إسلام ويب

علو الهمة [2]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لعالي الهمة خصائص يعرف بها، كما أن لخسيس الهمة صفات يوصف بها، فعالي الهمة روحه في العلياء وجسده في الأرض، بينما خسيس الهمة روحه في السفل والدنو، لذا ينبغي على المسلم أن يعرف خصائص عالي الهمة حتى يقتدي بها؛ ليكون إنساناً مؤثراً في مجتمعه وبيئته، فإن أصحاب الهمة العالية يغيرون مجرى التاريخ ومسار حياة الناس بإذن الله عز وجل.

    1.   

    عالي الهمة لا ينقض عزمه ولا يتردد

    كنا قد شرعنا في مدارسة هذا البحث المتعلق بعلو الهمة، وذكرنا ماهية الهمة، وذكرنا أن الهمة مولودة مع الآدمي، وقلنا: إنه لابد للسالك إلى الله سبحانه وتعالى من همة تسيره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه، وذكرنا أقسام الناس من حيث القوتان: العلمية والعملية، فهناك قوة علمية وقوة عملية، أو علم وإرادة أو علم وهمة، فبعض الناس يجتمع له الأمران: قوة علمية وقوة عملية، وبعض الناس ينعدم فيه الأمران؛ فلا علم ولا إرادة، وبعضهم يوجد عنده الإرادة دون العلم، وبعضهم يوجد عنده العلم دون الإرادة. وذكرنا أن الهمة وظيفة قلبية محلها القلب، ومن ثم لا سلطان لأحد على الهمة حتى ولو كان له سلطان على الجسد؛ لأن الهمة عمل القلب والقلب لا سلطان عليه إلا لله سبحانه وتعالى، وقلنا: إن قوة المؤمن كامنة في قلبه وإن القلب يحيا بالعلم والهمة، وناقشنا لماذا يستبدل بعض الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتكلمنا عن تفاوت الهمم حتى بين الحيوانات، وكيف يتفاضل الناس بتفاوت هممهم، وذكرنا أن عالي الهمة بقدر ما يتعنى ينال ما يتمنى. ومن خصائص عالي الهمة أنه لا ينقض عزمه، قال عز وجل: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، فهو لا يعرف التردد، بل متى ما حدد غايته يمضي إليها ولا يلوي على شيء، ولا يلتفت إلى لوم اللائمين ولا عذل العاذلين، وهذا هو الأدب الذي أدب الله سبحانه وتعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ))، وامتدح الله سبحانه وتعالى الصالحين بقوله: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد:20]، وقال تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23]. ولما أشار بعض الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة أحد بالخروج إلى المشركين ومقاتلتهم خارج المدينة، نزل صلى الله عليه وسلم على رأيهم، مع أنه كان يرى خلاف ذلك، لكنه نزل على رأيهم وأخذ بمشورتهم، وبعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين دخل إلى منزله فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعيه ثم خرج على قومه بكامل عدته الحربية، وأذن فيهم بالخروج إلى العدو، وكان ذوو الرأي من الأنصار أو هؤلاء الذين أشاروا قد ندموا حين شعروا أنهم قد استكرهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتباع خطة معينة لمقاتلة العدو كان هو يفضل غيرها، فندموا على ما أشاروا به وأنهم خالفوا مشورته، وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت، وامكث داخل المدينة كما أمرتنا، فلم يرض أن ينقض همته؛ لأنه عزم ومضى وحدد فلا يتردد، وقال لهم مصمماً على الخروج: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين وبين عدوه)، يعني: لا ينبغي لنبي إذا لبس كامل سلاحه الذي يخرج فيه للقتال أن يضعه، بل مادام قد عزم فلا يتردد، ولا ينقض ما هم به وما عزم عليه. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت الأنصار عمر إلى أبي بكر ليحبس الجيش أو ليولي عليهم رجلاً أقدم سناً من أسامة ، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم قد هيأ أسامة للخروج لمحاربة الروم، وكان أسامة حديث السن جداً في ذلك الوقت، فالأنصار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت عمر إلى أبي بكر أنه إما أن يحبس الجيش ولا يرسله وإما أن يغير الأمير ويعين شخصاً أكبر سناً من أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما. فقال أبو بكر : (والله! لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أرده ما رددته، ولا حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر : إن الأنصار أمروني أن أبلغك وهم يطلبون إليَّ أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة ، فوثب أبو بكر وكان جالساً، فأخذ بلحية عمر فقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب ! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟!) يعني: هل أنقض أنا أمراً عزم عليه الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: (ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم، حسبي ما لقيت في سبيلكم من خليفة رسول الله). وحين جاءه عمر في حروب الردة يقول له: (تألف الناس وارفق بهم. فقال أبو بكر : رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك! أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أوينقص الدين وأنا حي؟! قال عمر : فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق). والشاهد من الواقعتين: أن أبا بكر رضي الله عنه الذي هو أفضل البشر بعد الأنبياء، تعلم هذا الأدب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا مضى وعزم لا يتردد ولا يشتت همته ولا ينقض عزمه. قال جعفر الخلدي البغدادي : ما عقدت لله على نفسي عقداً فنكثته. فإذاً: الشخص الذي تعلو همته وتكبر همته إذا حدد غايته ومنهاجه في الحياة فإنه لا يتردد فيه ولا يتلعثم ولا ينقض العزم الذي عزم عليه، فإذا نوى التوبة يستقيم على التوبة، وإذا نوى الإقلاع عن فعل معين وعاهد الله على ذلك يوفي بعهده ولا ينقض هذا الميثاق. وقال صالح بن أحمد : عزم أبي -أي: الإمام أحمد - على الخروج إلى مكة ورافق يحيى بن معين ، فقال أبي: نحج ونمضي إلى صنعاء إلى الإمام عبد الرزاق ، يعني: بعدما يحجان يسافران إلى اليمن ليلقيا الإمام عبد الرزاق الصنعاني حتى يحدثهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فمضينا حتى دخلنا مكة، فإذا عبد الرزاق في الطواف، يعني: أنهما خرجا على أساس أنهما بعد الحج يذهبان إلى اليمن، ففوجئا بالإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني في الطواف، وكان يحيى يعرفه، فطفنا ثم جئنا إلى عبد الرزاق فسلم عليه يحيى وقال: هذا أخوك أحمد بن حنبل فقال: حياه الله، إنه ليبلغني عنه كل ما أسر به ثبته الله على ذلك، ثم قام لينصرف، فقال يحيى : ألا نأخذ عليه الموعد، يعني: نأخذ عليه موعداً في مكة كي يحدثنا بدلاً من أن نسافر إلى اليمن، فأبى أحمد وقال: لم أغير النية في رحلتي إليه. فأبى الإمام أحمد أن ينقض عزمه أو أن يهدم نيته السابقة في السفر إلى اليمن في طلب العلم، ولذا قال له: لم أغير النية في رحلتي إليه، أو كما قال، ثم سافر إلى اليمن لأجله، وسمع منه الكتب وأكثر عنه. وقال الحافظ أبو إسحاق الحبال : كنت يوماً عند أبي نصر السجزي فدُق الباب فقمت ففتحته، فدخلت امرأة وأخرجت كيساً فيه ألف دينار فوضعته بين يدي الشيخ، وقالت: أنفقها كما ترى. يعني: أنفق هذا المال كما ترى، قال: ما المقصود؟ يعني: ماذا تقصدين بهذا؟ قالت: تتزوجني، ولا حاجة لي في الزواج، ولكن لأخدمك، يعني: أنها كانت امرأة صالحة تريد أن تتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بأن تخدمه؛ لتعينه على ما هو فيه من نشر العلم، فأمرها بأخذ الكيس وأن تنصرف، فلما انصرفت قال الإمام: خرجت من سجستان بنية طلب العلم، ومتى تزوجت سقط عني هذا الاسم، وما أوثر على ثواب طلب العلم شيئاً، يعني: أنه لم يخرج بنية الزواج ولا غيره، فهو لا يريد أن ينقض نيته في الخروج إلى طلب العلم بأي أمر آخر. ومن ذلك أيضاً ما يذكره بعض القصاص من أن رجلاً خطب امرأة ذات منصب وجمال فأبت الزواج به لفقره ولقلة حسبه، وقالت له: أنت فقير وما تصلح، ففكر بأي الأمرين ينالها أبالمال أم بالحسب، فاختار الحسب، يعني: أنها أخذت عليه أنه فقير وأنه ليس ذا حسب، فقال: أعالج عندي هاتين الصفتين فإما أن أنال الحسب أو أنال المال، فاختار أن ينال الحسب، فطلب العلم من أجل أن يكون له شهرة وصيت ويكون له حسب وشهرة بالعلم، ومعنى هذا: أنه كان يقصد من طلب العلم التأهل لزواج هذه المرأة، فطلب العلم حتى أصبح ذا مكانة، وحينئذٍ بعثت إليه المرأة تعرض نفسها، فقال: لا أوثر على العلم شيئاً، يعني: أنه لما طلب العلم أرشده إلى تصحيح النية وإلى الأعمال الصالحة فدخل في عداد قوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، فتورع بترك امرأة كان طلب العلم لأجلها إعلاناً بصدق قصده وسلامة مأربه. فمن كل هذا نخلص إلى أن الإنسان إذا اختار له طريقاً فلا يتردد ولا ينقض عزمه ولا همته ولا نيته.

