إسلام ويب

علو الهمة [15]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما أحوج المسلم -وخاصة في هذا الزمن- إلى أن تكون همته عالية! حتى يستطيع أن يرفع ما حل به وبأمته من الذل والهوان، ولذا فإن على المسلم أن يبذل وسعه في فعل الأسباب التي تعلو بهمته، وتقوي عزيمته، كما أن عليه أيضاً أن يبتعد عن الأسباب التي تحط من همته وتدمرها وما أكثرها! لذا فيجب عليه معرفتها، والبعد عنها، والتحذير منها.

    1.   

    مرض سقوط الهمة أعراضه وصوره

    صور من سقوط الهمة في التاريخ الماضي

    وقد رأينا في التاريخ الماضي حلقاً كثيرة جداً تثبت لنا وتجسد لنا أعراض هذا المرض الخطير، فمثلاً: رأينا كيف كان الجندي التتري يأمر المسلم الذي سقطت همته أن يبقى في مكانه؛ حتى يعود فيقتله!

    فسقوط الهمة أعظم وأخطر ما يظهر في حالات الحروب والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.

    كما رأينا من قبل نماذج في علو الهمة في جهاد الصحابة والسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم، وكيف أناروا الدنيا مشارقها ومغاربها في جهادهم في سبيل الله.

    وكذلك لما ترك المسلمون الجهاد ذلوا، فمما حكي في كتب التاريخ أن الجندي التتري كان يأمر المسلم الذي سقطت همته أن يقعد في مكانه، ثم يغيب التتري، ويظل المسلم جالساً مكانه لا يتحرك ولا يفكر حتى في مجرد الهروب؛ من شدة ضعف الهمة؛ حتى يذهب هذا التتري ليحضر حجراً، ثم يعود فيشدخ به رأس المسلم، ويقتله بهذا الحجر، وهو جالس منتظر الموت! فإن كنت ميتاً ومقتولاً فإذاً قاوم، أو حتى حاول أن تفر أو تهرب، لكن وصل الحد إلى أن يجلس منتظراً التتري إلى أن يذهب ويحضر الحجر لأنه ليس معه سلاح، ويعود ليشدخ به رأس المسلم ويقتله بذلك، وهو لا يحرك ساكناً. إلى أن ينجز التتري ما أوعده!

    وحين نقفز إلى عصرنا الحاضر ونبحث أين سقوط الهمة فسنرى سقوط الهمة في هذا الزمان والجراح كثيرة جداً، سواء في حرب (1948م) مع اليهود في فلسطين، والخيانات التي حصلت فيها، أو في حرب (1967م) لما حصل مسابقة في اختراق الضاحية في أرض سيناء، والجنود هربوا وولوا بالصورة المخزية التي عرفناها.

    وهكذا في حرب الخليج الأخيرة رأينا كيف كان ذلك المشهد التمثيلي المخزي حينما ركع الجندي العراقي أمام نعلي الجندي الأمريكي، وجعل يقبلهما ويتمسح بهما، ويطلب من الجندي الأمريكي العفو والصفح، وهذا كان يصور بالكاميرات، فالجندي الأمريكي أيضاً حتى يعطي العالم درساً في التسامح ظل يمسح على كتفه ويمسح على رأسه، ويقول له: لا بأس! أنت بخير، فلا تقلق، ولا تجزع! ونشروها في كل العالم على أساس أن هذا نموذج من نماذج التسامح والأخلاق الأمريكية، ولا شك أن هذا أيضاً من مظاهر أو من أعراض مرض سقوط الهمة.

    حكاية ابن خلدون لانحطاط الهمم في زمنه

    وهكذا رأينا كيف شكا ابن خلدون رحمه الله تعالى تشبه المسلمين في عصره ممن تفلت همتهم بأعدائهم الكفار، وكيف أن ابن خلدون اعتبر أسباب التشبه بالكفار مظهراً من مظاهر سقوط الهمة، وأمارة من أمارات ضياع الأندلس من أيدي المسلمين قبل أن تضيع؛ حيث قال رحمه الله تعالى في مقدمته المشهورة: ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب. أي: أن المغلوب دائماً يميل إلى التشبه بمن يغلبه ومن يقهره، وهذا هو نفس الظاهرة الموجودة الآن من الوقوع في هوى الغرب، وفي تقليد الغرب، والتبعية للغرب على جميع المستويات، ولا نستثني مستوىً واحداً منها؛ ففي اللغة نتكلم بلغة الغرب، وفي العادات والتقاليد نستخدم أساليب وعادات ومناهج الغرب؛ حتى في مناهج التفكير صرنا نمشي بلا أي هوية. وأصبح الحال كما قيل: ويل للمغلوب من الغالب.

