ما ضيعت مني! ويحي طاوعت نفسي وهي لا تطاوعني! ويحي طاوعتها فيما يضرها ويضرني! ويحي ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني؟! ويحها ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني؟! أريد إصلاحها وتريد أن تفسدني، ويحها إني لأنصفها وما تنصفني! أدعوها لرشدها وتدعوني لتغويني! ويحها إنها لعدو لو أنزلتها تلك المنزلة مني!

    ويحها تريد اليوم أن ترديني وغداً تخاصمني! ويحي كيف أفر من الموت وقد وكل بي؟! ويحي كيف أنساه ولا ينساني؟! ويحي إنه يقص أثري! فإن فررت لقيني، وإن أقمت أدركني، ويحي هل عسى أن يكون قد أظلني فمساني وصبحني، أو طرقني فبغتني؟!

    ويحي أزعم أن خطيئتي قد أقرحت قلبي، ولا يتجافى جنبي، ولا تدمع عيني ولا تأثر لي ولا يسهر ليلي؟!

    ويحي كيف أنام على مثلها ليلي؟! ويحي هل ينام على مثلها مثلي؟! ويحي لقد خشيت ألا يكون هذا الصدق مني؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي كيف لا توهن قوتي ولا تعطس هامتي؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي كيف لا أنشط فيما يطيفها عني؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي! كيف لا يذهب ذكر خطيئتي كسلي، ولا يبعثني إلى ما يذهبها عني؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي! لا تنهاني الأولى من خطيئتي عن الآخرة، ولا تذكرني الآخرة من خطيئتي بسوء ما ركبت من الأولى!

    فويلي ثم ويلي إن لم يتم عفو ربي، ويحي لقد كان لي فيما استوعبت من لساني وسمعي وقلبي وبصري اشتغال، فويلي إن لم يرحمني ربي! ويلي إن حجبت يوم القيامة عن ربي فلم يزكني، ولم ينظر إلي، ولم يكلمني!

    أعوذ بنور وجهه من خطيئتي، وأعوذ به أن أعطى كتابي بشمالي أو وراء ظهري؛ فيسود به وجهي، وتزرق به مع العمى عيني، بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي بأي شيء أستقبل ربي بلساني أم بيدي أم بسمعي أم بقلبي أم ببصري؟! ففي كل هذا له الحجة والطلبة عندي، فويلي إن لم يرحمني ربي، كيف لا يشغلني ذكر خطيئتي عن ما لا يعنيني؟!

    ويحك يا نفس ما لك تنسين ما لا ينسى، وقد أوتيت ما لا يؤتى، وكل ذلك عند ربي يحصى، في كتاب لا يبيد ولا يبلى، ويحك لا تخافين أن تجزي في من يجزى، يوم تجزى كل نفس بما تسعى، وقد آثرت ما يفنى على ما يبقى، يا نفس! ويحك ألا تستفيقين مما أنت فيه إن سقمت تندمين، إن صححت تأثمين، إن افتقرت تحزنين، إن استغنيت تفتنين، ما لك إن نشطت تزهدين، فلما إن دعيت تكسلين؟ أراك ترغبين قبل أن تنصبي، فلم لا تنصبين فيما ترغبين؟!

    يا نفس! ويحك لم تخالفين؟ تقولين في الدنيا قول الزاهدين، وتعملين فيها عمل الراغبين! ويحك لم تكرهين الموت؟! يا نفس ويحك أترجين أن ترضي ولا تراضين؟ ما لك إن سألت تكثرين، فلما إن أنفقت تقترين؟! تعظمين في الرهبة حين تسألين، وتقصرين في الرغبة حين تعملين، تريدين الآخرة بغير عمل، وتؤخرين التوبة لطول الأمل! لا تكوني كمن يقال: هو في القول مدل، ويستصعب عليه الفعل.