    1.   

    ندامة عالي الهمة

    من خصائص الإنسان الكبير الهمة أنه ليس كالناس أو ليس كسائر الناس فيما هم فيه في كل أحواله حتى في ندمه، فننظر الآن علامَ يندم كبير الهمة؟ وما هي الأشياء التي تجعل كبير الهمة يندم؟ فكبير الهمة كائن متميز في كل خصائصه حتى في ندمه، فبينما يندم خسيس الهمة لفوات لذاته، أو يتحسر لفراق شهواته فإن لكبير الهمة شأناً آخر حتى وهو يندم، كما تنبئ عنه المواقف التالية: فهو يتحسر على ساعة مرت به في الدنيا، لا لأنه عصى الله فيها وإنما لأنه لم يعمرها بذكر الله عز وجل. هذا أول شيء من الأشياء التي يتحسر عليها كبير الهمة إذ لا يندم على ذهاب شيء من أعراض الدنيا، وإنما يندم أكثر ما يندم على ساعة مرت به لم يذكر فيها الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها) هذا هو الشيء الوحيد الذي يتندمون عليه، مع أن الجنة لا نصب فيها ولا حسرة ولا ندم ما عدا على هذه فقط، فأهل الجنة فقط يذوقون الحسرة على ساعة مرت بهم في الدنيا لم يذكروا فيها الله عز وجل. كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن، وفي رواية: حتى يفرغ منها، فله قيراطان من الأجر. قيل: يا رسول الله! وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين، وفي رواية قال: كل قيراط مثل أحد) ، وكان ابن عمر قد أخذ قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده وهو جالس فلما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث ضرب بالحصى الذي كان في يده الأرض تعبيراً عن الندم ثم قال: (لقد فرطنا في قراريط كثيرة)، فندم على ما مضى حيث إنه كان أحياناً إما أنه لا يحضر الجنازة وإما أنه يحضر فقط ولا يبقى حتى تدفن فحرم من هذه القراريط. وهذا سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه يتحسر لموته على فراشه، فقد قال لما حضرته الوفاة: (لقد شهدت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، ثم هأناذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء). فتصور كيف يندم على أنه طلب الشهادة في كل مظانها وخاض الحروب والجهاد في سبيل الله رجاء أن ينال الشهادة في سبيل الله ولكن الله سبحانه وتعالى كتب له أن يموت على فراشه، فهو يندم على ذلك ويشبه موته بموت البعير الذي يموت حتف أنفه، ثم يقول: (فلا نامت أعين الجبناء) يعني: أنه يدعو على الجبناء الذين يخافون أن يخرجوا للجهاد خشية الموت، فيقول: إنني خضت كل هذه المعارك ومع هذا لا أموت إلا على فراشي. وكان أبو محجن الثقفي مولعاً بالشراب مشتهراً به، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قد حبسه بسبب شربه الخمر، فلما كان يوم القادسية وبلغه ما يفعل المشركون بالمسلمين وهو عند أم ولد لـسعد ، قال هذا الشعر: كفى حزناً أن تطعن الخيل بالقنا وأترك مشدوداً علي وثاقيا أي: أنه يندم على أنه كان متخلفاً عن الجهاد والمسلمون يلاقون عدوهم في القادسية، ولذا قال: كفى حزناً أن تطعن الخيل بالقنا وأترك مشدوداً علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وغلقت مغاليق من دوني تصم المناديا وقد كنت ذا أهل كثير وإخوة فقد تركوني واحداً لا أخا ليا أريني سلاحي لا أبا لك إنني أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا فقالت له أم ولد سعد ، وكانت تقريباً هي القائمة على حراسته، قالت له: أتجعل لي إن أطلقتك أن ترجع حتى أعيدك في الوثاق؟ أي: تعدني أني إذا أطلقتك الآن وأخرجتك كي تشارك في الجهاد تذهب فإذا فرغت من الجهاد تعود إلى القيد ثانية وإلى الحبس، فقال: نعم. فانظر كيف حرصه على الجهاد، عاهدها على أنه إذا فرغ من الجهاد يعود للمحبس كما كان، فأطلقته، وركب فرساً لـسعد بلقاء من خيول سعد الخاصة، وحمل على المشركين، فجعل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه يراه وهو يقاتل فيقول: لولا أن أبا محجن في الوثاق لظننت أنه أبو محجن وأنها فرسي، وانكشف المشركون -أي: انهزموا- وجاء أبو محجن بعد أن فرغ من الجهاد فأعادته في الوثاق وأتت سعداً فأخبرته بما كان من أبي محجن ، فأرسل سعد إلى أبي محجن فأطلقه وقال: (والله! لا حبستك فيها أبداً) يعني: مكافأة له على جهاده وحسن بلائه، فقال أبو محجن : (وأنا والله! لا أشربها بعد اليوم أبداً). وعن قتادة أن عامر بن قيس لما أتاه الموت جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وعلى قيام ليالي الشتاء، أي: أنه ندم على أنه سيفارق الدنيا ولم يتمكن لا من صيام الأيام الحارة ولا من قيام الليالي الباردة في الشتاء، فهذا هو الذي يندم عليه كبير الهمة. وذكروا لـشعبة حديثاً لم يسمعه فجعل يقول: واحزناه! واحزناه! ويتحسر على أنه لم يسمع هذا الحديث. وكان شعبة رحمه الله يقول: إني لأذكر الحديث فيفوتني فأمرض. يعني: أنه كان يحاول أن يتذكر الحديث فلا يقوى على استرجاعه، فيصيبه المرض حزناً على أن هذا الحديث قد فاته. يقول الشاعر: كم فرصة ذهبت فعادت غصة تشجي بطول تلهف وتندم وقال القاسم بن سلام : دخلت البصرة لأسمع من حماد بن زيد فإذا هو ميت -يعني: وجده قد مات- فشكوت ذلك إلى ابن مهدي فقال لي: مهما سبقت فلا تسبقن بتقوى الله. قال هذا يواسيه ويعزيه: مهما سبقت وفاتك من العلم أو من الحديث فمازال باب التقوى والعبادة مفتوحاً فلا يسبقك أحد في طاعة الله سبحانه وتعالى. ولما حج أبو بكر السمعاني والسلفي ظفرا بـأبي مكتوم عيسى بن أبي ذر فتهاونا في أن يسمعا عليه الأحاديث، فسارع في النفر الأول، يعني: تعجل في يومين وذلك بأن نفر من الحج في ثالث أيام التشريق ورجع إلى موطنه سراة بني شيبان وفاتهما، فحزن تاج الإسلام أبو بكر فأخذ السلفي يسليه على شدة ندمه لما فاتهما ويقول: ما كان معه سوى صحيح البخاري وأنت في إسناده مثله. واقتنى الشيخ جمال الدين بن القفطي نسخة جميلة من كتاب الأنساب للسمعاني حررت بيد المؤلف، إلا أن فيها نقصاً، وبعد العناء الطويل حصل على الأوراق الناقصة من النسخة إلا على أوراق بلغه أن قلانسياً قد استعملها في شغله، يعني: أن رجلاً كان يصنع القلانس جعلها قوالب للقلانس فضاعت، فتأسف غاية الأسف على هذا الضياع، وكيف أن هذه الأوراق ضاعت بهذه الطريقة، وندم ندماً شديداً حتى كاد يمرض وامتنع أياماً عن الخروج إلى الأمير في قصره، وصار عدة من الأفاضل والأعيان يزورونه تعزية له وكأنه قد مات أحد أقاربه المحبوبين من شدة تألمه لفوات هذه الأوراق. فمن صفات عالي الهمة أنه لا يندم على أي شيء ولا يبالي بما فاته من الدنيا، وإنما يحزن مثل هذا الحزن إذا فاته شيء من مقاصد الآخرة.

