إسلام ويب

وصف الجنانللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أعد الله عز وجل لعباده المتقين المؤمنين المحسنين جنات عرضها السماوات والأرض، ورغبهم فيها، وقد وصفها سبحانه -ووصفها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أنه دخلها ليلة الإسراء والمعراج، ورأى قصورها وأنهارها وثمارها وحورها- وصفاً دقيقاً، كأن من يستمع إليه يراها رأي العين.

    1.   

    وصف الجنة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً. وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الكريم المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة، سلسلة علمية كريمة جمعت بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، كان هدفي من ورائها: أن أجدد الإيمان في قلبي وفي قلوب إخواني وأخواتي في الله جل وعلا، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانحرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات؛ ليتداركوا ما قد فات قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. ونحن اليوم -بحول الله وطوله- على موعد مع اللقاء الأخير من لقاءات هذه السلسلة الكريمة المباركة. وكنّا قد توقفنا في اللقاءين الماضيين مع أحوال الناس في المرور على الصراط، فمنهم من يمر على الصراط كالبرق، ومنهم من يمر عليه كطرف العين، ومنهم من يمر عليه كالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناجٍ مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس في نار جهنم. فإذا ما نجى الله أهل الإيمان من النيران، وعبروا الصراط بأمن وأمان؛ انطلق بعد ذلك أهل التوحيد والإيمان إلى جنة الرحيم الرحمن، وقبل أن ينطلق المؤمنون إلى الجنة فإنهم يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار؛ ليطهرهم الله جل وعلا من المظالم التي كانت بينهم في الدنيا. ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خلص المؤمنون -أي: من النار- حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار؛ ليقتص الله عز وجل من المظالم التي كانت بينهم، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، يقول المصطفى: فوالذي نفسي بيده! لأحدهم أهدى -أي: أعرف- بمنزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا). أي: أنهم ينطلقون مباشرة إلى الجنة، وكل واحد يعرف بيته ودرجته، ولا يحتاج أحد من أهل الإيمان والجنان أن يستفسر عن بيته من أحد آخر. يقول ابن عباس : (فينطلقون إلى بيوتهم في الجنة، كما ينطلق أهل الجمعة بعد الجمعة إلى منازلهم). أيها الأحبة! تعالوا بنا لندخل الجنة مع هؤلاء بأرواحنا وقلوبنا، سائلين المولى جل وعلا أن يجمعنا فيها بحبيبنا ونبينا؛ إنه ولي ذلك ومولاه. والحديث عن الجنة حديث طويل ذو شجون، إنه حديث يحرك القلوب إلى أجل مطلوب، إنه حديث يشوق النفوس إلى مجاورة الملك القدوس، وسوف أركز لنركز الحديث في هذا الموضوع الرقيق الجميل في العناصر التالية: أولاً: وصف الجنة. ثانياً: أدناهم منزلة وآخرهم دخولاً. ثالثاً: نعيم أهل الجنة. رابعاً: هل رضيتم؟ وأخيراً: فما الطريق إلى الجنة؟ فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يجعلننا من أهل الجنان، وأن يجمعنا فيها بسيد ولد عدنان؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو الرحيم. أولاً: وصف الجنة. أحبتي الكرام! لا يجوز لنا بحال مهما جنح بنا الخيال أن نتكلم كلمة في وصف الجنة إلا بآية من آيات الكبير المتعال أو بحديث من أحاديث سيد الرجال؛ لأن الجنة غيب لا ينبغي للمخلوق أن يتكلم عنها إلا بآية أو حديث، ولا يستطيع أحد بحال مهما صدح به الخيال أن يتصور جنة ذي العظمة والجلال؛ فنعيم الجنة فوق الوصف، ويقصر دونه أي خيال، فتعالوا بنا لنعيش مع آيات القرآن، ومع كلمات النبي عليه الصلاة والسلام؛ لنعيش في هذه اللحظات بأرواحنا وقلوبنا في جنة ربنا إلى أن يمن الله سبحانه وتعالى علينا لنستقر فيها بأبداننا وأرواحنا، برحمته ومنته؛ إنه على كل شيء قدير. نقول في وصف الجنة بما يقول فيها ربنا؛ فإنه هو خالقها، وهو الذي غرس كرامتها بيديه لأوليائه، ونقول فيها بقول نبينا الذي رأى الجنة وشاهدها مشاهدة العيان، فنبينا دخل الجنة ليلة الإسراء والمعراج ورآها بعينيه، ونبينا رأى الجنة في الدنيا، ففي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الكسوف ثم فعل أمراً لم يفعله من قبل، مد يده وكأنه يريد أن يأخذ شيئاً، ثم تركه وتقهقر -أي: تأخر- فلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأنهى صلاته قال له الصحابة: يا رسول الله! رأيناك فعلت شيئاً لم تفعله، رأيناك تناولت شيئاً ثم تقهقرت، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: إني رأيت الجنة، وتناولت منها عنقوداً -أي: من فاكهتها وثمارها- ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا). أي: لأكلتم من هذا العنقود الواحد ما بقيت الدنيا.