    ويح لنا ما أغرنا! ويح لنا ما أغفلنا! ويح لنا ما أجهلنا! ويح لأي شيء خلقنا؟! أللجنة أم للنار؟ ويح لنا أي خطر خطرنا، ويح لنا من أعمالنا! ويح لنا مما يراد بنا! ويح لنا كأنما يعنى غيرنا! ويح لنا إن ختم على أفواهنا، وتكلمت أيدينا، وشهدت أرجلنا! ويح لنا حين تفتش سرائرنا! ويح لنا حين تشهد أجسادنا! ويح لنا مما قصرنا! لا براءة لنا، لا عذر عندنا، ما أطول أملنا! ويح لنا حيث نمضي إلى خالقنا! ويح لنا والويل الطويل لنا إن لم يرحمنا ربنا، فارحمنا يا ربنا!

    ويحي! كيف أغفل ولا يغفل عني؟! كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي؟! كيف لا يطول حزني ولا أدري ما يفعل بي، أم كيف تهنأ لي الحياة ولا أدري ما أجلي؟ أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل منها يكفيني؟ أم كيف آمن ولا يدوم فيها حالي؟ أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري؟! أم كيف أجمع لها وفي غيرها قراري؟ أم كيف يشتد عليها حرصي ولا ينفعني ما تركت فيها بعدي؟ أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي؟ أم كيف لا أبادر بعمل قبل أن يغلق باب توبتي؟ أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني؟ أم كيف أغفل عن أمر حسابي وقد أظلني واقترب مني؟ أم كيف أجعل شغلي فيما قد تكفل لي به؟ أم كيف أعاود ذنوبي وأنا معروض على عملي؟ أم كيف لا أعمل بطاعة ربي وفيها المنجاة مما أحذر على نفسي؟ أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يراد بي؟ أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني؟ أم كيف أعرض نفسي لما لا يقوى له جسدي؟ أم كيف لا يشتد هولي مما يشتد منه جزعي؟ أم كيف تطيب نفسي مع ذكر ما هو أمامي؟ كيف يطول أملي والموت في أثري؟ كيف لا أراقب ربي وقد أحسن طلبي؟

    ويحي! هل ضرت غفلتي أحداً سواي؟ أم هل يعمل لي غيري إن ضيعت حظي؟! أم هل يكون عملي إلا لنفسي، فلم أدخر عن نفسي ما يكون نفعه لي؟

    ويحي! كأنه قد تصرم أجلي ثم أعاد ربي خلقي كما بدأني، ثم أوقفني وسألني وسأل عني وهو أعلم بي، ثم أشهد الأمر الذي أذهلني عن أحبابي وأهلي، وشغلت بنفسي عن غيري! وبدلت السموات والأرض وكانتا تطيعان وكنت أعصي، سيرت الجبال وليس لها مثل خطيئتي، وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي، وانكدرت النجوم وليست تطلب بما عندي، وحشرت الوحوش ولم تعمل بمثل عملي، وشاب الوليد وهو أقل ذنباً مني.

    ويحي! ما أشد حالي وأعظم خطئي فاغفره.

    1.   

    معاتبة أعطر من أريج الزهور

    ومعاتبة أخرى أعطر من أريج الزهور: يا نفس! ما لي أراك مطمئنة والغالب عليك الفرح والسرور، وشواهد المقت بادية عليك، ودلائل الغضب بينة فيك، في كثير من أحوالك قد اطمأننت وسكنت، وكثيراً ما يغلب عليك الفرح والسرور في أكثر الأحوال، وأنت ترين فيك من الله دلائل الغضب وشواهد المقت، ثم لا تبكين ولا لذلك تكترثين، كأنك لغضب الله تطيقين، ولعذابه تجهلين، هيهات هيهات! إنك عن دون الله لتضعفين، ومن أقل أذى الدنيا تجزعين، فكيف بشدة غضب الله وأليم عذابه؟! ولكن عقوبات الله منعتك من أن تجزعي، فكيف يصنع الله بمن لا يجزع من غضبه، ولا يتوجع من أليم عذابه، ولا يصلح على آدابه، ولا يقبل عليه بالإقلاع شكراً لدوام نعمائه، ولا ينحاش ولا يهرب إليه؛ لما يرى من سوء آثار عقوباته في الدنيا خاصة دون معاشه في نفسه وعياله؟!