    1.   

    تحري عالي الهمة للفضائل ومعالي الأمور

    كبير الهمة هو الشخص الذي يتحرى الفضائل ومعالي الأمور على الإطلاق لا للذة ولا لثروة ولا لاستشعار نخوة ولا لغرض الاستعلاء على البرية وعلى خلق الله، لكنه يتحرى مصالح العباد شاكراً بذلك نعمة الله وطالباً به مرضاته غير مكترث بقلة مصاحبيه، فإنه إذا عظم المطلوب قل المساعد، وطرق العلى قليلة الإيناس، فإذا عظم المطلوب وكان الهدف والغاية عالية وشريفة كلما قل من يساعدك ويستمر معك في المسير إليه، فلذلك طرق العلى قليلة الإيناس، يعني: أنها تكون موحشة لقلة السالكين. يقول الشاعر: أهم بشيء والليالي كأنها تطاردني عن كونها وأطارد فريد عن الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد عن ابن جدعان قال: (سمع عمر رجلاً يقول: اللهم اجعلني من الأقلين. فقال: يا عبد الله! وما الأقلون؟ قال: سمعت الله يقول: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40]، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وذكر آيات أخر، فقال عمر : كل أحد أفقه من عمر ). وقال سفيان بن عيينة : اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين. وقال سليمان الداراني : لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي، أي: لو كل من على ظهر الأرض شكوا في الحق ولم يؤمنوا به أو لم يعملوا له ما شككت فيه وحدي، ولبثت أنا وحدي على هذا الحق. وقال بعض الصالحين: انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطلب. فعالي الهمة يترقى في مدارج الكمال بحيث يصير لا يأبه بقلة السالكين ووحشة الطريق؛ لأنه يحصل مع كل مرتبة يرتقي إليها من الأنس بالله ما يزيل هذه الوحشة، وإلا انقطع به السبيل. والسالك إلى الله سبحانه وتعالى كلما ارتفع درجة يحصل له أمران: الأمر الأول: أنه يشعر بالمزيد من الوحشة؛ لأن رواد الطريق يقلون؛ فكلما كان الهدف أقرب والهمة أعلى والهدف أسمى يقل الناس؛ لأن الناس معظمهم يشتغلون بسفاسف الأمور وبالدنيا، أما هو فكلما ارتقى في مطلبه كلما وجد وحشة، ولكن هذه الوحشة تزول؛ لأنه كلما ترقى في الإيمان كلما يناله من الأنس بالله ما يلاشي هذه الوحشة. ويوضح هذا معرفة مراتب الدين الثلاثة، كما جاء في حديث جبريل حينما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فالإسلام أخص من الإيمان من حيث المعنى، لكنه أعم من حيث الأفراد، والإيمان أخص من الإحسان من حيث المعنى لكنه أعم من حيث المعنى، بمعنى أن كل محسن مؤمن وكل مؤمن مسلم، ولكن ليس كل مسلم مؤمناً ولا كل مؤمن محسناً. فهذه المراتب درجات ودرجات، وكلما ارتفع السالك درجة شعر بقلة في السالكين، فإذا لم يكن قد حصل مع ارتفاع كل درجة من الأنس بالله بقدر شعوره بقلة السالكين في هذه الدرجة فإنه يستولي عليه الشعور بالوحشة، فأحسن أحواله حينئذٍ أن ينقطع عن الرقي أو يمله، وهو بذلك مغبون، وإما أن يعود القهقرى، لكن إذا لم ييأس وعاود السير فإنه يربح فلا يخسر أبداً، فإن أول ثمرات العزة الإيمانية التي يحسها بها المؤمن إدراكه ما في الإسلام من قوة الحقيقة التي يكفي لكي تعلن عن نفسها أن تتمثل في فرد واحد، فإن الحق لا يعرف بكثرة العدد كما قال الشاعر: تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها: إن الكرام قليل وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل فالكثرة هنا في ميزان الحق لا قيمة لها ولا وزن لها، فحقيقة الإسلام حقيقة عظمى في هذا الوجود يكفي كي تعلن عن نفسها بصورة صادقة أن تتمثل ولو في شخص واحد فقط، يقول تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [النحل:120] فيكفي لهذه الحقيقة القوية أن تعلن عن نفسها حتى في شخص وفي فرد واحد، وليست مثل الآراء الجاهلية المخالفة المكونة من زيف الباطل واحتياجها إلى سواد كثير وعدد كبير من الأفراد، فإننا نجد في المناهج الباطلة المعادية للإسلام العدد الكبير والصوت العالي والضجيج وتكاتف عدد كبير جداً من الأفراد والهيئات وغير ذلك، وأي شخص ساذج يأسره هذا المنظر وهذا البهاء وهذا الصدى العالي، تأسره الكثرة وتأسره البهرجة وهذه الأشياء فيغتر وينطلي زيف الباطل عليه دون أن يدرك ما هم فيه من الضلال، فهذه المظهرية هي مقياس الحق والباطل عندهم، فمن كان معه القوة والعدد الأكثر والصوت العالي فهو المحق عندهم، ومن ثم نجد كثيراً من المنهزمين من أبناء المسلمين الآن ينبهرون تماماً بما عليه الكفار في الغرب أو في الشرق بما يسمونه بحضارة وعمران وتقدم وكذا وكذا، بل قد لا يكتفي بالانبهار بما تفوقوا فيه من الحضارة المادية، وإنما قد ينتكس في إيمانه وفي دينه فينظر إليهم على أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً، وأن كل شيء عند هؤلاء القوم ينبغي أن نأخذه وأن نتبعهم فيه دون تمحيص، فهو غره هذا البهرج وهذا الزخرف وهذه المناظر، وانطلى زيف الباطل عليه دون أن يدرك ما هم فيه من الضلال، لكن الحق لا يحتاج إلى هذا، فممكن أن شخصاً واحداً يتمثل فيه الحق بصورة كاملة وحقيقية، فمن هنا رأينا الأمة الإسلامية تمثلت أكثر من مرة بمؤمن واحد فقط، كما قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [النحل:120]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : أي: كان مؤمناً وحده وكان الناس كفاراً جميعاً. وفي صحيح البخاري أنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لزوجته سارة : (يا سارة ! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك). ثم تمثلت هذه الدعوة دعوة الإسلام أيضاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، حيث كان هو الوحيد على وجه الأرض الذي يتمثل فيه دعوة الحق كاملة في أولى مراحل هذه الدعوة. فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد -يعني: أنه لم يكن ثم مسلم غيره- ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال). فإذا كان المؤمن الحق كبير الهمة فإنه يتحدى العالم كله ويتحدى كل من على ظهر الأرض بإيمانه ولا يتزعزع، كما قال ذلك العالم الجليل: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي، فمن ثم تبنى الأمم بهمم هؤلاء الرجال، فممكن أن أمة بكاملها ينقذها شخص واحد، وممكن أن أمة بكاملها مهما أصابها من التدهور والانحطاط يحيي دينها ودعوتها مجدد واحد كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك إذا امتن الله على هذه الأمة بهؤلاء الأفراد الأفذاذ فإن الطريق يختصر جداً وتصلح بصلاحهم أمم من الناس، فمن ثم ينسد باب شعور المؤمن بالغربة، فالمؤمن الحقيقي لا يعاني من هذه الغربة الإيمانية؛ لأنه يمثل الإيمان والحقيقة، ولذا يشعر بأن الناس جميعاً وهم في ضلالهم هم الغرباء التائهون، ولذلك لما توهم واهم فوصف عبد الوهاب عزام الشاعر الشهير بالغربة كان جوابه سريعاً حيث قال: قال لي صاحب: أراك غريباً بين هذا الأنام دون خليل قلت: كلا بل الأنام غريب أنا في عالمي وهذي سبيلي يعني: لست أنا الغريب بل هم الغرباء حتى ولو كانوا كثرة؛ لأن الغربة الحقيقية هي الغربة عن الحق.