    يقول ابن خلدون : ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه؛ في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع أبنائهم كيف تجد المتشبهين بهم دائماً؛ وما ذلك إلا اعتقادهم الكمال فيهم.

    فدائماً الابن يحاكي أباه؛ لأنه يرى أن أباه أفضل إنموذج أمامه في الدنيا، فمهما يفعل الأب فإنك تجد الولد يتشبه به؛ لأنه يعتقد الكمال في أبيه، فكذلك إذا كانت أمة تجاور أمة أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حض كبير، ونحن رأينا كيف كان في زمن نهضة المسلمين في الأندلس يفد إلى الأندلس من جميع أوروبا الشباب الأوروبي، من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكل هذه البلاد كانوا يأتون إلى الأندلس؛ ليتلقوا العلم على أيدي العلماء المسلمين، ولا نقول: العرب، بل على أيدي العلماء المسلمين، وكانت لغة العلم هي اللغة العربية، فكان لابد لزاماً على كل طالب يريد أن يتلقى العلم الحديث وأحدث ما وصل إلى العلم أن يتعلم أولاً اللغة العربية، فكان الشاب الغربي إذا رجع إلى بلاده يفتخر أمام أقرانه بأنه درس في بلاد المسلمين، ويعتبر هذا من مظاهر المفاخرة العظيمة، فكان يخلط كلامه أحياناً بألفاظ عربية، ثم يعود يتكلم بلغته القومية، الأمر الذي حدا بالكنيسة إلى أن أصدرت قراراً بالتهديد وبالحرمان من الجنة لهؤلاء! وقالت لهؤلاء: إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين يذهبون إلى بلاد المسلمين ثم يعودون إلى بلادهم فيبدءون كلامهم باللغة العربية، ثم يكلمون بلغتهم القومية -يعني: أنهم يفعلون ذلك كي يعرف الناس أنهم تعلموا في بلاد المسلمين- هؤلاء الشبان الرقعاء إن لم يكفوا عن ذلك فسوف تصدر الكنيسة ضدهم قرارات حرمان من الجنة!

    وهذا لا شك أنه مظهر من مظاهر علو همة المسلمين، وكيف أنهم لما كانت لهم الغلبة كان الجميع يتشبهون بهم.

    ومن البلاد التي انتشرت فيها اللغة العربية بسرعة غير متوقعة ولله الحمد هي مصر، وربما يكون هناك سبب ثانوي هو: أن المصريين -كما يقال- عندهم موهبة في تعلم اللغات، ولكن هناك سبب أساسي، وهو أن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما فتح مصراً كان ذكياً إلى درجة عالية جداً.

    قال عمرو بن العاص : إن أي موظف لا يعين في الهيئات أو في الوظائف الحكومية التابعة لولايته إلا إذا كان يعرف اللغة العربية. فتنافس أهل مصر في تعلم اللغة العربية؛ كي يحوزوا المناصب والوظائف؛ حيث كان تعلمها شرطاً في تقلد الوظائف، ولذلك انتشرت اللغة العربية انتشاراً سريعاً جداً في مصر ولله الحمد.

    يقول ابن خلدون : إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة -أي: الأسبان- فإنك تجد أنه لما بدأ يضعف نفوذ المسلمين أمام الجلالقة الأسبان تجد أن بعض المسلمين يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم؛ حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت.

    والإنسان إذا رأى صور القصور في الندلس مثل قصر الحمراء وقصر غرناطة وقرطبة يجد أن في ساحات هذه القصور هذه الأشياء المشهورة، كساحة السباع، وهي عبارة عن تماثيل للأسود تخرج من فمها النوافير، مع أن هذا في قصر كان يملكه حكام مسلمون! فإذا كان هذا شأن الحكام في تخليد التماثيل وقد عرف تحريمها الأكيد في الشريعة الإسلامية فإن هذا يعكس مدى ما حصل بسبب الاقتداء بالكفار في هذا الأمر.