    ويحك يا نفس! ويحك يا نفس! ألم تري أن مولاك قد أبعدك عما كان يتعاهد به قلبك من هيجان التيقظ وقوة التنبه، والدوام على ذكره والجزع من نسيانه وشدة عذابه، ولقد رغب الله قلبك في أول أمرك، وتأديباً كانت بلية الله فيك، وتقريباً منه إليك، وتحنناً منه عليك فنبه قلبك عن الغفلات، ومن عليك بجود الحلاوة عند الطاعات، وشدة التلذذ بالمناجاة، فأصبحت وأمسيت مباعدة من الله، مطرودة عن بابه، منحاة من قربه، قد حل بك منه الخذلان، تتمادين في الغفلات فلا يوقظك، ويدوم منك النسيان فلا ينبهك، وتكون منك الزلة بعد الزلة فلا يدوم لك الحزن، ولا يطول بك الغم، بل قد قلب التنبه فيك فصار لا ينبهك ولا يذكرك، ثم يحدوك بالعقوبة عن استعمال التذكر وطاعة التنبه، فصرت في شر حال، وبعد ذلك طول الغفلة ودوام النسيان لنظر الجليل العظيم.

    ثم شهوتك لترك استعمال التذكر وطاعة التنبه، طول غفلة وجرأة وإقدام على الذنب، وما تخافين أن تحرمي الخلود في جواره، هل سمع السامعون بأسوأ منك حالاً؟ هل عرف العارفون بأشر من منزلتك؟ ثم مع ذلك الحزن عنك زائل، والغم لك مباين، والتوجع لك غير لازم، وقد رآك مولاك في أسباب الدنيا بأضداد ذلك كله، شغلك بطلبها دائم لا تملين، تنشطين وتقوين إذا رأيت الزيادات في معاشك، وتنكسرين إذا رأيت النقصان فيه، ولا يكون ذلك فيما بينك وبين ربك إلا في أقل الأوقات، قد أصبحت عند الله مفتضحة، ومن البعد منه غير مكترثة، لقد أصبحت وأمسيت وهو عليك غير مقبل، ولك غير مقرب، مقصاة منه، مباعدة عنه، ولولا تفضله عليك بالعفو لسلبك نعمة الدين كلها، ولكنه يبقي من العقوبة تفضلاً منه وإحساناً وكرماً على عبيده. ويحك ما لك في الجهل مفعمة مغموسة، وفي البلايا متلوثة؟ ويحك هل عقلت من تعصين؟ ويحك تتمادين في الغفلات فلا يوقظك، ويدوم منك النسيان فلا ينبهك، فكيف لا يغلب ذلك عليك وأنت في كل يوم في نقصان، في كل يوم لا تفرين من المعاصي؟! إن تبت لا تلبثين أن ترجعي عن توبتك وتعودين في تخبطك، إن عزمت لا تقلعين، وإن فعلت ما عزمت عليه فمن الآفات لا تسلمين عن حب محمدة أو عجب، تعاهدين فتغدرين، وتعدين فتخلفين، وتحلفين بالله ثم لا تفين، فلو كنت جاهلة كان أخف للحجة عليك، وكان أبعد لك عن الجرأة عن مولاك، ولكن عظمت عليك الحجة، ودامت منك الجرأة، إن كنت للآثار طالبة، وللقرآن حافظة، وفي الدقائق من الحكمة مناظرة، وبحسن العظات نافقة، تدعين إلى الله وأنت منه فارة، وتذكرين بالله وأنت له ناسية، تعظمين الله بالقول وأنت بالفعل غير معظمة، ويحك! أنت اليوم مهملة، والله لك منظر، وعن قليل تنقطع المدة وتزول النظرة ولو قد تغشاك الموت وسياقه، فلقد حضرك العدم فأعطيت النية الصحيحة حيث لا يقبل، ويحك أتدرين عما ينكشف الغطاء؟ أما تخافين لو بلغ منك النفس التراقي أن تبدو رسل الله منحدرة من السماء بسواد الألوان وبشرى العذاب؟ هل ينفعك حينئذ الندم؟ هل يقبل منك الحزن، أو يرحم منك البكاء؟