    واقع الأمة الإسلامية في هذا العصر

    وأما غربة الغرباء التي ذكرت في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (طوبى للغرباء) فالمقصود بها: الغربة بالنسبة للواقع من حولهم؛ لأن الغريب هو الشخص الذي يعيش في بلد ليس له فيها أهل، أو أهله فيها قليلون، هذه هي الغربة، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود كما بدأ غريباً) يعني: ندرة الحق في وسط أمواج الضلال، فهم نادرون وقلة بين غثاء ضال، أما في عالم الضمير والشعور فإن للمؤمن الفرد من إيمانه أنيساً ورفيقاً وخليلاً يبعد هذا الشعور بالاغتراب في الناحية الوجدانية والقلبية ولا يجد الغربة، لكنه من حيث العدد هو غريب، لكن من حيث تمسكه واستيثاقه من الحق الذي بين جنبيه ليس غريباً بل يأنس بالله سبحانه وتعالى.

    والمسلمون الآن ليسوا آحاداً ولا عشرات ولا مئات حتى ولا آلافاً، بل المسلمون على وجه الأرض عدد كبير، بل كثير ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولكنهم كغثاء السيل إلا ما رحم الله، ومع كثرتنا نحن ننهزم أمام الباطل ونتأثر بالحملات الملحدة على دين الله سبحانه وتعالى، لو أننا حققنا هذا المعنى واستصحبنا هذه المفاهيم لما عانينا هذا العناء الذي نبالغ في الانفعال والتأثر به بصورة لا تليق بنا، فبعض الإخوة ينزعجون من ذلك، وفي الأسبوع الماضي أتي إلي بعض الأخوان كل على حدة بمجموعة من الصفحات من جريدة الضرار ولسان حال الملاحدة جريدة روز اليوسف، كلها طعن وشتم في الإسلام صراحة، وطعن مباشر في دين الله وسخرية من الدين، فما بالكم أنتم تنشغلون بهذا البطل؟ هل نحن كلما واحد يقول نكتة ويقول: أنا أتيت بلعبة فيها لحية لابني يلعب بها أو يسخر من المنقبات أو يطعن في شريعة الله نقوم ونرد عليه؟ فهذا ليس شغلنا، فلدينا ما هو أهم، والله سبحانه وتعالى قال: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] وإن لم يكن هؤلاء هم الجاهلون فمن الجاهلون؟! فليس معقولاً أن كل من يلقي إلينا بصخرة نقف معه ونرد عليه ونناقش باطله، فأقوى ما يرد به على هؤلاء أن يعرض عنهم، والآن هناك كما سمعت تمثيلية جديدة أيضاً كمسلسل العائلة من قبل فيها نفس الشيء السخرية من الدين؛ وهذه هي أساليب الباطل، ويكفي أن الباطل يعلن عن نفسه بهذه الطريقة، فهذا هو أسلوبه وهذا هو منهجه وهذا هو ضعفه؛ لأن كل هذه تصرفات الضعفاء، فهم يتصرفون تصرفات الشتائم والقدح والقذف والألفاظ البذيئة والماجنة والكذب والتلفيق والدجل، فيكفي أن الباطل يفضح نفسه ويكشف سوآته بهذه الأساليب، فينبغي أن نتسامى عن أن ننزل إلى هذا المستوى، وليس كل واحد يعمل شيئاً نرد عليه؛ لأنهم لا يستحقون ذلك، كما قال رجل طيار مرة -طيار ليس مصرياً-: تعلمت في الطيران أنني إذا خرجت أطلب هدفاً معيناً فمهما حصل من المقاومة الأرضية لا أرد عليها؛ لأنه إذا كان أي واحد يلقي بقذيفة ينشغل بالرد عليه سيتخلف عن هدفه الأسمى الذي يقصده، فإذا حددت لك هدفاً: الدعوة، التربية، التعلم، العبادة، الجهاد، أي هدف من هذه المقاصد، فامض في طريقك ولا تتلفت إلى الصبية الصغار الذين يقذفونك بالحجارة، وإلا لأصبح الأمر كما قال الشاعر:

    لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار

    فالشاهد: أنه ينبغي ألا ننشغل بهؤلاء، فهؤلاء هم الذين قال فيهم: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النجم:29]، وقال سبحانه: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15] * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:16]، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، وهؤلاء هم الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، ويكفي أن هؤلاء الملاحدة، ملاحدة روز اليوسف يأكلون على كل الموائد، فهم فيما مضى كانوا مع الاشتراكية ومع الشيوعية ويمشون مع أي مذهب، المهم أن تكون جبهة مضادة للإسلام، هذه هي رسالتهم في الحياة، فهم أحقر وأذل وأصغر من أن نتكلف الرد عليهم ونأتي بكلامهم البذيء ونتعقبه؛ لأن ذلك في الحقيقة إسفاف وهبوط إلى مستوى يليق بالباطل، أما الحق فلا يتنزل إلى هذا الانحطاط وهذا المستوى الدنيء، ولذا لا ينبغي أن نضيع وقتنا معه، ولنعرض عنهم كما قال عز وجل: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] فهؤلاء هم الجاهلون، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] فرب العزة سبحانه وتعالى لما يصف قوماً بأنهم مجرمين ماذا تريد أنت بعد ذلك؟! وستصبح كل هذه الابتلاءات ذكريات، فالزمن يمضي ويمر والعمر يمضي سريعاً وينقضي كل ما على وجه الأرض، ثم يصبح كل شيء مجرد ذكرى، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:30] * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين:31] * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ [المطففين:32] * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ [المطففين:33] * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:34] عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:23] هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:36]

    وقال تبارك وتعالى: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:109] * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:110] * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111]، وهذا بما صبروا فلابد من الصبر، قال عز وجل: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كثيراً [آل عمران:186] فمن عزم الأمور أن نصبر وأن نتقي، ومن الصبر ألا نضيع أوقاتنا في تتبع هذه الأشياء، وأنا أصلاً أسأل: لماذا الأخ يشتري مجلة روزا اليوسف؟! هل هذه المجلة الملحدة الماجنة تدخل بيت مسلم؟! ألا تستحضر أنك تسأل عن المال الذي تشتري به هذه المجلة وعن الصور القبيحة التي فيها؟! فيكفي الباطل أنه لا يحتاج إلى تعرية؛ لأنه عارٍ بادية سوآته، ولا يحتاج إلى من يسقطه أو يفضحه، فينبغي ألا ننشغل به وأن نمضي في طريقنا ولا نبالي بهذه المناهضة لدين الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    شأن عالي الهمة