    قصور الجنة وبناؤها

    في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أدخلت الجنة -أي: ليلة الإسراء والمعراج -فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ -أي: القباب العالية من اللؤلؤ- وإذا تربتها -أي: طينتها- المسك). فربنا هو الذي يصف لنا الجنة؛ لأنه خالقها، ونبينا هو الذي يصف لنا الجنة؛ لأنها دخلها ورآها بعينيه في الدنيا، دخلها ليلة الإسراء والمعراج؛ وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لأمته عن نعيم الجنة هو حديث من رأى بعينيه، وسمع بأذنيه؛ وليس الخبر كالمعاينة. فاسمع ماذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم! سأل الصحابةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم الجنة فقال الحبيب: (الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة -أي: طوبة- وملاطها المسك الأذفر، وتربتها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت والمرجان، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم). فلا تبلى الثياب في الجنة، ولا ينتهي الشباب في الجنة، ولا ينقطع النعيم في الجنة. وأرجو أن تجنح معي وأن تتصور كلمات الصادق الذي لا ينطق عن الهوى حين وصف لنا بيتاً في الجنة من لؤلؤة مجوفة، تصور معي بيتاً من لؤلؤة مجوفة! وتصور معي قصراً مبنياً من الذهب الخالص! كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: (نزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فرأى خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال جبريل للمصطفى: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتت فأقرئها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب أي: قصب اللؤلؤ، وليس ما يتبادر إلى أذهاننا من النبات المعروف- لا صخب فيه ولا نصب)، أي: لا تسمع فيه خديجة ضوضاء، ولا تتألم فيه ولا تحزن، ولا ينتابها الهم أبداً. أما القصر من الذهب ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أدخلت الجنة -أي: ليلة الإسراء والمعراج- فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا لي: هذا القصر لفتىً من قريش -لشاب من شباب قريش- يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فظننت أني أنا هو -أي: ظن المصطفى أن هذا القصر له صلى الله عليه وسلم- فقيل لي: لا، هذا لـعمر بن الخطاب ، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم لـعمر : فأردت أن أدخله لأنظر إليه يا عمر فتذكرت غيرتك، فبكى عمر وقال: بأبي أنت وأمي! أو عليك أغار يا رسول الله؟!) فتصور معي بيتاً من لؤلؤة، وتصور معي قصراً كاملاً من ذهب خالص، فأي نعيم هذا؟!! وأي فضل هذا؟!! يعيش ملك من ملوك الدنيا أو أمير من الأمراء في قصر لو دخلت إليه لكاد -ورب الكعبة- أن يطيش عقلك. لقد دخلت قصراً في الإمارات لأمير من الأمراء دعاني إلى الزيارة، ورب الكعبة! لقد كاد عقلي أن يطيش، فقلت لإخوة معي: يا إخوة! هذا الذي نراه من إعداد البشر للبشر، فما ظنكم بإعداد رب البشر، في جنة لم يخطر نعيمها على قلب بشر؟! ففي الجنة بيت من لؤلؤة، وقصر من ذهب، وبناء الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة. ويزداد الجمال إذا عرفت أن هذه البيوت وهذه القصور تجري من تحتها الأنهار. تصور معي قصراً من ذهب فوق نهر، وبيتاً من لؤلؤة فوق نهر، إنه منظر عجيب! والأنهار: نهر من ماء، ونهر من لبن، ونهر من خمر، ونهر من عسل، قال عز وجل: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]، اللهم اجعلنا من أهلها. تجري هذه الأنهار من الماء، والأنهار من اللبن، والأنهار من الخمر، والأنهار من العسل، تحت هذه البيوت والقصور، ويزداد الجمال ويزداد الكمال ويزداد الحسن بالأشجار والظلال والثمار.

    أشجار الجنة وثمارها

    هل تعلمون أنه ما من شجرة في الجنة إلا وساقها من الذهب الخالص؟! فلا تظنوا أن شجر الجنة كشجر الدنيا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (شجر الجنة ساقها من الذهب الخالص). وفي الصحيحين عن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب -وليس الماشي- في ظلها مائة عام، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:30]). شجر الجنة لا ينقطع ثمره، ولا ينقطع عطاؤه، وأما شجر الدنيا فمنه ما يثمر في الصيف، ومنه ما يثمر في الشتاء، ومنه ما يثمر في الربيع أو في الخريف، لكن شجر الجنة دائم العطاء، ودائم الظل، ودائم الثمار، وتدبر معي قول الملك جل وعلا وهو يقول: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة:27-34] ثمر الجنة لا ينقطع، وظل الجنة دائم لا ينتهي، وبالجملة يقول عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال: اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]).