    يقول الإمام ابن خلدون : حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، فالأمر لله. وكلامه هذا معناه: أن هذه الأمة ستنهار أمام أعدائها، ولا يبقى لها قوة، وحدث ما توقعه ابن خلدون رحمه الله تعالى، واستولى الفرنج على الأندلس الإسلامية، وأخرج المسلمون منها بعد مائتي سنة من كتابته هذه السطور.

    صور من انحطاط الهمم في الزمن الحاضر

    عن عصرنا حدث ولا حرج من مظاهر تسفل الهمم وانحطاطها؛ فانظروا إلى حال الشباب فقط، فلا أقول أكثر من هذا، انظروا إلى حال الشباب الذين ينتسبون إلى الإسلام كيف تصاغرت همهم، فلم تنشغل إلا بسفاسف الأمور ومحقراتها، فهم شباب الكرة والغناء إلا من رحمه الله، بل حتى في مذاكرتهم؛ فغالبهم يريد أن ينجح بدون جهد يذكر، بخلاف أجيال سابقة كانت أكثر جدية، فنحن نجد هؤلاء الشباب كل ما يشغلهم هي الأمور التافهة والساذجة، كما قال أحد الكتاب المسلمين: لقيت اليوم صديقنا فلاناً، وكان زعيماً سياسياً قديماً، فإذا هو على غير عادته؛ منشرح الصدر، ضاحك الأسارير، فقلت له: أراك اليوم على غير عادتك طلقاً نشيطاً بادي السرور، قال: وما لي لا أكون كذلك وقد أحرزت في هذا اليوم ثلاثة انتصارات؟ قلت: لك الحق إذاً في تهللك وفرحك؛ فنحن في زمان لا نكاد نظفر فيه بانتصار واحد بين مئات الهزائم، فما هي الانتصارات إن لم تكن سراً من الأسرار؟ قال: أما الانتصار الأول فقد دخلت غرفة نومي منذ ثلاثة أيام ذبابة أزعجت نهاري، وأرقت ليلي، وقد حاولت جهدي طردها أو قتلها فلم أفلح، إلى أن ظفرت بها اليوم، فقتلتها شر قتلة، وألقيتها حيث لا يمكن أن تعود حتى لو عادت إليها الحياة! قلت: والانتصار الثاني؟ قال: والانتصار الثاني شعرت به وأنا أزن نفسي في الحمام؛ إذ هبط وزني من تسعة وتسعين كيلو إلى ثمانية وتسعين وسبعمائة وخمسين جراماً! قلت: والانتصار الثالث؟ قال: لعبت اليوم بالنرد مع صديقنا فلان، فغلبته مرتين متواليتين، وهو الذي كان يغلبني باستمرار! أفتراني بعد ذلك كله حقيقاً بما أنا عليه من السعادة والطلاقة والمرح؟! قلت: بلى! بلى! بلى! وتابعت طريقي بأسىً بالغ وألم عميق وحزن غامر عليه وعلى أنفسنا معه؛ لقد تحقق عزلنا عن ميادين الحياة الجادة من قبل الطغيان الداخلي والخارجي، المحلي والدولي، وفاتتنا الانتصارات الحقيقية الكبرى. وهكذا الآن أصبح الذي يطلق عليه البطل هو إما الممثل في الفيلم، أو المسرحية، أو لاعب كرة القدم، هذا هو البطل، وصار يقال: الأبطال، وهذه البطولة، والانتصار، والنجوم، إلى آخر نحو هذه الألفاظ الفخمة؛ كي يتلهى بها الناس، وتطلق على أخس خلق الله سبحانه وتعالى وأخبثهم. يقول: تشاغلنا بأنفسنا ومطامعنا، والتمسنا الراحة والمتعة والرضا، ومثل انتصارات هذا السياسي الكبير القديم أظن أنه لا يختلف عنها بالجوهر، وإن اختلف بالشكل والعنوان؛ أليس هذا ضرباً من ضروب الجنون أو الموت المعنوي الذي يصنعه الطغيان؟! أليس الموت المادي الحقيقي أفضل من مثل هذه الحياة؟! إن الشباب يمعنون في التشبه بالكفار، بل يعلقون صور الممثلين على صدورهم! فأخس الصور وأحط الصور الآن أصبحت تعلق على صدور أولاد المسلمين من أجل الدعاية للفواحش! وحينما أرى شاباً من هؤلاء الرقعاء الذين يعلقون صور الممثلين هذه على ملابسهم أقول: أليس هذا يعود إلى بيته؟! أكيد أنه سوق يعود، وأكيد أن والدته تغسل له هذه الثياب، وأكيد أن أباه يراه، وإخوته يرون هذه الصور القبيحة، فأين هؤلاء جميعاً مما يصنع هذا ؟! إن معنى ذلك أن هناك نوعاً من التخدير أو موت الغيرة في قلوب الناس، إلى حد أن يمشي إنسان بهذه الصور القبيحة، ويظهر بها متحدياً حتى الأخلاق العامة، ومع ذلك لا يخدش ولا يمس بأي سوء؛ فهو عبارة عن رقيق، وهو عبد فخور جداً بهذا الرق! هذا هو باختصار إيضاح الصورة التي نحن عليها. فهو عبد ذليل فخور بالذل وبهذا الرق؛ حتى أن السيارات الآن تعلق عليها الأعلام الأمريكية، وتزين بالأعلام الأمريكية، ويعلقون عليها الآن شتى الصور، ونجد سيارات أخرى عليها أعلام بريطانيا الذي فيه صليب قائم وصليب نائم؛ فإن علم بريطانيا فيه صليبان، وهكذا غيرها من الأعلام!! وهذا يقول: أنا أحب ألمانيا! والآخر يقول: أنا أحب أمريكا! إلى آخر هذه التفاهات المعروفة؛ فهاهم يعلقون على صدورهم وسياراتهم أعلام الدول التي أذلت كبرياءهم وعزهم، وطأطأت أعناقهم، وأهدرت كرامتهم، واستعبدت أمتهم! وعلى صعيد آخر رأينا من يسوغ تعبيد الأمة وإذلالها وتبعيتها لأعدائنا؛ بحجة أننا لم نفكر برأسنا ما دمنا لا نأكل بفأسنا، وجعلوا نظرية الفأس والرأس تسويغاً وتبريراً للتبعية والذل الذي نحن فيه، ويرددون: لا نفكر برأسنا إلا إذا أكلنا بفأسنا، ومن هذا القمح الذي يأتينا من الميناء إلى الأفواه مباشرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ونحن هنا نتكلم على أعراض هذا المرض، فمثل هذه التصريحات هي من مظاهر وأعراض هذا المرض. وهكذا يقول بعض الناس: إن ما نحن فيه من الانحدار تسبب فيه من قبلنا، وسيصلحه من بعدنا، وكل جيل يأتي يردد هذه العبارة، بل عشنا حتى أدركنا زمناً لم تعد الخيانة فيه عاراً يذكر، لكنها شرف يظهر، ويتباهى به، ووظيفة مرموقة، ومفخرة يتهافت عليها!