    يقول الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في شأن عالي الهمة: لا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له فإنهم هم الأقلون قدراً وإن كانوا الأكثرين عدداً، كما قال بعض السلف: عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغض الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك. أي: لأن هؤلاء هم قطاع الطريق إلى الله، كل هدفهم أن يصدوا الناس عن دين الله، يعني: أن الذي يلتحي إذا حلق لحيته يكون قد حقق هدفهم، وإذا ترك الصلاة، وإذا شرب الخمر يقال عليه: إنه استقام حاله واستقام سيره؛ لأنه شرب الخمر، وصاحب البنات، وتخلى عن دينه وعن التزامه ولذا يعامل معاملة جيدة، وأما حينما تتمسك بدينك فإنك تضطهد، فهذه فتنة، وهذا ابتلاء، كما قال عز وجل: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] فلماذا كل سلعة نقصدها ندفع أغلى ثمن في سبيلها، والجنة التي هي أغلى سلعة لا تشترى؟ فأنت مطالب بأن تدفع ضريبة هذه الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فالصبر على هذا الأذى والثبات على هذا الدين شيء يسير جداً في جانب جنة عرضها السماوات والأرض، يعني: كم ستصبر على هذا البلاء؟ وكم ستعيش؟ مائة سنة؟ فاصبر على أذى الخلق وتصبر على دينك وعلى طاعة ربك، ومهما لقيت من أذى فاصبر صبراً طويلاً ثم بعد ذلك تنال الظفر العظيم بجنة الرضوان. يقول: والملتفت لنعيق الباطل كالظبي، والظبي أشد سعياً من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه. يعني: أن الظبي أسرع من الكلب، ولكن مشكلة الظبي أنه يلتفت إلى الكلب إذا أحس به، ولو مضى في طريقه لنجا منه؛ لأنه أسرع من الكلب ولن يدركه، لكن لأنه يتوقف ويلتفت وينشغل به يدركه الكلب فيأكله. وفي هذا المعنى يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى: أخي فامض لا تلتفت للوراء قميصك قد خضبته الدماء ولا تلتفت هاهنا أو هناك ولا تتطلع لغير السماء قوله: (ولا تلتفت للوراء) حقيقة تذكر أيضاً بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين أعطى الراية يوم خيبر لـعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقال له: (امض ولا تلتفت)، فأخذ علي الراية ثم بدا له أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء فانظر كيف فعل؟ حينما أراد أن يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام ثبت وجهه تلقاء الجهة التي قصدها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه، والأسهل إذا أردت أن تخاطب من هو خلفك أن تواجهه بوجهك، لكن احتياطاً لوصية الرسول: (ولا تلتف) رفع رأسه وهو في نفس الجهة وقال: يا رسول الله! علامَ أقاتل الناس؟ فقال: قاتلهم على كذا وكذا... إلى آخر الحديث. فالشاهد: قوله: ( لا تلتفت للوراء ) فما دمت قررت المضي والعمل للجنة ولسعادة الآخرة فلا تلتفت إلى الدنيا ولا تلتفت إلى قطاع الطريق إلى الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    أحوال خسيس الهمة