    1.   

    أدنى أهل الجنة منزلة وآخرهم دخولاً الجنة

    علينا أن نتدبر جميعاً؛ لكي نتعرف على نعيم آخر رجل يدخل الجنة؛ ليتضح لنا بعد ذلك نعيم أهل الدرجات العلى. روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى بن عمران -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- ربه جل وعلا وقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الله جل وعلا: يا موسى! ذلك رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ -يعني: ينطلق فيخيل إليه من كثرة أهل الجنة أن الجنة قد امتلأت، ولم يعد له مكان بين أهلها- فيقول الله جل وعلا: أما ترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول العبد: رضيت يا رب! رضيت يا رب! فيقول الرب: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فيقول العبد في الخامسة: رضيت يا رب! رضيت يا رب! فيقول الرب جل وعلا: لك ذلك وعشرة أمثاله معه، ولك فيها ما اشتهت نفسك، ولذت عينك). الله أكبر! هذه منزلة أدنى رجل في الجنة. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقال للرجل: تمن -أي: اطلب ما شئت وتمن- فيتمنى، فيقول الله عز وجل له: تمن، فيتمنى، فيقول الله سبحانه: لك ما تمنيت ومثله معه). هذا هو أدنى أهل الجنة منزلاً، فكيف يكون حال آخر رجل يدخل الجنة؟ في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آخر رجل يدخل الجنة رجل يمشي مرة -أي: على الصراط- ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، حتى إذا ما نجاه الله وعبر الصراط، التفت إلى النار من خلفه وقال: تبارك الذي نجاني منك، الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين -ولمَ لا وربنا جل وعلا يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]؟! -يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فترفع له شجرة من شجر الجنة، فإذا رآها العبد قال: أي رب! أدنني من هذه الشجرة -أي: قربني إليها- لأستظل بظلها، ولأشرب من مائها، فيقول الله جل وعلا: فهل لو أدنيتك منها ستسألني غيرها؟ يقول: لا، لا أسألك غيرها -وهل بعد هذا النعيم من نعيم؟- فيقربه الله منها، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، ثم ترفع له شجرة -أي: ثانية- هي أحسن من الأولى، فيقول العبد: أي رب! أدنني من هذه الشجرة لأستظل بظلها ولأشرب من مائها، فيقول الرب جل وعلا: يا بن آدم! ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير الذي سألت؟ فيقول: وعزتك! لا أسألك غيرها، فيقول الله جل وعلا: فهل لو قربتك منها ستسألني غيرها؟ يقول: لا، لا أسألك غيرها، فيقربه الله جل وعلا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، يقول الحبيب: ثم ترفع له شجرة -أي: ثالثة- عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فإذا ما رآها وسمع قال: أي رب! أدنني من هذه الشجرة، وعزتك لا أسألك غير هذه، فيقول الله: ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير الذي سألت، فيقول: وعزتك لا أسألك غيرها: فيقربه الله منها، فإذا ما اقترب منها وسمع أصوات أهل الجنة يقول: أي رب! أدخلني الجنة!! فيقول الرب: يا بن آدم! ما يرضيك مني؟ - أي: أي شيء يرضيك؟- أيرضيك أن تكون لك الدنيا ومثلها معها، فيقول العبد: أتهزأ مني وأنت رب العالمين؟!! وهنا ضحك ابن مسعود ، وقال لأصحابه: لمَ لا تسألونني: ممَ أضحك؟ قالوا: مم تضحك يا ابن مسعود؟! قال: أضحك لضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد ضحك النبي، فسئل: ممَ تضحك يا رسول الله؟! قال: أضحك من ضحك رب العزة، فإن العبد لما قال للرب: أتهزأ مني وأنت رب العالمين، يضحك الرب جل وعلا من عبده ويقول: لا أستهزئ منك، ولكني على ما شاء قادر). هذا هو آخر رجل يدخل الجنة. وأقول: الضحك صفة من صفات الحق جل وعلا، يجب علينا أن نؤمن بها كما جاءت في النص النبوي، من غير تحريف للفظها أو لمعناها، ومن غير تعطيل أو تكييف أو تمثيل، قال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فكل ما ببالك فالله بخلاف ذلك، جل الله عن الشبيه وعن النظير وعن المثيل، فلا ند له، ولا كفء له، ولا ولد له، ولا شبيه له، كما قال سبحانه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]. هذا هو حال آخر رجل يدخل الجنة.

