إسلام ويب

تفسير سورة التوبة [60-72]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين)

    قال الله تبارك وتعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة:58-59]. فأجابهم الله سبحانه وتعالى مبيناً أنهم لا يستحقون أن يعطوا من الزكاة أو من الصدقات، فقال تبارك وتعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ [التوبة:60] يعني: إنما يستحق الصدقات: لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]. لما ذكر تعالى لمزهم في الصدقات، أعقب ذلك ببيان أحقية ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من القسمة، ففي الآيتين السابقتين: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) أي: يعيبك، (فِي الصَّدَقَاتِ) أي: في قسم الصدقات، فأعقب ذلك ببيان أحقية ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من القسمة؛ لأنه في هذا القسم لم يتجاوز مصارفها المشروعة له، وهذا هو عين العدل، وذلك أنه تعالى شرع قسمها لهؤلاء ولم يكله إلى أحد غيره، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم منها لنفسه شيئاً، فالذي تولى القسمة هو الله سبحانه وتعالى، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أي دور، وإنما بين مصارف الصدقات، وكان قاسماً موزعاً والله هو الذي أعطى، كما في الحديث المتفق عليه عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي)، فالعطاء من الله، وما على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يوزعها ويصرفها حيث أمره الله تبارك وتعالى، فكذلك هنا الله الذي أعطى، والله سبحانه وتعالى هو الذي أمر بتوزيع المال على هذه المصارف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي قسمها على هؤلاء، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم منها لنفسه شيئاً، بل حرمت الصدقة على أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم، ففيم اللمز لقاسمها صلوات الله وسلامه عليه؟! وروى أبو داود عن زياد بن الحارث رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له: (إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك). إذاً: هذه الآية الكريمة رد لمقالة أولئك اللمزة الذين كانوا يلمزونه ويعيبونه في قسمة الصدقات، ففيها رد لمقالة أولئك اللمزة وتوضيح لأطماعهم؛ ولبيان أنهم بمعزل عن الاستحقاق، وإعلام بمن إعطاؤهم عدل ومنعهم ظلم، وهم هؤلاء الأصناف الثمانية في هذه الآية الكريمة، فإعطاء هؤلاء عدل ومنع هؤلاء ظلم؛ لأنه منعهم من حقهم الذي شرع الله سبحانه وتعالى لهم.

    الفرق بين الفقير والمسكين

    (إنما الصدقات -محصورة- للفقراء)، الفقير هنا فعيل بمعنى: فاعل، فيقال: فقر يفقر من باب تعب يتعب إذا قل ماله، والمساكين جمع: مسكين، من: سكن سكوناً؛ لأن المسكين تسكن أو تذهب حركته لسكونه إلى الناس، وهو بفتح الميم في لغة بني أسد، (مَسكين)، وبكسرها عند غيرهم. وقال ابن السكيت : المسكين: الذي لا شيء له، والفقير: الذي له بلغة من العيشَ، وكذلك قال يونس ، وجعل الفقير أحسن حالاً من المسكين، قال: وسألت أعرابياً: أفقير أنت؟ قال: لا، والله بل مسكين. وقال الأصمعي : المسكين أحسن حالاً من الفقير، وهذا هو القول الأقوى؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، فالآية تؤيد القول بأن المسكين هو الذي له مال لكنه لا يكفيه، يعني: له دخل لكنه لا يقوم باحتياجاته الأصلية. (( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ )) يعني: كانت هذه السفينة لجملة من المساكين، وفي نفس الوقت يعملون في البحر، يعني: لهم دخل وإن كان لا يكفيهم. في حين قال تبارك وتعالى في حق الفقراء: (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) يعني: لا يستطيعون ضرباً في الأرض، فهؤلاء ليس لهم دخل أصلاً ولا عمل. وقال ابن الأعرابي : المسكين هو: الفقير، وهو الذي لا شيء له، فجعلهما سواءً. وقال البدر القرافي : إذا اجتمعا افترقا: ثمرة ذلك تظهر فيما إذا مات رجل وأوصى للفقراء والمساكين، فهنا اجتمعا في الوصية فيفترقان في المعنى، بمعنى: أن يكون الفقير الذي لا شيء له أصلاً، والمسكين الذي له دخل ولكنه لا يكفيه، ففي هذه الحالة لا بد تنفيذاً لهذه الوصية من صرف الوصية للنوعين، لكن هذان اللفظان إذا افترقا اجتمعا، يعني: إذا اقتصر على أحدهما شملت المعنى العام لهما، كما إذا أوصى فقال: أوصي بهذا المال للفقراء فقط، ففي هذه الحالة يجوز الصرف للفقراء وللمساكين، أو قال: أوصي بهذا المال للمساكين، فإذا وردت مفردة، ففي هذه الحالة يجوز إعطاء الصنف الآخر الذي لم يذكر. وهذا الأمر ليس جديداً علينا، إذ هناك كثير من الألفاظ الذي تنطبق عليه هذه القاعدة: إذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا، مثل: الإسلام والإيمان. والدليل قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، فهنا افترقا فيجتمعان من حيث المعنى، فتشمل الباطن والظاهر. لكن إذا افترقا مثل حديث جبريل: (ما الإسلام؟) (ما الإيمان؟) فانظر المغايرة هنا حينما اجتمعا في نص واحد. مثال ذلك أيضاً: البر والتقوى، وكذا: الله والرب، فيكون لفظ الجلالة الله قسيماً للرب، يعني: توجد مغايرة بينهما من حيث المعنى، كما في قوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ [الناس:1-3]، فغاير بين الرب وبين الإله. وكذلك كما تقول في كلامك: رب العالمين! وإله المرسلين، ففي هذه الحالة أيضاً يكون هناك مغايرة. ومثال افتراقهما عندما يأتي الواحد منها منفرداً عن الآخر -لكنه في هذه الحالة يشمل الأمرين- قول الله عز وجل: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:40]، وقوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [الأنعام:164]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، ومن هذه المواضع سؤال الإنسان في القبر: من ربك؟ فهنا تعني: من إلهك؟

    معنى قوله تعالى: (والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ...)

