إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [135]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يجب توحيد الله وتعظيمه، ومن ذلك الإيمان بأسمائه وصفاته، فإنها تدل على كمال الله وجماله وعظمته، ولا يلزم من إثباتها أي نقصٍ بوجه من الوجوه، وقد زعم أهل البدع ذلك، وأفسدوا عقائد المسلمين بشبهٍ بثوها فيهم، فقيّض الله لهم أئمة السنة يردون باطلهم، ويكشفون شبههم.

    1.   

    وجوب توحيد الله وتعظيمه

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] ].

    هذا الباب هو آخر الكتاب، أراد المؤلف أن يختم كتابه بذكر توحيد الأسماء والصفات صراحة، وقد سبق أن كل الأبواب التي ذكرها بعد قوله: (باب: ما جاء في احترام أسماء الله) تتعلق بتوحيد الربوبية، وهنا أراد أن يختم بتوحيد الأسماء والصفات.

    أقسام التوحيد

    التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

    1- توحيد العبادة.

    2- توحيد الربوبية.

    3- توحيد الأسماء والصفات.

    أما توحيد العبادة فهو إفراد الله بأفعال العبد التي يفعلها على وفق الشرع، فيجب أن يجعله واحداً، ويقصده ولا يقصد بعمله غير الله، فتوحيد العبادة يكون صادراً من العباد؛ لأنهم هم الذين يوحدون الله بأفعالهم التي يفعلونها، ويتقربون بها إلى الله جل وعلا، ولا يجعلون مع الله غيره، يعني: لا يقصدون بها غير الله.

    وهذا جاء الأمر به في القرآن في مواضع كثيرة جداً، وهو الذي وقع فيه النزاع بين الأمم ورسلهم، وهو الذي أبى أكثر الناس أن ينقاد إليه، تمسكاً بما عليه آباؤهم، وما وجدوا الناس عليه، كما قال الله جل وعلا عنهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]يعني: وجدنا آباءنا على دين يدينون به، وملة يتبعونها، فنحن نتمسك بها، ولما نهى هود عليه السلام قومه عن اتخاذ الآلهة رموه بالجنون وقالوا: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54]يعني: أصابت عقلك بخبل، كيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا وما وجدنا عليه الناس؟! فعدوا دعوته لهم جنوناً، فقال لهم: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55] تحداهم وقال: أنتم وآلهتكم إذا كان عندكم كيد وضر لي فأسرعوا به فلن تستطيعوا، فلو كانت آلهة لفعلت ذلك بهذا الذي يراغمها، وقد أخبر الله جل وعلا عنها بما هو أضعف من ذلك فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ [الحج:73] فلو أن الذباب أخذ شيئاً من هذه الآلهة التي تعبد فلن تستطيع هذه الآلهة أن تأخذه من هذا الذباب.

    والمقصود: أن توحيد العبادة هو الذي جاءت به الرسل صراحة، فكل رسول كان يقول لأمته: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:32] كل رسول قال هذا كما قص الله جل وعلا علينا ذلك في كتابه.

    القسم الثاني: توحيد الربوبية، ومعناه: أن يعتقد الإنسان أن الله هو الخالق وحده، المتصرف المدبر لكل شيء، المالك لكل شيء، وهذا لم ينكره أحد، بل سائر الناس يقرون به، وإنما أنكره أفراد معينون على وجه التعنت والجحود والتكبر والعناد فقط، مثل النمرود، ومثل فرعون الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ولكن لما أدركه الغرق قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]ولكن لم يفده ذلك؛ لأنه قاله بعد أن عاين الموت، وأيقن بالهلاك.

    والله جل وعلا أخبر أن فرعون وهامان وقارون -هؤلاء المتكبرون- استيقنوا أن ما جاء به موسى حق، وأنه جاء به من عند الله، ولكنهم تكبروا وعاندوا.

    وكذلك النمرود الذي أنكر على إبراهيم عليه السلام، ولما قال له إبراهيم: إن الله يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، فقال له إبراهيم عليه السلام: إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258]إن كنت صادقاً فبهت، وما استطاع أن يتكلم أو يجيب؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً مما يفعله الله جل وعلا.