    1.   

    نعيم أهل الجنة

    تفاوت نعيم أهل الجنة

    تدبر معي أيها الحبيب! في نعيم أهل الجنة، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعاً من أهلها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. نعيم أهل الجنة نعيم يفوق الوصف، ويقصر دونه خيال أي بليغ أديب مرهف الحس والمشاعر، وأرجو أن نعلم ابتداءً أن أهل الجنة في الجنة متفاوتون في النعيم، محال أن يكون أهل الإيمان بتفاوت إيمانهم ويقينهم في درجة واحدة، بل كل ينزل منزلة ودرجة في الجنة على حسب إيمانه ويقينه في الدنيا، قال الله جل وعلا: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:19-21]. كما فضل الله عز وجل أهل الدنيا في الدنيا بالدرجات، كذلك فضل الله عز وجل أهل الآخرة بالدرجات ((وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً)). فالناس متفاوتون في النعيم، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري : (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة). وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وتدبروا هذا الحديث الرقراق-: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري في الأفق من المشرق أو المغرب، فقال الصحابة: يا رسول الله! هؤلاء هم الأنبياء الذين لا يشاركهم في منازلهم أحد، فقال المصطفى: لا والذي نفسي بيده! إنهم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين). ولا شك أن أعلى منزلة وأرفع درجة في الجنة هي لنبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو : (إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي). فالوسيلة هي أعلى درجات الجنة، وهي لا تنبغي البتة إلا لعبد واحد، وهذا العبد هو حبيب الله المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو الذي ينزل وحده في هذه المكانة وفي هذه الدرجة، فأهل الجنة متفاوتون في النعيم.

    طعام أهل الجنة وشرابهم وفرشهم وثيابهم

    إن سألتني -أيها الحبيب الكريم- عن طعامهم وشرابهم وخدمهم وفرشهم وثيابهم، فلن أزيد عن كلمات كريمات طيبات، أتلوها من كتاب رب الأرض والسماوات، يبين لنا فيها ربنا جل وعلا نعيم أهل الجنة، وطعام أهل الجنة، وشراب أهل الجنة، وخدم أهل الجنة، وفرش أهل الجنة، فتدبر كلام خالق الجنة جل وعلا وهو يقول: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:22-26]. ويقول جل وعلا: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة:10-12]. وقال عز وجل: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الصافات:44]. وقال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة:17-23]. ويقول جل وعلا: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان:12-22].

    نساء أهل الجنة

    أما نساء أهل الجنة فوصفهن لا يقوى عليه بليغ، ولا يملكه أديب، فتعال معي لنسمع وصف خالق نساء الجنة. زوجتك التي معك الآن في الدنيا إن كانت من الصالحين ومن أهل الجنان فهي زوجتك كذلك في جنة الرحيم الرحمن، بعدما يهيئها ربها ويعدها إعداداً جديداً يليق بكمال الجنة وجمالها وحسنها، وسترى امرأتك في الجنة في ريعان الشباب، حتى ولو ماتت بعد المائة ستراها في الجنة في ريعان الشباب في الثلاثين من عمرها في غاية الحسن والجمال والجلال؛ لأن الكبير المتعال سينشئها لك إنشاءً جديداً يليق بحسن الجنة وجمالها. والمرأة في الجنة عروب، والعروب في لغة العرب: هي المرأة التي لا تحسن أبداً إلا أن تقول لزوجها كلاماً رقيقاً جميلاً، ولا تستطيع أن تقول كلمة سيئة. ونساء الجنة أتراب، أي: في سن واحدة، وهن لأصحاب اليمين. ومع نساء الدنيا يمن ربنا جل وعلا على أهل الجنة بالحور العين، والحور: جمع حوراء، والحوراء هي: المرأة الشابة الحسناء الجميلة شديدة سواد العين، والحور خلق ليس من جنس خلق بنات آدم وبنات حواء، بل إن الحور خلق يهيئه الملك الغفور لأهل الجنة، ولا يعلم حسنه إلا الله، يقول ربنا جل وعلا في وصف الحور في أواخر سورة الرحمن: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [الرحمن:70]، (خيرات) أي: لا يظهر منهن الشر أبداً، (حسان) أي: جميلات، فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:70-78]. تبارك الله أحسن الخالقين! ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في وصف الحور -والحديث في صحيح البخاري - (لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على الدنيا لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولنصيفها -أي: خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها). وفي رواية أحمد وأبي يعلى بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينظر أحدهم وجهه في خدها أصفى من المرآة، وإن اللؤلؤة الواحدة على رأسها لتضيء ما بين السماء والأرض). وفي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للمؤمن في الجنة خيمة طولها ستون ميلاً في السماء، له فيها أهلون يطوف عليهن لا يرى بعضهم بعضاً). وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل واحد منهم زوجتان -أي: من الحور- يرى مخ سوقهما من وراء الثياب من شدة حسنهن وجمالهن، قلوبهن كقلب واحد؛ لا تباغض بينهن ولا تحاسد، يسبحن الله بكرة وعشياً). إنه وصف عجيب! ومن أعجب ما قرأت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحور يستقبلن أزواجهن من أهل الجنة بالغناء بأحسن الأصوات؛ ما سمع أحد صوتاً أحسن منه قط)، ففي الحديث الذي رواه الطبراني من حديث ابن عمر ، وصحح الحديث الألباني في صحيح الجامع، قال: (وإن مما يتغنين به -أي: الحور- لأزواجهن في الجنة أن يقلن: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا نظعنه، نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرن بقرة أعيان). هذا بعض وصف النساء في الجنة.