    هنا وقفة في هذا المقام مع أحوال خسيس الهمة، فنحن نتكلم عن صفات عالي الهمة، وبالضد تتبين الأشياء، فالإنسان المسمى بالحيوان الناطق هذا الكائن دائماً يكون في موضع تجاذب بين أخلاق وطباع العالم السفلي وبين صفات وصفاء العالم العلوي. فيحن ذاك لأرضه بتسفل ويحن ذا لسمائه بتصعد من كان عالي الهمة يسمو إلى أعلى والآخر يتثاقل إلى الأرض، وتجذبه ثقلة الأرض وجاذبية الأرض. يقول أحمد بن خضرويه : القلوب جوالة، فإما أن تجول حول العرش وإما أن تجول حول الحش، والحش: مكان الغائط والنجاسات. يعني: أن القلوب جوالة، فإما أن تجول حول العرش فتصعد وتسمو إلى المطالب العالية ومطالب الآخرة والجنة ورضا الله سبحانه وتعالى، وإما أن تجول حول الحش، وحول أماكن النجاسات. وقال بعضهم: نزول همة الكساح دلَّاه في جب العذرة. والكساح هو: الذي يتعامل مع المجاري والنجاسات وينظف هذه الأشياء، وهذا معناه: أنه لما كان هذا الشخص كسلاً عن أن يتعلم حرفة أو علماً ينتفع به يكرمه بين الناس لم يكن أمامه إلا النزول إلى الجب لتنظيفه من الغائط، فنزول همته جعله يتعامل مع هذه النجاسات. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج، والأشباح هي الأجسام، والأطيار أنواع، وليس ما أعد للاستفراخ كمن هيئ للسباق، فهذه الطيور التي تلد وتتكاثر وتتعاظم وتسمن ليست مثل التي تعدها وتهيئها للسباق. فشاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل سعي خلقه شتى، فمنهم من همته الأمور العالية ومنهم من همته دون ذلك. يقول الشاعر: خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريد فالقصعة والفتة والثريد غايتهم، فإذا رفض الإنسان الارتقاء إلى عليين وعشق الظلمة ومقت النور وأبى إلا أن يهبط بنفسه إلى وحل الشهوات فتمرغ بها وانحط إلى نزوات الحمر وسفاسف الأمور ونزغات الشياطين، وتثاقل إلى الأرض سقط إلى سجين وما أدراك ما سجين؟ وانحدر دون مرتبة ذوات الحوافر. يقول تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كثيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]. وقال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12] والأنعام تأكل لتسمن، كذلك هؤلاء يسمنون وينشغلون بالدنيا كي تأكلهم النار في النهاية، فهم كالأنعام ليس لهم هم إلا تحصيل الشهوات. كالعير ليس له بشيء همة إلا اقتضام القضب حول المذود فالعير وهذه البهائم ليس لها همة أبداً إلا في مأكلها، الجمل أو البقر أو الجاموس كل همتها أن تقتضم وتقتطع القضب وهو ما أكل من النبات المقطوع غضاً طرياً، كالحشائش وهذه الأشياء. والمذود هو معتلف الدابة. وكل هم أعداء الإسلام الآن هو أن يغرقوا شباب المسلمين في هذا اللهو الفارغ وفي هذه التفاهات والسذاجات، أو أن يشغلوهم بالشبهات، ولذلك خر كثير من الشباب صرعى للحياة وما يسمونه التنوير وهذه الحملات الشيطانية على دين الله سبحانه وتعالى التي أغرقوا فيها الأسواق بالشبهات وبالكتب التي تطعن في الدين، وعلى الجانب الآخر يفتح الباب على مصراعيه في الشهوات والانحرافات الخلقية والأغاني والموسيقى وحتى (الماكدونالد) و(الويندي) وحتى السندويتشات الأمريكية، فحتى الطعام صاروا يغزوننا به ويلهوننا بهذه التفاهات، حتى لا يبقى لنا همة عالية ولا يبقى لنا هدف في الحياة سوى تحصيل هذه الشهوات. وطبعاً حينما نرى ونلحظ الشباب المتسكع في الطرقات والفتيات المتبرجات المهتكات، والتفاهة التي تغمر معظم شباب هذا العصر نحس كم نجح أعداء الدين في إلهائنا بهذه التفاهات! وهذا طبعاً نلمسه ولا نضيع الوقت في تفصيله؛ لأنكم جميعاً تلمسون مدى الانحدار الذي وصل إليه الخلق عند هذا الشباب، وعن عاقبة النحر والذبح بعده، فهؤلاء أيضاً ساهون عما ينتظرهم في غدهم، وهم أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها وتتبع مالكها، وهذا هو وجه أفضلية الأنعام عليهم، كما قال عز وجل: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، لماذا أضل سبيلاً؟ ولماذا هذا الإضراب؟ لأننا إذا قارنا بين الأنعام وبين هؤلاء الكفار وجدنا الأنعام أفضل، فهم كالأنعام لأنهم يأكلون ويغفلون وهمهم الأكل والشراب والشهوات، مع الغفلة عن عاقبة النحر والذبح بعد ذلك، وأيضاً فالأنعام ساهية عما في غدها، لكنهم أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تدرك مضارها ومنافعها، فالحيوان البهيم يدرك المضار والمنافع ويحرص دائماً على أن يجلب المنفعة وأن يدفع الضرر، وأنت لو حاولت أن تقتل نملة أو أي حشرة فإنها ستقاوم وتهرب وتفر وتقفز.. وغير ذلك وهي ليس عندها عقل، لكنها مع عدم وجود العقل ألهمت الحرص على جلب المنفعة ودفع المضرة، فالنمل أو النحل لو تفكرت فيها تجد أنها تعمل للمستقبل، فالنمل يدخر الطعام في الشقوق لأجل الشتاء، وهذا تخطيط اقتصادي بعيد المدى، وهكذا عجائب النحل، وغير ذلك من عجائب خلق الله، فحتى هذه العجماوات تدرك مصالحها فتحرص على تحصيلها، وتعرف أيضاً المضار وتحرص على اجتنابها، ومع ذلك أيضاً هذه الأنعام تتبع مالكها؛ لأنه سيدها ومالكها فتتبعه، وأما هؤلاء فبخلاف ذلك لا يتبصرون ما ينفعهم وما يضرهم، وفي نفس الوقت يتمردون على خالقهم وبارئهم ومالكهم سبحانه وتعالى. ولذلك قال عطاء : الأنعام تعرف الله والكافر لا يعرفه. يعني: أن الأنعام تعرف الله عز وجل كما قال سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، والكافر لا يعرف الله سبحانه وتعالى. ووصف سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه المشركين فقال: (رأيت قوماً ليس لهم فضلاً على أنعامهم، لا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك ويشتهون كشهوتهم!). وإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إياكم والبطنة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة). والبطنة: التخمة وكثرة الأكل، فهذا من مضار الوزن الثقيل والبطنة والاشتغال بالشواغل. والناس الآن أصبح همهم الأول استيفاء الشهوات بأقصى ما يمكن، وتحصيل الطعام الكثير، ثم الهم الآخر هذه التفاهات الموجودة في أن أحدهم صار همه إنقاص الوزن والرشاقة والقوام وغيرها من الاشتغال بهذه الأشياء، مع أنه ينبغي أن تمتنع من الأكل ابتداءً أو تقتصد في الأكل، ولا تحتاج إلى الكلام في إنقاص الوزن وغير ذلك والأمراض التي تليها، فهذه أيضاً كأنها عقوبة، فكل همهم أن يأكلوا ثم بعد ذلك يهمون كيف يتخلصون من الأكل الكثير. وقد وصف الشاعر رجلاً أكولاً يستغرق حياته في نهمه وشهواته، فقال في شأنه: عريض البطان جديد الخوان قريب المراث من المرتع فنصف النهار لكرياسه ونصف لمأكله أجمع وقوله: (عريض البطان) أصل البطان هو: حزام القتب الذي يجعل تحت بطن الدابة. والمعنى أن حزامه واسع جداً؛ ولشدة كبر بطنه وامتداد كرشه فإنه يستعمل حزاماً عريضاً طويلاً، وهذا تعبير عن السمنة. وقوله: (قريب المراث من المرتع) المراث هو: مكان الروث، فكما أن البهيمة ترتع في المرعى ومكان الروث يكون قريباً من نفس المرعى، فكذلك نفس هذا الشخص يحرص جداً على أن يكون مكان قضاء الحاجة قريباً من حجرة الطعام. وقوله: (فنصف النهار لكرياسه) الكرياس هو: الكنيف الذي يكون مشرفاً على السطح بقناة إلى الأرض، فهذا هو وصفه. وقوله: (ونصف لمأكله أجمع) يعني: أنه نصف النهار يأكل والنصف الآخر يكون في هذا المكان. وعن محمد بن الحنفية قال: من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا. وقيل لـمحمد بن واسع : إنك لترضى بالدون؟ قال: إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا. يا خاطب الدنيا إلى نفسها تنح عن خطبتها تسلم إن التي تخطب غرارة قريبة العرس من المأتم وسفلة الهمم هؤلاء هم الذين أخبر عنهم الصادق المصدوق بقوله: (وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعاً، لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، فيصف الرسول عليه الصلاة والسلام خمسة من أهل النار، ويذكر من هؤلاء الخمسة: الضعيف الذي لا زبر له، يعني: لا عقل له يمنعه ويزجره عما لا ينبغي. وقيل: هو الصعلوك الذي لا مال له. قوله: (الذين هم فيكم تبعاً) يعني: يرضون أن يكونوا دائماً ذيولاً في المؤخرة، قوله: (لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، فأحدهم يحرص دائماً أن يفر من المسئولية، ولا يريد زوجة ولا يريد أولاداً ولا يريد أن يسعى في مصالحه، لكن يريد دائماً أن يرضى بالدون وأن يكون تابعاً، فهو قانع بكونه ذليلاً ومسبوقاً وتابعاً وفاراً من المسئولية وتبعتها، ففيهم يقول الشاعر: شباب قنع لا خير فيهم وبورك في الشباب الطامحينا فهؤلاء هم الغثاء الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). وفيهم قال الشاعر: وأفتح عيني حين أفتحها فأرى كثيراً ولكن لا أرى أحدا فهم كسقط المتاع، موتهم وحياتهم سواء. وفيهم يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: لا يدرون لمَ خلقوا، ولا المراد منهم، وغاية همتهم حصول بغيتهم من أغراضهم، ولا يسألون عند نيلها ما اجتلبت لهم من ذم. يعني: أنه حتى لو نال شهوته ومراده مع الذم فإنه يقول: ليس مهماً، المهم أن أعيش وأنال ما أريد من مقاصدي، وحتى ل

    واقع همة كثير من أبناء الأمة الإسلامية

    قرأت في مجلة هذه المقالة فأعجبتني ووجدتها مناسبة أن ندرجها في كلامنا هذا، يقول الكاتب:

    لقيت اليوم صديقنا فلان الزعيم السياسي القدير فإذا هو على غير عادته منشرح الصدر، مفتر الطرف ضاحك الأسارير، فقلت له: أراك اليوم على غير عادتك طلقاً نشيطاً بادي السرور، قال: ومالي لا أكون كذلك وقد أحرزت في هذا اليوم ثلاثة انتصارات. قلت: لك الحق إذاً في تهللك وفرحك فنحن في زمان لا نكاد نظفر فيه بانتصار واحد بين مئات الهزائم، ولكن قل لي: ما هذه الانتصارات إن لم تكن سراً من الأسرار؟ قال: أما الانتصار الأول فقد دخلت غرفة نومي منذ ثلاثة أيام ذبابة أزعجت نهاري وأرقت ليلي وقد حاولت جهدي طردها أو قتلها فلم أفلح إلى أن ظفرت بها هذا اليوم فقتلتها شر قتلة وألقيتها حيث لا يمكن أن تعود حتى لو عادت إليها الحياة! قلت: والانتصار الثاني؟ قال: الانتصار الثاني شعرت به وأنا أزن نفسي في الحمام إذ هبط وزني من تسعة وتسعين كيلو إلى ثمانية وتسعين وسبعمائة وخمسين جراماً! قلت: والانتصار الثالث؟ قال: لعبت اليوم بالنرد -الطاولة- مع صديقنا فلان فغلبته مرتين متواليتين، وهو الذي كان يغلبني باستمرار! أفتراني بعد ذلك كله حقيقاً بما أنا عليه من السعادة والطلاقة والمرح؟! قلت: بلى بلى!