    ويحك! بادري حلول الأجل بالتوبة، واغتنمي عيش كل ساعة فإنك في السير مجدة، وفي كل وقت من لقاء الله تقربين.

    ويحك! تكلفي الحزن واطلبيه، لعلك من الحزن الأكبر تنجين، ويحك كدري الفكر بما سلف منك من الذنوب، وعودي البكاء عيناً بالدموع قبل سيلها في نار جهنم.

    ويحك! استعيني بأرحم الراحمين، واشتكي إلى أكرم الأكرمين، وأديمي الاستغاثة، ولا تملي طول الشكاية، لعله أن يرحم ضعفك ويغيثك، فإن مصيبتك قد عظمت، وبليتك قد تفاقمت، وتماديك قد طال، قد انقطعت منك الحيل، وانزاحت إليك العلل، لا مهرب ولا مطلب، ولا استغاثة ولا ملجأ ولا منجى إلا إلى مولاك، فاضرعي إلى مولاك واخشعي في تضرعك؛ لأنه يرحم المتضرع الذليل، ويغيث الطالب المتلهف، ويجيب دعوة المضطر، وقد والله أصبحت إليه مضطرة، وإلى رحمته محتاجة، فألحي بالطلب للفرج، واشتكي لعظم المصيبة، فإن المطلوب إليه كريم، والمسئول إليه جواد، والمستغاث به رءوف، أديمي الاستغاثة فإنه يغيثك، وإن من إغاثته لك أن من عليك بالاستغاثة، فليرك مولاك في مقام المضطرين الحيارى الملهوفين؛ لأنه إن أخذك بعظيم جرمك لم يغثك، وإن صفح بجوده أن يؤاخذك أسرع بإجابتك.

    فادعي يا نفس! دعاء من لا يستأهل أن يجاب ولا يغاث، طامع من الجواد ألا يناقش السيئات، ولا يؤاخذ بالخطايا، يغيث من يدعو وهو عند نفسه لا يستأهل أن يجاب، ولكن حمله على التضرع معرفته بكرم المسئول وجود المطلوب ورحمة المستغاث.

    اعقلي يا نفس ما فاتك من طاعة ربك، وما أفنيت من عمرك في غير التقرب إليه، فيا أسفاه على طاعته! ويا حزناه على رضاه! ويا خجلاه مما اطلع عليه! يا طول كمدك إن حرمك جواره في الآخرة كما حرمك صدق المعاملة في الدنيا! يا تقلقلك في حر جهنم إن لم يعف عنك!

    ويحك اذكري ما يحل بأهل عذابه من اشتعال النار في جميع أجسامهم، ووصولها إلى أحداقهم، ودخولها في أجوافهم.

    ويحك كيف ترين وجع قلب عبد دخلت النار في عينه ونفذت إلى جميع بدنه؟! بل كيف بنار تأكل أمعاءه وكبده؟! بل كيف بلسان من نار يدخل في جوف قلبه ثم يلتهب في جميع أعضاء جسده؟!