    يقول المهايمي : ثم ذكر تعالى من يحتاج إليهم والمحتاجين إلى الصدقات، يعني: الزكاة تعطى للمحتاجين من المسلمين ولمن يحتاج إليهم المسلمون، فمن هؤلاء الذين يحتاج إليهم المسلمون: العاملون عليها، فلابد من وجود كادر من الموظفين يتولون جمع الزكاة ويتولون تصريفها ويسعون في تحصيلها، ومنهم: القابض، والوازن، والكيال، والكاتب، فهؤلاء يعطون أجورهم من الزكاة (( وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا )). ثم ذكر من يحتاج إليهم الإمام، فقال تبارك وتعالى: (( وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ))، وهم قوم ضعفت نيتهم في الإسلام، فيحتاج الإمام إلى تأليف قلوبهم بالعطاء تقوية لإسلامهم؛ لئلا يسري ضعفهم إلى غيرهم، أو أشراف يترقب بإعطائهم إسلام نظرائهم. معنى قوله تعالى: (( وَفِي الرِّقَابِ )): ثم ذكر تعالى من يعان بها في دفع الرق؛ لقوله تبارك وتعالى: (( وَفِي الرِّقَابِ )) يعني: للإعانة في فك وإعتاق الرقاب، فيعطى المكاتبون منها ما يستعينون به على أداء نجوم الكتابة، يعني: أقساط الكتابة، وإن كانوا كاسبين، يعني: حتى وإن كان هؤلاء المكاتبون يعملون ويتكسبون، لكن يعطون أيضاً من الزكاة ما يعينهم على التحرر من الرق وإن كانوا كاسبين، وهذا قول الشافعي والليث . أو (وفي الرقاب) يعني: وللصرف في عتق الرقاب، وذلك بأن يصرف من مال الزكاة في شراء رقاب ثم تعتق، وهذه صورة أخرى. إذاً: إما أن تفك رقاب المكاتبين كي يعتقوا، وإما أن يشترى من مال الزكاة أرقاء ثم يعتقون بعد ذلك، قال ابن عباس والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق ، ولا يخفى أن الرقاب يعم الوجهين، وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة. معنى قوله تعالى: (( وَالْغَارِمِينَ )): ثم ذكر تعالى من تفك ذمته في الديون، فكما تفك الرقاب، هناك أيضاً من تفك ذمته؛ لأنها مقيدة بالدين، فقال عز وجل: (( وَالْغَارِمِينَ ))، وهم الذين ركبتهم الديون لأنفسهم في غير معصية ولم يجدوا وفاءً، أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء، فالغارم إما أن يستدين لمصلحة نفسه أو يستدين لمصلحة غيره حتى لو كان غنياً، فالذي يستدين لمصلحة نفسه يشترط فيه أن يكون ركبه الدين في غير معصية وفي غير إسراف، لا من يستدين للترف وللتنعم، ويقول: أنا غارم، ويؤخذ له من الزكاة! فلا تكون نفقته في سفه وترفه، وإنما في أمور أساسية يحتاجها، ولا يكون الدين ركبه في معصية، ولم يجد من ماله ما يوفي به هذه الديون، فالغارم يعطى أيضاً من الزكاة. أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء، كرجل تحمل مالاً في ذمته لإصلاح ذات البين، مثلاً: قبيلتان سوف تقتتلان بسبب المال، فهو يعطي من ماله من أجل أن يعصم دماء هؤلاء المقتتلين، ففي هذه الحالة هذا يعطى من الزكاة ولو كان غنياً ما دام أنه غرم لإصلاح ذات البين. نرى تساهلاً عند كثير من الناس، ويعز عليهم إخراج الزكاة نتيجة الشح الذي هو مركوز في النفس، فيحاول أن يخرج المال دائماً إلى أحد أقاربه، ويكون هذا الشخص مستديناً في أمور كمالية، مثلاً في تأثيث بيته بصورة فيها نوع من الترف، أو قريبته ستتزوج ويريد أن يساعد أهلها في الأثاث، وغالباً الأثاث يكون في كماليات، في حين مال الزكاة يحتاج إليه آخرون للقوت أو للعلاج، فينبغي عدم التساهل في هذا الأمر.

    (في سبيل الله وابن السبيل)

    ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله تبارك وتعالى: (( وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ))، فيصرف على المتطوعة في الجهاد؛ لأن المتطوعة لا مرتب لهم، فيعطى سهم (في سبيل الله) للمجاهدين المتطوعين، فيشترى لهم الكراع والسلاح. قال الرازي : لا يوجب قوله: (في سبيل الله) القصر على الغزاة، ولذا نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء جواز طرح الصدقات إلى جميع وجوه الخير: من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: (وفي سبيل الله) عام في الكل، وهذا من الموضوعات المهمة جداً التي تحتاج إلى بحث مستقل؛ ولكن لأن خطتنا في التفسير الاختصار بقدر المستطاع فلن نتعرض له، وكثير من الناس الآن توسعوا في هذا المصرف، حتى إنهم يقولون: يجوز صرفها في طباعة الكتب وتوزيعها في المعسكرات الإسلامية، وفي الأنشطة، ويوجد أصل لهذه الأقوال، لكن هذا المذهب مرجوح، والراجح هو مذهب الجمهور: أن سهم (في سبيل الله) للمتطوعين في الجهاد؛ لأن هذا هو الأصل عند إطلاق في سبيل الله، ولا يمنع هذا لفظ: (في سبيل الله) أن يطلق على الحج وغير ذلك من العبادات؛ لأن إعطاء الفقراء مثلاً هو في سبيل الله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ . إذاً: تخصيص هذا المصرف بقوله: (وفي سبيل الله)، يقتضي تمييزه بنوع خاص، ففي سبيل الله عند إطلاقها تنصرف إلى الجهاد. معنى قوله تعالى: ( وَاِبْنِ السَّبِيلِ )): ثم ذكر تعالى الإعانة لأبناء الطريق بقوله: (( وَاِبْنِ السَّبِيلِ ))، فيعطى المجتاز في بلد ما يستعين به على بلوغه إلى بلده، يعني: يمكن أن رجلاً مسافراً يكون مليونيراً في بلده، لكنه فقد أمواله وصار في حالة فقر، فهذا ابن سبيل، ويأخذ من الزكاة حتى لو كان غنياً في بلده، ولا يعطى على سبيل الاستدانة، لكن هذا حقه أن يعطى من الزكاة، وابن السبيل: هو الذي انقطعت به السبيل، ولا يملك المال الذي يعود به إلى بلده، فهذا يعطى من مال الزكاة. (( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ )) (فريضة) ناصبه مقدر، أي: فرض الله ذلك فريضة. (( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )): (عليم) بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم، (حكيم) لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي منها سوق الحقوق إلى مستحقيها.

    علاقة الآية بما قبلها

    فإن قلت: كيف وقعت هذه الآية في تضعيف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ يعني: سياق الآيات السابقة كله في المنافقين: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي [التوبة:49]، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ [التوبة:58]، إلى آخره، فكيف وقعت هذه الآية: (إنما الصدقات) في سياق تضعيف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ فالجواب: أنه دل لكون مصارف الصدقات خاصة بغيرهم، وأنهم ليسوا منهم، فذكر هذا في سياق بيان مكائد المنافقين وأحوالهم، فما قبلها: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا [التوبة:58-59]، ثم قال تعالى: (إنما الصدقات) أي: إن الذين يستحقون الصدقات ليسوا هؤلاء المنافقين الذين يلمزون، وإنما الذي يستحقها هم هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى. وإذا كان اللمز موجهاً إلى قسم النبي صلى الله عليه وسلم للصدقات، إلا أنه لا ينبغي أن يوجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فإنه بريء من ذلك؛ لأن الله هو الذي تولى بنفسه هذا القسم، والرسول إنما هو قاسم والله هو المعطي، كما جاء في الحديث، فعلام اللمز، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منها شيئاً لنفسه؟! فدلت هذه الآية على أنهم ليسوا من المستحقين حسماً لأطماعهم، وإشعاراً لحرمانهم منها، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ...)