    فالمقصود: أن توحيد الربوبية يقر به الناس عامة، والمشركون الذين يعبدون غير الله يقرون بتوحيد الربوبية ويقولون: إن الله هو الذي خلقهم، وهو الذي خلق من قبلهم، وهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي ينزل المطر وينبت النبات، وهو الذي يتصرف في الكون كما قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22] يعني: يعلمون أن الله هو الذي يفعل ما ذكر من كونه خلقهم، وخلق من قبلهم، وكونه جعل الأرض لهم فراشاً يتمكنون من المشي عليها والانتفاع بها، وجعل السماء بناءً، يرونها فوقهم بلا عمد، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات ما يأكلونه وتأكله أنعامهم، ويعلمون أن الله هو المتفرد بذلك، فإذا كانوا يعلمون أن الله هو المتفرد بهذا وجب عليهم أن يعبدوا الله وحده؛ ولهذا قال: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا يعني: في العبادة فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: أنه ليس معه من يتصرف بهذا الذي ذُكر أو غيره.

    وهذا في القرآن كثير جداً، يحتج الله جل وعلا على المشركين بما يقرون به من توحيد الربوبية على إبطال شركهم.

    وأما توحيد الأسماء والصفات فالله جل وعلا تعرَّف إلى عباده بما وصف به نفسه، وبما سمى به نفسه، فيجب أن يؤمن بما ذكره الله جل وعلا على حد قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقد ذكر الله جل وعلا صفات كثيرة، مثل أن له العلم الكامل الشامل، وله القدرة على كل شيء، وله السمع والبصر، وله الإرادة، وله الحياة، وله يدان كما قال الله جل وعلا: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64].

    وأخبر جل وعلا أنه يقبض السماوات والأرض يوم القيامة بيده، وتكون صغيرة حقيرة كما في هذه الآية التي ترجم بها المؤلف، وأخبر جل وعلا أنه حكم عدل لا يظلم أحداً، وأخبر جل وعلا أنه يعلم ما توسوس به النفوس، وأنه كتب كل شيء، وما أشبه ذلك من أوصافه الكثيرة التي ذكرها في كتابه.

    وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ذكر أشياء كثيرة جداً يصف بها ربه، وقد آمن بها صحابته بدون شك في ذلك أو تردد فيه، أخبرهم أن الله في السماء، وأخبرهم أنه مستوٍ على عرشه، وأخبرهم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة إذا بقي ثلث الليل الأخير، فيبسط يده للمسيء والتائب والمستغفر فيقول: هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من تائب فيتاب عليه ؟ هل من سائل فيعطى؟ إلى أن يطلع الفجر ، وأخبر بأشياء كثيرة، وكلها يجب أن نؤمن بها على ما جاءت بدون تأويل أو تعطيل، بل يكون الأمر مثل ما قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سأله سائل عن الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق، وصار العرق يتصبب منه، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء، فأمر به فأخرج من مجلسه؛ لأن هذا لا ينكره المؤمنون، ولا يسألون عن الكيفية: كيف يد الله؟ كيف سمع الله؟ كيف بصر الله؟ الكيفية ما تعقل إلا لمن يشاهدها ويراها، والله جل وعلا غيب لا أحد يراه، وليس كمثله شيء فيقاس عليه تعالى وتقدس، وإنما علينا أن نؤمن بما قاله الله رسوله صلى الله عليه وسلم، بلا تحريف ولا تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل بخلقه تعالى وتقدس.

    1.   

    قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره)

    قوله تعالى في هذه الآية: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] يعني: ما عظموه حق تعظيمه، إذ عبدوا معه غيره، إذ توجهوا بالعبادة إلى الأصنام، وإلى الرجال من الجن والإنس، وإلى الملائكة، وإلى بعض المخلوقات، صاروا يتوجهون إليها، ويجعلونها وسائط بينهم وبين الله، يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، فمن فعل هذا لم يقدر الله حق قدره.