    ويحك أتأمنين أن يكون هذا غداً نعتك وصفتك، وهذه حالك؟! ويحك ارحمي ضعف جسمك لا تخاطري به، ورقي لقلة صبرك ولا تغتري، إذا لم ترحمي بدنك من النار فمن ترحمين؟! وإن لم ترقي له فعلى من ترقين؟! والله لو تبت وأنبت وأطعت لم آمن عليك أن يردك ولا يقيلك، فاستقيليه عسى ألا يردك ولا تنالين ذلك إلا به، فافزعي إليه فزع الهالك، وتضرعي إليه تضرع الغريق، استغيثي به استغاثة العطب؛ فإن المستغيث مأمول له في الاستغاثة، والله الداعي موفق للدعاء، كما كان الكريم يمن بالاستغاثة، ويهيج على الطلب وهو لا يريد ممن فعل به ذلك ألا يجبه، ولكن ليكثر المتفضل عليه بالدعاء على مقدار نقمته، وليلح بالطلب على قدر مسكنته، فلتقصير في ذلك رد أكثر المستغاثين.

    أما من فتح الله عليه باب الاستغاثة، ومن عليه بالتضرع فعظم منته بذلك، وعلم أنه أعطي ما لم يستأهله، ثم داوم وواظب على الطلب فلن يخيب الله دعوته، ولن يمسك إجابته، أبى الجواد بكرمه وجوده أن يرد من أراده، فاشتكي إليه، داومي ولا تملي، فمن كان في مثل حالك لا يمل دوام التضرع بشدة المسكنة ولعظيم المصيبة.

    ويحك إن لم تخافي العذاب ولم ترحمي جسدك أما تشتاقين أن يحل بك من الله الرضا، وينظر إليك بالحظوه؟! ويحك أما تحنين إلى طيب جوار الله في جنته، في روح لا يزول، ونعيم لا يبيد، وقرة عين لا تنقطع، فوق الأماني مما تشتهيه الأنفس، مع البقاء واليقين بالرضوان، وأعظم من ذلك تشتاقين إلى أن تزوري مولاك، وتسمعي كلامه لك بالترحيب، ويكشف الحجاب فتنظري إلى من لا يشبهه شيء في جلاله؟!

    ويحك! في هذه الدار وجب ذلك كله للعمال، وفي هذه حل الحرمان كله على الجهال، فعيشك غنيمة، وبقية عمرك إقالة، فافرحي واشكري لمولاك أن يكون الموت عاجلك فحال بينك وبين الرجوع، وقطع بك عن النزوع، وفاتك طيب جوار الله العظيم الجليل.

    ويحك! لا تزهدي في الهرب من النار، ولا تستهيني بطيب الجوار، ولا تعرضي عن الرغبة في رضوان الله، إني لأقول لك هذا ولا أدري أي حال عند الله حالك، بماذا ينظر إليك في ساعتك هذه؟ بالمحبة والرضوان؟ أم بالغضب والسخط والحرمان؟ أي الدارين دارك؟ وأي القرارين قرارك؟ وأي العيش عيشك؟

    فكلا الدارين قد امتلأ بسكانها، ووصل كل واحدة منها أهلها، فاطلع بقلب فارغ إلى الجنة وقد ثوى فيها سكانها إلى انفساح سعتها، وبرد طيب نسيمها، وإلى طيب ما يفوح من رائحتها، وإلى حسن بناء قصورها، وبهجة حليها وحريرها، وتلألأ نورها على أسرتها وحجالها، اطلع إلى حسن وجوه أهلها ونضرة أثر النعيم في وجوههم، وقربهم من مليكهم، ويقينهم برضا الله عز وجل عنهم، اطلع إلى اختلاف الملائكة رسلاً من الله إليهم، وتردد الولدان كاللؤلؤ في لذاتهم، اطلع إلى أنهارها على جنادل ياقوتها وقد تضمنت من أصناف البهجة في عرصاتها!