    قال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61]. (ومنهم) أي: من الذين يحلفون بالله من يفعل أشد من اللمز في قسم الصدقات؛ لأنهم يؤذون النبي عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن أذية النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر المهلكة، ويكفي في ذلك أن الله سبحانه وتعالى قرن أذيته بأذية رسوله وفصلها عن أذية المؤمنين في سورة الأحزاب: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [الأحزاب:57]، ثم قال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا [الأحزاب:58]، ففصل بين أذيته وأذية المؤمنين، وقرن أذية الله بأذية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فقال هنا: (ومنهم الذين يؤذون النبي) كيف يؤذونه؟ يقولون: هو أذن، يعني: يسمع كل ما يقال له ويصدقه، يعنون أنه ليس بعيد الغور بل سريع الاغترار بكل ما يسمع! قال أبو السعود : وإنما قالوه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان لا يواجههم بسوء ما صنعوه، ويصفح عنهم حلماً وكرماً، فحملوه على سلامة القلب وقالوا ما قالوا. قال اللغويون: الأذن: الرجل المستمع الذي يصدق كل ما يقال له، وصفوا به الواحد والجمع، يعني يقال: رجل أذن، ورجال أذن، وامرأة أذن، فلا يثنى ولا يجمع، وإنما سموه باسم العضو تهويلاً وتشنيعاً، فهو مجاز مرسل، فأطلق الجزء وأراد الكل، فأطلق الجزء على الكل مبالغة بجعل جملته -لفرط استماعه- آلة السماع، كما سمي الجاسوس عيناً لذلك، ونحو ذلك قول الشاعر: إذا ما بدت ليلى فكلي أعين وإن حدثوا عنها فكلي مسامع وجعله بعضهم من قبيل التشبيه بالأذن، في أنه ليس فيه وراء الاستماع تمييز حق عن باطل، وليس بشيء يعتد به، وقيل: إنه على تقدير مضاف، أذن يعني: ذو أذن، قال الشهاب : وهو مذهب لرونقه. ثم قال تبارك وتعالى: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)، أنتم تعيبونه صلى الله عليه وسلم بوصفه بأنه أذن، نعم هو أذن ولكنه أذن خير لكم، وهذه من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة كما تقول: رجل صدق، مبالغة في الجود والصلاح، أو إضافته على معنى فيه: (قل أذن خير لكم) أي: هو أذن في الخير والحق، وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك، ودل عليه قراءة حمزة . (ورحمة) يعني: أذن خير ورحمة، بالجر عطفاً عليه، أي: هو أذن خير لكم ورحمة، لا يسمع غيرهما ولا يقبله. ثم فسر كونه (أذن خير) بقوله: (( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ))، قال القاشاني : هو بيان لينه صلى الله عليه وسلم وقابليته؛ لأن الإيمان لا يكون إلا مع سلامة القلب، ولطافة النفس ولينها. (( وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ )) أي: يصدق قولهم في الخيرات، ويسمع كلامهم فيها ويقبله. (( وَرَحْمَةٌ )) أي: وهو رحمة للذين آمنوا منكم، يعطف عليهم ويرق لهم، فينجيهم من العذاب بالتزكية والتعليم، ويصلح أمر معاشهم ومعادهم بالبر والصلة، وتعليم الأخلاق من الحلم والشفقة والأمر بالمعروف باتباعهم إياه فيها، ووضع الشرائع الموجبة لنظام أمرهم في الدارين، والتحريض على أبواب البر بالقول والفعل إلى غير ذلك. وقال غير القاشاني : هو رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم معشر المنافقين، حيث يقبل منكم الظاهر لا تصديقاً لكم بل رفقاً بكم وترحماً عليكم، ولا يكشف أسراركم، ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى من الحكمة في الإبقاء عليكم. والمعنى: هو أذن خير يسمع آيات الله ودلائله فيصدقها، ويستمع للمؤمنين فيسلم لهم ما يقولون ويصدقهم، وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر يسمعون آيات الله ولا يثقون بها، ويسمعون قول المؤمنين ولا يقبلونه، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع أقوالهم إلا شفقة عليهم، لا أنه يقبلها لعدم تمييزه كما زعموا. ثم قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ)، بما نقل عنهم من قولهم: هو أذن، (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، بما يجترئون عليه من إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولا شك أن قوله تعالى: (والذين يؤذون رسول الله)، أورد ذكره بعنوان الرسالة مضافاً إلى الاسم الجليل: (والذين يؤذون رسول الله)، ولم يقل: الذين يؤذونه؛ لغاية التعظيم والتنبيه على أن أذيته راجعة إلى جناب الله عز وجل، وتوجب كمال السخط والغضب؛ لأنها أذية لله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قول الله: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم...)

    قال تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة:62]. الخطاب هنا للمسلمين، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن، أو يتخلفون عن الجهاد ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم، ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم؛ إذ من شأن المنافقين الاستجنان بالأيمان الكاذبة كما قال الله: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون:2]، فيلجئون إلى الحلف ليكون وقاية لهم لحمل المؤمنين على تصديقهم، فقيل لهم: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة:63]. (ألم يعلموا) أي: أولئك المنافقون، والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من المخالفة مع علمهم بسوء عاقبتها، وقرئ بالتاء على الالتفات: (ألم تعلموا)، فيكون الخطاب للمنافقين لزيادة التقريع والتوبيخ، أي: ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلول القوارع والإنذارات: (أنه من يحادد الله ورسوله) أي: من يخالف الله ورسوله، يقال: حاددته، أي: خالفته، والمحاددة: كالمجانبة والمعاداة والمخالفة، واشتقاقه من الحد بمعنى الجهة والجانب، كما أن المشاقة من الشق بمعنى جانب؛ فإن كل واحد من المتخالفين والمتعادين في جانب وشق غير ما عليه صاحبه، فمعنى: (يحادد الله) يعني: يصير في حد غير حد أولياء الله، فيخالف أولياء الله، ويخالف شرع الله؛ فيكون هو في حد ويأخذ جانباً مغايراً لجانب أولياء الله الذين هم المؤمنون، ويفترق عنهم ويأخذ حداً وجانباً غير جانبهم. وقيل: (المُحادة) أو (المَحادة) مأخوذة من الحديد، أي: السلاح. (ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) أي: الذل والهوان الدائم.

    1.   

    تفسير قوله: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة...)