    ثم ذكر شيئاً مما يجب أن يعلم عنه جل وعلا ويعظم به فقال: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] يعني: أن مخلوقاته -الأرض بما فيها والسماء بما فيها- كلها يقبضها بيده، فتكون صغيرة حقيرة بالنسبة إلى يده الكريمة جل وعلا، كما قال ابن عباس: السماوات ومن فيها والأرض ومن فيها إذا قبضها الله جل وعلا تكون بيده كالخردلة بيد أحدكم، ولله المثل الأعلى، فالله أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يجوز أن يتصور متصور أنه إذا قال ربنا جل وعلا: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أن معنى ذلك: أنه في جوف السماء، أو أن السماء تحويه، أو أنها تقله، أو تظله تعالى وتقدس، بل هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل..)، ينزل إلى السماء الدنيا وهو فوق عرشه، ولا يكون فوقه شيء لا سماء ولا غيرها، وكذلك إذا جاء يوم القيامة إلى الأرض ليفصل بين عباده كما قال بعد هذه الآية: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:68-69] وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا يعني: إذا جاء إلى الأرض ليقضي بينهم ويحاسبهم؛ فإنه يأتي إلى الأرض وهو فوق عرشه، وفوق السماوات كلها، وفوق كل شيء، ولا يمكن أن يكون فوقه شيء تعالى وتقدس، ولهذا يقول العلماء: إن علو الله وفوقيته عقلي شرعي، دل عليه العقل والشرع، وهو ثابت بالفطرة وبالعقل وبالشرع.

    أما الفطرة: فما تجد إنساناً من الناس إذا دعا ربه وقال: يا رب، إلا رفع يديه نحو السماء ثم يسأل ربه وهو يشير إلى فوق، ما يسأل ربه من تحت أو من يمين أو من شمال تعالى وتقدس، فهو فطر خلقه على معرفته بأنه فوق خلقه كلهم، كما قال جل وعلا: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، وكل من في السماء والأرض عباد له جل وعلا.

    المقصود أنه يجب أن يعظم الله ويعرف قدره، وأنه أكبر وأعظم من كل شيء، فقول المؤلف في هذه الآية: باب ما جاء في قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يقصد به: ما جاء من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الآثار عن الصحابة، وذكر قليلاً مما جاء بمعناه؛ ليحتذى حذوها، وتكون دليلاً يستدل به المسلم على معرفة ربه جل وعلا؛ لأن الله تعالى تعرف إلى عباده بأوصافه التي وصف بها نفسه، فعباده المؤمنون يعرفونه بما تعرف به إليهم في كتابه وعلى ألسنة رسله، لا ما يقوله الملحدون أهل الشك والريب، الذين يقيسون الرب جل وعلا على نفوسهم، وإن كانوا يزعمون أنهم ينزهون الله، لكن الواقع أنهم يشبهون الله بخلقه.

    ولهذا تجدهم ينفون الصفات ويقولون: إنها تدل على التشبيه، فهم ينفون يد الله ويقولون: إن الله ليس له يد، وليس له رجل، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يضع رجله جل وعلا في النار يوم القيامة عندما يقال لجهنم: هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30] فينتهي الخلق الذين أعدوا لها من الجن والإنس وهي لا تزال تطلب المزيد وتقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)؛ عند ذلك يضع الله جل وعلا فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتتضايق وتقول: قط قط، يعني: كفاني، فالله لا يظلم أحداً، فهو الجبار المتكبر الذي هو أكبر من كل شيء.

    1.   

    وجوب أخذ كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته

    يجب أن نؤمن بما قاله الله وما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، وعندنا قاعدة يجب على المسلم أن يعرفها، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله جل وعلا، وهو أغير الناس على الله، وأشدهم تعظيماً له، وهو -صلوات الله وسلامه عليه- أفصح الناس، وأقدرهم على البيان، وهو كذلك -صلوات الله وسلامه عليه- أنصح الخلق للأمة، فإذا عرف الناس هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيجب عليهم أن يأخذوا ما قاله بكل اطمئنان وقبول، وأنه حق، فلو كان باطلاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولنفاه عن الله جل وعلا، ولن يترك الأمة في دينها يلتبس عليها الأمر ويشتبه، هذا ممتنع عقلاً وشرعاً وعادة من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أردت أن تعرف هذا يقيناً، فانظر ماذا كان يعلم أصحابه صلوات الله وسلامه عليه؟ علمنا الآداب التي لو تركناها ما أثمنا، مثل أدب الأكل؛ كأن نأكل مما يلينا، ونسمي الله جل وعلا، ولا نأكل متكئين، ويعلمنا أدب الدخول إلى المنزل، فإذا أردت أن تدخل المنزل فاذكر اسم الله، وسلم على نفسك أو على من في البيت، ثم قدم رجلك اليمنى، فإنك إذا ذكرت الله فإن الشيطان يقول لأولاده ولأصحابه: منعتم من المبيت، يعني: من الدخول إلى البيت، ومعلوم أن هذا ليس بواجب، فلو تركه الإنسان لا يأثم، ولكن هذا أدب وفضل، ويعلمنا أيضاً أن الإنسان إذا أراد أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ويسمي الله، وهذا أيضاً ليس بواجب بل أدب فقط، إذا فعله الإنسان فهو خير له، وإن لم يفعله فليس عليه إثم.