    1.   

    هل رضيتم؟

    تدبر معي هذا العنصر من عناصر هذا اللقاء: هل رضيتم؟ لتعلم أن نعيم الجنة الحقيقي بعد كل هذا لا يساوي شيئاً إلى جوار أعلى وأعظم نعيم، وهل في الجنة ما هو أجل من هذا؟ وهل في الجنة ما هو أعلى من هذا؟ نعم، إن أعلى نعيم في الجنة ليس في لبنها ولا عسلها ولا مائها ولا خمرها ولا فضتها ولا ذهبها ولا حورها ولا قصورها، وإنما أعلى نعيم في الجنة هو في رؤية وجه ربها، قال عز وجل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله جل وعلا: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير بين يديك، فيقول ربنا جل وعلا: هل رضيتم؟ فيقول أهل الجنة: وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً). وجاء عن صهيب الرومي رضي الله عنه في صحيح مسلم عن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (فيكشف الحجاب)، ما الحجاب؟ حجاب من النور كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) هذا في الدنيا؛ لأن الناس في الدنيا ليسوا مهيئين، ولولا أن الله يهيئهم في الجنة للرؤية لوقع بهم ما وقع للجبل الذي تجلى له ربه فخر موسى صعقاً، فالله يهيئ أهل الجنة للرؤية، يقول: (فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا، وتلا قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26])، والحسنى هي الجنة وكل ما فيها من نعيم، والزيادة هي النظر إلى وجه ربنا الكريم. ولله در علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إذ يقول: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها وكم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها إن المكارم أخلاق مطهرة الدين أولها والعقل ثانيها والعلم ثالثها والحلم رابعها والجود خامسها والفضل باقيها لا تركنن إلى الدنيا وزينتها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها واعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن ناشيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أنهارها لبن مصفى ومن عسل والخمر يجري رحيقاً في مجاريها والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها فمن يشتري الدار بالفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل الجنان برحمته وكرمه؛ إنه الرحيم الرحمن، وبقي أن نتعرف في عجالة سريعة جداً على الطريق إلى الجنة، وذلك بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله تعالى، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    الطريق إلى الجنة