    قال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ [التوبة:64] أي: في شأنهم؛ لأن ما نزل في حقهم نازل عليهم، والرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي ينزل عليه الوحي، كما قال الله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل:102]، فالله سبحانه وتعالى هو الذي نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمعنى: (أن تنزل عليهم) أي: أن تنزل في شأنهم وحقهم (( سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ))، من الأسرار الخفية فضلاً عما كانوا يظهرونه فيما بينهم من أقاويل الكفر والنفاق. ((يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ))؛ لأن ألفاظهم منها ما يخفونه ومنها ما يظهرونه، فكانوا يظهرون في مجالسهم فيما بينهم كلاماً، ويخشون أيضاً أن ينزل من القرآن في شأنهم ما يفضح سرائرهم وما استكنوه في قلوبهم من الأسرار الخفية. (تنبئهم بما في قلوبهم) مع أنه معلوم لهم، وأن المحذور عندهم اطلاع المؤمنين على إسرارهم، لكن هل المقصود أنه يحدث لديهم علم جديد بما في قلوبهم؟ لا؛ لأنهم يعلمون ما في قلوبهم، لكن المقصود: تكشف فضائحهم وخفايا أسرارهم، ويفتضحون أمام المؤمنين، فهذه الآيات سوف تذيع ما كانوا يخفونه من الأسرار، فتنتشر بين الناس، فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة، فكأنها تخبرهم بها؛ لأن الآية إذا نزلت تنتشر وتشيع في الناس، ويتحدث الناس بها ويتلونها، فكأن الآية في هذه الحالة تخبرهم بما في قلوبهم، وكأنهم يعلمونها من جديد، ومع أنهم يعرفون ما في قلوبهم لكن سوف يأتيهم عن طريق القرآن ما يشيع في الناس، ثم يسمعونها متناقلة على أفواه الرجال. والمراد بالتنبئة: المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم، كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه فتنبئهم بها، وكأنهم لا يعلمون، والقرآن سوف ينبئهم بما في قلوبهم، والمقصود بذلك المبالغة في علم الله سبحانه وتعالى بما في قلوبهم، وأن تنعي عليهم قبائحهم. وقيل: معنى (يحذر) ليحذر؛ كأن اللام مقدر لام أمر، يعني: ليحذر المنافقون، (أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم). وقيل: الضميران الأولان للمؤمنين، والثالث للمنافقين أي: يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تنبئ المؤمنين بما في قلوب المنافقين، فإن قلت: المنافق كافر؛ فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أجيب: بأن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنهم شاهدوا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بما يكتمونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم، وليس هذا منهم من باب التصديق بأن الوحي من السماء، وإنما بناءً على التجربة السابقة بأن الرسول عليه السلام يخبرهم بما يكتمونه، فخشوا تكرر هذا الذي خبروه وجربوه من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الأصم : إنهم كانوا يعرفون كونه رسولاً صادقاً من عند الله، إلا أنهم كفروا به حسداً وعناداً. وتعقبه القاضي : بأنه يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه أن يكون محاداً لهما. لكن الرازي قال: هو غير بعيد أي: لا يبعد أن يكون الإنسان يعرف أن الرسول حق، وأن القرآن حق، وأن الله حق، ومع ذلك يكفر حسداً وعناداً، كما وقع من اليهود وغيرهم؛ لأن الحسد إذا قوي في القلب صار بحيث ينازع في المحسوسات، إذا القلب استقر به مرض الحسد فهذا الحسد يطغى على بصيرته حتى إنه ينازع ويعاند في الأشياء المحسوسة ويكابر! قال أبو مسلم : هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء، يعني قوله: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ المقصود: أن هؤلاء المنافقين يظهرون الحذر استهزاءً بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويقولون: انظروا إلى هذا الذي سوف تنزل عليه سورة تنبئنا بما في قلوبنا، وكأن هذا الحذر صدر منهم على سبيل الاستهزاء والتهكم بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر كل شيء، ويدعي أنه عن طريق الوحي، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، فأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره، ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: قُلِ اسْتَهْزِئُوا يعني: أنتم تظهرون الحذر استهزاءً وتكذيباً، فاستهزئوا بالله وآياته ورسوله، أو: افعلوا الاستهزاء، وهذا الأمر ليس على ظاهره، وإنما هو أمر تهديد، كما في قوله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40]، وكما في قوله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، لا كما يزعم المنحرفون الضالون المفترون على الله، والقائلون على كتابه بغير علم: أن الإسلام يقدس حرية الرأي، حتى إن القرآن قال: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وساقوا الآية على أنها تبيح الكفر! وهذا إلحاد في آيات الله، فهل يتصور أن القرآن يبح الكفر؟! هل هذا أمر على سبيل الإباحة؟! هذا تهديد، فكذلك هنا: (قل استهزئوا) تهديد. (إن الله مخرج ما تحذرون) أي: مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه من إنزال السورة، ومن مكايدكم ومخازيكم المستكنة في قلوبكم الفاضحة لكم، كقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:29-30]، ولهذا قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة الفاضحة، أي: فاضحة المنافقين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ...)

    قال تبارك وتعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65]. ولئن سألتهم عن إتيانهم بتلك القبائح المتضمنة للاستهزاء بما ذكر، (ليقولن): وهم في حالة الاعتذار: إنه لم يكن عن القلب حتى يكون نفاقاً وكفراً، بل هذا الكلام كنا نقوله بألسنتنا فقط، وكنا نخوض ونلعب، وليس له واقع حقيقي في قلوبنا، وأننا فعلاً فينا نفاق وكفر، بل (إنما كنا نخوض) ندخل هذا الكلام للترويح عن أنفسنا ونلعب. (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) يعني: في ترويحكم ومزاحكم لم تجدوا كلاماً آخر غير كلام الله عز وجل! لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:66]. (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) يعني: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فالنهي عن الاشتغال به وإدانته أصله واقع. (لا تعتذروا) يعني: لا تتمادوا في الاعتذار؛ لأن أصل الاعتذار وقع من قبل؛ لأنهم قالوا: (إنما كنا نخوض ونلعب)، وهذا اعتذار، فقوله تعالى: (لا تعتذروا) يعني: لا تتمادوا في الاعتذار، وتوقفوا ولا تشتغلوا بالاعتذار الكاذب، والنهي هو عن الاشتغال بالاعتذار وإدامته؛ لأن أصل الاعتذار وقع بالفعل. (قد كفرتم) أي: قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه، واستهزائكم بمقالكم، (بعد إيمانكم) أي: بعد إظهاركم الإيمان، انتبهوا فإن إيمانكم ليس على حقيقته، يعني: هم لم يقعوا في حالة ردة هنا فقط، فهم منافقون، لكن قوله: (إيمانكم) باعتبار أنهم كانوا يظهرون الإيمان، فمعنى (لا تعتذروا قد كفرتم) يعني: قد أظهرتم الكفر، (بعد إيمانكم) الذي كنتم تظهرونه. (لا تعتذروا): لا تتمادوا وتشتغلوا بالاعتذار، ومواصلة الاعتذار، لماذا نفسرها بالمواصلة؟ لأن أصل الاعتذار وقع بقولهم: (إنما كنا نخوض ونلعب). (قد كفرتم)، قد أظهرتم الكفر؛ لأنهم بالفعل كانوا كافرين في الباطن، (بعد إيمانكم)، بعد إيمانكم الذي كنتم تظهرونه.