    ثم اشرفي بوجهك على دار الهوان والخزي.. انظري ببصر قلبك إلى شدة ضيقها.. إلى تكاثف ظلمتها وانطباق أبوابها، مسودة بالعمد عليهم، ووهج النيران فيها، انظري إلى قبيح صور المعذبين فيها.. وإلى شدة نتن دارهم، وتهتك أجسامهم، ونتن مقطعات ما بهم.. إلى النيران ملتهبة من فوق رءوسهم وأسافل أقدامهم.. وإلى حياض الحميم تفور معدة لشدة عطشهم، وتجاوب أصواتهم بالويل والثبور، وإلى تضرعهم إلى مالك والخزنة، وندائهم بالاستغاثة، ثم دعائهم إلى ربهم فأخسأهم فانقطعت أصواتهم، والتحمت أفواههم، وحبست أنفاسهم وبقوا بالغم والكرب لا يتنفسون إلى حلول غضب الله عليهم، وانقطاع رجائهم منه.

    توهمي ما تضمنته حواشيها من صنوف الهوان والألوان من العذاب، فإنك إن نظرت في ساعتك هذه إلى كل واحدة منها، وعظيم ما فيها، ثم لم تأمني حرمان جوار الله والخلود في دار عذابه أشفقت وإن أشفقت حذرت، وإن حذرت أيقنت بكل ما يتوعد به؛ فتبت وأنبت ومن كل ما يكره تطهرت، فتوهمي إلى عواقب من أطاع واتقى، وعواقب من عصى الله وأساء، ولا ترضي بأن تخاطري فيما إن وقعت فيه لن تقالين، ولا إلى الدنيا تردين.

    ويحك! إن الدنيا دار نجاة الآخرة، بقدر ما تحملين فيها من المكروه لله تعوضين، وبقدر ما تتركين من ملاذها تجزين، إن الجامعين بذلوا الأحزان في الدنيا فأرسوها في الآخرة دوام السرور، أطالوا البكاء في الدنيا فدام في الآخرة فرحهم، تعبوا ونصبوا، وورثوا راحة الأبد، رفضوا لله الشهوات، فرجوا الجواري القاصرات، وتنادموا بالخمور، وصاروا إلى منية وغاية من اللذات.

    ويحك! فلا تدعي معاملة مولاك في دار العمل وأنت مقبلة على الباطل، ويحك يا نفس! ابكي على ما مضى من سوالف الذنوب، فإن المنقطع به يستعين بالبكاء إلى من يستغيث به رجاء أن يرحم، فخذي في البكاء والعويل، والنوح والضجيج؛ لعله أن يرحم منك العبرة، ويقيلك العثرة، ويعجل لك النقلة، فإن رحم الله بكاءك، وسمع شكواك، وعلم منك النوح والعويل -إذ عرف عظيم سيئتك- رجوت أن يعجل لك الفرج، وينقلك إلى مقام من تولاه، ورحم تضرعه وشكواه، فخذي في النوح والعويل والشكوى؛ طلباً لجبر المصيبة، قولي: أنا العاصي في دنياي! أنا المفلس المسلوب! أنا الموقر بالخطايا والذنوب! أنا العليل الدائم على ميل للسقوط! أنا المقيم على أسباب مهلكتي! الويل لي إن كان سخط علي ربي! والخيبة لي إن مقت الله حل بي! والحسرة لي إن كان الله أوجب ألا أجاوره في جنته! والويل والعويل إن كان أغلق الباب عني، فلا ترفع لي للسماء دعوة، ولا يصعد لي للسماء عمل، يا طول حزني وغمي! ويا طول جهدي وكمدي إن كان الله قد قطع ما بيني وبينه! فلو محا جميع أهل السموات لعظم مصيبتي لكانت أعظم من محي ربهم رحمة لهم، ويحي وويلي! لعلي من أعداء الله وأنا لا أدري، ولعله أوجب على نفسه ألا يقيلني دون أن يجعل النار من الدنيا منقلبي، فما بيني وبين الهوان والذل الطويل والحزن إن لم يعف عني إلا أن تنقطع أيام أجلي، ويحضر وقت منيتي، ويكشف لي عن الغطاء، ويأتيني الخبر اليقين، يا جهدي وضعفي ويا ذل استحيائي! يا شدة حسرتي وعظم ندامتي! لقد خفت إن رد دعائي ولم يرحم شكواي كيف يغيث من غضب عليه؟! كيف يرحم من سخط عليه؟! أنا الجريء الذي لا يقلع، وأنا المتمادي الذي لا يستحيي! ويحك يا نفس أين تلاوة القرآن؟ وأين معاني الآثار؟ أين الشكر لمن لا تعرفين منه إلا الإحسان؟ أرضيت بأحوال الجاهلين، ومنازل الغافلين، وأعمال الفاسقين؟!