    وكذلك يعلمنا أدب الدخول إلى المسجد، وأدب قضاء الحاجة، وأدب السلام، وغير ذلك من الآداب التي هي فضل وليست واجبة علينا، بحيث إننا لو تركناها لم نأثم، فكيف يعلمنا هذه الأشياء المستحبة، ويترك باب معرفة الرب جل وعلا ملتبساً مشتبهاً؟ هل يجوز أن يعتقد هذا مسلم؟ لا يجوز أن يعتقده مسلم شهد للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه بلغ ما أرسل به، بل لا بد أن يعتقد جازماً أن كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق، وفيه النور والهدى والشفاء للشبهات، وأن مخالفته ضلال وخروج عن الهدى، وعن طريق الله جل وعلا، وعن سبيل المؤمنين.

    1.   

    دين الإسلام دين كامل

    قال الله جل وعلا في آخر ما أنزل عليه صلوات الله وسلامه عليه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فقد كمل الدين قبل أن يتوفى الله جل وعلا نبيه، ولا شك أن أصل الدين معرفة الله جل وعلا بأسمائه وأوصافه، وإلا كيف يعبد الله من لا يعرفه؟ وهذا الأمر أجمع عليه المسلمون في أول الأمر من الصحابة ومن بعدهم من التابعين، لم يحدث فيهم أي خلاف حول هذا، وأول خلاف حدث في هذا يعتقد أنه جاء من اليهود والنصارى والمجوس، ومن الأمم التي قامت في وجه الإسلام لتصده وتمنع تقدمه في البلاد، فلما لم تستطع وقف زحف الإسلام بالقوة، واندحرت جيوشها وقواها، وأصبحت غنيمة للمسلمين، أصبحوا يعملون بالحيلة بالدسائس والمؤامرات، فأصبحوا يغتالون رجال الإسلام مثل: عمر رضي الله عنه وعثمان وعلي، وكلهم قتلوا شهداء.

    ومرة يخططون لإفساد عقائد المسلمين؛ لأنهم علموا يقيناً أن قوة المسلمين بعقيدتهم، فأصبحوا يخططون لإفساد هذه العقيدة.

    1.   

    أول من أفسد العقيدة وبث الشبه

    أول من عرف أنه تكلم في العقيدة لإفسادها رجل مجوسي يقال له: سوسن حيث قال: إن الله لم يعلم الأشياء قبل وجودها، وإنما يعلمها بعد وجودها، ونفى القدر، فتبعه من تبعه على هذا، فصار أئمة المسلمين يقتلون من قال هذا القول؛ لأنه كفر بالله.

    ثم ظهر بعد ذلك رجل يقال له: الجعد بن درهم ، وهو متهم بأنه يهودي؛ لأنه -كما قال العلماء-: تلميذ لـأبان بن سمعان وأبان بن سمعان تلميذ لـطالوت، وطالوت هذا تلميذ للبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطالوت هو ابن أخت لبيد، فأظهر الجعد قوله: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً؛ لأن الكلام يتطلب لهاة وشفتين، وحنجرة -لأنه يريد أن يقيس رب العالمين على خلقه- تعالى وتقدس، فأصبح يلقي على الناس مثل هذه الشبه، ويقول: الرب جل وعلا لم يتخذ إبراهيم خليلاً؛ لأن الخلة تدل على الفقر والحاجة، وهذا لا يجوز، والصحيح أن خلة المخلوق هي التي تدل على الحاجة والفقر، أما خلة الرب جل وعلا فهي تدل على الكمال، وكذلك الكلام يدل على الكمال، ومعلوم أن الكلام والخلة وغيرهما أمور صرح الله جل وعلا بها في كتابه، فأخبر أنه كلم موسى تكليماً، وأنه اتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يشك المسلمون في ذلك.