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! بقي أن نتعرف عن الطريق الموصل إلى الجنة، وأستطيع أن أضع بين أيديكم علامات ضوئية على هذا الطريق العظيم: أولاً: الإيمان بالله جل وعلا، فلا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة زكية، قال عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]. وقال: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73]. وقال: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]. ثانياً: العمل الصالح، فالعمل الصالح قرين الإيمان، لا ينفك ولا يخرج العمل أبداً عن حقيقة الإيمان، فالإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، كما فصلنا ذلك في شرحنا لصحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى. ثالثاً: من العلامات الضوئية على طريق الجنة: بناء المساجد، ففي صحيح البخاري من حديث عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة). وفي رواية أحمد : (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله ولو كمفحص قطاة -أي: ولو كان هذا المسجد بمقدار عش الطائر- بنى الله له بيتاً في الجنة). رابعاً: من أعظم الطرق التي توصل إلى الجنة: الجهاد، أسأل الله أن يرفع علم الجهاد، وأن يقمع أهل الزيغ والفساد. فالجهاد طريق إلى الجنة بلا نزاع، والأحاديث في ذلك كثيرة جداً، والجهاد ليس طريقاً إلى الجنة فحسب، بل إن الجهاد هو الطريق الوحيد بعد الإيمان والعمل الصالح لسعادة وكرامة الأمة وشرفها؛ فإنها تهان الآن أبلغ إهانة على أيدي كلاب الأرض من اليهود، فلا عز للأمة إلا إن صححت عقيدتها، وآمنت بربها، ورفعت راية الجهاد في سبيل الله جل وعلا، أسأل الله أن يرفع علم الجهاد، وأن يرزقنا جميعاً الشهادة في سبيله، إنه ولي ذلك والقادر عليه. للشهيد عند الله درجة عالية، ومنازل عظيمة، ويكفي أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر بأن للشهيد عند الله من النعيم أن يزوجه الله سبحانه وتعالى باثنتين وسبعين زوجة من الحور العين. خامساً: من العلامات أيضاً -وهي ميسرة للجميع للجاهل وللعالم، للأمي ولغير الأمي، للرجل وللمرأة- على طريق للجنة: ذكر الله وتسبيحه. روى الترمذي في سننه بسند حسنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقيت ليلة أسري بي إبراهيم عليه السلام، فقال إبراهيم للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! اقرأ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر). فهذا غراس الجنة، فاغرس لنفسك في الجنة، وذلك بقول: سبحانه الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هذا غراس الجنة فأكثر منه. سادساً: النوافل، وهذا أيضاً أمر يستطيعه كل مسلم ومسلمة، ففي صحيح مسلم من حديث أم حبيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى لله ثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة بنى الله له بيتاً في الجنة)، وفي لفظ لـأم حبيبة أيضاً: (أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة)، أي: قبل صلاة الصبح. فيا أيها الأحبة! إيمان بالله، واتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وجهاد في سبيله، وصبر على الشهوات، ومجاهدة للنفس الأمارة بالسوء، وسير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وحتماً ستلقى في نهاية هذا الطريق حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم منتظرك على الحوض؛ ليسقيك بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا تظمأ بعدها أبداً. اللهم اجعلنا من أهل الجنان، اللهم نجنا من النيران، اللهم برحمتك وفضلك اجعلنا من أهل الجنة يا رحمان! اللهم اجعلنا من أهل الجنة يا رحمان! اللهم تجاوز عن أخطائنا وزلاتنا وذنوبنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً معنا إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم ائذن في تحرير الأقصى برحمتك يا رحيم يا رحمان! اللهم عليك باليهود وأعوان اليهود وأتباع اليهود، اللهم شتت شملهم، اللهم مزق صفهم، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وضعف الموحدين، وإجرام المنافقين. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا برحمتك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وسائر بلاد الإسلام. اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي الكرام! هذا وما كان من توفيق في هذه السلسلة بطولها فمن الله جل وعلا وحده لا شريك له، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان في هذه السلسلة بطولها فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء. وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم بمثل هذا كله وأنساه. وأرجو من جميع إخواننا أن يعضوا بالنواجذ على أشرطة هذه السلسلة الكريمة، فأنا أعتقد الآن اعتقاداً جازماً بأن الأمة بكل طوائفها بحكامها وعلمائها ورجالها ونسائها وأطفالها في أمس الحاجة في هذا العصر الذي طغت فيه الماديات والشهوات إلى أن تسمع هذه السلسلة مرات ومرات ومرات. فأرجو من إخواننا أهل الفضل وأهل المال ممن منّ الله عليهم أن يتبنى كل غني سلسلة الدار الآخرة، وأن ينسخها في أشرطة، وأن يقوم بتوزيعها على السائقين، وعلى السيارات والمركبات، وعلى السيارات الكبيرة، وعلى المسئولين، وفي البيوت، وفي الجامعات وفي المدارس؛ فإننا الآن في عصر طغت فيه الشهوات طغياناً رهيباً، ونحتاج إلى من يجدد الإيمان في قلوبنا، وإلى من يذكرنا بكلام ربنا ونبينا، وبهذا اليوم الذي سنقف فيه بين يدي الله جل وعلا للسؤال عن الكثير وعن القليل يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]. وانطلاقاً من اعتقادنا أن الإسلام دين ودنيا، فإنني أعتقد أننا الآن في أمس الحاجة إلى أن نتعلم أخلاق الإسلام في معاملات الدنيا، ومن ثَّم فسأبدأ بإذن الله تعالى سلسلة منهجية جديدة أخرى، ابتداء من الشهر القادم إن قدر الله لنا البقاء واللقاء، والتي سوف تكون بعنوان: حقوق يجب أن تعرف. أسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وألا يجعل حظنا من ديننا قولنا.