    ويحك يا نفس! أليس قد انقطع عنك كل لذة، وزالت عنك كل رفاهية، وانقضت الساعات والأيام وما كان فيها من التخويف والذنوب، وبقيت عليك الأوزار؟! هذا ما قد قضى وذهب، وبقي السؤال، فهكذا تستقبلين أيامك، ويحك! نادي ربك بصوت محزون من قلب مغموم، وابذلي الدموع، واستغيثي استغاثة المكروب، قولي: يا رب! هذا مقام المتضرع المسكين، البائس الفقير، الهالك الغريق، عجل إغاثتي وفرجي، أرني آثار رحمتك، أرني لذة الإقبال عليك، وسرور القلب منك، وأنس الحب لك، بدل أحوالي، واقلب همتي، وحول لذتي.

    يا نفس! فادعيه وأنت منه مستحية، فقد طال قلة حيائك منك، ويحك تستحين من الخلق من المؤمنين والكافرين أن يروا فيك ما يعيبونك ولا تستحين ممن يطلع على كثرة ما عندك من الذنوب! ويحك وأكافرة أنت أم شاكة في الله أنت؟ ويلك والويل لك ما أسوأ حالك مهلكة وأنت تعلمين! مع ذلك في السرور تتقلبين، بالله لا تبالين، من خلقه تستحين ومنه لا تستحين، ويلك تستكثرين من الذنوب، تحيرت يا نفس في أمرك، وتبدلت في التأني لك، أعاتبك ولا تستعتبين، أعظك ولا تتعظين! أعيرك ولا تستحين، أشكوك إلى من علمك فلا تداني أهلاً للجواب، أستغيث منك فلا تغيثيني، لا أدري كيف حيلتي ولمن أستغيث وممن أستعين؟

    ويحك يا نفس! ويحك يا نفس! ويحك يا نفس أما تعلمين أن الموت موعدك، والقبر بيتك، والتراب فراشك، والدود أنيسك، ويحك يا نفس! بأي بدن تقفين بين يدي الله عز وجل؟!

    يا نفس ويحك! طالما أبصرت موعظة وما

    نفعتك فاخشي وانتهي، وعليك بالتقوى كما

    فعل الأناس الصالحون، وبادري فلربما

    سلم المبادر، واحذري يا نفس من (سوف) فما

    خدع الشقي بمثلها، إياك منها كلما

    نادت مكائدها ضميرك، إنما

    هي إنما خطرت وكم قتلت وأهلكت النفوس، وقلما

    تغني أمانيها إذا حضر الربا فكأنما

    يا ذا المنى! عش ما بدالك ثم ما

    يا سكران الهوى أما آن الصحو

    يا ساطراً قبح الخلاف أما حان الوقت

    يا نفس الهوى علي وليس لي، أريد حياتك وتريدين مقتلي

    ولله در القائل يرحمه الله:

    مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور

    إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رءوس العباد تفور

    وإذا الجبال تقلعت بأصولها ورأيتها مثل السحاب تطير

    وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور

    وإذا الوحوش لدى القيامة حشرت وتساءل الأملاك أين نسير

    وإذا الصحائف نشرت وتطايرت هتكت إذاً للمذنبين ستور

    وإذا الجنين معلق مع أمه يخشى الحساب وقلبه مذعور

    هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور

    يا من تمتع بالدنيا وزينتها ولا تنام عن اللذات عيناه

    أفنيت عمرك فيما لست تدركه تقول لله ماذا حين تلقاه

    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756191878