    ولما قال هذا الرجل هذا القول، وبلغ قوله أحد قواد بني أمية وهو خالد بن عبد الله القسري ؛ طلب هذا الرجل فأخذ وجيء به مقيداً، وكان ذلك اليوم يوم عيد الأضحى، وكانت العادة أن القائد هو الذي يصلي بالناس وهو الذي يخطب، فقد كان من صفات القائد أن يكون عالماً شجاعاً بصيراً، فجاء بهذا الرجل مقيداً إلى مصلى العيد، فخطب المسلمين، وفي آخر خطبته قال: أيها المسلمون! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـالجعد بن درهم ؛ لأنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فنزل من على المنبر وقتله بيده أضحية؛ فشكره العلماء على صنيعه هذا؛ لأنه قتل من حرض على الكفر بالله جل وعلا.

    وكان قد تتلمذ على الجعد بن درهم رجل يقال له: جهم بن صفوان ، وأخذ عنه الباطل والكفر؛ فتتبعه أحد القواد -وهو: سلم بن أحوز- حتى أمسكه وقتله؛ انتقاماً لله جل وعلا، ولكن كان هذا المذهب الفاسد قد انتشر، فنسبت إليه الفرقة الضالة التي يقال لها: الجهمية، وهذه الفرقة من أعظم علاماتها أنها لا تصف الله جل وعلا بصفة، ولا تسميه باسم -تعالى وتقدس- إلا بالاسم العام المجمل الذي لا يدل على مدح ولا ثناء؛ كالوجود مثلا،ً وكونه شيء -تعالى وتقدس-، وهذه معالم كثير من الكفرة من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم.

    ثم كثر الخلاف، وكثر الملاحدة المفسدون، فظهرت المعتزلة، وتقربوا إلى ولاة الأمور، وصار منهم القضاة، ومنهم رؤساء القضاء، ومنهم مستشارون لبعض ولاة المسلمين، فغروهم أن يجبروا الناس على القول بأن القرآن مخلوق، وأن الذي لا يقول بهذا القول يجب قتله.

    ثم زينوا لولي الأمر أن يكتب على ستار الكعبة: (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم)، غيروا كتاب الله؛ لأنهم يأبون أن يصفوا الله بالسمع والبصر -تعالى الله وتقدس-، ومع ذلك بقي الحق ظاهراً، وبقي من ثبت على الحق حتى عند الابتلاء والضرب والقتل؛ فثبت الإمام أحمد على القول بأن القرآن كلام الله، وهو صفته، منه بدأ، وإليه يعود، وأن القول بأنه مخلوق كفر؛ لأن معنى ذلك أن شيئاً من الله مخلوق تعالى الله وتقدس.

    فأثبت الله جل وعلا الحق بطائفة نصرها وثبتها على الحق، ودحر الباطل وأهله، والباطل قد يكون له صولة في وقت من الأوقات، ولكن صولته لا تدوم، إذ لا بد أن يظهر الحق بإذن الله.

    1.   

    تقييض الله للحق طائفة تنصره إلى أن يأتي أمره

    الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) يعني: على الحق: قائلين به، قائمين به، عاملين به، بعض العلماء يقول: إن هذه الطائفة يجوز أن تكون أمة كبيرة، لها جيوشها ولها نظامها ولها إمامها، ويجوز أن تكون فرقة من المؤمنين، مختلفة ما بين عالم وعابد، وما بين منفق ومجاهد، ويجوز أن يكونوا مجتمعين في مكان، ويجوز أن يكونوا متفرقين، ويجوز أن يكونوا في بلد دون آخر، ويجوز أن يكونوا متنقلين من بلد إلى آخر.

    المقصود أنه لا بد من وجود من يقوم بحجة الله على خلقه، حتى يأتي أمر الله، وهو ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام)، فينزل بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يقتل الدجال الأعور، الكذاب الأكبر، الذي هو إمام اليهود وكبيرهم الذي ينتظرونه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صفاته كأنك تشاهده، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ من فتنته في كل صلاة لعظمها، وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه ما ترك بعده على أمته أشد من فتنة الدجال؛ لأنه يأتي بفتن وبلايا عظيمة؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم به فانأوا عنه، فإنه يأتيه الرجل وهو واثق بإيمانه، فيتبعه لشدة لما معه من الفتن).

    المقصود أن عيسى عليه السلام هو الذي يقتله في الشام، ينزل من السماء بين جناحي ملكين فيقتله، ثم يقيم شرع محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بعد حدوث أمور ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبضه الله إليه، ثم بعد ذلك -كما في صحيح مسلم - تأتي ريح من قبل اليمن؛ فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، فلا يبقى في الأرض إلا شرار الناس، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، يتهارجون تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة، هذا هو أمر الله الذي ذكر في هذا الحديث.