    كفر المستهزئ بآيات الله

    هذه الآية دليل واضح جداً على كفر المستهزئ بآيات الله سبحانه وتعالى، والحقيقة أن هذا الاستهزاء له صور شتى خاصة في هذا الزمان، وأقبح أنواع الاستهزاء: حينما يصدر من مسلم أو من طالب علم، مثل استعمال آيات الله سبحانه وتعالى بصورة ليس فيها توقيف بل فيها شبه بهؤلاء المنافقين، ومن أمثلة ذلك: ما يفعله الفاسق المجرم حلاق السيدات حينما يعلق على المحل في الخارج قول الله: وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [الحجر:16]، فهذا استهزاء بآيات الله سبحانه وتعالى، فقد حرم الله التبرج وأمر النساء بإخفاء الزينة، وأنت تعاند الله سبحانه وتعالى، وتفتح محلاً لفعل هذه الجرائم من تزيين النساء، ثم تستدل على ذلك بآيات أنزلت في الكواكب، أي استهزاء أكثر من هذا؟! أو خياط يعلق قوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء:12]، فهذا من سوء الأدب مع القرآن الكريم وآياته، فيجب تغييرهم لمثل هذه المنكرات، فهذا كفر! وبعض الناس يجلسون فيأكلون في حفل أو شيء من هذا، فيقول أحدهم: من يحكي لنا قصة سيدنا يوسف؟ ويقصد بذلك أن يشغلهم عن الأكل، فكيف تستعمل قصص القرآن في هذا العبث وهذا اللعب؟ فالصور في الحقيقة موجودة وكثيرة، وليعلم الجميع أن الاستهزاء والتنطع ليس مما يعذر فيه بالجهل، لماذا؟ لأنه لا يجهل أحد وجوب تعظيم الله، ولا وجوب تعظيم الأنبياء والملائكة والقرآن الكريم وغير ذلك، لولا لطف الله سبحانه وتعالى وحلمه لخسف بنا؛ عندما يأتي شخص مثل هذا المخلوق الوقح الذي يدعى نصر أبو زيد ويكتب كتاباً فيه سب لله، وسب للرسول عليه الصلاة والسلام، وطعن في القرآن الكريم، وتكذيب بآيات الله، وهو غاية في الإلحاد، ثم بعد ذلك نجد إخوانه من الملاحدة والمنافقين الذين نعرفهم في لحن القول من العلمانيين، أعداء الدين وأعداء الله ورسوله، يقولون: أين حرية الرأي؟ أين حرية العقيدة؟ ويدندنون حول الطعن في شرع الله سبحانه وتعالى بهذه الطريقة للدفاع عن أمثال هؤلاء الخائنين، ويكونون خصماء لهذا الخائن وهذا الزنديق المجرم، رجل يطعن في القرآن، ثم يدافع عنه! إذاً: ما الفرق بينه وبين سلمان رشدي ؟! ما الفرق بين كتاب هذا الكافر سلمان رشدي : (آيات شيطانية)، وبين هذا الذي يسمي كتابه بحثاً؟! ما الأمر إلا أن بعض المغمورين يريد الشهرة، حتى ولو على طريقة إبليس، يشتهر بجرائم إبليس، وبالطعن في شرائع الله وفي الوحي! فنقول لهم: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52]، فلولا لطف الله سبحانه وتعالى بنا لاندكت هذه الأرض من تحت أقدامنا، أيسب دين الله سبحانه وتعالى ويطعن في القرآن ثم يسمى هذا حرية فكر؟! هم لا يقولون: حرية فكر، هم يريدون حرية الكفر، وحرية الطعن في دين الله عز وجل، فما أحلم الله سبحانه وتعالى عن عباده! إذاً: هذا موضوع من الموضوعات التي تثور بين وقت وآخر، ويثيرها أعداء الله سبحانه وتعالى من اليهود والنصارى والغربيين للطعن في الإسلام، وهم لا يجرءون أحياناً على الطعن الصريح، لكن دائماً يحاولون أن يرسخوا في عقول الناس الخوف من تطبيق الشريعة الإسلامية، كما هو حاصل من حركة طالبان، الظاهر من أفعالهم أنها متوافقة مع الشرع في كثير من الأشياء، وظهرت الآن صيحة يريدون بها الطعن في الإسلام لكن بطريقة خفية، وذلك بإبراز أن الإسلام يظلم المرأة، وأمريكا منذ متى تعرف شيئاً اسمه حقوق الإنسان؟! أمريكا التي تستذل الأمم، وتسخر الشعوب، وتقهرها بقانون الغاب وبشريعة الغاب، ولا تتذكر ما تسميه بحقوق الإنسان إلا عندما تهدد مصالحها، أو لاستذلال الأمم. أين كانت حقوق الإنسان في البوسنة والهرسك؟ أين هم من المذابح الرهيبة التي لم يشهد التاريخ لها مثيل؟ أين حقوق الإنسان في العراق وفي غير ذلك من بقاع المسلمين؟ وكأننا لسنا من بني الإنسان، بل نحن طائفة أخرى من البشر، ومع ذلك يتشدقون -بهذا الشعار فقط- لتحقيق مآربهم ومصالحهم، الآن هم أشد الناس غيرة على حقوق المرأة التي يظلمها الأفغان كما يزعمون بما يشيعونه من إشاعات كاذبة، ورغم ما صدر من تصريح رسمي بتكذيب هذه الإشاعات، لكنهم مصرون على تناقلها في وكالات الأنباء، مصرون أنهم سوف يمنعون تعلم الفتيات، وسوف يمنعون المرأة من العمل، ثم يخفون الحقائق، ورغم ما صدر من تصحيح لهذه المعلومات، وأنها إشاعات كاذبة، لكن الذي نتوقعه فعلاً -وإن لم توجد الآن وسيلة صحيحة لمعرفة المعلومات- أنهم يضعون ضوابط لهذه الأشياء، من قال: إن المرأة تحرم من التعليم؟! هناك ضوابط مثل عدم وجود اختلاط، فلابد من وضع ضوابط للمجتمع. وحتى النساء الموجودات في وظائف غير مناسبة لهن من اختلاط بالرجال، أو فيها عمل محرم، تعاهدت حكومة طالبان بأنها ستصرف مرتبات لجميع النساء اللاتي سوف يقعدن عن العمل، بسبب عدم توافق عملهن مع الشرع! ومع ذلك لا يلتفتون لذكر هذه التوضيحات، وإنما اليوم أمريكا تقول: نحن لن نعترف بحكومة طالبان، حتى ننظر موقفهم من حقوق النساء، وهكذا كل بلد يفصلون لها على قدرها. موضوع الختان الذي يثور الكلام فيه بمناسبة أو بدون مناسبة، كلها ثغرات يخرج منها الملاحدة، كما يقول تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]، هم يريدون أن يهتكوا ستر الهيبة لعلماء الإسلام، وهيبة نقد أحكام الشريعة، فباسم حقوق الإنسان، وباسم ظلم النساء يتكلمون في موضوع الختان والجرائم التي يذكرونها، مع أن الإسلام يحاربها أشد مما يحاربونها هم، لأن الختان الفرعوني المشهور والمعروف في السودان هو بلا شك جريمة وحشية، ولو كان هناك حكم إسلامي شرعي قائم لعزر الذين يمارسون هذا النوع من الختان بلا شك، وهذه قواعد بدهية. لماذا بعض الشيوخ يركبون الموجة مع أعداء الدين، ويأتي أحدهم ويقول: أنا خبير في الحديث، وأنا من أعلم الناس بالحديث، أتحداكم أن تأتوني بحديث في هذه المسألة! وهل أنت أول رجل في الأمة يعرف الحديث؟ احترم الحديث وأطلق لحيتك، هذا الذي يزعم أنه غيور على سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، أما سمعت بأحاديث تأمر بإعفاء اللحية، الآن فقط تدندن وتغني في الزفة مع هؤلاء المنافقين والملاحدة! إن الأشياء التي يحاربها الإسلام يحاربها بأقوى مما يحاربونها هم، مثلاً التلوث في بعض العمليات الصغيرة، هذا خطأ تطبيقي يحصل في أي عملية جراحية من جاهل لا يعرف قواعد التعقيم والجراحة، حتى لو كان جرحاً بسيطاً جداً فسيلوثه ويؤذي المريض، فالإجراءات الوقائية في أي عملية جراحية موجودة في الشريعة، كذلك أخصائية أمراض النساء هي التي تحدد، هل هذه الفتاة تختن أم لا؟ لأنه أحياناً لا تختن، وأحياناً الطب نفسه -كما في المراجع الطبية- يحتم عملية الختان في بعض الأحوال، وإن كانت نادرة. الشاهد: حتى من الناحية الشرعية هم يتكلمون على قضية بعيدة تماماً عن الواقع، لكنها فرصة لكل من في قلبه غل وحقد على الإسلام أن ينفث ويفرز هذه السموم، كما قال تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]، الأربعة عشر قرناً الماضية والمرأة تهزم، وهم الآن يريدون أن يحرروها؟ هم في الحقيقية لا يريدون تحرير المرأة، هم يخافون من مجتمع مثل مجتمع أفغانستان لو عاد إلى الشريعة الإسلامية، النساء حصل لهن صيانة داخل البيوت، ومع توفير التعليم بلا شك بوسائل متوافقة مع الشرع لا اختلاط فيها، ولا فحش ولا تبرج، فإذا كان المجتمع سيصير مجتمعاً نظيفاً، فبالتالي ستبور تجارة اليهود، ولن يستطيعوا استذلال مثل هذه الأمة بالشهوات؛ لأن معنى ذلك انتشار العفة، وضياع أقوى سلاح يستعملونه في تدمير المجتمعات الإسلامية وهو سلاح الشهوات، وستفوت عليهم أعلى وأهم مقاصدهم، فهذا هو السبب في الانزعاج، ليس خوفاً على المرأة، ولكن خوفاً من فوات المتاجرة بالمرأة، وستبور تجارتهم، ولن يسهل استذلال الشباب ولا استعبادهم كما يحصل الآن في مجتمعنا عن طريق هذه الأطباق، وعن طريق الفيديو والتلفزيون. هذا الفساد إذلال للشعوب، وما مؤتمر السكان عنا ببعيد، فقد كانت مقاصدهم مفضوحة تماماً، وأنهم يريدون إشاعة الفواحش بكل أنواعها بلا استثناء؛ من أجل أن يستعبد الشباب بالشهوات، ولا ينصرفوا إلى بناء الأسرة، حتى أنهم وضعوا تعريفاً جديداً للأسرة: أن الأسرة قد تتكون من رجل ورجل، أو امرأة وامرأة، والأصل ألا يتدخل في شئون خصائص المرأة، لماذا؟ تسهيلاً للفواحش والفتن بين الناس. فالشاهد: أن الطعن في الدين واللمز في أحكام الشريعة أحياناً يأتي بصورة ظاهرة، كما في حالة هذا الخبيث نصر أبو زيد خذله الله سبحانه وتعالى، وجعله آية وعبرة لمن يعتبر؛ لأنه في بلاد الكفار حيث أسياده يرحبون به، ونحن نشكر للقاضي الذي اتخذ منه هذا الموقف الرائع، وهذا يدل أنه ما زال يوجد في الأمة خير، فهذا القاضي حكم بردته -والآن ينبغي أن تطلق منه امرأته-، ولا شك أن هذا موقف حميد منه، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيه عن دينه خيراً. وقد يقتصر الطعن بتغليفه في صورة الدفاع عن المرأة، وأن الإسلام هو الذي ظلم المرأة! وهل حرر المرأة أحد إلا الإسلام؟ هؤلاء الجهلة في أوروبا إلى عهد قريب جداً مائة سنة أو أقل كان القانون الإنجليزي يبيح للرجل أن يبيع زوجته، وقدر لها سعر، وهذا كلام موجود وموثق عنهم في القرن السابع، وفي عهد الرسول عليه السلام عقدوا مجمعاً يناقشون فيه هل المرأة إنسان لها روح أم ليس لها روح؟ المرأة الآن في الغرب تعيش عصر استعباد وذل وهوان، المرأة الأوروبية والأمريكية غاية أحلامها أن تظفر بشاب مسلم يتزوجها، هذه أمنية عندهم، والإخوة الذين خرجوا في الخارج يعرفون هذا؛ لأنها تعرف التكريم الحقيقي، التكريم لها بنتاً، وزوجة، وأماً، وأختاً، بل ما هذا الذي يتكلمون عنه إلا من باب التشويش على الإسلام عن طريق الأبواق الناعقة التي نسأل الله تعالى أن يحفظ عقول أبناء المسلمين منها! قوله تبارك وتعالى هنا: (( لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِ

    1.   

    تفسير قول الله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض...)

    قال تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67]. قوله: ((المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)) أي: متشابهون في النفاق، والبعد عن الإيمان كتشابه أبعاض الشيء الواحد، والمراد: الاتحاد في الحقيقة والصفة، (فمن): اتصالية بعضهم من بعض. قال الزمخشري : أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين، (بعضهم من بعض)، يعني: ليسوا من الإيمان ولا من المؤمنين في شيء، والمراد أيضاً تكذيبهم في قولهم: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ [التوبة:56]، فالله يقول هنا: ليسوا منكم، إنما (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)، وهذا تقرير أيضاً لقوله تعالى: وَمَا هُمْ مِنْكُمْ [التوبة:56]، ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله: (يأمرون بالمنكر) والمؤمنون يأمرون بالمعروف، والمنكر: كالكفر والمعاصي، وينهون عن المعروف: كالإيمان والطاعات (ويقبضون أيديهم) بخلاً بالمال والصدقات والإنفاق في سبيل الله، فإن قبض اليد كناية عن الشح والبخل، كما أن بسطها كناية عن الجود؛ لأن من يعطي ويمد يده بخلاف من يمنع. (نسوا الله فنسيهم) أي: أغفلوا ذكره وطاعته فتركهم من رحمته وفضله، ولم يوفقهم إلى التوبة، لأن النسيان بمعنى الترك، ومعاذ الله أن يظن النسيان في حق الله سبحانه وتعالى، لكن نسيهم يعني: تركهم، فمعنى: (نسوا الله) يعني: فهم لا يذكرونه عز وجل ولا يطيعونه؛ لأن الذكر له مستلزم لإطاعته، فجعل النسيان مجازاً عن الترك، وهو كناية عن ترك الطاعة، ونسيان الله منع لطفه وفضله عنهم. (إن المنافقين هم الفاسقون). والنسيان هنا لا يفسر بعدم الذكر، (نسوا الله) بمعنى: لم يذكروا الله سبحانه وتعالى ولم يطيعوه؛ لأن النسيان البشري لا يؤاخذ عليه، كما قال الله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، لكن هنا يؤاخذ عليه؛ لأنه ورد في سياق ذمهم، وذكر أسباب هذا الذم، كما قال الله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19] يعني: غفلوا عن ذكره وأعرضوا عن طاعته سبحانه وتعالى. كما أن من أشد العقوبات التي يعاقب الله سبحانه وتعالى بها عبداً من عباده: أن ينسيه نفسه، أو أن ينساه الله، بمعنى: أنه يخذله ولا يوفقه إلى التوبة، فيتمادى في المعاصي، والكفر، ومحاربة الإسلام وهو في غاية السعادة، وهو فرح فخور بهذا! فهذه من أكبر العقوبات؛ لأن خطورتها تكمن في أنها عقوبة خفية؛ لأن العقوبات تتنوع، فمن العقوبات ما يكون ظاهراً، فالإنسان بعد أن يرتكب ذنباً معيناً يعاقب عليه فوراً، فمن رحمة الله به أنه يفيق ويعود إلى إصلاح حاله مع الله سبحانه وتعالى، لكن أقبح العقوبات ما خفي ودق بحيث لا يحس صاحب الذنب أنه يعاقب، ويكون في غاية السعادة والفرح، ويقول: أنا أعيش حياتي بالطول وبالعرض، وهذه في حد ذاتها عقوبة من الله، حيث إن الله خذله، كان الرسول يقول في الدعاء: (ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً)؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا وكل الإنسان إلى نفسه طرفة عين فسدت عليه كل حياته، وإذا رفع الله عنه عنايته يخذله ويضيع، فهذا يكله الله سبحانه وتعالى لنفسه ولا يتولاه ولا يرعاه ولا يوفقه، بل يخذله ويثبطه ويلقي الغفلة على قلبه، وبالتالي إذا كان سعيداً وفرحاً ومشغولاً عن التوبة، فكيف سيتوب؟! زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [فاطر:8]، وهذا حال الكفار ومن نهج منهجهم وسار على طريقتهم. (( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ))، فهو يظن أنه ملك الأرض ومن عليها، ويغتر وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:14]، وسعيد جداً بأنه متسلط على رقاب الناس؛ وأنه مجتهد في محاربة دين الله سبحانه وتعالى، فهذا المسكين لا يدري أنه معاقب، كما قال الله عز وجل: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، فهذه عقوبة، فإذا كان الرسول عليه السلام قال: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، فمفهومها: أن شركم من طال عمره وساء عمله، فإذاً طول العمر هنا يكون نقمة؛ لأنه بطول العمر يزداد في المعاصي، والخيرية هي لمن طال عمره لكن مع حسن عمله، فإذا كان طول العمر مما يجني على الإنسان المزيد من المعاصي، والإفراط، والمحاربة لدين الله، والصد عن سبيله، فهذا شؤم عليه، فإذاً هذا هو الاستدراج: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:44-45]، وقوله: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52]، الدنيا ليست النهاية، بل هي عبارة عن مرحلة، ثم يرجع كل إلى الله سبحانه وتعالى ويؤاخذ بما كسب وبما فعل، فينبغي استحضار هذا الأمر كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في قوله: (إذا رأيت الله سبحانه وتعالى يعطي العبد على معاصيه وهو مقيم على المعاصي؛ فاعلم أنه استدراج، ثم تلا قوله تعالى: (( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ))[الأنعام:44]). فإذاً: لا تنسى حكمة الله سبحانه وتعالى، وإذا رأيت شخصاً بهذه الحالة استحضر أن هذه هي عين العقوبة من الله، فمن رأيته يفرح ويفخر لأنه يحارب الإسلام بكل صدق وإخلاص، ويريد أن يطفئ نور الله، ويستأصل شأفة الإسلام، ويصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ويخرب المساجد التي أمر الله بتعميرها، ويفرح بذلك؛ فنبشر هؤلاء بقوله تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45]. فقوله عز وجل هنا: (نسوا الله فنسيهم) يعني: نسوا الله فلم يذكروه ولم يطيعوه، فنسيهم الله سبحانه وتعالى بأن منعهم لطفه وفضله وخذلهم، ولم يوفقهم إلى الإيمان. (إن المنافقين هم الفاسقون) أي: الكاملون في الفسق، الذي هو التمرد في الكفر، والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول: كسلت؛ لأن المنافقين وصفوا بالكسل بقوله: كُسَالَى [التوبة:54]؛ فالفسق أشد من وصف الكسل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم...)

    قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ [التوبة:68] يعني: يكفيهم النار عقاباً وجزاءً، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [التوبة:68]، لا ينقطع، وأوصي نفسي وإياكم بالتأمل كثيراً إذا ذكرت كلمة: الخلود في القرآن الكريم، ولو أعمل الفكر فيها فسوف تتغير كثير من أولوياتك في الحياة، وقيمك ونظرتك للأشياء وإلى الناس وإلى كل شيء، الخلود يعني: العذاب الدائم في جهنم، وليس موازياً حتى لعمر الدنيا كلها من حين خلقت إلى أن تقوم الساعة، وهذا عذاب من أشد العذاب كما تعرفون من النصوص، وفي نفس الوقت لا أمل على الإطلاق في الموت، كل أمل هؤلاء الكفار أن يموتوا: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر:36]، تأملوا كلمة خلود، وأعملوا عقولكم فيها كثيراً، فحينئذ تعطي الدنيا حجمها؛ لأن الإنسان لو عاش طول عمره يعاني من البلاء والمصائب، ويصبر على ذلك ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، ففي النهاية كما قال النبي عليه السلام: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، سجن ينطلق فيه لحظة الإفراج ولحظة خروج روحه إلى السعادة الأبدية، لكنها جنة الكافر، فإذا خرج منها لاقته الأغلال والأصفاد في نار جهنم خالدين فيها، وكما قال تعالى هنا: (ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) أي: لا ينقطع.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة...)

    قوله تعالى: (( كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ )) يعني: أنتم مثل الذين من قبلكم، أو أنتم فعلتم مثل ما فعل الذين من قبلكم ممن أنعم الله عليهم النعم ثم بعد ذلك عذبوا، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتهديد: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً [التوبة:69]، في أنفسهم، وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا [التوبة:69] أي: تفيدهم الأموال مزيد قوة ومنافع جمة. وَأَوْلادًا [التوبة:69] أي: تفيدهم مزيد قوة لا تحصل بالمال ومنافع أخر، فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ [التوبة:69] أي: انتفعوا بنصيبهم، ثم أعطاكم -أيها المنافقون- أقل مما أعطاهم فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [التوبة:69] أي: دخلتم في الباطل كالخوض الذي خاضوه. أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [التوبة:69] أي: لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين، أما في الآخرة فظاهر، وأما في الدنيا فما لهم من الذل والهوان وغير ذلك. وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [التوبة:69]، الذين خسروا الدارين. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده! لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وباعاً بباع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! أهل الكتاب؟ قال: فمن؟!)، وفي رواية قال أبو هريرة : (اقرءوا إن شئتم: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.. [التوبة:69]) إلى آخر هذه الآية الكريمة، وقال أبو هريرة : الخلاق: الدين. قالوا: (يا رسول الله! كما صنعت فارس والروم؟ قال: فهل الناس إلا هم؟!).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم ...)

    ثم وعظ تعالى المنافقين فقال: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [التوبة:70] (ألم يأتهم) بطريق التواتر، وبالخبر المتواتر، حديث (الذين من قبلهم)، وهو إهلاكهم بعد تنعيمهم، لكفرهم بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم، فأهلكهم الله عز وجل بسبب الكفر. قوم نوح أنعم الله عليهم بنعم منها: تطويل أعمارهم، ثم أهلكوا بالطوفان. وعاد قوم هود عليه السلام أنعم الله عليهم بنعم منها مزيد قوتهم، ثم أهلكوا بالريح. وثمود قوم صالح أنعم الله عليهم بنعم منها القصور، ثم أهلكوا بالرجفة. وقوم إبراهيم أهلكوا بالهدم. قال المهايمي : أنعم عليهم بنعم منها عظم الملك، ثم أهلك -أي: قوم إبراهيم عليه السلام- ملكهم نمرود بالبعوض الداخل في أنفه. وأصحاب مدين قوم شعيب أنعم الله عليهم بنعم منها التجارة، ثم أهلكهم بإفاضة النار عليهم. والمؤتفكات وهي: قرى قوم لوط، انكفأت بهم، أي: انقلبت فصار عاليها سافلها وأمطروا حجارة من سجين، كما قلبوا نظام الفطرة. ثم قال تعالى: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ [التوبة:70]، الإنسان حينما يتذكر مصائر هؤلاء الكفار الذين بدلوا نعم الله سبحانه وتعالى كفراً، فإن العبر لا تنقطع، نحن لو استعرضنا التاريخ كله لرأينا فعلاً أيام الله سبحانه وتعالى في الظالمين والجبابرة الذين كانوا أشد قوة من الحاليين، والإنسان لو حاول أن يحصد ذلك لوجد عبراً شتى، ومن هؤلاء الجبابرة الملك فاروق ،وعبد الناصر ،و شوشتكوا ، ولنا الآن آية من آيات الله في هذا الملحد يلسن الذي يرقد الآن لا حس ولا حركة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعجل بإهلاكه، فبعدما فعل المذابح للمسلمين في الشيشان وفي غيرها من الجمهوريات الإسلامية، وحارب دين الله عز وجل في أفغانستان من قبل، انظر كيف أذله الله سبحانه وتعالى! ها هو الآن هذا الطاغوت الحقير يرقد الآن بلا فائدة منه، ولا يستطيع أن يمارس أي شيء سوى الكلام بين وقت وآخر! وريجن الذي كان في قمة غروره، ابتلاه الله سبحانه وتعالى بالمرض المعروف بالزهيمر، وفقد الذاكرة تماماً! هذه من آيات الله، وهذا الجبار الذي كان يمتلئ غروراً، لما عوتب في حملته على لبنان في وقت من الأوقات قال: لا تنسوا أننا ما زلنا صليبيين! فها هو الآن ما زال حياً، لكن نسأل الله العافية من مثل هذه الحياة. هذا فعل الله سبحانه وتعالى في هؤلاء الطواغيت، يذلهم بعد أن عتوا في الأرض عتواً كبيراً، فعلى مستوى الأفراد، وعلى مستوى الأمم؛ يبدل الله سبحانه وتعالى من حال إلى حال، ودوام الحال من المحال. يقول تعالى: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ ، هذا استئناف لبيان نبئهم، أي: جاءتهم بالآيات الدالة على رسالتهم (( فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ )) أي: بإهلاكه إياهم؛ لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل، فالفاء هنا للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام، يعني: أتتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم، فأهلكهم الله تعالى، فما ظلمهم بذلك، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة:70] يعني: بالكفر والتكذيب، وترك شكره تعالى، وصرفهم نعمه إلى غير ما أعطاهم إياها لأجله؛ فاستحقوا ذلك العذاب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض ...)

    قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]. هذا في مقابلة قوله في المنافقين: (( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ))، قال هنا في المؤمنين: (( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ))، فيقيمون الصلاة في مقابلة: (( نَسُوا اللَّهَ ))؛ كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، فالصلاة من أشرف ذكر الله سبحانه وتعالى، فهم لا يزالون مستمرين في ذكر الله عز وجل، فهذا في مقابلة قوله: (نسوا الله) في ذكر صفات المنافقين. (ويؤتون الزكاة) في مقابلة قوله في المنافقين: (ويقبضون أيديهم). (ويطيعون الله ورسوله) أي: في كل أمر ونهي، وهو في مقابلة المنافقين؛ لكمال صدقهم وعدم خروجهم عن الطاعة. (أُوْلَئِكَ) أي: هؤلاء المؤمنون المتصفون بتلك الصفات (سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار)

    قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التوبة:72] أي: من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن. (( خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً )) أي: منازل حسنة تستطيبها النفوس، أو يطيب فيها العيش. (( فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ )) (عدن): يعني إقامة وثبات، ويقال: عدن علم لموضع معين في الجنة لآثار فيه. ولما كان (ومساكن) معطوف على جنات اختلفوا: هل العطف هنا يقتضي تغاير الذات أم أن الذات واحدة والصفات متغايرة؟ القول الأول: أن المتعاطفين إما أن يتغايرا للذات، يعني: معناها أن المؤمنين وعدوا بشيئين: الشيء الأول: جنات بمعنى البساتين. الشيء الثاني: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)، فهذا غير هذا، والجنات هي البساتين، والمساكن الطيبة: مساكن في الجنة، فلكل أحد بساتين ومساكن. أو الجنات المقصود بها: غير عدن، وهي لعامة المؤمنين، يعني: جنات تجري من تحتها الأنهار هذه لعامة المؤمنين، ومساكن طيبة في جنات عدن هذه جنات خاصة بطبقة من المؤمنين، وعدن للنبيين. إذاً: الجنات للمؤمنين عموماً، وعدن خاصة بالنبيين والشهداء والصديقين، هذا على القول بأن الجنات متغايرة من حيث الذات. والاحتمال الآخر: أن يتحدا ذاتاً ويتغايرا صفة، فينزل التغير الثاني منزلة الأول ويعطف عليه، فكل منهما عام ولكن الأول باعتبار اشتماله على الأنهار والبساتين، يعني: جنات تجري من تحتها الأنهار، ونفس هذه الجنات فيها بجانب البساتين مساكن طيبة، باعتبار الدور والمنازل. يقول القاضي : فكأنه وصف الموعود أولاً بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها -التي هي الجنات الخضراء البساتين- لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش، معرى من شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [الزخرف:71]، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار العليين. (في جنات عدن): دار إقامة، يعني هذا النعيم كله مع الإقامة وعدم التحول، كالاستقرار فيها والخلود لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير. ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك، وهو قوله تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ يعني: أكبر من كل هذا النعيم؛ ولأن النعيم الروحي الذي يفوز به أهل الجنة أعظم بكثير بلا شك من النعيم الحسي الذي يستمتعون به قال: (ورضوان من الله أكبر)، أي: من كل ما مضى. وأيضاً كذلك رؤية الله سبحانه وتعالى إذا كشفت لهم الحجب، فيرون الله سبحانه وتعالى، ويتلاهون وينشغلون عن كل ما عدا ذلك من النعيم في الجنة، فهذا فيه رد على ما يشغب به الملاحدة من المستشرقين أو اليهود والنصارى حينما يطعنون في الإسلام بأنه يغري المؤمنين بالمتاع الحسي، وهذا من ظلمة عقولهم وفساد قلوبهم؛ لأن الإنسان جسد وروح، وليس جسداً أو روحاً فقط، الإنسان عبارة عن جسد وروح، والحياة في هذه الدنيا متعلقة بالجسد والروح، ثم حياة القبر متعلقة بالروح أكثر من الجسد، ثم حينما ترد الأرواح إلى أجسادها في الآخرة، ينعم الروح وينعم أيضاً الجسد، فالنعيم الحسي للجسد والنعيم الروحي للروح، ونعيم الروح أفضل وأكمل. أما هم فغاية ما عندهم في اليوم الآخر أن يقول لك: فلان دخل الملكوت، ما هذا الملكوت؟ وما صفاته؟ وما تفاصيل هذا النعيم؟ هذا مما لا خبر لديهم به، بل يعيبون المسلمين ويعيبون القرآن الكريم لذكر النعيم الحسي، وهذا من ظلمة قلوبهم كما ذكرنا. (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)؛ لأن على هذا الرضوان يدور فوز كل خير وسعادة، وبه يناط نيل كل شرف وسيادة، ولعل عدم نظمه في سلك الوعد مع عزته في نفسه؛ لأنه متحقق في ضمن كل موعود؛ ولأنه مستمر في الدارين. قد يرد سؤال: كيف أن رضوان الله سبحانه وتعالى أكبر من هذا النعيم في الجنة، ومع ذلك لم ينظم هنا في سلك وعده تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ))، ثم استأنف فقال: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)، ولم يقل: ورضواناً، فلم يدخل في الوعد الرضوان، وإنما هذه فصلت عما قبلها، (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)، يعني: ولهم رضوان من الله أكبر؟ فالجواب: لأن هذا الرضوان متحقق في ظل كل موعود؛ لأن دخولهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ودخولهم مساكن طيبة في جنات عدن خالدين فيها، كل هذا يستلزم رضا الله عنهم؛ لأنه لو لم يرض عنهم لما أسكنهم هذه الجنات، فالرضوان متحقق في كلا الوعدين السابقين. ثم رضوان الله سبحانه وتعالى هل يوجد فقط في الآخرة أم أنه مستمر في الدارين؟ إن الله سبحانه وتعالى يرضى عن عباده المؤمنين في الدنيا ويرضى عنهم في الآخرة، فمن ثم لم ينظم الرضوان في سلك الوعد الذي صدرت به الآية الكريمة. وإيثار رضوان الله على ما ذكر بقوله: (ورضوان من الله أكبر) إشارة إلى إفادة أن قدراً يسيراً منه خير من ذلك، انظر إلى التنكير: (رضوان من الله) يعني: لو أن الإنسان حظي بقدر قليل من رضوان الله؛ لكان هذا القدر أعظم من الجنات، وأعظم من المساكن الطيبة في جنات عدن، وهذا فيه إشارة إلى عظم رضوان الله سبحانه وتعالى. وقد روى الإمام مالك والشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير بين يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب! وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً). اللهم اجعلنا منهم! وروى المحاملي والبزار عن جابر رفعه: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عز وجل: هل تشتهون شيئاً فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا! ما هو خير مما أعطيتنا؟! قال: رضواني أكبر، ذلك هو الفوز العظيم) أي: لا ما يعده الناس فوزاً من حظوظ الدنيا، فالفوز العظيم هو الفوز بالآخرة، وليس ما يعده أهل الدنيا من الفوز بالمال أو بالجاه أو بأعراض الدنيا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756473342