    1.   

    بعض ملامح محنة المسلمين في عصر انحطاط الهمم

    يبين الشيخ محمد أحمد الراشد حفظه الله ملمحاً خطيراً من ملامح محنة المسلمين في عصر انحطاط الهمم فيقول حفظه الله: إن محنة المسلمين اليوم لا تقتصر على تسلط أئمة الضلالة فحسب، بل تعدت ذلك إلى تربية سخرت المناهج الدراسية وكراسي الجامعات والصحف والإذاعات لمسخ الأفكار والقيم، حتى غدا صيد المخططات في سرور. والمقصود: المصيد الذي وقع في الفخ.

    يقول: حتى غدا صيد المخططات في سرور يحسب نفسه في انعتاق من أسر القديم أي قديم كان، فهو تحرر من التقلد أو التمسك بالقديم، أو صار الآن رجلاً حراً متحرراً.

    لقد وقع المسلمون اليوم ضحية لتربية أخلدتهم إلى الأرض، فأرادت لهم الفسوق ابتداءً؛ لتستخف بهم الطواغيت انتهاءً، وإنها خطة قديمة يأخذها الطاغوت اللاحق عن الطاغوت السابق، حتى وصلت وصولها إلى فرعون، وذلك كما يقول الله سبحانه وتعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54].