    يقول الكاتب: وتابعت طريقي بأسىً بالغ وألم عميق وحزن غامر عليه وعلى أنفسنا معه، لقد سحقنا وعزلنا عن ميادين الحياة الجادة الطغيان الداخلي والخارجي المحلي والدولي، وفاتتنا الانتصارات الكبرى فشغلنا أنفسنا وعوضنا مطامحنا والتمسنا الراحة والمتعة والرضا بمثل انتصارات هذا السياسي الكبير القدير، أو بما لا يختلف عنها بالجوهر وإن اختلف بالشكل والعنوان، أليس هذا ضرباً من الجنون أو الموت المعنوي الذي يصنعه الطغيان؟! أليس الموت المادي الحقيقي أفضل من مثل هذه الحياة؟! فهل يتصور أن مسلماً يعيش في هذه الانتصارات؟! ودعك من انتصارات الكرة فكأنها حروب، وهكذا الرياضات والفن صار البطل هو بطل التمثيلية أو المسرحية أو الفلم! وصار الراقصات وهؤلاء الفساق هم النجوم! فهذه هي الانتصارات! وهذه هي ما يشجع باسم الفن والرياضة وغير ذلك من التفاهات التي يريدون إغراق الأمة بها؛ كي لا تنهض إلى هدف أسمى ولا تدرك حقيقة ذاتها، فالمسلم يقول الله فيه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] فالمسلم يفخر بهذا، وهم الآن يريدون أن يصلوا بنا إلى أننا لا نظهر فخرنا بدنيا، وإذا سئلت: أنت مسلم؟ أو إذا أظهرت شيء من الدين تكون مستخذياً متبرئاً تريد أن تقول للناس: أنا لست متطرفاً.. أنا لست إرهابياً.. أنا لست كذا، وكأنك في موقف الدفاع، وكأن الانتساب للإسلام شيء يجلب الخزي والعار وليس العزة والاستعلاء على الباطل وعلى أهله، فهذا هو ما يقصدونه: أنك تفقد هويتك وتفقد اعتزازك بإسلامك ولا تفتخر به، بل تشعر بالخزي والخذلان وأنك مضطهد وأنك مطارد في كل مكان، وأنك حيثما حللت ينظر الناس إليك على أنك إنسان غريب، ويتهمون المتمسكين بالدين بأنكم أنتم الذين تقتلون، وأنتم الذين تفسخون النساء وتتزوجونهم من أزواجهن، وهؤلاء هم الذين يكفرون الناس، وهذا كله المقصود منه: أن تشعر بالاستخذاء وبالدونية وبالنقص، وبالتالي يقتلون فيك الاعتزاز بهذا الدين، فهذا هو هدفهم الذي ينبغي أن نكون واعين به.

    يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لا شيء أقبح بالإنسان من أن يكون غافلاً عن الفضائل الدينية والعلوم النافعة والأعمال الصالحة، فمن كان كذلك فهو من الهمج الرعاع، الذين يكدرون الماء، ويغلون الأسعار، إن عاش عاش غير حميد وإن مات مات غير فقيد، فقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء ولا تستوحش لهم الغبراء.

    وقال أيضاً في الذين حرموا العلم والبصيرة والهمة والعزيمة: هم الموصوفون بقوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22]، وبقوله: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، وبقوله: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ [النمل:80]، وبقوله: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]. قيل: ( من في القبور ) يعني: أجسادهم قبور لهم.

    وهذا الصنف شر البرية، ورؤيتهم قذى العيون، وحمى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار، وعند أنفسهم أنهم يعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، وينطقون ولكن عن الهوى ينطقون، ويتكلمون ولكن بالجهل يتكلمون، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، ويعبدون ولكن من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويجادلون، ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق، ويتفكرون ويبيتون ما لا يرضى من القول، ويدعون، ولكن مع الله إلهاً آخر يدعون، ويحكمون، ولكن حكم الجاهلية يبغون ويقولون: إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، فهذا الضرب ناس بالصورة وشياطين بالحقيقة، وجلهم إذا فكرت فهم حمير أو كلاب أو ذئاب، وصدق البحتري في قوله:

    لم يبق من جل هذا الناس باقية ينالها الوهم إلا هذه الصور

    ليس فيهم من الإنسان إلا الشبح وإلا هذه الصور، وقال آخر:

    لا تخدعنك اللحى والصور تسعة أعشار من ترى بقر

    في شجر السدر منهم مثل لها رواء وما لها ثمر

    فشجر السدر ضخم وكبير وذو منظر لكن ليس له ثمر فهو عقيم، وأحسن من هذا كله قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4] عالمهم كما قيل:

    زوامل للأسفار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر

    لعمروك ما يدري البعير إذا غدا بأحماله أو راح ما في الغرائر

    إن كان عندهم علم فهم لا يفقهون كمثل الحمار يحمل أسفاراً. يعني: أن البعير قد يحمل كماً كبيراً من كتب العلم على ظهره، لكنه لا يعيها ولا يفقهها، وأحسن من هذا وأبلغ وأوجز وأفصح قوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أسفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5]

    1.   