    ومن هذا ما جاء في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (شرار الناس الذين يتخذون المساجد على القبور، والذين تدركهم الساعة وهم أحياء) هؤلاء هم شرار الخلق.

    فالمقصود أن الحق ثبت رغم ما أراد الأعداء من إفساده، والواجب على العبد أن يعتصم بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في العقيدة والعمل؛ في العقيدة التي هي باب العلم بالله ومعرفته، وباب العمل الذي يعمله الإنسان.

    إذاً: معنى قوله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] يعني: معناه: ما عظموه التعظيم الذي يستحقه، حيث وصفوه بما يتعالى ويتقدس عنه من كونه له شريك في الإلهية، أو له نظير في أسمائه وأوصافه.

    1.   

    قوله تعالى: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه)

    ذكر الله شيئاً مما يجب أن يعظم به فقال: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] يعني: أنه يقبض الأرض بيده إذا كان يوم القيامة؛ وكذلك السماوات كلها يقبضها بيده، ومفهوم الآية أن لله جل وعلا يدين؛ واحدة يقبض بها الأرض، والأخرى يطوي بها السماوات، والتي ذكر أنه يطوي بها السماوات هي يمينه، وقد جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يقبض السماوات بيمينه، والأرضين بشماله)، وهذا أيضاً ثبت عن ابن عباس في تفسيره لهذه الآية، فروى ابن جرير وغيره بأسانيد ثابتة عن ابن عباس قال: إن الله يقبض السماوات والأرض كلها بيمينه وشماله خلو، وسيذكر لنا المؤلف ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود (أن حبراً من أحبار اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يضع السماوات على ذه -فأشار إلى أصبعه الخنصر- والأرضين على ذه، والشجر على ذه، والجبال والثرى على ذه، وسائر خلقه على ذه، يشير في كل مرة إلى أصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الدنيا؟ عند ذلك ضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لما قال، وتلا قول الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ).

    وجاءت أحاديث كثيرة بهذا المعنى، عن ابن عمر ، وعن ابن عباس ، وعن عبد الله بن مسعود ، وعن أبي هريرة ، وغيرهم، وهي أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها ذكر أن لله جل وعلا يدين، وأنه يقبض بهما، وأن لليدين أصابع يضع عليهما مخلوقاته إذا شاء، ويهزهن ويقول: أنا الملك! أين ملوك الدنيا؟

    ويجب أن يعلم الإنسان أن الله ليس كمثله شيء: لا في يديه ، ولا في أصابعه ، ولا في ذاته جل وعلا ، ولا في سمعه وبصره، والله جل وعلا ذكر أنه خلق المخلوقات ، وأنه هو الإله الحق ، وأنه هو الولي الذي يجب أن يتخذ ولياً، وذكر جل وعلا أنه جعل من المخلوقات زوجين، وأنه جعل نسل بني آدم والبهائم وغيرها من زوجين من ذكر وأنثى.

    قال الله: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] أي: أنكم تتعاقبون من هذا النسل، يذهب قوم ويأتي آخرون، إلى أن يأذن الله جل وعلا بنهاية هذه المخلوقات.

    ثم قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ختم الله جل وعلا هذه الآية بذكر السمع والبصر، والحكمة في هذا: أن الناس وكثيراً من المخلوقات يتصفون بالسمع والبصر، فكأنه جل وعلا لما قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ يقول لعباده: لا يدعوكم هذا التنزيه بقوله: (ليس كمثله شيء) إلى أن تنفوا السمع والبصر عن الله؛ فإنه سميع وبصير، ولكن له سمع يليق به، وبصر يليق به، ليس كسمعكم وبصركم، وهذا هو مذهب أهل السنة، أن يوصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، ولا يتعدون ما وصف الله جل وعلا به نفسه ووصفه به رسوله، فلا يجعلون العقل حاكماً على آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يحرفون ويؤولون، ويقولون كما يقول أهل البدع: إن صفات الله من المتشابه الذي لا ينبغي أن نتكلم فيه، بل صفات الله من المحكم البين الواضح الذي بينه الله وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بها على ما يليق بعظمة الله وجلاله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756368050