    هذا هو التفسير الصحيح للتاريخ، وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله؛ فالمؤمن بالله لا يستجيب للطاغوت، ولا يمكن أن يطيع له أمراً، فبلا شك أن الناس أنفسهم ليسوا معفيين عن المسئولية عن الأمر الواضح الذي وصلت إليه الأمة والدين، بل هم السبب في ذلك، وهم سبب أقوى من الحكام في تضييع الإسلام بسبب سفل الهمم، ولولا أنهم كانوا قوماً فاسقين لما سمحوا أن يسب دينهم على الملأ، وأن تكتب المقالات في أن القرآن فيه أخطاء نحوية! وأنه ليس بالضبط كلام الله سبحانه وتعالى! وغير ذلك من الفظائع التي حصلت والناس لا يبالون، وهؤلاء الناس أنفسهم لو أن السجائر ارتفعت أسعارها أو حصل هزيمة في مباراة كرة قدم أو مات مطرب أو مغنٍ فإنهم يثورون!

    فلا شك أن هؤلاء الناس ممن انطبقت عليهم هذه الأوصاف من الفسق والخروج عن طاعة الله هم أيضاً ضلع كبير في الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، وضلع في هذا الاستخفاف.

    فهؤلاء أدركوا المقتل الذي عرفه فرعون، فتواصوا به، وأخذوا يحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الفاحشة والفجور، مشغول بلقمة العيش، ولا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد؛ كيلا يفيق بعد اللقمة وبعد الشهوات ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين، وصارت تلك سياستهم: سياسة محاربة المساجد بالمراقص؛ فالمراقص تنافس المساجد، ومحاربة الزوجات بالنساء ذوات الفواحش، ومحاربة العقائد بأساتذة حرية الفكر، ومحاربة فنون القوة بفنون اللذة، وهكذا تحول بهذه التربية ذلك الصقر الإسلامي إلى مثل طائر الحجل. والحجل: نوع من الطيور، واحده حجلة، وهو طائر في حجم الحمام يصاد.

    فالصقر تحول إلى طائر الحجل وديع مشهور بالوداعة، كما يقول إقبال : إنه الأدب والترويض الذي استعمله أدب الضلال، كما يفعل بالضبط مع الأسد الكاسر أو الوحش الكاسر المروض في السيرك؛ فإنه يروض، بحيث يصبح في الآخر مقلم الأظفار هادئاً وديعاً لا يزمجر ولا ينفعل، ولا يحرك أي شيء من هذا.

    يقول إقبال وهو يصف هذا الأدب:

    يسلب السرو جميل الميل ويرد الصقر مثل الحجل

    يسخر الركبان باللحن المبين ولقاع البحر يهوي بالسفين

    نومة ألحانه يقظتنا أطفأت أنفاسه وقدتنا

    يعني: يصف هذا الأدب بأنه يسلب السرو -والسرو: شجر معروف، وواحدته سروة- جميل الميل، ويرد الصقر مثل الحجل، ويسخر الركبان باللحن، يعني: حتى أجهزة تلفزيونه وأفلام ونحوها تروض الرجل فعلاً، فالرجل أصبح مثل الجمل الذي استنوق، كما نسمع ونرى الرجل في الفيلم أو المسرحية أو التمثيلية تصفعه المرأة! فيضع يديه على الصفعة، ويضع وجهه في التراب؛ لأنه رجل مروض، قد قلمت أظفاره حتى صار كالجمل الذي استنوق، فهي عملية ترويض، فالمرأة تريه هذه الإهانة وهو يقبلها صاغراً ذليلاً مهيناً!

    يقول:

    يسخر الركبان باللحن المبين ولقاع البحر يهوي بالسفين

    والسفين جمع: سفينة.

    نومت ألحانه يقظتنا

    وهذا كما قال الخميني -وصدق وهو كذوب-: الموسيقى أفيون الشباب أو أفيون الشعوب.

    أي: أنه تستعمل الموسيقى والأغاني في التخدير، كالأفيون.

    أطفأت أنفاسه وقدتنا

    والوقدة هي: أشد الحر.

    ثم قال:

    وأشرب الناس الذل بهذا الأذى فطرة وفي نفور من الذل

    ينفر من الذل، فيأبى على الحيف، ولكن تحيط بالناس أحوال، وتتوالى عليهم حادثات، فيراضون على الخضوع حيناً بعد حين، ويسكنون إلى الخنوع حالاً بعد حال؛ حتى يدربوا عليه، كما يستأنس السبع ويؤلف الوحش، ولكن يبقى في الناس غرات من الكرامة، ويبقى في الدماء شذرات من الجمر، فإذا دعى الداعي إلى العزة وأذن بالحرية وأيقظ الوجدان النائم وحرك الشعور الهاجد، نبضت الكرامة في النفس، وبصت الجمرة في الرماد -يعني: لمعت- وأعادت للإنسان إنسانيته، فأبى وجاهد، ورأى كل ما يلقى أهون من العبودية، وأحسن من هذه البهيمية.