    أصدق الأسماء حارث وهمام

    الناس جميعاً مؤمنون وكفار لابد لهم من مراد يقصدونه ويتوجهون إليه، فلا يوجد إنسان إلا ولابد له من هدف، ولابد له من شيء يريده، على ذلك فطرهم الله، فالإنسان دائم الهم والإرادة، دائب العمل والحركة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أصدق الأسماء حارث وهمام) يعني: أصدق الأسماء التي تعبر عن الصفات المغروسة في البشر اسم حارث وهمام؛ لأن كل إنسان حارث، يعني: أنه عامل أو كاتب، وكل إنسان همام، أي: كثير الهم والإرادة، فالإنسان مجبول على أن يقصد شيئاً ويريده ويستعينه ويعتمد عليه في تحصيل مطلبه، فالمؤمن الموفق يكون مفتقراً إلى الله، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ [فاطر:15] فهو يريد الله سبحانه وتعالى بفطرته، وقد يريد الإنسان غير الله، فالإنسان لا يمكن إلا أن يكون له مراد يقصده ويتوجه إليه. والسبب في ذلك: أن الإنسان فقير إلى غيره محتاج إليه لكي يسد نقصه ويكمل عجزه ويحصل حاجته، وفقره هذا دائم لا يتوقف ولا ينقطع. فكل إنسان له مراد يريده وينجذب إليه، وهذا المراد إما أن يكون الله سبحانه وتعالى عند المؤمن وإما أن يكون الدنيا أو الشهوات أو المناصب أو الجاه أو محبوباً من المخلوقات وهكذا. ومن عجائب هذا الإنسان أنه إذا أراد وكان هدفه وغايته شيئاً من المخلوقات وحصل عليه فإنه يمله ويطلب غيره أو أكثر منه، فمادام شيئاً دون الله فإنك تجد القلب لا يشبع منه ولا يقنع به، بل دائماً يتحرك إلى ما هو أعلى أو إلى غيره، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى ثالثاً) فلو أن واحداً يريد المال والغنى والجاه فآتاه الله سبحانه وتعالى واديين من الذهب فإنه لن يقنع وسيقول: هذا لا يكفي، ثم يتطلع من جديد إلى المزيد. قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) يعني: لا يزال حريصاً على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره، إلا من وفقه الله وعصمه من الحرص المذموم، فالنفس الإنسانية دائمة التطلاب لما لم تحصل عليه ولم تصل إليه، وليس هناك من شيء يمكن أن يسد فقرها وحاجتها إلا أن تصل إلى ربها ومعبودها، فهذه هي المحطة التي إذا وصل الإنسان إليها يستقر قلبه ويشبع ولا يلتفت إلى غيره، فإن وصل العبد إلى ربه عند ذلك يجد القلب مطلوبه، يعني: أن القلب لا يطمئن ولا يسكن إلا إذا وصل إلى محبة الله سبحانه وتعالى وإرادته، وكل ما دون ذلك مهما ينال من محبوبات فهو يملها ويريد التحول عنها، فيكون الاطمئنان والراحة والهناء عند معرفة الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] أي: تسكن إذا ذكرت الله وعرفت الله سبحانه وتعالى. فليس هناك ما يمكن أن يجلب الطمأنينة إلا الوصول إلى الرب المعبود معرفة وقصداً وتوجهاً. ويعبر الإمام ابن القيم تعبيراً جميلاً عن هذا المعنى فيقول رحمه الله تعالى: لقد كان يسبي القلب في كل ليلة ثمانون بل تسعون نفساً وأرجح يهيم بهذا ثم يألف غيره ويسلوهم من فوره حين يصبح وقد كان قلبي ضائعاً قبل حبكم فكان بحب الخلق يلهو ويمرح فلما دعا قلبي هواك أجابه فلست أراه عن خبائك يبرح وكم مشترٍ في الخلق قد سام قلبه فلم يره إلا لحبك يصلح هوى غيركم نار تلظى ومحبس وحبكم الفردوس أو هو أفسح فيا ضيم قلب قد تعلق غيركم ويا رحمة مما يجول ويكدح والنفس في طلب مرادها مترقية متسامية تطلب الأكمل والأفضل، والكمال كله والفضل كله حازته الذات الإلهية، فإذا وجه الإنسان قصده وهمته لغير فاطره فإنه يشقى ولابد؛ لأن همومه تتعدد وغاياته تتشتت، فإذا لم يكن هم العبد هماً واحداً تقاسمته هموم الدنيا، فعند ذلك لا يدري إلى أين يسير، ولا كيف يتجه، فمرة يشرق ومرة يغرب ومرة يعبد صنماً وأخرى شمساً وقمراً، ويحاول إرضاء هذا مرة وذاك مرة، والذي رضي عنه قد يغضب عليه، والذي زين له العمل قد يستقبحه منه بعد حين فيئول الأمر به إلى الصراع والقلق الروحي والعقد النفسية وقد ينتهي به إلى الانتحار. أما المسلم فغايته واحدة، ومنهجه الذي يؤدي إلى هذه الغاية واحد، وهو قادر على أن يرضي الله ويسير على هداه، وبذلك تتوحد همته ويتحقق مطلوبه؛ لأن إرضاء الله مأمور ومقدور، فأنت مأمور بإرضاء الله، وأنت تقدر على أن ترضي الله وأن تتبع شرعه في طاقتك كما قال عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] لكن إرضاء غير الله لا مقدور ولا مأمور، بمعنى: أنه لا يمكن أبداً أن تستطيع أن ترضي كل الخلق، فإذا فعلت فعلاً معيناً فإنه يرضى عنك البعض ويغضب عليك الآخرون، وإذا أرضيت هؤلاء يسخط هؤلاء، وإذا فعلت العكس يسخط فريق ويرضى فريق، فإرضاء المخلوق غير مقدور وغير مأمور، فلا تبال بإرضاء الناس واجتهد في إرضاء الله سبحانه وتعالى يتكفل لك بكل أمورك، أما إرضاء الناس فإنه غير مقدور وغير مأمور، فلا الله أمرك أن ترضي الناس ولا أنت مكلف بذلك، ولا هذا يقع لأحد، حتى الأنبياء لم يتفق عليهم البشر، فمنهم من كذبهم ومنهم من آمن بهم، فاجتماع الخلق ورضى الناس كلهم على شيء معين هذا لا يمكن أن يقع حتى للأنبياء عليهم السلام. فإرضاء الخلق غير مقدور وغير مستطاع وغير مأمور به وأنت غير مكلف به، لكن إرضاء الله مقدور ومأمور، فأنت تقدر عليه وأنت مأمور به، بجانب أنك إذا أرضيت الله أرضى عنك الناس كما سيأتي، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت نيته الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له) يعني: أن الرزق لا يأتي به حرص حريص ولا يرده كراهية كاره، فأنت ترزق رغم أنفك حتى لو كنت ترفض هذا الرزق مادام مكتوباً لك، يقول صلى الله عليه وسلم في معنى الحديث: (لو أن رجلاً يفر من رزقه كما يفر من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت) لو أنك تهرب من الرزق كما تهرب من الموت لأدركك الرزق كما يدركك الموت لا محالة. فالشاهد: أن الإنسان إذا جعل همه هماً واحداً هو إرضاء الله سبحانه وتعالى فإنه يكافأ هذه المكافئة: (جعل الله غناه في قلبه) ولاشك أن غنى القلب هو أعلى أنواع الغنى. قال عليه الصلاة والسلام: (جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة) أي: وهي ذليلة، لكن من كانت نيته طلب الدنيا، ومع أنه يحرص على الهروب من الفقر بالسعي الحثيث وراء الدنيا، لكنه لما جعل هدفه الدنيا وليس الله كانت عقوبته: (ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه أمره، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له). يقول الشاعر: ومشتت العزمات ينفق عمره حيران لا ظفر ولا إخفاق فهذه هي نتيجة التشتت، لكن إذا وحدت هدفك وجعلت هدفك هو الله وإرضاء الله والالتزام بشرع الله وتحقيق العبودية لله فالله سبحانه وتعالى يكفيك كل ما أهمك، وكل أمورك ييسرها الله سبحانه وتعالى لك ويأتيك رزقك مباركاً وتنجو من آفات طلب الدنيا.

    1.   

    علوية الروح وسفلية البدن

    يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: خلق بدن ابن آدم من الأرض، وروحه من ملكوت السماء، وقرن بينهما، فإذا أجاع بدنه وأفقره وأقامه في الخدمة وجدت روحه خفة وراحة فتاقت إلى الموضع الذي خلقت منه واشتاقت إلى عالمها العلوي، وإذا أشبعه ونعمه ونومه واشتغل بخدمة البدن وراحته أخلد البدن إلى الموضع الذي خلق منه، فانجذبت الروح معه فصارت في السجن، فلولا أنها ألفت السجن وتعودت عليه لاستغاثت من ألم مفارقتها وانقطاعها عن عالمها العلوي الذي خلقت منه كما يستغيث المعذب، وبالجملة فكلما خف البدن لطفت الروح وخفت وطلبت عالمها العلوي. وهذا يحسه الإنسان في الصيام والاشتغال بالذكر فإنك إذا اشتغلت بذلك تجد خفة البدن وكأنك تشعر أحياناً أنك لو سقطت من مكان عالٍ تكون كالريشة من خفة شعورك بالخفة في بدنك. يقول: وكلما ثقل وأخلد إلى الشهوات والراحة ثقلت الروح وهبطت من عالمها وصارت أرضية سفلية، فترى الرجل روحه في الرفيق الأعلى وبدنه عندك، يكون نائماً على فراشه وروحه عند سدرة المنتهى تجول حول العرش، وآخر واقف في الخدمة ببدنه وروحه في السفل تدور حول السفليات، فإذا فارقت الروح البدن التحقت برفيقها الأعلى أو الأدنى حسب الرفيق، فعند الرفيق الأعلى كل قرة عين وكل نعيم وسرور وبهجة ولذة وحياة طيبة، وعند الرفيق الأسفل كل هم وغم وضيق وحزن وحياة نكدة ومعيشة ضنك، يقول تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124] فذكره: كلامه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، والإعراض عنه: ترك تدبره والعمل به، والمعيشة الضنك: أكثر ما جاء في التفسير أنها عذاب القبر. قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهم وفيه حديث مرفوع، وأصل الضنك في اللغة: الضيق والشدة، وكل ما ضاق فهو ضنك، يقال: منزل ضنك وعيش ضنك، فهذه المعيشة الضنك في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة، فإن النفس كلما وسعت عليها ضيقت على القلب حتى تصير معيشة ضنكاً، وكلما ضيقت عليها -يعني: شهواتها- وسعت على القلب حتى ينشرح وينفسخ، فضنك المعيشة في الدنيا بموجب التقوى سعتها في البرزخ والآخرة، وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضنكها في البرزخ والآخرة، فآثر أحسن المعيشتين وأطيبهما وأدومهما وأشق البدن بنعيم الروح، ولا تشق الروح بنعيم البدن، فإن نعيم الروح وشقاءها أعظم وأدوم، ونعيم البدن وشقاؤه أقصر وأهون، والله المستعان. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756624154