    حقيقة الطريق إلى الجنة وماهيته

    السؤال الأخير الذي طرح في الخطبة: ما الطريق إلى الجنة؟ الجواب: الطريق إلى الجنة هو أوامر الإسلام ونواهيه وحدوده، أي: الامتثال للأمر، والاجتناب للنهي، والوقوف عند الحد، وبعد ذلك اذكر ما شئت من الأعمال، لكن هذا المعنى من حيث الجملة أنك تتمثل الأمر، وتجتنب النهي، وتقف عند حدود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات). (حفت الجنة بالمكاره) يعني: أن الطاعة ثقيلة على النفس، فالجنة محفوفة بالمكاره، أتصبر على المكاره؟ أتصبر على الطاعة؟ أتصبر عن المعصية؟ أتمتثل الأمر؟ أتجتنب النهي، وتقف عند حدود الله عز وجل؟ هذه هي المكاره التي تدخلك الجنة. أما النار فحفت بالشهوات، فهل تصبر عن الشهوات: شهوة الفرج، وشهوة البطن، وشهوة الجاه، وشهوة المنصب، وشهوات الدنيا كثيرة، وكذلك الشبهات. فالطريق إلى الجنة -يا إخواننا- محفوف بالمكاره، وهناك ابتلاءات على الطريق تحتاج منا إلى صبر، فنفسك لها رغبات لابد أن تصبر عنها، وأوامر لله لابد أن تمتثلها، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة). والحقيقة أن الجنة درجات، فإذا أردت أن تنالها فلابد أن تجتهد في طاعة الله عز وجل وفي طاعة رسوله. الذي يخطب امرأة من نساء الدنيا جميلة لو قال أبوها: يا فلان! نريد منك غرفة نوم، وشبكة بكذا، وشقة متكاملة بعشرين ألفاً مهراً، لقال: أنا مستعد، وأنا جاهز، هذا في امرأة من نساء الدنيا يصيبها الحيض والنفاس والبول وكل شيء! فكيف بنساء الجنة؟! ولو وقفت مع آيات القرآن في نعيم الجنة لطال المقام، وهناك مجلد كامل كبير للإمام ابن القيم بعنوان: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)، في هذا الكتاب فصّل المؤلف رحمه الله كل جزئية من جزئيات النعيم الواردة في القرآن والسنة، أما ما أخفاه الله فلا يعلمه إلا الله، وإنما هذا الذي ظهر في القرآن والسنة. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر -أول فوج يدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر- ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون).أي: صفتهم: أنهم لا يبولون ولا يتغوطون في الجنة. وربنا يقول: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا [الإنسان:14] يعني: القطوف والثمار في الجنة مذللة ميسرة قريبة دانية، فالشخص وهو متكئ على أريكته حينما يشتهي فاكهة معينة تجد الفاكهة مذللة بأمر الله عز وجل في يده. أما اللحم فيقول سبحانه: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:21]. والخمر من أعظم شراب الجنة، فالذي يمنع نفسه عن خمر الدنيا سيشرب في الآخرة من خمر الجنة، وخمر الجنة يقول ربنا فيها: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19] (لا يصدعون) يعني: لا يصاب من شربها بالصداع والهم والدوخة والدوار، بل هو خمر لذة للشاربين. إذاً: نأكل ونشرب، فكيف يخرج هذا الأكل والشرب؟! يقول عليه الصلاة والسلام: (يخرج الله عز وجل هذا الشراب والطعام رشحاً على البدن كالمسك)، أي: بدل ما يخرج من القبل والدبر في هيئة بول وغائط، فإنه يخرج مسكاً، فلا توجد مجاري هناك في الجنة، وإنما يخرج رشحاً كالمسك. وسبحان الله! في الدنيا تجد الإنسان يبذل الكثير من أجل نساء الدنيا مع ضعفهن، بينما الحور العين مع عدم البول والغائط ومع ذلك ليس عنده استعداد أن يبذل للآخرة، فكم نذكر في المحاضرات والدروس بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحرك الجبال، وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، ومع ذلك هناك أناس قلوبهم لم تهبط من خشية الله! وهؤلاء كما قال الله عز وجل: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74]. قال صلى الله عليه وسلم: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون)، فلا تفل ولا مخاط في الجنة، يا سبحان الله! شيء عجيب جداً! (لا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب)، والمشط ليس لتسريح اللحية؛ لأنه لا لحية في الجنة، ولا يوجد أحد يدخل الجنة بلحية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أهل الجنة مرد -يعني: بدون لحى- كحل)، أي: من غير كحل، (أمشاطهم الذهب، وأزواجهم الحور العين). فالذي يخطب الحور عليه أن يدفع المهر الآن في الدنيا، فما هو هذا المهر؟ إنه إيمان.. اتباع.. عمل صالح.. جهاد.. صلاة.. تسبيح.. عمارة مساجد.. مسارعة في الخيرات.. أمر بمعروف.. نهي عن منكر.. دعوة.. قيام ليل..قراءة قرآن.. صدقة.. بر والدين، كل هذا يندرج تحت العمل الصالح. طريق الجنة أنه إذا أمر الله عز وجل بأمر فما عليك إلا أن تمتثل وتقول: يا رب! سمعنا وأطعنا، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم تمتثل أمره وتقول: سمعاً وطاعة يا رسول الله! كذلك حدود رب العزة تجتنبها. فما أقل حياء من طمع في جنة الله ولم يعمل بطاعة الله! فقد يأتي رجل ويقول: يا رب! ارزقني الجنة وهو لا يعمل بطاعة الله! فأقول له: يا أخي! السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، صحيح أن الدعاء مخ العبادة، ومطلوب منك أن تدعو وأن تتضرع، لكن كيف تقول: يا رب! ارزقني الجنة، وأنت تفضل القهوة على المسارعة إلى الصلوات حين الأذان؟! وكيف تقول: يا رب! ارزقني الجنة، وأنت لا تصلي؟! هذا مستحيل، ولا تجد ذلك في آية من القرآن ولا في حديث من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام. الإيمان الذي يدخل صاحبه الجنة هو الإيمان الذي هو القول والتصديق والعمل، القول بأن تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وتصدق بقلبك وتعمل، تصلي بالليل وتبكي وتبقى خائفاً وتقرأ قرآناً وتسبح ربنا، وتبتعد عن الحرام، والنبي عليه الصلاة والسلام قد حذر من عدم التورع عن الحرام، فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم -: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!) يعني: كيف يستجاب له؟! فكل هذه علامات ضوئية توصلك إلى جنة رب البرية، لكن الإنسان إذا كان يتمنى الجنة على الله عز وجل من غير عمل ومن غير عقيدة صحيحة فهذا وهم، ومن الأماني الكاذبة. وإن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: إنا نحسن الظن بالله، وكذبوا؛ لأنهم لو أحسنوا الظن في الله لأحسنوا العمل، وهذا الكلام ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من الناس من ينسبه إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هذا من كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى. فيجب علينا جميعاً -أيها الأحبة الكرام- أن نعلم يقيناً أن الجنة تحتاج إلى رجال، وتحتاج إلى أبطال، وتحتاج إلى أطهار، وتحتاج إلى أبرار، وتحتاج إلى أُسُود، وفي نفس الوقت زهاد عباد. وقد كان الواحد من السلف يظل في بيته في الليل يصلي قيام الليل، ولكن الآن الأمة بأسرها تركت ذلك إلا عدداً قليلاً جداً ممن يقوم الليل، وممن يصلي لله جل وعلا، ويقف بين يديه، ويتضرع ويتذلل له سبحانه، بل بعضهم حتى الفجر يضيعه، ثم تراه يقول: يا رب! ارزقني الجنة! وكذلك صلاة العصر يضيعها ويطلب الجنة! ولا يتورع على الإطلاق من أجل أن يبني ويعمر أن يأكل الحرام، ثم يقول: يا رب! ارزقني الجنة! فيا إخواننا! الجنة سلعة غالية جداً، ومستحيل أن تشتري هذه السلعة إلا بأغلى مهر، والصحابة رضوان الله عليهم بشروا في الدنيا بالجنة، ليس بالأماني ولا بالكلام، وإنما بالعمل وبالرجولة، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام في أحد المعارك: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ويسمعه صحابي جليل وهو يأكل تمراً ويقول: جنة عرضها السماوات والأرض! بخ بخ! فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ما الذي حَملك على قول بخ بخ يا عمير ؟ فقال عمير : لا، والله! يا رسول الله! إلا أني أرجو أن أكون من أهلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: أنت من أهلها). فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لـعمير هذه العبارة من فراغ، وإنما بعد أن عرف صدق عمير حين قال: (جنة عرضها السماوات والأرض! بخ بخ) فلذلك قال له: (أنت من أهلها)؛ ولذلك رمى بالتمرات عندما تذكر جلال وجمال هذه الجنة، فقال: (والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة) فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه. فالصحابة -يا إخوة!- لم ينالوا هذه الدرجة إلا بالكفاح، وبالجهاد، وبالمشقة، وبامتثال الأمر واجتناب النهي، وبالوقوف عند الحدود، وبالسمع والطاعة لله سبحانه وتعالى وللنبي صلى الله عليه وسلم؛ فيجب علينا أن نسلك هذا الدرب وهذا الطريق. ونسأل الله عز وجل أن يمن علينا وعليكم بجنته؛ إنه ولي ذلك ومولاه. أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755813415