    ذل من يربط الذليل بعيش رب عيش أخس منه الحمام

    وكل ذل يصيب الإنسان من غيره ويناله من ظاهره قريب شفاؤه ويسير إزالته.

    وهذا أمر في غاية الأهمية، فإذا كان الذل والاستهزاء ناشئ عن عامل خارجي كقهر وكبت أو أي عوامل خارجية فهذا خفيف، وإنما المشكلة هي الأمر الذي يعبر عنه مالك بن نبي رحمه الله حيث قال: إنه ليست المشكلة في الاستعمار، فكون أمة تقهر أمة وتستعمرها ليست هي المشكلة، المشكلة هي القابلية للاستعمار، قابلية الشعب أن يستعمر، وأن يستذل، فهو نفسه قابل، وهو راضٍ وسعيد جداً أنه يذل، حتى كان الناس في بعض الأوقات يقارنون: أيهما أفضل: الاستعمار الروسي أم الاستعمار الأمريكي؟! وأيهما أفضل: اليهود أم كذا؟!

    وهذا يعكس هذه النفسية التي سقطت فيها الهمة، وسفلت إلى هذا المنحدر، حيث الرضا والخنوع، وأصبح الذل ينبع من الداخل، وليس فقط شيء يفرض على الإنسان من خارجه، فكل ذل يصيب الإنسان من غيره ويناله من ظاهره قريب شفاؤه، ويسير إزالته، فإذا نبع الذل من النفس وانبثق من القلب فهو الداء الدوي، والموت الخفي، ولذلك عمد الطغاة المستعبدون إلى أن يشربوا الناس الذل بالتعليم الذليل، وبالتأديب المهين، وتنشئة الناشئة عليه بوسائل شتى؛ ليميتوا الهمة، ويخمدوا الحمية؛ لأن بيدهم العصا والزمام.

    ومن تمام لوازم عملية الترويض أن يضيقوا على دعاة الإسلام؛ ليستبد بالتوجيه التربوي والإذاعي والصحفي أدعياء العلم والشعر والحكمة الذين مضى أمرهم بأسماء منظمات تبدو في ظاهرها مختلفة، وتفقوا وتزين للجيل الجديد سبيل المجاهدين وشبل الأسود أن يكون رقيقاً للشهوات والفواحش والعيش البغيض.

    وبدءوا يمحون تراث الأمة التي نهضت به، ويطمسون قصص العلماء؛ حذراً من أن تكون نبراساً للجيل يستدل بها على طريق العمل.

    فذلك قول شاعر الإسلام إقبال رحمه الله:

    ليس يخلو زمان شعب ذليل من عليم وشائع وحكيم

    فرقتهم مذاهب القول لكن جميع الرأي مقصد في الصميم

    علموا الليث جفلة الضبي وامحوا قصص الأسد في الحديث القديم

    همهم لقطة الرقيق برق كل تأوليهم خزاع عليم

    أي: أن كل همهم من هذه السياسات أن الرقيق يسخر، ويفرح بالذل الذي هو فيه، ويفتخر بأنه رقيق، وبأنه عبد مستذل ومهين، وقد كان لهم ما أرادوا، فهذا هو عنوان خطة الكيد اليهودي والصليبي: تعليم الليث الإسلامي جفلة الضبي، يعني: أنه يكون وديعاً هادئاً مستسلماً لما يملى عليه!

    وأيضاً: محو قصص أسود الإسلام من العلماء والزهاد والمجاهدين من تاريخ القرون الفاضلة الأولى لهذه الأمة المجاهدة، وأنتجت خطط التربية ذلك الضبي الجفول الذي لم يعد يقتحم، واستبدل العزم بالهوان والمسارعة بالهرب؛ إنهم هذا الجيل من أبناء المسلمين، شبل أسد تحول إلى ضبي وديع، وحر استرقوه ففرح بهذا الرق.

    فهذه إشارة عابرة لمظاهر هذا المرض الخطير الذي هو انحطاط الهمم وتسفلها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756630938